نقد نورا محمد - حب في الوقت الضائع

عندما كنت في السابعة عشرة من عمري عرف قلبي الحب للمرة الأولى، حينها لم أصدق ما أقرأه في الروايات التي أعشقها والكتب والدراسات التي أهواها وأتابعها بأن هذه الأحاسيس ليست صادقة وإنما مؤقتة زائلة لأنها في مرحلة المراهقة فقد كنت أقلب كثيرا في المكتبة الكبيرة التي يقتنيها أبي بحكم تخصصه في البحث العلمي واهتمامه بالآداب واللغويات، أحببت هذا النوع من القراءة خاصة أن هناك تنوعا كبيرا بين الكتب وأنا أغوص فيها وأبحر في بطونها بعشق بخلاف المواد الدراسية المقررة المصابة بالجفاف، واختلي أحيانا برواية طويلة فأنسى الطعام والشراب حتى أفرغ منها وأجد في عصير الكتب والثقافة الغذاء الذي ينعش الروح.

وأنا في هذه السن تفوقت على أقراني بمعلومات لا حصر لها وكنت بينهم متميزا بذلك حتى أن بعضهم أخذته الغيرة وراحوا ينافسونني في ذلك وكانت مباريات مفيدة لنا جميعا، ونحن نتبادل المعلومات في شتى أنواع المعارف وجذبتني المعلومات التاريخية والجغرافية وأدب الرحلات وعالم الحيوان والطبيعة ووجدت تشجيعا ممن حولي.

ومن هذه الحصيلة علمت قبل أن أقع في المصيدة أن جميع قصص الحب والغرام التي تكون في مرحلة المراهقة فاشلة، وانتهت جميعها بالافتراق وحينها كنت أقول لنفسي أن هؤلاء هم الذين ظلموا الحب بتصرفات غير محسوبة وانسياق وراء مشاعر غير ناضجة والعيب فيهم، لأنهم لم يتعلموا من تجارب السابقين، واستنكرت حينها الإعجاب الذي يبديه الجميع بقول الشاعر :نقل فؤادك حيث شئت من الهوى- ما الحب إلا للحبيب الأول، واتخذوه شعارا لهم ورددوه بينما بعضهم يرى عكس ما يقولون ويعتبر أن الحب الأول هو الباقي لأنه لا ينسى ولا يعوض ولا يتكرر لكن على أي حال تحسبت لكل ذلك بألا أقع ضحية لهذا الحب المبكر المعروفة نهايته.

وما كان الحب يخضع لأي حسابات أو زمن أو معايير ولا يستأذن قبل الدخول فوقعت فيه حتى أنفي وأنا في السابعة عشرة ولم أكن أكملت دراستي الثانوية بعد، وكانت حكايتي مفاجئة بلا مقدمات عندما جاءت خالتي من أوروبا لزيارتنا بعد غيبة سنوات طويلة ومعها ابنتها التي تقاربني في العمر، لم أكن قابلتها من قبل وما أن وقعت عيناي عليها حتى سقطت صريع هواها، وزاد من صبابتي أنني وجدت عندها ثقافة واسعة تفوقني بمراحل وتحدثت معها كثيرا في كل شيء عن الغرب الذي لم أعرف عنه إلا معلومات من الكتب، وشغفت بها ووجدتني أضعف من أي وقت ومن أي موقف مضى وكانت عدة أيام كافية لقلب كياني، حتى رحلت عائدة إلى حيث جاءت تاركة حبها عندي وأخذت قلبي معها واحتلت صورتها كل صفحات الكتب التي أحاول أن أقرأها وأتمنى في كل لحظة أن تعود أو تخرج فجأة حتى من بين الجدران.

لم تخرج مشاعري تلك من داخلي ولم استطع البوح بها لأحد لأني أرى أنها نقطة ضعف ولا أريد أن يضع كائن من كان يده عليها، ولا يعرف موضع جرحي فذلك يتنافى مع شخصيتي القوية مع قناعتي بأ هذا ليس وقت المشاعر والغرام، لكني لم أفقد الأمل في العودة عندما تكون الفرصة مواتية فهي ابنة خالتي وقد يجود الزمان بلقاءات كثيرة لعلي حينها استطيع أن أتكلم وأقول ما بداخلي.

دار هذا كله وأنا لا أدري إن كانت تبادلني هذه المشاعر أم لا لكن يبدو أنني كنت واهما وبنيت أحلامي على خيالات، وتناسيت الأمر لعل اللقاء يتكرر فجأة كما بدأ فجأة إلى أن جاء البريد بالخبر المشؤوم بأنها تزوجت من أحد أبناء الجالية العربية في البلد الذي تعيش فيه بعد أن تخرجت في الجامعة، حينها تأكدت أنني كنت مخطئا فيما توهمت وأنني عشت كل هذه السنين على السراب فلا يمكن لواحدة مثلها ان تتزوج إلا عن حب وهذا لا يعني إلا أنني لم أكن شيئا يذكر في حياتها إلا لحظات عابرة قد تكون نسيتها بمجرد انتهائها.

والحياة لا تتوقف عند أحد رغم أنني لم أكن قادرا على تجاوز ذلك بسهولة وبحثت كثيرا عن بديل فلم أجد، وحاولت عبثا أن أجد في غيرها مواصفاتها حتى أنني لجأت إلى الكتابة لإفراغ شحنتي مدعيا أن الشخصيات التي أخلقها من وحي الخيال.

سارت الحياة بي كما تسير بكل الناس وتزوجت بطريقة تقليدية جدا ووقعت فيما كنت أحاذر فلن أظل رهينا لحالة مفقودة ولامرأة لن تعود وأنجبت ابنتين كانتا زهرتين متفتحتين وتفانيت في الإخلاص لأسرتي، وبذلت كل جهد لإسعادها وهكذا كانت زوجتي التي منحتني كل ما يرجوه الرجل، لكنني لم أجد لها من المشاعر مثل ما كان لابنة خالتي وأنا أوبخ نفسي على ذلك لكن هذا قسمي فيما لا أملك وكانت هذه اول فرصة ضائعة. وعلى حين غرة جاء خبر لا ادري أن كان سعيدا أم حزينا لقد توفيت خالتي وجيء بها لدفنها وكانت بالطبع ابنتها معها في الوداع الأخير وهكذا كنت في حالة من التناقض العجيب ومع ثقافتي لا استطيع أن أصفها بالكلمات ويعجز القلم عن التعبير عنها فهي حالة تحس ولا تقال ولا تكتب ولم تكن الظروف مواتية لأشبع عيني منها فإن حزني مضاعف إلى أن عادت وكما تركت لي الحيرة في المرة الأولى تركت لي حيرة أكبر هذه المرة لأنني استشعرت انه اللقاء الأخير فقد انقطع الخيط الذي يربطني بها وهو خالتي والمؤكد أنها لن تعود مرة اخرى.

ما ينبغي لمثلي أبدا أن يبحث عن متعة شخصية ولا يحاول أن يختلق المبررات لإقامة علاقة حتى لو كانت بريئة، وبالطبع استنكر ما يدعيه الرجال بأنهم يقيمون علاقات بحجة عدم التوافق مع زوجاتهم أو عدم القدرة على التفاهم، وكذلك يفعل بعض النساء الأمر الآخر ما عرف أحد عن تفاصيل تجربتي حرفا ولا عن حياتي الزوجية التي كان يبدو عليها التفاهم، وكل من حولي يرون أنني نموذج للاستقامة والرزانة والحمد لله كنت أحاول أن يكون ذلك حقيقة لا مجرد وصف.

كبرت ابنتاي وترعرعتا وانتهتا من دراستهما الجامعية وكان مباغتا لي أن أجد من يأتي لطلب يد الأولى ثم الثانية فشعرت فجأة بإحساس غريب فهل تسرب عمري من بين يدي؟ فاستفقت في لحظة لأجدني في وضع مختلف تماما عن السابق، انشغلت في إعداد جهاز الفتاتين وأنا اشعر بالسعادة لأنني سوف اطمئن عليهما وكل واحدة مستقرة مع زوجها في بيتها وتلك أمنية كل أب وكل أم، ولا أبالغ إذا قلت إن هذه هي أسعد لحظات حياتي فقد كنت أفكر كثيرا فيهما وكيف سيكون حالهما من بعدي وها هي أغلى الأمنيات تتحقق.

شعرت بعد زواج ابنتي بفراغ كبير فلم يبق إلا أنا وزوجتي وقد قاربنا الستين وما كادت فرحتي تتم إلا وقد بدأت أمراض الشيخوخة تزحف إلى بيتنا، وان كانت ظهرت على زوجتي أكثر مني وبشكل واضح جعلها تبدو أكبر من عمرها بكثير حاولت جاهدا قدر استطاعتي أن اعتني بها وهي في الحقيقة قليلة المطالب، وتحاول ألا تجعلني أبذل مجهودا كبيرا بينما أقول صادقا إنني الفتها ولا أحد اقرب إلى نفسي منها بعد هذه العشرة الطويلة.

وكانت النهاية وانتقلت زوجتي إلى جوار ربها وبقيت وحيدا وبعدها شعرت كم كان وجودها مهما في حياتي أقضي الساعات استرجع الذكريات وأحيانا أوبخ نفسي على أنني في بعض اللحظات كنت افكر في غيرها إلا أن عزائي الوحيد هو إخلاصي لها بكل ما تعني الكلمة وعدم تقصيري يوما نحوها. لم تعد ظروفي تسمح بالقراءة كما كنت أيام الصبا والشباب ولم أجد ما يشغل وقت فراغي بعد ساعات العمل التي أرى أنها قليلة فاكون اول من يذهب إليه واخر من يغادره وكل تفكيري الآن ماذا سأفعل عندما أتقاعد بعد عامين تقريبا.

في خضم هذا كله لا ترون ماذا حدث؟ انه شيء أشبه بالروايات الخيالية التي قرأتها في الماضي لا علاقة لها بالواقع أبدا، ولم أصدق لقد عادت محبوبتي بعد أن توفي زوجها ولم تنجب ولم يعد لها أحد في بلاد الغربة، وعندما التقيت بها كانت في عيني مثل ما رأيتها أول مرة تذكرت حبي المفقود واستشعرت أنني أعود إلى الماضي، بل هو الذي يعود اليَّ رغم أنفي بعدما تخلصت منه وأقول جازما إنني لم أشف من هذا الحب حتى الآن، وقد تأكدت من ذلك وأنا أجدني مدفوعا كل يوم للاتصال بها ومعرفة كل أخبارها ومتابعة بعض مصالحها، وأدعي بيني وبين نفسي أن هذا فقط من قبيل صلة الرحم لكن المؤكد أنها جاءت في الوقت الضائع وكانت هذه هي الفرصة الضائعة الأخيرة فقد جاءت في الوقت غير المناسب ولا أملك إلا أن أضحك ملء فمي مما يحدث. أحيانا تعود اليَّ مراهقتي وأفكر في الزواج منها. لكن يمنعني الحياء وأشياء أخرى.


خير جليس
 
أعلى