دراسة خولة الراشد - دراسة نقدية وتحليلية لقصة (رقيب) للقاص فلاح العيساوي/العراق

رقيب
أراه يلوذُ بصمتِه، يركنُ إلى سريرِه، لا ينامُ الليلَ بطولِه..
دنوتُ منه، عانقتُه بحنان، قبلّتُه على وجنتهِ فانزلقت منه دمعة.
قلت: بني افتح لي قلبك؟.
- ماذا تريدُ معرفتَه؟.
- سببَ تغيّرِ أحوالِك وطولِ سهادِك؟.
- وهل ترى الوسنَ عينُ العاشق؟.

_________________


الدراسة والتحليل:


المقدمة:
الكاتب فلاح العيساوي يكتب لنا دمعة، وأي ..دمعة ..إنها دمعة الإنسان الصامت، دمعة يسهر بها مع أوراقه ولا يبالي ليختلي بها مع البطل فيخفف عنه الأحزان، تلك الأحزان التي تجري في نهر محبرته لينفض بها ما يحبسه من أنفاس في دنيا تموجُ بكلِّ ألوانِ الشر وكلِّ ألوان ِالعذابْ، إلى أن تأخذنا قصته إلى عالم آخر، فالبطل ليله يطول ويشتد سواده بفعل قلم الكاتب.. حين يَعُمْ الصمت والسكون من حوله، إنه السؤال.. الذي يحير الكاتب والقارئ من بداية ظلمته لنهايته، لعل الكاتب يخفي سر بطله ويتخفى، وباسم (الرقيب) يمسح دمعة تنزف منه في -ليل طويل-، فقد جفّت عَيْناه و انتابه سُهاد ولا نعلم سبب السهاد! أهو عشق أم هو تدبر روحي.. أم هو شوق لغائب وحنين لأمه!، حتى تتعطل به عقارب الساعة، وأي -ساعات ودقائق- تجعل نهاره ليل إنه الزمن- الذي لا يتوقف مع -الدقائق- إلا بقيام الساعة.-
نتعرف على القاص والكاتب فلاح العيساوي، هو كاتب عراقي يكتب القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً والومضة.. وهو متخصص في القصة القصيرة جداً ويرسم لها اتجاه جديد، ومن اتجهاته التي أعجبتني.. مجموعة -انساني-.. ومن قصصه.. اخترت: "قصة رقيب".
يجسد الكاتب فلاح العيساوي بأسلوبه القصصي المكثف لوحة تتموج منها ألوان حزينة سوداية ليلية شتائية، يرسم بها دمعة الإنسان، وبريشته الكاحلة يرمي حروفه في نهره الأدبي، وبسيلان حبره يذرف دمعة البطل لتنجرف على لوحة أوراقه واحدة بعد الأخرى، تلك اللوحة التي تطفو على بحر من الحزن بملوحة دمعته، فتتلاطم صفحات الكاتب وفكره المبدع بعشوائيته..، وفجأة نجده يرمي بلوحته أو قصته في بحر من الظلمات، حالات من الضياع والصراع الإنساني، وامتهان إنسانية الإنسان ومطاولته للبقاء ضد المهددات التي تداهمه في هذا الوقت. وقصة (رقيب) من ضمن مجموعته القصصية التي يحرك فيها ذاته الباطنية لتنتفض كل ما حوله، وفيها يعالج محاور تتضمن التذوق الفني، والأسلوب، والشكل، فالكاتب حاور الأسلوبين في إبداعه هذا، حيث مال إلى الجملة الاسمية في العنوان، ثم أخذ التداور بينها وبين الفعلية في لُبْ النصوص، فجذب بذلك المتلقي لمتابعة الموقف الذي يتبناه لكنه بالوقت ذاته يتشبث البطل بعروقه وجذوره المفعمة بسرّ الحياة التي سمى بها عنوان القصة (رقيب) أو يقظة وهو محوراً يدل على انعكاس عالم باطني مملوء بهوس انساني خفي، يحاول الكاتب من خلال الرقيب ان يوصل إلينا أوجاع الإنسان المنزوي المتوحد والذي أنْهكته قواه وحبس نفسه في وحدته، وقد يراها البعض(حلم)، والجميل في هذا الانعكاس: هو وجود الغائب أو البطل وحضور الرقيب، وفي كلتا الحالتين هنالك معاناة وسر خفي، أي أننا إذا ما دققنا نكتشف أن البطل غائب في العلم والحلم.. أو المكان والزمان.. وكأنه (هروب) من الذات ونفسه أمام الرقيب. وبالطبع هنالك فرق بين "رقيب"وبين "الرقيب" والتي سنتعرف من منهم الذي يلاحق البطل. فإن كان رقيب سيكون البطل واحد أما الرقيب سيتعدى ذلك، لذا نجد الكاتب يتلاعب بالمكان عن طريق الزمان أو الليل الذي تطل منه شخصية القصة ليرى الرقيب ما أمامه..
السؤال الذي يطرح نفسه أين هو البطل الحزين هل هو الرقيب ذاته أو أنه الرجل المرئي المتخفي!؟؟. وما هي وظيفة الرقيب هل هو رفيق الخير؟ ومن يكون ليتعمق بداخل روح تعاني ما لا يعلمه أحد؟ وكيف للرقيب يصل لشخصية القصة أو العاشق؟ بهذا نفهم أن الفاعل في القصة رقيب والمفعول به المراقب لأن الحزين لا يتحكم بنفسه، ولا يتحرك وتوقف تفكيره عند مرحلة الضياع، وأي نوع من الضياع والحزن الذي جعله يغيب عن الحياة ويرحل بخياله إلى مكان لا وجود له، فقد ضاقت به الحياة وتصنّع الحزن وبدأ يرثي نفسه، وهكذا ينشر قصته في قـراطيس الـغرام التي تجعدت بحمى العشق يحاول بها الرقيب أن يفرد ليله ليطوي شراع المحبة فينفض الحزن عن العاشق الراحل.

*******

أولاً: المعنى اللغوي
________________

رقيب: ( اسم )
وهو رقيب: فاعل من رقَبَ، ويقال: هو رَقيب نفسه: أي ينتقد أعمالَه فلا يدع سبيلاً للنَّاس إلى لومه، الرديف: أمين، وحارس على البطل، والأضداد -سارق، ولص، يسرق-
أراه: طريقَ الصَّواب: عرَّفه به وأطلعه عليه، وأراه: جعله ينظر إليه لرؤيا من: رَأى مِنْهُ العَجَبَ: أتَى بِمَا يُحَيِّرُ وَيُثِيرُ الدَّهْشَةَ.
يلوذ الضَّعيفُ بالقويّ:- لاذ بالصَّمت: سكت، تحصَّن بالسُّكوت.
سهاد:
1– مصدر من سهد . 2- أرق، ذهاب النوم عن المرء في الليل.
الوَسَنُ: نُعاس، أوّل النَّوم أو ثِقَلُه..
وجنتيه من وَجْنَةُ: خدّ، جزء لحميّ موجود على جانبي الوجه، أسفل العين وبين الأنف والأذن (ما ارتفع من الخَدّ) (1)- معجم المعاني الجامع.

********

في اللغة:
يستخدم الكاتب الفعل المضارع وهو محبب لدى النقاد، بينما العنوان: يوحي بأنه جملة فعلية من يراقب، وفي الأصل هي "اسمية" من الرقيب "وإلا قلنا: يراقب الرقيب حاله" لكن المفترض أن يكون الرقيب لأن الكاتب يتحدث ويجيب بصوب خافت مضطرب لا يُسمع، لذا يعرف لنا الكاتب العنوان ويروي به الحدث، ويصل لنا الشخصية فنحدد موقعها وعن طريق المكان نعثر على المراقب والبطل هو المفعول به العاشق، والرقيب هو الفاعل.
أراه: فعل مضارع أراه أمامي حذف (أمامي) ليكثف القصة ويجعل الحالة مجهولة ولا يحدد مكان الرقيب، ثم يصف حالته، يلوذ فلا يحرك ساكن بالصمت الباء حرف جر صمت: اسم مجرور بالباء والجملة فعلية. وكمثال، وذلك لأنه يصطحب حال، والحال: هو صاحب القصة، والفعل هو الإنسان الذي يحرك الجملة ليكون بها قصة، فيبين لنا حال البطل بعد أن راقبه ونظر إليه، ثم يقفز من حال الفاعل ليصف لنا المكان الذي يطل منه الرقيب ليتمكن منه، معاني من الحزن والحنين واليأس والعشق، تؤدي إلى الوحدة والسهاد، إنها مشاعر داخلية ووجدانية، والوجدان مكانه الفكر والقلب والشريان والروح، بينما يستخدم مكان يتكأ به على أحزانه هو (سريره) وهذا المكان يدلنا على وجوده أن (القصة تتكأ على مكان أرضي مظلم) يطل من هوة القصة كلمة أطلق عليها الكاتب اسم القصة (رقيب).. السؤال لما لم يسمي القصة باسم البطل (العاشق)؟
الإجابة: أعتقد لأن الحال الذي يتكأ عليه البطل الحزين مكان مغلق، لا نستطيع أن نراه إلا من خلال الرقيب، ويأخذنا مكانه إلى الزمان أو الليلة الحزينة المظلمة، والليل بالطبع فيه ساعات، والساعة هي الزمن المؤقت، والذي يطل منها النهار. لذا قصته سوداوية ليلية البطل فيها متشائم وهنالك نوع من التفاؤل والأمل من العنوان أو الأب.

