دراسة أحمد عواد الخزاعي - القصة النجفية... بين الموروث والحداثة (أريج أفكاري) أنموذجا

نشأت القصة النجفية الحديثة في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، والذي تربع على عرشها، القاص جعفر الخليلي ( 1904- 1985)... بعد أن صدرت له عدة مجاميع قصصية آنذاك منها (من فوق الرابية، اعترافات، أولاد الخليلي...)، إضافة إلى عدة مطبوعات اهتمت بالأدب والتراث... غير أن مساهمته الفعالة في إثراء الفن القصصي، كانت بتأسيسه لمجلة الراعي، التي اعتنت بالقصة القصيرة، وعملت على نشر نتاجات الأدباء الشباب في مجال القصة، وقد عده بعض المختصين بالأدب بأنه رائد القصة العراقية الحديثة، كما أشار إلى ذلك المستشرق الأمريكي توماس هامل في أطروحته للدكتوراه الموسومة (جعفر الخليلي والقصة العراقية الحديثة)... لكن بعض النقاد، ومنهم الدكتور عبد الإله احمد، أشاروا إلى أن اتجاه جعفر الخليلي في السرد القصصي، قد قيد القصة العراقية وبالأخص النجفية، وجعلها تدور في حلقة مغلقة، لا تتعدى حدود ثقافته وبيئته الدينية، وأسس لاتجاه ساهم في تأخر هذا الفن عن ركب الحداثة... وقد جاءت انطباعاتهم هذه بناءا على عدة أسباب منها... طبيعة الثيمات التي تناولها والتي أطلق عليها الناقد ياسين النصير (الواقعية الساذجة)، كونها كانت تميل إلى السطحية في تناول المشاكل الاجتماعية ومحاولة معالجتها، إضافة إلى إهمالها جانبا كبير ومهم من هذه المشاكل، واللغة المستخدمة التي استمدها من التراث، والمشبعة بالجناس والمحسنات اللفظية والسجع والتراكيب الفخمة والعبارات الرنانة... واعتقد إن نمطية السرد القصصي هذه لها ما يبررها، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار، طبيعة البيئة الثقافية والدينية التي نشا فيها القاص، والتي تعمل على تأطير افقه الأدبي وتقنيين طبيعة الثيمات التي يتناولها، إضافة إلى إن هذا الفن استخدمه جعفر الخليلي ليكون محطة تعليمية تربوية واعظة، يستطيع من خلالها إحداث توافق بين الأدب والفضيلة، مراعاة لطبيعة البنية الاجتماعية والثقافية والتعليمية لمجتمعه، وحجم الجهل والتخلف الذي كان سائدا في العراق انذاك.
ومن ارض النجف نسلط الضوء على منجز قصصي، لقاص مثابر، يمتلك قدرة على استحضار البديهيات الاجتماعية، وصياغتها في ثيمات ذات جمل مقتضبة، تحمل دوال حسية وفكرية مثيرة للاهتمام، في مجموعته القصصية ( أريج أفكاري) الصادرة عام 2017 استطاع القاص فلاح العيساوي أن يخوض في أدق التفاصيل الحياتية، مستلهما جزء من الموروث الفكري والأدبي لمدرسة جعفر الخليلي في الفن القصصي، مضفيا عليها جوا حداثويا من حيث الأسلوب واللغة التي لم تخلوا من بعض أثار تلك المدرسة العريقة... يقول الناقد المصري جابر عصفور (ليس من الضروري أن يتكلم الكاتب عن فكرة جديدة، بل يكفي أن يصوغ لنا الفكرة القديمة بطريقة جديدة).
تكونت المجموعة من قسمين رئيسيين... الأول قصص قصيرة جدا، والقسم الآخر لامس الومضة النثرية، وأخرى اقتربت من الشعر إيقاعا وموسيقى... لقد تميزت هذه المجموعة بنزعتها الاجتماعية البسيطة التي لامست مفاصل حياتية عامة غير إنها أخذت خصوصيتها العربية والعراقية من خلال طبيعة العلائق الاجتماعية التي شكلت العمود الفقري لثيماتها، وكذلك طريقة طرح المشاكل والإرهاصات الفكرية والنفسية لإبطالها، والتي تعكس مزاجا شرقيا لبيئات محافظة مؤطرة بضوابط دينية واجتماعية، تميل إلى الصارمة في بعض محطاتها... لذا نجد الوعظ والإرشاد والنزعة التربوية الملتزمة حاضرة في ثنايا النصوص، كانعكاس للبيئة والأجواء التي كتبت فيها... حملت لغتها مفردات منمقة تم اختيارها بعناية، وتراكيب لفظية فخمة جمالية، ويتضح هذا للقارئ من أول عتبة للمجموعة، وهي العنوان (أريج أفكاري)... إضافة إلى وجود العبارات الدلالية القصدية الموحية، والتي غلب عليها الوعظ والإرشاد وتصحيح مفاهيم اجتماعية خاطئة، وتسليط الضوء على إشكاليات حياتية قائمة، مما اكسبها صفة الخطاب، لتوفر عناصره الثلاثة (المرسل والرسالة والمرسل إليه)... إن عملية الاستحضار التي مارسها القاص لموروثه الثقافي، وظفها ببراعة ضمن اطر حداثوية، واسقط عليها بعضا من التكنيكات السردية الحديثة ليضفي على نصوصه مسحة تهكمية كاريكاتورية ظريفة، من حيث الثيمة، وطبيعة النهايات الصادمة المخيبة للآمال، التي مر بها أبطال تلك النصوص، والمفارقات الحياتية المضحكة، مثل قصص ( أريج، ادوار، إرهاق، فرار).
نلاحظ في مجموعة أريج أفكاري ضبابية تحديد الاجناس، بالنسبة لنصوصها، قد لا تكون بطبيعة الحال خللا أو خطا وقع فيه القاص، بقدر ما هي إشكالية قائمة، لم يستطع المعنيين في الأدب، وبالسرد بوجه خاص، من فك الاشتباك الحاصل بين أجناس السرد الأدبي، وقد نوه إلى هذا الأمر القاص محمود احمد السيد في مقدمة روايته (جلال خالد) التي كتبها منتصف عشرينيات القرن الماضي، بعد أن ترك نصه عائما بلا تجنيس، وكذلك فعل الروائي غائب طعمة فرمان في روايته (النخلة والجيران) التي كتبت أواسط ستينيات القرن الماضي... إن عملية التجنيس في السرد الادبي، تتحدد وفق بديهيات تنبثق من الموروث البيئي، والمدرسة الأدبية التي ينطلق منها الكاتب، وطريقة تعاطيه مع النص وقناعاته الشخصية، أي إنها تندرج ضمن اطر انطولوجية، تشمل في حيزها (المفاهيم والنظريات والرؤى والأفكار والانطباعات)، أي لا يمكن إخضاعها لثوابت حتمية... لذا نجد نصوص فلاح العيساوي، توزعت بين من حملت شروط القصة القصيرة جدا، من حيث (التكثيف، الاختزال، اللغة الموحية، النهاية الصادمة...)... وأخرى امتدت لتقارب القصة القصيرة، بعد أن احتوت على مشاهد حوارية مثل قصص (عراق، رقيب، سراب، موز، تبادل، مجاملة)... والصنف الثالث سارت بموازاة النص المسرحي عبر حواريات مباشرة، حملت مفردات فخمة ناقشت قضايا اجتماعية بطريقة جريئة مثل قصص ( أحوال، إقصاء، الهاتف، تبادل، حقيقة، رومانسية...)... أما الومضة فهي تقع في دائرة إشكالية التجنيس، غير أن القاص استطاع إيصال فكرته للقارئ بعملية اختزال ملفتة للنظر، وصلت حد استخدامه لكلمتين فقط في النص الواحد، كما في قصة (مغرمة).



أحمد عواد الخزاعي
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى