نقد عبد القادر حسين ياسين - ولـدت وفي يـَدي كـتـاب

لا أتخيل الدنيا بدون كتاب ، ولا أتصور العالم بدون حبر المطابع. وليست هذه نظرة حالمة.. أو لأن "الحـُبَّ للحبيب الأول" بصفة الكتاب أول عشقي الثقافي..!.
ولكن لأني أؤمن - حد اليقين - أن ثقافة الكتاب أبقى وأمتع وأيسر...

أليس الكتاب - كما قال أبو عـثـمـان الجاحظ في مقولة جميلة أخاذة: "يفيدك ولا يستفيد منك ، إن جدّ فعبرة وإن مزح فنزهة...!" ؟!

ولأن الكتاب ، من ناحية أخرى ، مطواع بين يديك تقرؤه وتفيد منه وتستمتع به وأنت جالس على الأرض، أو مسافر في طائرة، ودون وسيلة أو وسيط أو واسطة، إنك لا تحتاج إلى تيار كهرباء، ولا إلى طقوس وطريقة جلوس معينة للإفادة منه ، بخلاف كل الوسائل المعلوماتية الحديثة التي تحتاج إلى شاشة حاسوبية أو شبكة عنكبوتية وغيرها.

في طفولتي (إذا جـاز لي ، أصـلا ، أن أسميها "طـفـولـة" !) كنت أسمع عن المكتبة لكنني لم أتخيل أبـدا أن المكتبة قد تكون في البيت. المكتبة فقط تلك التي في المدينـة، وكانت والدتي تشتري لي كتب المدرسة والقرطاسية منها. الكتاب الجديد لم يصل إلى يدي في طفولتي أبدا. ذلك أن والدتي، بسبب حالـة الفقر الـمـدقـع التي كنا نعيشـهـا، غالبا ما كانت تستعير لي الكتب المدرسية من عائلات أخرى ميسورة لكي أدرس فيها. دائما كتب السنة الفائتة، للسنة الدراسية الراهـنة.

حين عرفت أن بإمكان من يشاء اقتناء مكتبة رُحتُ أدَّخر من القروش القليلة التي كانت "تضل طريقها" إلى جيبي لأشتري الكتب التي أحبها. من أوائل الكتب التي اشتريتها كانت مجموعة أبي نواس والأعمال الكاملة لجبران خليل جبران والأعـمـال الكاملة لوليم شكسبير وفكتور هيجو... إذ ذاك احترت في أمري: أين أضعها؟ فوضعـتها في صندوق خشبي كنا قد اشتريناه حاويا بعض الخضراوات. بعد مدة وجدت أن السوس أتى عليها ونخرها جميعا ما عدا كتاب "البؤسـاء" لفكتور هيغو.. !

إن المكتبة هي "صيدلية الروح" كما كان يسميها الفراعـنة القدماء... بعض الكتب شافية من أمراض العصر، منها المُسكن لما نجابهه في واقعنا الهادر ولا نقدر على تغييره، ومنها الفاتح للشهية، تثير وتدفع إلى التفكير، وربما إلى الكتابة، ناهيك عن الكتب السامة التي تقود إلى الانتحار، إذا لم يكن القارئ محصنا ببعض الوعي، قادرا على التجاوز..

إن بإمكاني أن أعيش بدون سرير، لكنني لا أستطيع العيش بدون مكتبة. بين المنافي توزعت روحي وكتبي... في بيروت ، في برلين، في تونس ، في لنـدن ، في كوبنهاغن ، في غوثنبيرغ ...وفي غيرها. تترك جزءا كبيرا منك هنا وهناك. تعودت على ذلك.
أهم الكتب التي غيّرت حياتي قرأتها في مكتبتي المتواضـعـة...لقـد اضطرتني ظروف المنفى أن أعيش في العـديد من دول العـالم ...وفي كل مرة كنت أضطر فيها الى الرحيل كنت أحرص ـ قـدر الإمكان ـ أن أنتقل مع مكتبتي ...

في المخيم الفلسطيني كنا نتناوب الصحف بعد أسبوع من صدورها، ونتبادل الكتب بالشهر. كنت نادراً ما أستعير، متجاوزا مقولة أوسـكار وايـلد المأثورة : "من يعير كتابا غبي، ومن يعيده أغبى..."

أحد أسباب "السعادة" أن أجد كتابا يدهشني وينفذ إلى طبقات روحي. علاقتي بالمكتبة والكتب فيها شيء من المزاج الشخصي. ليست لدي طقوس للقراءة أو للكتابة. وليس عندي حياة مرتبة أو محسوبة، وأحسد الذين يركنون الى طاولاتهم وهم "يـُدبجون" مقالة أو قصيدة. ولست نادما عـنـدما أقول أن كل مـا أملك من مـتـاع الـدنيـا هو مكتبتي.

إن رحلتي الشخصية والمعرفية مع الكتاب بدأت منذ عرفت نفسي، ولعلني "ولدت وفي يدي كتاب" كما يقول رابـندرانات طـاغور...

وعلى الرغم من تفجر المعلوماتية عبر قنوات المعرفة الحديثة، فـإنني أقرأ على الأقـل ثماني ساعات يوميا... وهـذا لا يشمل الصحف والمجلات...

إن حلمي أن أتخلص - في يوم من الأيام - من التزاماتي العـملية ، وأن أخصص وقتا أطول للمـطـالعـة. أليس الكتاب هو الذي كلما أضنتك أشجانك وجدت على ساعد الحرف الارتياح وألفيت في دفء الكتاب ما يخفف عنك صقيـع الأيام...؟!

أسأل نفسي و أنا أغادر شـقـة أقـمت فيها أربع سنوات ، اذا ما كـنت سأترك فيه ذكريات...

لست جامع كتب كما يجمع البعض طوابع البريد...
ولا أحمل معي الى البيت إلا كتبا تعـنيني على نحو أو آخر...
ثم إنني ـ من وقت الى آخر ـ أتبرع ببعض الكتب للمكتـبـة العـامة بدون أن ينصدع قلبي وبدون أن أسمع أنيناً للكلمات.

ما أراه الآن كتبا في كل مكان ( 17000 مجلـد) ، بل كتبا بعضها انبرى ورثّ، وبعضها شبع غباراً .
جلست لأفرزها ـ إسـتـعـداداً للرحيل ـ فقد كانت منذ أمد طويل مخلوطة ببعضها البعض حتى استحالت المكتبة الى مستودع للكتب، واستحال بالطبع في هذا السديم الكتبي البحث عن كتاب، وعليّ الآن أن أجلس وأتناولها واحدا واحدا. كتابا كتابا وان أنظر في كل عـنوان وكل اسم لأقرر أن أحتفظ به أو أنحيه جانبا.

مع كل كتاب وقفة.
ومع كل كتاب هناك مراجعة وفحص ضمير ،
ومزيج من المشاعر.

د. عبـد القـادر حسين ياسين





خير جليس
 
أعلى