______________


ثانياً: صراع المكان والزمان بالمعنى:
يصارع الكاتب بقلمه المحبور.. رغبة البطل المجنونة بالهروب من الواقع، ويتغلب على هذه الرغبة عن طريق الهروب إلى الخيال ليصل إليه، وذلك بقوله/أراه يلوذ بالصمت، يركن إلى سريره/أي يميل إلى الوحدة ويلجأ إلى سريره، والسرير هو الفراش والمكان الذي يستلقي الإنسان بجسده عليه بعد نهار شاق، وسريره من أسارير وهي سعادة الإنسان عندما يرتمي على المكان الذي يأخذه إلى عالمه الآخر، وهكذا نفهم أن المكان هو السرير، والسرير عادة يوضع في حجرة -بزوايا أربع- تخرج منها إضاءة خفيفة وضل خافت والسقف منخفض، ليستطيع النائم أن يجد مكانه الذي سيرحل إليه ويجدد حياته بليل ويوم آخر وهي سنة الحياة.
1- وقد يكون هروب روحي يتدبر به إلى الوجود.
2- وقد يكون مرض وحمى السهر ومجنون عاشق.
3- وقد يكون حلم حقيقي أو رؤيا وهنا يسخّر الكاتب الحاسة السادسة وهي الافتراض الباطني والتقاء الروح بالروح في عقل وجسد واحد عندما ينبهه –الله سبحانه وتعالى- في الحلم أن ابنه في حالة سيئة، أو هو نفسه يشعر أن -الله- يراقب أعماله.
وكي نستطيع أن نتعمق لا بد أن نركز كيف يبحث الكاتب بعيني الرقيب من خلال النص عن ذات البطل، من الواضح في البداية أنه لا يستطيع أن يعثر على البطل المتخفي وذلك لأن قصته تسبح في نهر مظلم وليس هذا بسهل أن تكون أوراقه في حجرة مغلقة، فالكاتب يصف لنا البطل أنه تائه بين أفكاره المتلاطمة، غير مقتنع بكل ما يدور حوله.. يتساءل في خاطره ودون أن نسمعه.. دوما لماذا؟ وكيف؟ لكنه لا يجد الإجابة الشافية على سؤاله، فهو يعاني من عذاب نفسيّ عميق، يعبّر عنه بطرق مختلفة وفي أماكن مختلفة، فالحيرة تلفّه وتهزّ كيانه. وهو يخاف من المجهول ولا يستطيع أن يتوقع ماذا ستجلب له نفسه، حتى يتخلّى عن أحلامه وعن عالمه الموازي الذي يعيش فيه بعيدا عن الواقع (وهو المكان المؤقت) الذي ما أن يخطو إليه إلا ويرحل عنه سواء بحلم أو بسهاد، بينما الزمان قوله: لا ينام الليل بطوله/هو الليل، وقد حدد الزمن أي أنه مؤقت، فالليل إن طال سيقصر، لما لم يقل -الليل- وأشار لطوله لأن –الساعة تشير إلى الليل فلابد من ذلك إذا هنالك ( تحديد)- لأنه أراد أن يعرفنا أن بطله مستيقظ من أول الليل، و قد يتسائل البعض كيف يمكننا حساب بداية وقته قد يكون الثلث الأخير من اللّيل تحديداً، فالمنطق يقول أننا نقوم بحساب ساعات الليل، وهي الساعات التي تبدأ من إكتمال عتمة السماء (وقت أذان العشاء تماماً) وحتى طلوع الفجر، و هذه الساعات تختلف وفق معيارين أساسيين: وأوّلهما موقع المكان المتواجد فيه بالنسبة لكوكب الأرض فهناك مناطق يكون فيها الليل أطول أو أقصر من مناطق أخرى، و المعيار الثاني يعتمد على أي فصل في السنة أنت تقيس طول اللّيل ففي الشتاء يكون طول الليل أكثر من طوله في الصيف. وبهذا فطول الليل متغير من مكان لمكان.. لذا أعتقد أن البطل في (فصل الشتاء) يشعر في قشعريرة وبرد، و الحنين يزداد في فصل الشتاء، وفي هذا الفصل نتوصل إلى أن البطل وحيد ليله طويل منعزل يبحث عن الدفء فلا يجده إلا بالمنداة الصامته إن القصة صامته غيبية روحية مظلمة ترتعش فيها الحروف بقلب البطل يرتجف ليجد له مكان... فأين مكانه؟؟؟ هل في السماء أم على الأرض أم بينهما!؟.

****

ثانياً: الرقيب المتخفي في المكان والزمان:
__________

توظيفه الظرفي و الزمني جعل من النص أشبه بمشهد درامي حكائي في وهلته الأولى، وكأن الكاتب يريد أن يرسم للواقع المرئي مشهد ليرصده ويتعايش معه، في لوحات واقعية يمزجها بخياله الإبداعي والابتكاري ليصورها كيفما يشاء له فكره وخياله، و(قصة رقيب) مسيرة إنسان برزت عنده ملكات الوعي والاحساس ودفنت مع/الوسن العاشق/، لذا نجد الكاتب يتبع منحنى مختلفاً خاصا به وبتجربته القصصية، ليرصد لنا الواقع ويدمج معه الخيال بدقة تفصيلية فيتخللها إيماءات وايحاءات تشير بوضوح الى قضية إنسان ضائع ومعاناة أجيال يبحثون عن أنفسهم فلا يجدوها إلا في المتاهات. وهي الحالة والشخصية والمكان الذي يتخفى فيها البطل لذا أرى أن:
*الكاتب يهدف إلى توجيه قلمه ليصوبه إلى الإنسان العاطل والضائع والذي جعل الدنيا أكبر همه وحزنه، ترك الحياة والعمل وانزوى ولم يعمل وينتج فيها وهذا توجيه جميل من الكاتب للمتلقي، بينما في البداية يبدو وأنه معه ولكنه ضده في الحقيقة أنه بدليل أنه حاول أن يأخذه للحياة ولكن الفشل يحاصر البطل في مكان مظلم بالنسبة لي أرى أن الكاتب هو الصوت الذي يحاول أن يأخذ بيد الرجل ولكنه يوظفه بطريقته ويسخّر له شخصية (الرقيب) الذي يمسح دمعته ليضع لنا جانب إيجابي توجيهي، فنجد أن المكان عبارة عن غرفة مظلمة وأن المشاعر كذلك تتكأ على مكان ووجنتين الإنسان، والزمان هو في الليل الفصل شتائي لأن -الساعات طويلة-.. هكذا أفسرها..
وإذا ما تأملنا في النص نجد أن البطل ضعف أمام القوي بصمته، فسكت ولم يتكلم ولم يثرثر، حتى اختفى إلى سريره، أي هرب لفراشه ليتظاهر النوم وما هو بنائم، إن ظل على حاله، فالكاتب يصف لنا حالة البطل، بقلمه وعلى لسان الرقيب، البطل المتخفي والخائف والحزين في ظلمة الليل، لكن الرقيب والأمين والحارس يمد يده إليه، وبهذا نجد أن الرقيب يشد البطل إلى بحر الأمان، وذلك ليستيقظ من حمى السهر والعشق، ولو أنه توقف عند الدمعة لصارت -ومضة-، لكنه امتد للحوار، وكشف لنا حاله ولما لا ينام الليل، عندما ردد طول سهادك والسهاد، هو للعاشق
إذاً: "العنوان (رقيب) ليراقب كل حركة، ويدنو من البطل قبل أن نعرفه، ليوجه الرقيب والبطل كيف ما شاء، فالكاتب يكتب كما وأنه يحدث نفسه عندما يقول/أره يلوذ/ هنا نكتشف أنه يستخدم حاسة النظر والنطق/وما هو بناطق ولا يرى.. وبهذا نكتشف أنه لم يستخدم المعنى الأصلي، الكاتب استخدم من الفعل/أراه/الضمير.. وهو يقصد أرى منه وهنا المعنى يختلف، ولم يقل/لاذ/ وإلا قال صمت.. والصمت يعود إلى البطل، والرؤيا من: رَأى مِنْهُ العَجَبَ: أتَى بِمَا يُحَيِّرُ وَيُثِيرُ الدَّهْشَةَ (2).

ثالثاً: قلب اللغة وجسد البطل:
______________

يبدأ بالفعل: " أراه" وكأنه قارئ وليس كاتب، لذا هو ينقل لنا لحظة حوار -بينه وبين ابنه-، فالقصة لا تنام بسبب بطلين والثالث هو -حبر الكاتب- الذي يحاول أن يكون -جزء وفرد- من العائلة لينقل لنا معاناة حمى السهر، ثم ينتقل من المعاناة إلى المواساة، لعله يعلم ما هو في فكر وقلب ابنه، ولكن يصمت ابنه مع القارئ عندما تدمع العين، وهنا نعتقد أن المشهد انتهى، لكن لا يكتفي ((الرقيب)) أو الأب أو من يخفف عنه، وكأنه لم يستطع أن يصل إليه، وهنا يحرك لسانه (قلت) التاء تعود (للرقيب) و يتنبه القارئ أنهما في مكان واحد يشد الواحد منه الآخر بدمعة حزن يمسحها عن الآخر(قوله افتح لي قلبك) أعتقد أنها نوعا ما قللت من شأن -القصة- الرائعة، من الممكن وكأنها تبدو- بسيطة-، إلى درجة أنها أخذت مسافة وجعلت القارئ ينسى المقطع الجميل الرائع والمفردات والمعاني القوية، وكأنه لان ووقع قلم الكاتب ثم عاد وكتب، والحقيقة أن الكاتب قصد أن يسهل القول ويلين الكلام وكأنه يخاطب من هو أمامه فكونك تقول: وهو صامت تحاول أن تجعل صدى في المكان والقصة فنحن أمام الصمت والكلام، -فالصمت- يعود إلى البطل المختفي -والكلام- أو المخاطبة، في -قلت- هو الرقيب، إذن لا بد من التدقيق أن هنالك صوت يخرج من لسان الرقيب ليرتد إلى البطل (الضمير) في أراه وكأنه صدى... لأن إعراب أراه، أُراه بالضم.. يلوذ، فأُرى: فعل مضارع ملزم للمجهول مرفوع بالضمة المقدرة على الألف للتعذر، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوباً تقديره ( أنا). أما إن كان يقصد أَراه بالفتح: من رأى تختلف، يختلف: أراه بصمته يلوذ، وإذا ما أشرنا في المعنى الثاني نجد أراه/فعلاً ماضياً أصله رأى المتعدية فلما دخلت عليها الهمزة تعدت لثلاثة مفاعيل، كأن يقول رأى فلان صامت، فقد تعدى الهاء و يلوذ وهي -تفيد الظن- فالرقيب رأى وظن أنه حزين.. وقد تكون من رُؤْيا، فهو راءٍ، والمفعول مَرْئِيّ:-
• رأى في منامه كذا حَلَم:-رأيْتُ فيما يرى النّائم أنّني أطوف حول الكعبة،- {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}. سورة الصافات الآية (102).
ويقصد الحلم. فتكون القصة كحلم، ويكون الرقيب هو الذي يحلم والابن هو المرئي فنقول الرقيب يحلم في المنام أن المرئي أصابه حمى السهد والمرض.. فتنبه الرقيب من حلمه، إذا الرقيب إما حالم، أو مستيقظ، بينما المرئي في كل الحالتين غائب، وهكذا نحلل المعنى عن طريق الإعراب وموقع الشخوص في القصة لنلقي القبض على جسد وروح.. البطل.
أنه ركن ظهره إلى السرير: وفي اللغة أماله إليه وأسنده عليه. (4)
الروح الجمالية. والعنوان-
جاءت مشاعر الخوف والمعاناة منذ العتبة الاولى ليضع العنوان(رقيب) فالعنوان يشمل القصة وليس القالب الذي يتواجد فيه البطل أي أنه لم يجعل القصة (عاشق) بل نسبها للرقيب وذلك ليخرج بنتيجة ترضيه وترضي القارئ وتعطيه مساحة للمكان والزمان والشخصية والحالة أو الحدث.
بينما نلاحظ أن لغته بسيطة بحيث جعلها نسج فعلي اتكأ فيها على الفعل المضارع، كاد أن يغالب في عدده وأثرة، وتلك ميزة ربطت النص الظاهري بألفاظه وعباراته، والعنوان "رقيب" لم يعرفه وإلا فضح مكانه واعترف البطل واستسلم له، لكن العنوان يوحي إلينا أنه في مكان مظلم يطل من هوة أو نافذة عكست لنا ضلال البطل ودمعته، استخدم دلالات الايحاء والايماء والصمت أما الحوار يهز به الكاتب شخص واحد ليرتد إلى الرقيب بنداء، أما ألوان القصة سوداية ليلية، متشائمة.

الخلاصة:
ولأكون صادقة يجب أن أعترف أني أغمضت عيني لأجده وأقبض بنفسي على روحه لعلي أسلمه للمتلقي وأعيده إلى الكاتب، فالكاتب انتقل بحبره الجاري إلى تيار الوعي الذي لم أجد فيه شيئاً من تكلّفٍ في العمل الأدبي، إنما جاء فاعلاً ومحرّكاً لدرجة التأزيم (الحبكة) بصورة تدفع المتلقي للقراءة بغية الوصول إلى ذروة الحدث فجذبه للقصة، وجاء في لحظته الزمنية المطلوبة على مستوى القصّ؛ وكأني به أراه لم يتقدم أو يتأخّر على مستوى زمن القصة وحدثها. ومن هنا فقد بادرنا القاص بتشكيل حاذق للقاء الأخير الذي جمعه مع الرقيب في ليلة شتائية بسؤاله/قل لي ما الذي../فيجيب الرقيب بلسان البطل، من هنا نكتشف أن البطل رقيب نفسه، فهو يراقب نفسه في خلوته، -رائع، رائع، رائع-
فيشعر- بنداء خفي- يتنبه به من صوت الرقيب، القصة حركتها بطيئة، "عناق، قبلة، ليل طويل"، ( روحية) وأعني بروحية أن البطل يحاكي نفسه ويعاتبها أمام الرقيب لتبدو تهيئات، تلك التهيئات التي تجعل من القصة حوار، يقول له إذا ما فسر المعنى عامة: لما أراك يا بني حزين لا تنام الليل، تدبر تأمل نداء، يعانقه يدنو إليه بحنان، تنزلق منه دمعة فينفجر ويعترف، بعد أن يقول له قل لي سبب تغيرك، يتسائل وكأنه متعجب من سؤاله، كيف لي أن أنام والقلق يلازمني من حمى العشق!..
* وهكذا نستطيع أن نصل لقفلته التي تفتح لنا: سبب تسمية الكاتب قصته (رقيب) ولم يسميها (العاشق)، ببساطة لأن الرقيب لم يستطع أن يشفي ألم العاشق وهذا يدل على أن العاشق في مكان مختلي بوحدته لا يراه أحد. وهكذا نجده في النهاية يحذف ( آه) (ويلاه) (نعم) أي يحذف الإجابة وكـأنه متردد ويجيب بسؤال (وهل ترى) وكما أنه بدأ بالفعل (أره) في البداية ينسبه للبطل العاشق في النهاية، إذا يربط النهاية بالبداية ليقفل القصة على الرغم من بساطتها ومن يقرأ السطر الأول.. يندهش ويطول فكره مع ليل البطل/ومن يقرأ السطر الثاني: يشعر بمعاني الحنان من قبل الرقيب الذي يحاول أن يقترب إليه ليكون رقيب وينفض حزنه ويمسح دمعته بحزنه، ومن يقرأ الثالث يبدو له السؤال بالأستفهام التعجبي، وقبل السؤال/قلت/مساحة والتاء تعود/للرقيب/وهو يحاول يخرجه من الوحدة بالقول، والكلام لعل الصمت يفجر نهر من دموعه الحبيسة فيتكلم، فيتعاطف معه، التاء تعود للرقيب المذكر لنفهم أنها ليست أمه، إنما يكون أبيه، أو رجل يتعاطف معه كشيخ كبير وحكيم، أو حلم، إنه يحاكي نفسه لأنه في خلوة، ووحدة والدليل أنه قريب إلى سريره أي حلمه.. وأخيرا السؤال، يتبعه سؤال، فقبل أن يجيب سأل، وهنا نعود لأن الرقيب هو ذاته البطل أو جزء منه.. وهو الصوت الخارجي للعاشق الذي يعود للعنوان عاشق لذا لم يجيب وعجل بالسؤال ليبرر لنا سبب، انعزاله وصمته وسهاده.
أخيرا أقول الليل يطول في الكتابة، وفي النهار الحرف يهرب مني، وعندما أستيقظ أرى أمامي.. ما أراه الآن.

***

- قصة رقيب تذكرني بقصيدة أبو فراس الحمداني
أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ،-
أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ ؟(5)
شكراَ للأستاذ فلاح العيساوي، ولكل من يقرأ القصة والدراسة


*******************************

المصادر:
(1) (2) (4): معجم المعاني المحيط
(3): القرآن الكريم سورة الصافات الآية 102
(5): الشاعر: أبو فراس الحمداني (اسم القصيدة أراك عصي الدمع)



خولة الراشد/السعودية
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى