جابر عصفور - تراتب الأنواع الأدبية

أوراق أدبية
علاقة الكاتب بالسلطة، والكتابة بالدولة، قضية شائكة قديمة، تتجدد، وتمتد تجلياتها عبر تاريخ الأدب العربي كله. وما زال الكاتب يواصل سبر أغوارها، وفي هذا المقال إيغال جديد.
حين ذهب على بن خلف، في كتابه "مراد البيان "، دفاعا عن فضائل الكتابة، إلى أنه ليس في متولي خدم السلطان والمتصرفين في مهماته أخص من الكتاب به، فإنه لم يميز بين الكتاب وغيرهم فحسب، وإنما ميز بين الكتاب بعضهم وبعض، وأقام نوعا من التراتب القسري لمستويات الكتابة الي كان لا بد أن تتجاوب، في تراتبها، مع الكاتب الاجتماعي الذي عاشته العصور المتتابعة لازدهار الكتابة في تراثنا.
وقد ذهب ابن خلف إلى أن أرقى كتاب السلطان، وأقربهم إليه، كاتب الرسائل، لأنه أول داخل على الملك وآخر خارج عنه، ولا غنى للسلطات عن مفاوضته في آرائه والإفضاء إليه بمهماته، وتقريبه من نفسه في آناء ليله وساعات نهاره، وأوقات ظهـوره للعامة وخلواته، واطلاعه على حوادث دولته ومهمات مملكته، فمحل كاتب الرسائل من السلطان محل قلبه الذي يؤامره مشكل رأيه حتى يتنقح، ويراجع في مهم تدبيره حتى يتوضح، ولسانه الذي يقر بترغيبه أولياءه على الطاعة والموافقة، ويستغني بترهيبه أعداءه عن المعصية والمشاققة، ويقرر بأوامره ونواهيه أمور سلطانه؟ ويتمكن من سياسة أجناده وعمارة بلاده.
هذه الصورة البراقة تضع الكاتب في منزلة لا تقل أهمية عن منزلة السلطان، إن لم تفقها كما يفوق العقل الهادي العقل المهدي ، فتؤكد تراتبا اجتماعيا يبدأ من السلطان، وينحدر منه إلى الكاتب، ومن الكاتب إلى من هو أدنى منه في السلم الاجتماعي. ولا تكتفي هذه الصورة البراقة بسياقها الوظيفي الذي يؤكد ارتفاع مكانة الكاتب، ويبررها، وإنما تسقط التراتب الاجتماعي الذي يعلوه الكاتب على التراتب الأدبي الذي تعيد صياغته، ليكون صورة أخرى من صور التراتب الاجتماعي، ووجها ثانيا من أوجهه الهابطة من الأعلى إلى الأدني.
ومن هذا المنظور، يذهب ابن خلف إلى أن صناعة الكتابة تنقسم أقساما كثيرة، ترجع إلى أصلين، أولهما أولاهما بالتقديم والتفضيل، وهو الإنشاء والترسل، والثاني الحساب والتفصيل.
ويتميز الأول على الثاني بما تفيده الريادة من قوة التمييز وثبوت الفطنة، واشتماله على البيان الدال على المعاني، فهو أقدم من الحساب لأن المتولي لعمل هذا الأصل هو الذي يحدد لكل عامل من عمال السلطان ما يجب أن يجري عليه في عمله. وغني عن البيان أن كاتب الترسل يحتاج إلى التصرف في المعاني المتداولة، والعبارة عنها بألفاظ غير الألفاظ التي عبر بها من سبق إلى استعمالها. وفي هذا من المشقة مالا خفاء به على من مارس الصناعة، لاسيما إذا طلب الزيادة على من تقدمه في استعمال هذه المعاني أو تلك، فضلا عن حاجته إلى اختراع معان تفرضها الأمور الحادثة التي لم يقع مثلها، ولا سبق سابق إلى المكاتبة فيها، لأن الحوادث السلطانية لا تتناهى ولا تقف عند حد.
ويبدو أن ذلك هو السبب وراء انتقاص الوزير ضياء الدين بن الأثير من قيمة المقامات التي كتبها الحريري وازدرائه لها، في كتابه " المثل السائر" حيث ذهب إلى أن المقامات صور موضوعة في قوالب مبدأ أو مقطع ، بخلاف الكتابة التي يبدعها كاتب الإنشاء فإن أحوالها غير متناهية، ولو روعي حال ما يكتبه الكاتب في أدنى مدة لكان مثل المقامات مرات. والمؤكد أن الانتقاص من كاتب المقامات ، في سبيلى الإعلاء من كاتب الإنشاء، إنما يرجع إلى ارتباط الثاني بالسلطان وقربه منه، وقد روي عن بعض الحكماء قوله: الكتاب كالجوارح، كل جارحة منها ترفد الأخرى في عملها بما به يكون فعلها، وكاتب الإنشاء بمنزلة الروح الممازجة للبدن المدبرة لجميع جوارحه وحواسه. وذلك تمثيل قديم في تراث الكتابة. أول من شار إليه، فيما أعلم، عبدالحميد الكاتب في رسالته المعروفة في إلى أبناء طائفته من الكتاب. وفي رسالة قصد بها تعميق الانتماء إلى الطائفة الواعدة، وإبراز أهمية أبنائها في الكاتب الاجتماعي الصاعد، ذلك الكاتب الذي وضع الكاتب في أقرب مكان من الخليفة ، وأنزله منه منزلة الأعضاء من النفس. الرتبة الأعلى بين أبناء الطائفة. وفي الوقت نفسه، وضع كاتب الإنشاء موضع الصدارة، حيث ويعقب علي بن خلف على تمثيل الكتاب بالجوارح بما يؤكد استحسانه له، واقتناعه بأولوية كاتب الإنشاء في المنزلة والرتبة. ويبرر ذلك بأن كاتب الإنشاء هو الذي يحدد لكل عامل في تقليده ما يعتمد عليه، وهو حلية المملكة وزينتها لما يصدر عنه من البيان الذي يرفع قدرها، وهو المتصرف عن السلطان في الوعيد والترغيب، واقتضاب المعاني التي تقر الوالي على ولايته وطاعته، وتعطف العدو العاصي عن عداوته ومعصيته.

كتابة الإنشاء
أم كتابة الحساب ؟ ومن الطريف أن الحريري، في مقاماته، يعالج هذا التراتب بين الكتاب من باب المفاضلة بين كتابة الإنشاء وكتابة الحساب، وذلك في المقامة الفراتية، حيث يقول على لسان أبي زيد السروجي ما يحسب في فضائل كتابة الإنشاء، ليعود وينطق على لسانه ما يعد شهادة موازية لكتابة الحساب والأموال. ويبدو أن ذلك الموقف من الحريري هو الذي دفع ابن الأثير إلى الغض من قيمة المقامات بالقياس إلى صناعة الإنشاء، ومن ثم الغض من قدر من لم يشهد بالحماسة الواجبة لفضائل كتابة الإنشاء، ويضعها الموضع الذي خصها به أسلاف ابن الأثير من الكتاب- الوزراء، في التراتب الثنائي بين أصلي الكتابة: الترسل والحساب .
وإذا كانت العلاقة بين هذين الأصلين، الترسل والحساب، علاقة الأعلى بالأدنى، فإن طبيعة هذه العلاقة مقترنة بنوع الدولة التي تعلي من شأن الخطاب السياسي على الخطاب الاقتصادي، ومن ثم تعلي من شأن الوزير الذى ينقل تعليمات السلطان، رأس الهرم، أو البطريرك الأعظم، إلى من هو دون كاتبه المترسل، من بقية طوائف الكتاب التي تترتب هيراركيا بما يحقق، أو ينفذ، تعليمات الساكن في قمة التراتب الاجتماعى المهيمن عليه. ولذلك يدور كل شيء، بما في ذلك وظائف الكتابة ومستوياتها، حول قطب هذا الساكن في قمة الهرم الاجتماعي، وينحدر منه ليعود إليه كما تعود المعلولات إلى علتهـا الواحدة. وقد شبه الحكماء (الكتاب) الذين عملوا على تثبيت التراتب البطريركي، في مثل هذا البناء الاجتماعي، الملك وأعوانه بالنفس والأعضاء، فقالوا: مثال الملك مثال النفس التي تسوس جميع الجسد، ومثال الخدم مثال الأعضاء التي تخدم النفس. وقسموا الخدم بحسب انقسام الأعضاء، فقالوا : إن منهم من يخدم الملك خدمة القلب للنفس التي في التفكير وإحالة الرأي، وهذا عمل وزير السلطان الذي يستعين بآرائه في مصالح الملك. ومنهم من يخدم الملك خدمة اللسان للنفس التي في العبارة عن الضمائر وإخراج الصور الوهمية إلى المخاطبين، وهذا عمل كاتب الملك الذي يأمر عنه وينهي ويخاطب. ومنهم من يخدم الملك خدمة اليد للنفس التي هي تناول الحاجات، وتقرب ما يحتاج إلى تقريبه ، وتدفع الأذى عن الجسم والمغالبة والمباطشة إذا احتيج إليهما، وهذا عمل أجناد الملك وأنصاره وخدامه الذين يقومون بمرافق الملك. ومنهم من يخدم الملك خدمة الرجل للنفس التي هي للسعي والحركة إلى المواضع التي يستدعي بها حاجاته ومهماته، وهذا كرسل الملك. ومنهم من يخدم الملك خدمة البصر للنفس التي تلحظ له الأشياء وتحفظها وتشاهدها، كأمناء الملك وعماله. ومنهـم من يخدم الملك خدمة السمع للنفس التي هي آتية بالأصوات والأخبار على حقائقها ، وهذا عمل أصحاب البريد الذين يفحصون ما غاب عن الملك ويطالعونه به.
هذه الصورة التمثيلية، لو أمعنا النظر فيها ، وجدناها تهدف إلى أمرين، أولهما تأكيد مكانة الملك في الدولة، بوصفه المركز الذي يدور حوله كل شيء، ويرجع إليه كل شيء، وليس في تشبيهه بالنفس التي تخدمها أعضاء الجسد سوى ما يؤكد حضوره البطريركي، أو يبرر حضوره بوضفه مصدر الحياة، بما لا يدع مجالا لمنازعة، أو يفتح بابا لوضع مسلطة هذا المركز، أو حضوره، مرضع المساءلة. والهدف الثاني هو تأكيد مكانة الكتاب من هذا المركز، بوصفهم أعضاءه الحاسمة التي تستمد حضورها من حضوره، والتي يضيف حضورها إلى حضوره، فأهل صناعة الكتابة، فيما يقال، هم المتحملون معاظم شئون الملك والقائمون بجمهور أموره، ولا ينبغي لأحد منهم أن يتعرض لنوع من أنواع خدمة الملك إلا بعد تمرس في ذلك النوع وارتياض. وتفضي الصورة التمثيلية، من منظور هذين الهدفين، إلى هدف ثالث، يترتب عليه تغليب الطابع السياسي على الطابع الفني لمعنى صنعة الكتابة، وذلك على النحو الذي يجذب كل أقسامها و أنواعها إلى سلطة مركز الدولة ودائرتها البطريركية بالمعني السياسي، كما يجنب كل الأشياء القابلة للتمغنط في دائرة مغناطيسية، قطبها مركز الدولة التي تتحدد حسب القرب منها، أو البعد عنهـا، مواقع المراتب في سلم القيمة البطريركية للكتابة.

خمس عشرة مرتبة
لو نظرنا إلى التراتب الخاص بوظائف صناعة الكتابة، أو مراتبها، من هذا المنظور، وجدنا خمس عشرة مرتبة، يتحدث عنها المؤلفون القدماء في صناعة الكتابة، ويرتبونها من الأعلى إلى الأدنى. هذه المراتب هى: الوزارة، والتوقيع، والرسائل، والخراج، والضياع، وبيت المال والخزائن، والنفقات، والجيش، والزمام، والبريد، والقص، والمظالم، وكتابة القضاء، وكتابة القواد والأمراء، وكتابة المعاون. وكلها مراتب وثيقة الصلة بالدولة، لا حضور لأبعادها الأدبية بعيدا عن دولابها، ولا معنى لتراتبهـا خارج تراتب بناء الدولة نفسه. وإذا كان ذلك يعنى أن الأدبي مستوعب في السياسي، أو يتقلص بما يجعل منه وظيفة من وظائف السياسي في تراتب الدولة، فإنه يعنى، في الوقت نفسه، أن مفهوم الكتابة في ذلك الزمان يختلف عن مفهومها في زمننا، ويشمل مجموع الوظائف الإدارية، أو البيروقراطية، في الدولة بما يجاوز المعنى الفني الخالص، أو الأدبي ، الذي نقصد إليه، تحديدا، حين نشير إلى مصطلح الكتابة. ومع ذلك فإنه حتى على المستوى الأدبي الخالص، يظل هناك نوع من التراتب، يرفع كاتب الإنشاء عما هو دونه، وينزله أعلى منزلة في التراتب الاجتماعى لطائفة الكتاب.
هذا التراتب الاجتماعي لطائفة الكتاب صورة أخرى من تراتب الدولة، حيث الخليفة هو قمة الهرم. وقريبا منه، بالقطع، يقع الوزير، حيث الرياسة التى يجب أن يكون صاحبها قيما جميع أنواع الكتابة وأقسامها، عالما بشروطها وأحكامها، لأن كل ناظر في فن من فنونها، من بين أبناء الطائفة، في تدرجها الهابط أو الصاعد، يرفع إليه ما ينظر فيه، فلا يجوز أن يكون جاهلا بشيء منه. ويجب على الوزير أن يكون نافذا في علوم الدين، لأن الدين أساس الملك الذي بنى عليه أمره، وأن يكون فاضل المعقل، أصيل الرأي، كثير الأناة، منتهزا للفرص، يلاين أهل الطاعة والانقياد ويغلظ على ذوي المعصية والعناد، عالما بوجوه الأموال ومصالح الأعمال، عارفا قدر ذوي البيوتات والرتب، بصيرا بمكايد الحرب وتدبير الدولة وسياسة الرعية.
ويتصل بالوزير صاحب التوقيع الذي هو يد الوزير ونائبه، ومتولي العرض على الخليفة إذا غاب. ويليه صاحب الرسائل الذي هو لسان الملك الناطق بحجته ، المترجم عن عقله ومقالته، في المعاني التى تقر الولي على ولائه وطاعته، وتبعد العدو العاصي عن عداوته ومعصيته. ويليه كاتب الخراج الذى يتحدد خطره حسب ما يتولاه من أموال السلطان التي يستظهر بها على جهاد أعدائه وإرهاف عزائم أوليائه. ثم كاتب الضياع الذي يعمل على استيفاء حقوق السلطان من أراضيه، ثم كاتب بيت المال والخزائن الذي هو أمين السلطان على أمواله وذخائره، وكاتب المحقات الذي هو ضد متولى الخراج، لأن صاحب الخراج يجمع الأموال من جهتها، وكاتب النفقات موضوعه تفرقتها في مستحقيها من رجال الدولة وحماتها الذين يسدون ثغورها ويذودون عنها. وهناك كاتب الجيش الذي ينظر في أمور الرجال الذين هم عضد السلطان وحماته. وهناك كاتب الزمام والبريد، وكاتب القص الذي يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة. ومهمته أن يخرج من الكتب الواصلة إلى السلطان جوامعها ويوردها بقول وجيز، إذ لا يتسع وقت السلطان لقراءة كل، شيء. هناك كاتب المظالم والقضاء. وأخيرا كاتب الأمراء والقواد الذي يحل منهم محل الوزير من الملوك والخلفاء. وشأنه شأن كاتب المعاون والأحداث الذي يراقب التعدي من الرعية ليمضي الحكم فيهم.
وليست هذه المراتب، في النهاية، سوى وظائف تشمل بناء الدولة، على النحو الذي يمكن معه القول إنه لا شيء في هذا البناء خارج حضور الكتابة ، من أعلاها إلى أدناها، وذلك بالمعنى الذي يؤكده ما يستشهد به المدافعون عن مكانة الكتابة بما نسبوه إلى حكماء اليونان من أنهم أطلقوا تسمية " العلم المحيط " على صناعة الكتابة، لافتقاد جميع الأشياء إليها، وحاجة كل من في الدولة إلى الاستعانة بها، كأنها قرين الفلسفة أو توأم الحكمة التي في العلم بكل شيء.
وليس من الضروري أن تتكرر مفردات هذا التقسيم في كل الكتب الخاصة بصناعة الكتابة، فما نقلناه عن ابن خلف الكاتب يمكن أن يختلف عن غيره في الكتب الخاصة بصناعة الكتابة، حيث التباين واضح في تحديد عدد الأقسام، ولكن الأهم من العدد هو ما ينطوي عليه التقسيم نفسه من إيهام ضمني بأن الكتابة هي الدولة، فالتقسيم يهدف إلى تغليب صنعة الكتابة ووظائفها على كل ما عداها في القيمة والأهمية، ومن ثم إشاعة الاعتقاد بأن الكاتب هو عقل الدولة والمتصرف في أمورها. وسواء كان ذلك من منظور مبدأ الرغبة، أو مبدأ الواقع، فالنتيجة المقصودة هي تأكيد غلبة حضور الكاتب على أي خمور غيره في التراتب الاجتماعي والأدبي على السواء.

بين الخطوة والحظ
من الطبيعي، والأمر كذلك ، أن يتكرر في غير واحد من كتب صناعة الكتابة تفصيل النثر على الشعر، وإقامة تراتب أدبي، يمكن. تلخيصه في كلمات ابن خلف التي تقول: " إن صناعة التأليف تنقسم على ثلاثة أنواع هي كالجنس لها، وهي: الكتابة، والخطابة، والشعر. ومن هنا وقع التناسب بينها، ولكل منها رتبة في الشرف والفضل ، ولكن صناعة الكتابة ترأس صناعة الخطابة، وصناعة الخطابة ترأس صناعة الشعر". وتلك كلمات لا تجعل من التراتب الأدبي صورة أخرى من التراتب الاجتماعي فحسب، وإنما تضيف ما يقلب التراتب الأدبي القديم الذي كان يضع الشعراء على القمة، ويستبدل به نقيضه الذي يتناسب ومكانة الكاتب الذي أخذ يصوغ أيديولوجيا الكتابة، ويبرر حضورها الغالب بعمليات تبرير وعقلنة، تنتقص من حضور غيرها بالقياس إليها، وتحل الكتابة في القمة من كل ألوان التراتب.
ونقرأ أن صناعتي الخطابة والشعر، وإن كانتا متوافرتي الحظ من الشرف، غير بالغتين مدى صناعة الكتابة، ولا مجاريتين لها في قدر الانتفاع بها في أسباب الملك والسلطان، وذلك أن الخطيب إنما يحتاج إليه في الأحيان المتباعدة، والشاعر إنما يحتاج إليه لتزيين مثل هذه الأحيان ، وليس الأمر على ذلك في الكتابة التي ينشئها الكاتب في أنواع المعاني الصادرة عن الملوك والسلاطين ومخاطبة الخاصة والعامة؟ حيث الحاجة ضرورية إلى الكاتب في كل وقت من ساعات النهار وآناء الليل، وأحيان الحركة والاستقرار، والسلم والحرب، وليست داخلة في باب الرتبة التي يقع عنها الاستغناء كالخطيب والشاعر اللذين إنما يعدان ليزينا وقتا بعينه. وإذا اعتبر فضل ما بين صناعة الكتابة والصناعتين الأخريين من طريق الجدوى، ظهر أنه لا نسبة بين ما يحصل عليه الكاتب من الحظ وبين ما يحصل عليه الخطيب والشاعر من طريق البر والصلة والرغبة في حسن السمعة. أما الرتبة الاجتماعية، فأهل صناعة الكتابة لهم التقدمة والحظوة ، ومفالق الشعراء خدامهم ومتعرضون لصلاتهم ، وبين من يعطي ومن بأخذ بون بعيد. والشعر لايغني فيما يغني فيه الترسل ، والترسل يشارك الشعر في جميع وجوهه، ويأخذ منها بالحظ الأوفى. ويضيف القلقشندى إلى ذلك كله ما يرويه أسلافه الكتاب من أن النثر أرفع درجة من الشعر، وأشرف مقاما، أعلى رتبة، لأن الشعر محصور في وزن وقافية، يحتاج الشاعر معهـما إلى زيادة الألفاظ والتقديم فيهـا والتأخير، وقصر الممدود ومد المقصور، وغير ذلك من ضرورات الشعر الذي تكون معانيه تابعة لألفاظه ، في حين أن الكلام المنثور لا يحتاج فيه إلى شيء من ذلك فتكون ألفاظه تابعة لمعانيه. ويؤكد القلقشندي فضل النثر بقوله إن الله تعالى أنزل به كتابه العزيز؟ وأن الترسل مبنى على مصالح الأمة وقوام الرعية، مما لا يكاد يدخل تحت الإحصاء أو يأخذه الحصر. وينقل عن العسكري قوله إن الذي قصر بالشعر كثرته وتعاطى كل أحد له، حتى العامة والسفلة، فلحقه بالنقص ما لحق الشطرنج حين تعاطاه كل أحد. وتلك حال يزيدها العسكري وضوحا. في كتابه " الصناعتين "، حين يؤكد أن الخطابة والكتابة مختصتان بأمر الدين والسلطان، وعليهما مدار الدار، وليس للشعر بهما اختصاص. أما الكتابة على وجه الحصر فعليها مدار السلطان. والخطابة لها الحظ الأوفر من أمر الدين، لأن الخطبة شطر الصلاة التي هي عماد الدين في الأعياد والجمعات والجماعات، ولا يقع الشعر في شيء من هذه الأشياء موقعا.
ويبدو أن هذا البعد الديني للخطابة، فضلا عن المكانة الاجتماعية، هو ما دفع ابن خلف وغيره إلى تفضيل صناعة الخطابة على صناعة الشعر. ولا يكتفي ابن خلف بتكرار ما قاله العسكرى، في هذا المقام، بل يضيف إليه أن تقدم الخطباء على الشعراء واجب، لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أول من يعزى إلى الخطابة، وخطبه أفضل الخطب، وقد حاز رتبة الخطابة على أكمل حدودها، فأما الشعر فإن الله تعالى نزهه عن نظمه بل عن إنشاده. و يأتي في الرتبة بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، في الخطابة، الخلفاء الراشدون، وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا يوصفون بالخطابة ولا يوصفون بالشعر، لترفعهم عن الاتسام بصفته. ويختتم ابن خلف كل هذه المفاضلة بقوله إنه مما تفضل به الخطب الشعر أيضا أن الخطب كلام مبني على الصدق والإرشاد إلى الخير ، والشعر إنما بني على معان أكثرها مستحيل ، وأقوال جلها كذب، لاسيما الشعر الجاهلي الذي هو افحل الأشعار فإنه يشتمل على قول البهـتان.
ولست في حاجة إلى أن أضيف إلى هذا الذي ذكره المتحمسون لصناعة الكتابة شيئا آخر، فما ذكروه يكفي للإبانة عن فضائل الكتابة التى كدوا لإثباتها ، وأقاموها عن أنقاص ما هدموه من فضائل الشعر، وذلك ليقيموا تراتبا أديبا هو صورة من التراتب الاجتماعي الذي عاشوه، أعني التراتب الذي تحولت به الكتابة إلى علامة على السلطان، وانحدر به الشعر فأصبح علامة على الارتزاق، شأنه شأن الشطرنج الذي تعاطاه كل أحد، حتى العامة والسفلة.


* عن مجلة العربي
 
أعلى