مصطفى يعلى - القصص الشعبي العربي.. وحدة في التنوع وتنوع في الوحدة

في البداية، ينبغي التأكيد على أن طرفي ثنائية الوحدة والتنوع يمثلان بالنسبة للأدب وجهين لعملة واحدة. ذلك أن تنوع الأدب داخل الوطن الواحد عبر أقاليمه المختلفة، وفي الأمة الواحدة المتعددة الأقطار؛ ينتج عنه كثير من الثراء والخصب لكل أدب الوطن والأمة معا، على وجه لا يقدر بثمن. لاسيما وأن كلا من القومية والمحلية تتكاملان في الهدفية الساعية إلى التطوير والإضافة والتميز بخصوصيات الأمة. وربما لهذا السبب اهتم الأدب المقارن بالتشابه والاختلاف بين الأجناس الأدبية للقوميات [1] باعتبارهما واقعا معطى.

فلا أحد يجادل في وحدة التراث الشعبي العربي أصولا وتطورا وأشكالا وأهدافا. ذلك أن « وحدة التراث الشعبي في الوطن العربي حقيقة ظاهرة في كل فنونها، وأن أي إنسان مسافر إلى الأقطار العربية المختلفة إن أعطيت له إمكانيات تقربه من الأهالي على شرط أن يكون مراقبا موضوعيا، يلاحظ ذلك وتظهر الصفات المشتركة أو القريبة في فروع كثيرة من الفنون الشعبية التي تتفق في صفاتها المبدئية الأساسية مهما اختلفت في التفاصيل الصغيرة » [2].

لكن تقرير هذه الحقيقة لا يمنع من تأكيد حقيقة ثانية، تذهب إلى اعتبار المحلية الأدبية دائمة الحضور حتى داخل الكيان القومي الكبير، علما بأنها تتميز بكونها ذات منحى فني أساسا، وليست اتجاها سياسيا كالإقليمية مثلا. فهي في جوهرها لا تعدو أن تكون اتجاها أدبيا وممارسة فنية وواقعا اجتماعيا محايثا للقومية، يبلور خصوصيات الجزء في إطار الكل، مما يعني أن تفكك الأمة إلى كيانات قطرية كما هو واقع الحال عندنا، لا يؤدي بالضرورة إلى تلاشي الحس القومي، مثلما يتبين في مواقف الشدة العصيبة، ولدينا في راهننا العربي أمثلة دالة على هذه الحقيقة البديهية، كالمأساة الفلسطينية المستديمة، وعدواني 1956 / 1967، وحرب أكتوبر 1973، واجتياح الكويت، واحتلال العراق.

ومن حسن الحظ، أن وجد من الباحثين من انتبه إلى أنه « ينبغي أن نذكر عند ما نتحدث عن الأدب الشعبي العربي، فإننا نتحدث عن الوطن العربي الذي يمتد من الخليج العربي شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن البحر الأبيض المتوسط شمالا وحتى مشارف الإقليم الاستوائي بجمهورية السودان الديمقراطية جنوبا. وتكون هذه المنطقة وحدة ثقافية تتقاسم بعض السمات المشتركة من لغة وعادات وتقاليد، وصلات عرقية واجتماعية، وموروثات أدبية وفنية، ورابطة سياسية وتاريخ مشترك.

ولكن بعض أجزائها تتمتع بأوضاع ثقافية خاصة تميزها عن بقية مناطق الوطن العربي. وينعكس كل هذا التراث: المشترك منه والخاص المتميز على الأدب الشعبي العربي، ويؤثر فيه ويوسع من دائرته. بل إنه ينبغي النظر إلى هذا الأدب على أساس أنه أدب شعبي عربي، لأنه يأتي من داخل حدود الوطن العربي أولا، ثم لأنه تشرب بالتراث والفكر العربي ( ولو جزئيا ) ثانيا. » [3].

وانطلاقا من هذا الفهم، يمكن الجزم بكون الأدب الشعبي بل وكل التراث الشعبي، يساهم جذريا وبفاعلية معاندة، لدى تداوله وإعادة إنتاج جمالياته وقيمه في هذا الجزء أو ذاك من الوطن العربي الكبير، في المحافظة على هوية الأمة وصون خصوصياتها، من كل المحاولات المبيتة للنيل منها، سعيا إلى احتوائها بمزيد من التفتيت والتذويب، حتى يتلاشى أي وجود مادي ومعنوي لها؛ لاسيما في عصرنا الحالي، حيث غول العولمة يريد التهام كل شيء.

ولعل الأدب الشعبي الذي نخوض فيه هنا، هو النموذج الأمثل لتجلي هذه الملاحظات بصورة بليغة تساند هذا الطرح. ففي هذا الخطاب يعالج عدد مهم من القيم والعادات والمعتقدات والمهارات المشتركة بين أقطار العالم العربي بخلفياتها التاريخية والاجتماعية والثقافية والروحية. أي أن وحدة الأدب الشعبي العربي كما باقي المأثورات الشعبية بل ومختلف الأنشطة الأدبية والفنية العالمة، هي حقيقة قومية لا جدال فيها. غير أن هذا الأدب قد نزع لأسباب تاريخية وجغرافية وسياسية واجتماعية ليس هنا مجال الخوض فيها، نحو التعدد والتنوع في بعض التفاصيل والموتيفات، دونما تغيير في جواهر وبنيات أجناسه الأدبية من قصص شعبي، وسير شعبية، وأمثال شعبية، وشعر شعبي الخ..

فالأمثال الشعبية العربية، رغم أنها قد تختلف أحيانا في هذا القطر أو ذاك من الأقطار العربية، في بعض التفاصيل الجزئية، تمتلك عناصر مشتركة من حيث المنشأ واللفظ والمعنى كما لاحظ د. كركوري شرباتوف في قوله: « وهي في الواقع دليل قاطع على وحدة هذه الأمثال وتنبع من اشتراك العلاقات التاريخية الاجتماعية والثقافية ـ في المنشإ واللغة والدين والجوار ـ التي كانت تربط بين العرب على مدى العصور الطويلة في الجاهلية وبعد انتشار الإسلام. وتبرز من خلال كل ذلك الحقيقة التي تقول إن الأمثال الشعبية قد كونت تراثا عربيا مشتركا واردا من أقدم العصور يدل على الوحدة الثقافية للأمة العربية إلى جانب وحدة الأدب العربي باللغة المعربة» [4].
والحكاية العجيبة، رغم كونها أميل إلى العالمية من كل أنواع القصص الشعبي الأخرى، إلا أنها تختلف من أمة إلى أمة ومن جماعة إلى جماعة، في كثير مما تصطنعه من التفاصيل والجزئيات والعناصر، وإن أية مقارنة بين حكايات عجيبة قومية عربية وغير عربية ومثيلاتها العالمية، تظهر بجلاء مدى ما يصيب الحكاية العجيبة المتداولة في القوميات والجماعات المختلفة.

وكذلك الحال بالنسبة للحكاية الخرافية [5]، فإنها أكثر نزوعا بطبيعتها إلى العالمية. ومع ذلك، فإننا كثيرا ما نعثر على روايات متعددة لنص خرافي واحد في مختلف الأمم، تتكيف مع البيئة الجديدة وشخصية الأمة المخصوصة، محملة بالدلالات التعليمية المستجيبة لهذه الشخصية.

ولعل الحكاية الشعبية العربية [6] حين تتناول موضوعات تاريخية وشخصيات من التراث المشترك بين أقطار الأمة العربية العريقة، تكون في صميم السياق القومي، وتتوحد نصوصها إلى ما يشبه التطابق. كما أنها تتوفر على هذه الوضعية أيضا حين تدور أحداثها ووظائفها حول قيم نبيلة نموذجية ممجدة اشتهرت في سجل أخلاقيات الإنسان العربي منذ القديم؛ رغم أن طبيعة هذا النوع السردي أكثر نزوعا نحو المحلية لارتباطه أكثر بواقع مجتمعه وتاريخه وشخصيته.

ويهيمن الطابع القومي على الحكاية العربية المرحة. إذ يكفي أن نشير إلى زخم النوادر والطرائف التي زخر بها التراث العربي، فضلا عن شخصية جحا العربي، لتتبين هذه الحقيقة المؤكدة للعيان.
ولما كانت عوامل التأثير والتكيف متعددة ( طبيعية، اقتصادية، اجتماعية، نفسية، ثقافية..)، فإنه قد أمكن بالتبعية للقصص الشعبي العربي، بما يملكه من مرونة وقدرة على امتصاص نكهة الواقعين القومي والمحلي، أن يدخل إلى دائرة التنوع، متأثرا بالمحيط الذي يتداول فيه، مما وسم نصوصه ومتونه بمجموعة من الاختلافات في كثير من الجزئيات وبعض التفاصيل، حسبما سيتبين لاحقا من مقاربة عينات محددة من متن القصص الشعبي العربي بأجناسه المختلفة.

ثمة حقيقة تقول: إن القصص الشعبي الذي يتوفر على خصوصيات الجماعات الشعبية المحدودة، ويعالج خصائص شخصيتها المحلية المادية والروحية، يندرج في نفس الآن ضمن سياق قومي مشترك بين أقطار الأمة الواحدة، مثلما يحدث لهذا الأخير أيضا في مواجهة السياق العالمي. وإذا كانت هذه الوضعية المزدوجة شاملة لكل المأثورات الشعبية، فإننا اعتبارا لإكراهات ضيق المساحة المخصصة لهذه المداخلة، سننصرف للنمذجة لكل ما سبق بجنس أدبي شعبي محدد هو ( القصص الشعبي ) العربي، حيث نفحص عددا من النصوص المنتمية إلى مختلف الأنواع السردية الشعبية، من أجل الاستقصاء النصي لتجليات الوحدة والتنوع فيها، على أن تنتقى تلك النصوص من متون عربية مختلفة، مع الإشارة إلى أن معظم الحكايات الشعبية العربية ـ إن لم نقل كلها، خشية الوقوع في الأحكام الإطلاقية القاطعة ـ متشابهة كما تبين لنا من مراجعة كثير من المتون القصصية الشعبية في العالم العربية.

ولنبدأ بالحكاية العجيبة. وبالضبط بحكاية جد معروفة، نقصد الحكاية المعنونة في المغرب بـ (حكاية الحطاب وعفريت الغابة) [7]، وفي فلسطين بـ (الباطية) [8]، وفي السودان بـ (دور يامسعود) [9]. ومثلما سنتصرف لاحقا، نجعل مدخلنا إلى عالم هذه الحكاية البداية بتلخيصها مورفولوجيا. فهي تتلخص في كون حطاب فقير تعود على الذهاب إلى الغابة يوميا لجمع الحطب حتى يعول أسرته (نقص a). وذات يوم بينما كان منهمكا في قطع الحطب من شجر الغابة، إذا بعفريت يخرج إليه ويلومه لأنه يقلق راحته صباح مساء، سائلا إياه عما يأتي به إلى الغابة (وظيفة الواهب الأولى D). وحين يخبره الحطاب مرتعدا بما يعانيه من فقر مدقع، يمنحه طاحونة حجرية سحرية (استلام الأداة السحرية F)، على أساس ألا يعود الحطاب إلى الغابة مرة أخرى (منع γ). وعاد الحطاب إلى بيته وسلم الطاحونة إلى امرأته، التي شرعت بدافع فضولها تديرها دون مدها ولو بحبة زرع، ويا للمفاجأة، فقد شرعت الطاحونة في إخراج الدقيق والسميد من كل جوانبها، وبذلك تحسنت وضعية الحطاب وأسرته (استعمال الأداة السحرية يقضي على الفقر 6K). ولما لاحظت الجارات ما ظهر من نعمة على أسرة الحطاب، انتهزت إحداهن غياب الحطاب عن البيت، وطلبت من زوجته إعارتها الطاحونة بدعوى خلو بيتها من الدقيق والسميد، لأنها أرسلت طاحونتها إلى الصانع لينقشها (خداع η)، فاستجابت لها زوجة الحطاب الساذجة الخجول (تواطؤ θ)، وأعادت الجارة مساء طاحونة مزيفة إلى امرأة الحطاب (إساءة A²). وعند العشاء، علم الحطاب وزوجته وأبناؤه بحقيقة الطاحونة المزيفة، فباتوا دون عشاء (نقص a)، وفي الصباح ذهب الحطاب إلى الغابة ثانية تحت ضغط الفقر (انتهاك δ)، وسرعان ما خرج له الجني غاضبا ومعاتبا على عودته إلى الغابة (استنطاق ε)، فأخبره بما جرى (إخبار ξ)، مما دفع العفريت لكي يمنحه قصعة سحرية كبيرة من الخشب، تفيض بكل ما تشتهيه النفس من مآكل كلما وضع عليها غطاء ثم رفع (استلام الأداة السحرية F)، على ألاّ يعود مرة أخرى إلى الغابة (منع γ). وحمل الحطاب القصعة إلى بيته، وعند وقت الأكل وضع الغطاء على القصعة ثم رفعه، فإذا بها ممتلئة بما لذ وطاب من المآكل، فانكب عليها كل أفراد أسرة الحطاب ولم يتركوها إلا بعد أن فرغت من الأكل، ومن يومها لم يعد الحطاب يذهب إلى الغابة (الأداة السحرية تقضي على الفقر 6K). ومرة أخرى لاحظت الجارات النعمة البادية على أسرة الحطاب، فانتهزت إحداهن غياب الحطاب عن البيت واستعارت من زوجة الحطاب الساذجة القصعة السحرية وأعادت إليها قصعة عادية (خداع η)، وفي المساء تصرفت أسرة الحطاب مع القصعة كالعادة، لكنهم باتوا دون عشاء (نقص a). وعند الفجر عاد الحطاب إلى الغابة للحطب (انتهاك δ)، فخرج له الجني غاضبا مستنكرا، وسائلا إياه عما عاد به من جديد إلى الغابة (استنطاق ε)، فأخبره مرتعدا بما حدث (إخبار ξ)، فمنح الجني الحطاب قطا أسود (استلام الأداة السحرية F)، مانعا إياه من المجيئ إلى الغابة (منع γ)، وفي المنزل وضع القط عددا من الأحجار الكريمة، ذهب بها الحطاب إلى صائغ يهودي احتال عليه بادعاء ضآلة قيمتها، ولم يمنحه مقابلا ذا بال (خداع η)، ولهذا رجع الحطاب إلى الغابة، وأخبر الجني بالأمر (إخبار ξ)، فلم يسأله الجني معاتبا على عودته لإزعاج الغابة كذي قبل، بل منحه عصيا تشتغل كلما طلب منها ذلك (استلام الأداة السحرية F)، محذرا إياه لآخر مرة من العودة إلى الغابة (منع γ)، فتوجه الحطاب إلى الجارة ثم إلى الصائغ اليهودي وشغل العصي فيهما (عقاب U) فأعادت الجارة الرحى والقصعة السحرتين، كما استرجع من اليهودي الأحجار الكريمة بالإضافة إلى ما كان في حوزته من مال، ومن يومها عاش الحطاب معززا مكرما (إصلاح K).

ولئن قارنا بين هذه الرواية والروايتين الفلسطينية (الباطية)، والسودانية (دور يا مسعود) لنفس الحكاية، لوجدنا أن ثمة عددا مهما من مظاهر الائتلاف بينها، وخاصة بين الروايتين الأخيرتين، نرصدها كالتالي:

1 ـ تعدد روايات الحكاية لم يمنعها من الاتفاق في نوعية بطلها الرئيسي. فهو حطاب فقير، وبهذا يقوم الفقر هنا بدور التحفيز، إذ لا تحدث عملية إزالة الفقر في كل هذه الروايات إلا باستعمال الأداة السحرية، بعد أن عجز الواقع عن فعل ذلك.

2 ـ استناد الروايات الثلاث إلى تقنية تكرار الحدث أكثر من مرة بنفس الصورة، حيث يذهب الحطاب إلى الغابة ثلاث مرات في الروايتين الفلسطينية والسودانية وأربع مرات في الرواية المغربية، فيحدث نفس سبب العودة إلى الغابة (اغتصاب الأدوات السحرية من الحطاب)، ونفس الحوار (بين البطل والواهب)، ونفس المنع (منع الواهب الحطاب من العودة إلى الغابة)، وتسلم البطل أداة سحرية جديدة.

3 ـ حرص كل منها على استرجاع أبطالها للأدوات السحرية من مغتصبيها بواسطة العصي المسحورة، التي تسلم إلى الحطاب من طرف الواهب في آخر مرة يذهب فيها إلى الغابة، كما لو كانت الحكاية تلمح إلى أن ما يؤخذ بالقوة أو المكر لا يمكن أن يستعاد إلا بهما.

لكن بقدر ما اتفقت الروايات الثلاث للحكاية، في هذه العناصر الأساسية التي تنهض عليها الحكاية، اختلفت في عناصر أخرى بالزيادة أو الحذف أو الإبدال، منها:

- عدم توقف الحكاية السودانية كالروايتين المغربية والفلسطينية، لدى استرجاع الأدوات، وإصلاح حالة الحطاب وأسرته، بل تضيف زواج ولد السلطان ببنت الحطاب وزواج ولد الحطاب ببنت السلطان، كتعبير عن مدى تأثير المال الكثير في الوضعية الاجتماعية لصاحبه، حيث يجمع بين المال والسلطة والجاه في آن واحد، وكأنما المال أداة سحرية أخرى لكن واقعية.

- في حين تتفرد الرواية الفلسطينية بإضافة جزئية مقايضة الأدوات السحرية ببنات الحطاب الثلاث، تصل الرواية المغربية بالأدوات السحرية إلى أربع، حيث تضيف القط الأسود الذي يضع الأحجار الكريمة، وما اتصل بهذا من تفريعات تمثلت في استيلاء اليهودي مكرا على كل الأحجار، مما رفع عدد تكرار زيارات البطل إلى الغابة ومواجهة الجني إلى أربع مرات وليس ثلاثا مثلما في الروايتين الفلسطينية والسودانية.

- اختلاف شخصية الواهب بين الروايات الثلاث. فهي في الرواية المغربية (جني)، وفي الرواية الفلسطينية (العبد)، وفي الرواية السودانية (رجل صالح عابد). وقد اختلفت ردود أفعالها تجاه إزعاج الحطاب لسكون الغابة بين التسامح (الرجل الصالح العابد)، والغضب (العبد)، والغضب والمساءلة والعتاب (الجني). في حين تعددت شخصية المغتصب بين الجارة في الرواية المغربية، والمختار في الرواية الفلسطينية، و عبيد السلطان في الرواية السودانية.

ـ تنوعت هنا تقنية البدايات والخواتم المستعملة عادة في القصص الشعبي العربي. ففي الوقت الذي أهملت فيه الرواية المغربية لهذه الحكاية أي تقديم أو نهاية من هذا القبيل، أثبتت الرواية الفلسطينية تقديمها التالي (كان يا ما كان يا مستمعين الكلام. حتى توحدوا الله… لا لإله إلا الله. في هون هون هالحطاب…)، وختمت بهذه النهاية (وطار الطير الله يمسي الحاضرين بالخير.). كما بدأت الرواية السودانية بتقديم سريع مركز (قالوا كان في الزمان القديم رجل حطاب..)، وانتهت بهذه الخاتمة (وعاشوا في سعادة وهناء حتى جاءهم هادم اللذات وهازم المسرات).

ولعل المتلقي المدقق، قد يعثر على مزيد ومزيد من مظاهر التنوع بين هذه الروايات الثلاث، من مثل طبيعة الأدوات السحرية، التي اختلفت بين الرحى والقصعة والقط الأسود والهراوات (الرواية المغربية)، والباطية والديك والعصا (الرواية الفلسطينية)، والقدح والصينية والعكاز (الرواية السودانية). كما اختلفت شفرات تشغيل تلك الروايات من حكاية إلى أخرى؛ ففي حكاية ( حكاية الحطاب وعفريت الغابة )، لا تحتاج الرحى إلاّ إلى إدارتها، وتغطى القصعة ثم يرفع عنها الغطاء، ويكفي أن يقال للهراوات (أيتها الهراوات قومي بمهمتك) لتشتغل، بينما وضع القط الأسود الأحجار الكريمة تلقائيا. وفي حكاية (الباطية)، تمتلئ الباطية بالطعام بواسطة ترداد شفرة (ياباطية امنا وابونا انتلينا لحم ورز)، ويضرب الديك على عرفه لكي يضع ذهبا، ويقال للعصا (ياعصاتي هوري هوري ع اللي أخذلي ديكي وباطيتي دوري). أما في حكاية (دور يامسعود)، فيفيض القدح بالأكل بمجرد قول (يا قدح قديح)، وتمتلئ الصينية بمختلف ألوان الطعام إذا قيل لها: (يا صينية صنفيهن)، ويشغل العكاز عند مخاطبته بقول (يامسعود دور).

ومع هذا وذاك، فإن الاختلاف لم يصل إلى حد القطيعة بين الروايات الثلاث. إذ الأمر لا يعدو أن يتعلق بتنوع يعود سببه إلى أثر البيئة المحلية والمحيط الخاص بهذه الجماعة أو تلك، وبهذا الشعب أو ذاك. وتتأكد هذه الحقيقة بوضوح ، إذا ما عاودنا النظر في التفكيك المورفولوجي السابق، حيث نكتشف أن الروايات الثلاث لهذه الحكاية تلتقي وتتقاطع في البنية العامة، التي تنهض على وظائف ثنائية كبرى ثلاث، هي (النقص والإصلاح) و(الاغتصاب والعقاب) ثم (الاسترجاع والإصلاح).

وبالنسبة للحكاية الشعبية العربية، نختار لمدار مقاربتنا ثلاث روايات لحكاية شعبية من المغرب وفلسطين والعراق. الأولى هي (كل شي من المرأة) [10] ، والثانية موسومة (أحمد المدلل) [11]، والثالثة بعنوان (حسن آكال كشورالباكلة) [12]. فبقراءة هذه الروايات الثلاث، نستطيع أن نميز ما هو جذري مؤتلف بينها، إن على مستوى البناء وإن على مستوى الهدف، نظرا للأصل الواحد والهدف الواحد، وما هو تفصيلي إبدالي مختلف من رواية إلى أخرى بسبب تأثير الواقع المحلي.

ويمكن تلخيص النص المغربي من هذه الحكاية موروفولوجيا، في اختلاف رأي ملك وجاريته فيمن يدبر أمور المنزل ويصلح من شأن الزوج، الرجل أم المرأة ؟ (مرحلة بدئية α). ورغم أن الملك يعتقد العكس وينصحها به (منع γ²)، فإنها تؤكد في إصرار أن ذلك من مسؤولية المرأة (انتهاك δ). لذلك يزوجها الملك برجل فقير ويطردها من قصره في حال من الفقرة متدنية (إساءة A9)، ليرى كيف ستتصرف (مهمة صعبة M). فتذهب مع زوجها للعيش في كوخ جد متواضع بعيدا عن القصر (البطلة تساق بعيدا عن منزلها5B). لكنها تستطيع بحزمها وحسن تدبيرها أن ترقى بالرجل الزوج إلى مرتبة مالية واجتماعية رفيعة (مهمة ناجزة N)، وتبني قصرا مماثلا لقصر الملك (خداع η)، فيأتي الملك للتعرف على أصحابه (تواطؤ θ)، وإذا به يكتشف أن القصر لجاريته ولزوجها المعدم (اكتشاف Ex). فيتخلى عن رأيه المغلوط، ويسلم بصحة رأي المرأة ويعيدهما إلى القصر(إصلاح K).

واضح أن جامع جسد هذه الحكاية الشعبية، يتحدد في وظائف (المنع γ) و(الانتهاك δ)، و(الإساءة A)، و(مهمة صعبة M)، و(البعد عن المنزل 5B)، و(مهمة ناجزة N)، و(خداع η)، و(تواطؤθ)، و(اكتشاف Ex )، و(إصلاح K).

ولو دققنا النظر في روايات هذه الحكاية، لوجدناها وفق تلك الوظائف المورفولجية، تتقارب في عدد من التماثلات، وفي مقدمتها هيكلها العام، كما يتبين من هذا التفكيك:

ـ بعد أن سمع السلطان جاريته تشفق على الحطاب المتعب، ثم تقول: لو أن له زوجة مدبرة لاختلف وضعه، أرسل عبيده لإحضار الحطاب، وأهداه الجارية، ليرى كيف ستتصرف، في الرواية المغربية لهذه الحكاية. وكلف الملك وزيره بعد استشارته بالبحث عن فقير عاطل، وزوجها إياه، من أجل اختبار قدرتها على تطبيق رأيها المصر على معرفة زوجات من تلقاهم من الرجال الفقراء والأغنياء، في الرواية الفلسطينية. واختبر الملك بناته الثلاث بسؤال عمن يدبر أمر المنزل الرجل أم المرأة، فانفردت صغراهن بالإصرار على اعتبار المرأة هي المسؤولة عن ذلك، مما أغضب الملك ودفعه إلى تزويجها بأكسل وأفقر رجل، ثم طردهما من قصره، عقابا لابنته العنيدة، ليتبين كيف ستتصرف، في الرواية العراقية لنفس الحكاية.

ـ إن سند تغطية الحاجيات اليومية للزوجين، ومنطلق الغنى لهما، لم يكن سوى الريالات التي تعطيها الجارية للصياد ( الرواية المغربية )، والليرات التي سلمتها الأميرة لأحمد المدلل (الرواية الفلسطينية)، والليرات التي منحتها الأميرة لحسن (الرواية العراقية).

ـ إن التمكن من الخروج من وضعية الفقر والتهميش، يتم نتيجة الحصول على الثروة الكبيرة التي استحصلها الزوجان، بالمثابرة في التجارة (الرواية المغربية)، والعثور مصادفة على الكنز (الروايتان الفلسطينية والعراقية).
ـ الجارية تشتري عددا من الدور وتهدمها، ثم تبني دارا واحدة طبق الأصل من دار السلطان ثم تستضيفه، فيتعرف على جلية الأمر، ويسلم بوجهة نظر الجارية القائلة بمسؤولية المرأة في إصلاح شأن الرجل (الرواية المغربية). وتأمر الأميرة أحمد المدلل أن يأتي بالبنائين والمهندسين والعمال، فكلفتهم ببناء قصر ضخم في مكان قريب من قصر أبيها الملك. ولما رغب الملك في زيارة القصر والتعرف على أصحابه، أدرك الحقيقة، وسلم بصواب رأي ابنته المصر على أن فقر الرجل من امرأته وغناه من امرأته (الرواية الفلسطينية). وتشتري الأميرة الأرض المقابلة لقصر الملك، وتبني عليها قصرا فخما وتؤثثه بأفخر الأثاث غير الموجود حتى في قصر الملك، ثم استضافت الملك وعرفته على الحقيقة، فأدرك خطأه بالنيل من قدرات المرأة وسوء تقديره لمسؤوليتها في تدبير شؤون البيت بما فيها حالة زوجها (الرواية العراقية).

إلى جانب ذلك، تتوحد هذه الروايات الثلاث من حيث الدلالة، حول مجموعة من القيم، تتمثل في: الإعلاء من شأن العقل (لجوء كل من الجارية والأميرتين إلى فطنتهن وذكائهن لتحصيل الثروة)، وتمجيد العمل (دفع الجارية والأميرتين لأزواجهن للكد والعمل ومضاعفة الجهد)، والاعتراف بفاعلية المرأة (تسليم السلطان والملكين بقدرات المرأة).

وكل هذه الثوابت تؤكد المصدر الواحد لهذه الحكاية الشعبية المروية في معظم أقطار العالم العربي. لكننا إذا أعدنا النظر إلى روايات هذه الحكاية، بناء على الملاحظة السالفة المتعلقة بحتمية التنوع في الوحدة، لوجدنا كلا منها قد أحدث تنويعا خاصا في بعض التفاصيل إما بالحذف أو بالزيادة.
وبالمقارنة بين الروايات الثلاث للحكاية، يتبين أن الرواية المغربية للحكاية أكثر تركيزا وتماسكا، نظرا لإهمالها بعض التفاصيل الزائدة الواردة في الروايتين الفلسطينية والعراقية؛ من مثل البحث عن أفقر وأكسل رجل، وتغيير أنواع العمل، وشراء حكمة بمحصول اليوم من الدراهم، والسفر في تجارة، والنزول إلى البئر لجلب الماء، واختطاف الغول للبطل وامتحانه، وتسليمه الكنز الذي سيغنيه وزوجته الخ.. مما أسقط الروايتين الفلسطينية والعراقية في التهجين، إلى حد كاد ينتقل بهما من نوع سردي شعبي واقعي ( الحكاية الشعبية ) إلى آخر مختلف عنه هو الحكاية العجيبة، وذلك حينما أقحم في عالم النص العنصر العجائبي المتمثل في النزول إلى البئر، واختطاف الغول للبطل، واختباره، ثم منحه الكنز.

وبالإضافة إلى ذلك، تختلف الروايات الثلاث لهذه الحكاية، في طرائق البداية والنهاية. ففي حين تبدأ الرواية المغربية بـ (واحد النوبة..)، أي ذات مرة، وتنتهي بتسليم السلطان بصحة رأي المرأة؛ وتبدأ الرواية العراقية بـ (جان أكو)، أي كان يوجد، وتنتهي بتصالح الملك مع ابنته وصهره الذي ولاه وليا للعهد، لأنه لم يرزق بولد، دونما وجود لخاتمة نمطية في كليهما، تبدأ الرواية الفلسطينية بهذه المقدمة العاكسة للتأثير الإسلامي الواضح :

«
- الله يمسّيكم بالخير.
- الله يسعد مساك.
- وحدوا الله.
- لا لإله إلا الله، محمد رسول الله.

ما كان هناك إلا قصة أحمد المدلل.

كان هنالك، ملك… »
[13].
كما تنتهي بخاتمة تقليدية مشهورة حصرا في خواتم روايات القصص الشعبي بالمشرق العربي، هي (وتوتة توتة فرغت الحدوت).

ولا تبتعد الحكاية الخرافية المتداولة في العالم العربي، عن الاتصاف بثنائية الوحدة والتنوع. وسنحاول هنا قراءة نص منها في روايتين إحداهما من سورية (حكاية الفارات الثلاث) [14] والثانية من مصر (الفكر) [15]، مع إدخالهما في تجربة المقارنة برواية ثالثة عالمية اخترناها من خرافات إيسوب (الكلب والذئب) [16]، على اعتبارها من أقدم وأشهر المتون الخرافية العالمية. حتى نتبين بوضوح مدى تواجد طرفي هذه الثنائية بهذا النوع من السرد الشعبي، بصورة تؤكد حضورها الملازم لكل متونه في الوطن العربي، أحرى في المتن العالمي .

وهذه الحكاية تتلخص، حسب الرواية الإيسوبية، في نوم كلب تحت الشمس أمام بوابة المزرعة (المرحلة البدئية α)، ففاجأه ذئب بالانقضاض عليه وكاد يفتك به (إساءة A)، لولا أن ترجاه أن يبقي عليه أياما حتى يسمن من أكل عظام وفتات وليمة سيقيمها سيده قريبا (خداع η)، فرآها الذئب فكرة صادقة (تواطؤ θ)، وبعد أيام عاد الذئب، فألفى الكلب فوق سطح الإسطبل، بعيدا عن يديه (إصلاح K)، فناداه: انزل لتؤكل، ألا تذكر اتفاقنا؟ (استنطاق ε). لكن الكلب رد ببرود: ياخلي، لئن أدركتني مرة لدى البوابة، فلا تنتظر أية وليمة (التصريح بالحكمة ح).

تتفق الروايات الثلاث لهذه الحكاية الخرافية بشكل عام، في مقاطع بنائية رئيسة، على هذا الوجه :

1 ـ البدء بدخول الأبطال مسرح الحدث وهم مطمئنون. وهي مرحلة بدئية نستشعر فيها منتهى الآمان، والثقة في النفس ـ إلى حد التهور كما في الرواية المصرية ـ اللذين ينعم بهما الأبطال.

2 ـ مفاجأة الأبطال بقوة شريرة عاتية تهددهم بالالتهام، حيث يتم استدعاء الطبيعة العدوانية من أجل توتير الحدث في مرحلته المتأزمة، الأمر الذي يطرد الاطمئنان السابق، ويشحن مناخ الحكاية بزخم من الإحساس بالرعب وطغيان قانون الغاب وسيادة العنف وقوى الشر، مع الاتكاء على معجم ينضح بكل ذلك : الانقضاض، الفتك، الموت، الهلاك، القتل، الالتهام، المخالب، الأظافر، الرعب، الوحوش، الدم، الجريح، الذبيح.

3 ـ تخلص الأبطال من ورطتهم بالاستنجاد بعقلهم وفطنتهم. وهو موقف جديد يتطور إليه الحدث، نتيجة الحيلة وحسن التفكير، مما يتسبب عند نهاية الحكاية في إحباط القوة الشريرة (الذي قاد في الروايتين السورية والمصرية إلى موت المعتدي). وتكون المناسبة عندها مواتية للسخرية من المعتدي والتشفي فيه بما ناله من عقاب. وبذلك يعود الاطمئنان إلى الأبطال لكن مع الاستفادة من التجربة بإعمال العقل وقت الشدة وأخذ الاحتياط اللازم في دروب الحياة.

والنتيجة، أن روايات الحكاية الثلاث ، تجمع تعليميا على الإعلاء من العقل والفطنة وحسن التصرف كقيمة إنسانية مميزة، وتزري في المقابل بالسذاجة والبلادة والغباء.

على أن سلطة التنوع تفرض نفسها هنا أيضا. لذلك نلمس بين الروايات الثلاث للحكاية عددا من الترتيبات المختلفة في بعض الجزئيات والتفاصيل الصغيرة؛ نثبت فيما يلي أهمها:

- إن البطل هو الكلب في الرواية الإيسوبية ، والفارات الثلاث في الرواية السورية، والنسر في الرواية المصرية.
- إن المعتدي يفاجئ ضحيته الكلب نائما بباب المزرعة للتشمس في الرواية الأولى. ويفاجئ المعتدي ضحاياه الفارات الثلاث وهن سائرات في الطريق إلى الحمام، في الرواية الثانية. وفي الرواية الثالثة يفاجئ المعتدي ضحيته العصفور محلقا في أعالي السماء.

- اختلاف حيلة تخلص البطل من خطر المعتدي، بين الروايات الثلاث؛ ففي الرواية الإيسوبية، يتعلل الكلب بانتظار الذئب لوليمة السيد التي من شأنها أن تسمن الكلب الهزيل بما سيتبقى من الوليمة من عظام وفتات شهية. وفي الرواية السورية، احتالت الفارات الثلاث على الهارون بإيهامه بضرورة تأخير التهامهن إلى ما بعد خروجهن من الحمام نظيفات، نظرا لخوفهن عليه مما فيهن من قذارة تسبب الآفات. أما في الرواية المصرية، فتتمثل الحيلة في تحدي العصفور للنسر بالمجيء بمن هو أقوى منه ويستطيع أن يقتله.
ـ انفردت الرواية المصرية للحكاية، عن الروايتين الأخريين، بعدم إدراك المعتدي لحيلة الضحية ولا اكتشافها؛ وبغياب المواجهة البعدية بين المعتدي والضحية. وبعدم التصريح بالحكمة في آخر الحكاية.

ولعل في هذا ما يكفي للبرهنة على اتصاف الحكاية الخرافية، الرائجة في العالم العربي ذي القومية الواحدة المتعددة الأقطار لأسباب تاريخية وسياسية، بثنائية الوحدة والتنوع كذلك، ناهيك عن التنوع الحاصل بين المستوى القومي والمستوى العالمي، فلا نص من النصوص الثلاثة شابه الآخر في التفاصيل، رغم التوحد في الشكل العام والغاية التعليمية.

فماذا عن الحكاية العربية المرحة هي الأخرى بالنسبة لهذه الثنائية؟ خصوصا إذا تذكرنا أنها ذات طبيعة تنهض على وقائع اجتماعية معينة، وترتبط بنماذج ذات مواصفات تنميطية خاصة، مما يشدها أكثر بواقع مخصوص ومحدد، حيث تنبعث من واقعين نفسي وإنساني ذوي خصوصيات متميزة.
ينبغي أن نحدد أولا الروايات / العينات، التي سنشتغل عليها ضمن متون الحكاية العربية المرحة، من منظور تلك الثنائية المبحوثة، مثلما فعلنا سابقا مع باقي أنواع القصص الشعبي الأخرى. وقد اخترنا لهذه المهمة: (حكاية الرجل الذي كانت له امرأة بلهاء) [17] من المغرب، و (حكاية بياع الأسامي) [18] من سورية، وحكاية (الدردبة) [19] من فلسطين. وبعد هذا الاختيار، نسوق فيما يلي ملخصا مركزا للرواية المغربية، تقريبا للنص من القارئ الكريم، وذلك وفق مقاطعها المورفولوجية:

سلم رجل إلى زوجته سميدا، لتصنع منه كسكسا وشعرية من أجل كريم (أمر γ)، ولما انتهت من إعداد الكسكس والشعرية، سمعت ضوضاء في الدرب، فخرجت لتلقى لصا سألته عن اسمه (استنطاق ε)، ولما أجابها بأن اسمه كريم (خداع η)، سلمته كل الكسكس والشعرية (تواطؤ θ). وحين عاد زوجها وأخبرته بتسليمها الكسكس والشعرية لكريم، استشاط غضبا لأنه كان يقصد بكريم رمضان الكريم (إساءة A)، وأقسم ألا يعود إلى المنزل إلا إذا قابل امرأة أكثر بلاهة من زوجته (نقص a)، ثم رحل (انطلاق ). ووصل إلى بلد آخر، التقى فيه بامرأة سألته من أين أتى (استنطاق ε)، فأجابها: من العالم الآخر(خداع η)، وهنا سألته: ألم تر ولدي؟ وهل يمكنك أن تمدني بأخباره؟ (استنطاق ε)، فأجابها: أجل، إنه عريان وينقصه معطف ومال (خداع η)، مما دفعها إلى تسليمه معطفا جديدا ومالا (تواطؤ θ)، وعند هذا الحد انطلق الزوج فورا في طريق العودة (عودة )، لكن المرأة حكت لزوجها ما حدث، فغضب غضبا شديدا (إساءة A)، ثم ركب حصانه وانطلق متعقبا الزوج (مطاردة Pr)، لكن هذا احتال بإخفاء الصرة والانخراط في قطف الفول بأحد الحقول (خداع η)، وعندما سأله عن رجل يحمل معطفا شكله كذا وكذا (استنطاق θ)، أجاب الزوج بأنه قد مر من هناك مسرعا، وعليه ألا يمشي على الحصان حتى لا يسمع الرجل الفار صوت حوافره فيختفي (خداع η)، فاستأمنه الرجل على حصانه وانطلق في أثر الرجل الفار (تواطؤ θ)، حينئذ امتطى الزوج الحصان وعاد إلى منزله مسرعا (عودة )، وبرر لزوجته عودته بعثوره على امرأة أكثر بلاهة منها (إصلاح K)، وأما الرجل فقد أدرك الخدعة حينما لم يعثر على الرجل الفار ولا على حصانه وصاحب الحقل (إدراك الخداع إ)، وعاد ممتلئا خجلا إلى بيته، ليخبر زوجته بأن ما ادعته من عودة الأموات من العالم الآخر صحيح، لذلك أعطى حصانه للرجل لكي يلتحق بولديهما في أقرب وقت (دعوى كاذبة L).

يعتبر هذا النص نموذجا لمتن واسع من الحكاية المرحة العربية، التي يصور المتخيل الشعبي من خلاله، نماذج من بلاهة المرأة وتصرفاتها الساذجة البعيدة عن العقل والمنطق، في غير قليل من السخرية؛ وذلك لغاية الإمتاع والإفادة والتوعية. وتتبنى الروايات الثلاث هنا كل تلك الأهداف. كما تتفق في المراحل البنائية الرئيسية لتوتير وتطوير الحدث المركزي في الحكاية كالتالي:

- تصرف المرأة البليد، ورد فعل الزوج الغاضب.
- خروج الزوج من البيت وقراره ألا يعود إليه إلا إذا لقي امرأة أكثر غباء من زوجته.
- التقاء الزوج بامرأة تفوق زوجته غباء، واحتياله عليها للاستيلاء على بعض المغانم (معطف ومال، أو نقود وكساء، أو مال فقط).
- انطلاق الزوج في طريق العودة إلى بيته، ومطاردة زوج المرأة الأكثر غباء له.
- احتيال الزوج على الرجل والاستيلاء على فرسه.
- رجوع الزوج إلى بيته بالغنائم، بينما عاد الرجل الآخر بالخيبة والخسران.

وإذا أعدنا النظر في هذه المراحل من وجهة النظر المورفولوجية، ألفيناها تتأطر عبر وظائف زوجية، ضدية أو متكاملة، يعود إليها الفضل في توفير التماسك لبنية هذه الحكاية. نعني وظائف: (الإساءة والإصلاح ـ الانطلاق والعودة ـ الخداع والتواطؤـ الاستنطاق والإخبار ـ النقص والدعوى الكاذبة).

لكن هذا التوحد في الأهداف والمراحل والوظائف وغيرها، لم يعف هذه الروايات لـ ( حكاية الرجل الذي كانت له امرأة بلهاء )، من أن يلحق بها عدد من التنويعات الناتجة عن تأثير البيئة المحلية رغم انتماء الأقطار الثلاث إلى كيان قومي واحد، تماما مثلما لوحظ بالنسبة للأنواع الأخرى السابقة من القصص الشعبي. وندرج منها فيما يلي ما تعلق بالمراحل البنائية السالفة:

- تنويعات التصرف البليد للزوجة: ويتمثل في رغبة الزوجة في استبدال اسمها الذي لا يروق لها في الروايتين السورية والفلسطينية. ففي الأولى، تشتري الزوجة (درية) اسما جديدا (فاطمة)، لقاء منح بياع الأسامي بقرة. وفي الثانية، تشتري الزوجة (الدردبة) اسما جديدا ( زينة الدار)، من بياع الأسامي بثلاثين ليرة. مع توصية بياع الأسامي للزوجة، في الروايتين معا، بعدم الاستجابة إلا إذا نوديت بالاسم الجديد. أما في الرواية المغربية، فالأمر مختلف، إذ يتعلق بتسليم الزوج امرأته (لا اسم لها) سميدا لتعد منه (كسكسا وشعرية)، استعدادا لرمضان الكريم القريب، فأعطت كل ذلك للص ادعى أن اسمه كريم.
- تنويعات عثور الزوج على المرأة الأكثر غباء من زوجته: فهو يلتقي في بلد آخر بامرأة، بعد أن سألته من أين أتى، وهل رأى والدها، فأخبرها: من العالم الآخر، مدعيا رؤية ولدها الذي يحتاج إلى معطف ومال؛ أعطته ما طلبه محملة إياه ألف وصية لابنها (الرواية المغربية). ويمر الزوج بنساء يملأن الماء من العين، سألنه من أين أنت، ولما أجابهن: من أهل القبور وذاهب إلى جهنم، أقبلن عليه بالسؤال عن الأب والأم والأخت، ونزعن قلائدهن وأساورهن وسلمنها إياه مع النقود، في ( الرواية الفلسطينية ). وفي الرواية السورية، يلتقي الزوج امرأة واقفة بباب بيتها، فسألها عن بياع الأسامي، لكنها امتنعت أن تجيبه حتى يذكر من أين أقبل، وحين أخبرها: من جهنم، واستفسرته إن كان رأى أباها، فأجاب بنعم، مضيفا أن أباها في حاجة إلى مال، أعطته صرة فيها مال و ( أواعي )، محملة إياه سلامها وشوقها لأبيها.

ـ تنويعات ردود الفعل على عملية النصب: وقد تشكلت في الحكاية من غضب زوج المرأة الأكثر غباء، ومطاردة اللص على حصانه أو فرسه (الروايتان المغربية والسورية)، بينما لم تدخل الرواية الفلسطينية زيجة جديدة إلى مسرح الحدث، لذلك حاولت النسوة ملاحقة الزوج بأنفسهن في البداية، ثم أتبعنه برجل طارده على فرسه.

- تنويعات الخداع: يحتال الزوج على مطارده، بالتظاهر بقطف الفول من الحقل بعد أن أخفى الصرة. ثم يتمادى في الاحتيال حين سأله هل رأى رجلا يحمل معطفا صفاته كذا وكذا، ويوهمه أنه مر مسرعا من هنا، وهو يسير في تلك الطريق، وعليه أن يتعقبه راجلا حتى لا يسمع حوافر الفرس. وبذلك يستولى الزوج على الفرس أيضا، ويعود إلى بيته وزوجته غانما (الرواية المغربية). وكذلك في الرواية الفلسطينية، يحتال الزوج على الرجل بنفس الحيلة تقريبا، حيث يستولي على فرسه بعد أن يوهمه بأن اللص قد سار في اتجاه معين. لكن الرواية السورية تمعن في التنوع أكثر، فتجعل الزوج يحل محل (طيان) بعد أن ادعى أنه سمع أناسا يتحدثون عن نيتهم في المجيء إليه لضربه ، فاختبأ الطيان وراء شجرة. ولما حضر المطارد وسأل الطيان المزيف عن رجل يحمل صرة فيها (أواعي ومصاري)، أجابه بنعم وأنه مختبئ وراء الشجرة. وكان الأوان قد فات حين أدرك الرجل خدعة الزوج، إذ استولى على فرسه وانطلق إلى بيته.

ومثلما لاحظنا سابقا، لا ينجح هنا أيضا تأثير كل التنويعات المستقصاة في روايات (حكاية الرجل الذي كانت له امرأة بلهاء)، في خلخلة هيكلها العام، إذ احتفظت مع كل ما شابها من تفاصيل وحذوف وإضافات، بكيانها المتماسك المحبوك بدقة حول المفارقة المحورية، التي لا يتحقق لنسيج الحكاية المرحة بدونها أي اكتمال جميل، وهي تتمثل هنا في تساوي الرجل والمرأة في الوقوع، بشكل كاريكاتوري، في فخ الخديعة والنصب، بغض النظر عن سذاجة الزوجة وضعفها وتهورها، وذكاء الرجل وقدراته ورزانته، فقد بلور عمق الحكاية موقفا غير مصرح به، لم يقله تجسيدا بل إيحاء، هو موقف السخرية المريرة ليس من المرأة البلهاء فقط، بل من الرجل الذكي المتزن كذلك، حيث أصبحا معا موضوعا لهذه السخرية، رغم تركيز سطح الحكاية على المرأة بالذات. وكأنها تريد من خلال هذين النموذجين المتناقضين الامتداد بدلالتها العميقة ورمزها البعيد، إلى ما يتصف به الإنسان عموما من ضعف أمام قوة المكر والخداع. إذ من عادة الحكاية المرحة ألا تعبأ بالجانب الأخلاقي وما يشف عنه من وعظ وإرشاد تعليميين، حتى لا تخسر تألقها الجمالي.

وبعد الفراغ من كل ما سبق من مشخصات ظاهرة الوحدة والتنوع في القصص الشعبي العربي، عبر المقاربة الإجرائية مورفولوجيا، والملاحظات النوعية حول مظاهر الاختلاف والائتلاف، الثاوية في عوالم النصوص المدروسة؛ يمكن التأكيد في غير قليل من الاطمئنان على الاستنتاج التالي:

إن كل تجليات التنوع الملموسة على الصورة السابقة، ليست في حقيقتها سوى وجه من أوجه الوحدة التي توفرها إضافات التراكم القومي، التي تجترحها ذاكرة كل قطر على حدة بخلفية مرجعية عربية، سواء على مستوى الموضوعات أم الأبطال أم الأشكال أم الأهداف. وبالتالي، فإن كل مظاهر الوحدة في القصص الشعبي العربي، تحتوي ضمنيا على احتمالات التنوع الكامنة فيه. علما بأن لهذا التنوع أهمية حيوية قصوى بالنسبة لتخصيب الأنواع السردية الأربعة، وتنشيطها بدماء جديدة من جهة؛ وبالنسبة لغنى التراث العربي القومي من جهة ثانية، متمثلة في تجنيب الحكايات العربية باعتبارها أنواعا، والمتن القومي منها بوصفه تراكما تراثيا مشتركا؛ الوقوع في آفات الابتذال المنهك والجمود والتآكل المميتين، وغيرها من السلبيات التي يتسبب فيها التكرار والاجترار الدائمان. فضلا عن توفير إمكانات تمليك هذه الحكايات مزيدا من الإواليات والأساليب الجديدة، قصد التعبير الجمالي القوي عن الواقع العربي، بمختلف قضاياه وتناقضاته وأزماته وتطلعاته وآفاقه.



حواشي

[1] انظر: د. عبد الحميد يونس: الأدب الشعبي المقارن، مجلة (المأثورات الشعبية)، ع. 2، س. 1، الدوحة، أبريل 1986، ص. 12.

[2] دة. كريستينا سكارجينيسكا : وحدة التراث الشعبي العربي: مدخل تاريخي للوحدة العربية، مجلة (التراث الشعبي)،ع.10، س. 11، بغداد، 1980، ص. 31.

[3] د. سيد حامد حريز: تحديد مفهوم الأدب الشعبي العربي، مجلة ( المأثورات الشعبية)، ع. 3، س. 1، الدوحة، يوليه 1986، ص. 29.

[4] كريكوري شرباتوف: العناصر المشتركة للأمثال الشعبية العربية، مجلة ( التراث الشعبي)، ع.11/12، س.11، بغداد، 1980، ص. 50.

[5] نقصد: الحكاية التي تساق على لسان الحيوان.

[6] المقصود : الحكاية الشعبية الواقعية.

[7] دوكتوريس ليجي: حكايات وأساطير شعبية من المغرب، مطبعة إرنست ليرو، باريس، 1926، صص.39 ـ 33. ( بالفرنسية).

[8] نمر سرحان: الحكاية الشعبية الفلسطينية، مركز الأبحاث لمنظمة التحرير الفلسطينية والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،1974، ص.129ـ 133.

[9] د. عبد الله الطيب: الأحاجي السودانية، دار جامعة الخرطوم للنش، الخرطوم، ط.2 / 1990، ص. 71 ـ 78.

[10] لويز برونو و محمد بن دوود: العربية المغربية العامية، فليكس مونشوالناشر، الرباط، 1927، صص. 71 ـ 72. ( بالفرنسية).

[11] د. عبد الرحمن الساريسي: الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني، ج. 2 (النصوص)، سلسلة إحياء التراث الفلسطيني (2)، دار الكرمل للنشر والتوزيع، عمان، ط. 1/ 1985، ص. 17 ـ 22.

[12] داود عزيز داود مدالو: حكاية شعبية بغدادية: حسن آكال كشور الباكلة، مجلة (التراث الشعبي)،ع.7،س.6، بغداد، 1975، ص.185ـ188.

[13] د. عبد الرحمن الساريسي: المصدر السابق، ص. 17.

[14] سمير طحان: الحكواتي الحلبي، دار الشورى، بيروت،1980، ص.17ـ 22.

[15] عبد الفتاح الجمل: حكايات شعبية من مصر، دار الفتى العربي، بيروت، ط. 1 / 1985، ص. 22 ـ 23.

[16] خرافات إيسوب، ج.2، تر. عبد الفتاح الجمل، دار الفتى العربي، بيروت [د.ت.]، ص. 92.

[17] دوكتريس ليجي: المرجع السابق، صص. 155 ـ 156.

[18] عادل أبو شنب: كان يا ما كان، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1972، ص. 103 ـ 106.

[19] د. عبد الرحمن الساريس: المصدر السابق، ص. 300.



مصطفى يعلى
 
أعلى