نقد مارك ليلا - سحر الاقتراب من الحاكم.. المفكرون بين حب الحكمة وخدمة الطغاة.. ت: أحمد محمود

عندما أبحر افلاطون من سيراكوزا سنة 368 ق.م أو نحو ذلك، كان ذهنه ـ طبقاً لما قاله هو ـ مشوشاً. فقد سبق له زيارة تلك المدينة قبل ذلك، حينما كان لا يزال يحكمها الطاغية المخيف ديونيسيوس الأكبر، ولم ترق له حياة صقلية الحسية. وتساءل أفلاطون: كيف يمكن للشباب تعلم الاعتدال والعدل فى مكان «تكمن فيه سعادة المرء فى إشباع نفسه مرتين يومياً وعدم النوم بمفرده ليلاً؟» إن مثل هذه المدينة لا أمل لها فى الخروج من دائرة لا آخر لها من الاستبداد والثورة.

فلماذا يعود إذن؟ ما حدث هو أن أفلاطون كان له تلميذ فى صقلية اسمه ديون، وهو شاب بات مخلصاً لأفلاطون وقضية الفلسفة، قد كتب له رسالة يبلغه فيها بوفاة ديونيسيوس الأكبر وبتولى ابنه ديونيسيوس الأصغر الحكم. وكان ديون صديقاً وصهراً لديونيسيوس الأصغر، وكان مقتنعاً بأن الحاكم الجديد منفتح على الفلسفة ولديه الرغبة فى أن يحكم بالعدل. وكان كل ما يحتاجه ـ فى رأى ديون ـ هو تلقى التوجيه الصحيح، الذى لا بد أن يخرج من بين شفتى أفلاطون ذاته. وألح ديون على أستاذه فى رجاء زيارته. وفى النهاية أبحر أفلاطون، بعد أن تغلب على الشكوك والظنون الخطيرة.
هذه حكاية قديمة عن أفلاطون تدل على أنه كان مؤيداً لمشروع مجنون لإقامة حكم «الملوك الفلاسفة» فى المدن اليونانية، وأن «المغامرة الصقلية» التى قام بها كانت الخطوة الأولى فى اتجاه تحقيق ما يطمح إليه. وعندما عاد مارتن هيديجر إلى التدريس سنة 1934 بعد وظيفته المخزية كرئيس نازى لجامعة فرايبورج، سألوه بتهكم: «هل عدت من سيراكوزا؟» وهذه عبارة ليس هناك ما هو أفضل منها. إلا أن ما كان يبغيه أفلاطون لم يكن يختلف كثيراً عما كان يهدف إليه هيديجر. وكما يروى أفلاطون فى «الرسالة السابعة»، فقد كان يحلم بدخول الحياة السياسية ولكن حكم الثلاثين الطاغى فى أثينا (404ـ403 ق.م) أثناه عما كان يحلم به. وبعد ذلك هجر السياسة بالمرة، عندما أعدم النظام الديمقراطى الذى خلف الثلاثين صديقه ومعلمه سقراط. وانتهى أفلاطون، كما هو حال شخصية سقراط فى «جمهورية» أفلاطون، إلى أنه ما دام النظام السياسى فاسداً فالفرصة ضئيلة لاستعادة عافيته «بدون الأصدقاء والزملاء» ـ أى بدون من هم أصدقاء فلاسفة للعدل وأصدقاء صدوقين للمدينة. وفى غياب المعجزة، التى يصبح فيها الفلاسفة ملوكاً، أو يتجه فيها الملوك إلى الفلسفة، فإن أقصى ما يؤمل فى السياسة هو إقامة الحكومة المعتدلة فى ظل حكم القانون.
إلا أن ديون كان رجلاً يتمتع بقدر كبير من الحيوية بشأن توقع المعجزات. فقد أقنع نفسه، ومن ثم سعى إلى إقناع أفلاطون، بأن ديونيسيوس يمكن أن يكون ذلك الشيء النادر الذى هو الحاكم الفيلسوف. وكانت لدى أفلاطون شكوكه؛ فمع أنه كان يثق فى شخصية ديون، فقد كان يعلم كذلك أن «الشباب غالباً ما يكونون عرضة للوقوع فريسة للدوافع المفاجئة التى كثيراً ما تكون متقلبة». إلا أنه ظن كذلك ـ أو ربما برر الأمر لنفسه ـ أنه ما لم يقتنص هذه الفرصة النادرة، ويبذل الجهد للدفع بطاغية ناحية العدل، فإنه قد يتهم بالجبن وعدم الولاء للفلسفة. وبذلك وافق على الذهاب.
ولكن نهاية هذه الزيارة الثانية لم تكن سعيدة. فقد كان جلياً أن ديونيسيوس يهفو إلى الحصول على شارة التعلم، ولكنه كان يفتقر إلى النظام والالتزام اللذين يقتضيهما الخضوع للجدل الدياليكتيكى ويجعل حياته متسقة مع نتائجه. (ويقارنه أفلاطون برجل يريد أن يقف تحت الشمس بشرط ألا تحرقه.) كان أشبه إلى حد كبير بالطبيب الذى لا يمكنه علاج مريضه ضد إرادته. ولذلك ثبت أنه من المستحيل الوصول بديونيسيوس العنيد إلى الفلسفة والعدل. بل إن أفلاطون وديون فى محاوراتهما كانا يخاطبان طموحات الطاغية السياسية، قائلين له إنه كفيلسوف سوف يتعلم كيف يقدم قوانين طيبة للمدن التى يفتحها، وبذلك يكسب صداقتها، الأمر الذى يمكنه حينئذ استغلاله فى توسيع مملكته أكثر وأكثر. ولكن ديونيسيوس، الذى كان يعطى أذنيه للشائعات، أخذ يشك فى أن ديون يمهد لطموحاته هو السياسية، فطرده على الفور من سيراكوزا. وعندما فشل أفلاطون فى الصلح بين صديقيه السابقين، قرر الرحيل.
إلا أنه عاد مرة أخرى بعد ست أو سبع سنوات، بناء على طلب من ديون كذلك. فمع أن ديون كان لا يزال فى المنفى، فقد سمع أن ديونيسيوس عاد إلى دراسة الفلسفة وأبلغ أفلاطون بذلك. فى البداية لم يحرك أفلاطون ساكناً، حيث كان يعلم أن «الفلسفة غالباً ما يكون لها ذلك الأثر على الشباب»، وكان يشك فى أنه لا رغبة لديونيسيوس إلا فى إثارة القيل والقال بشأن رفض أفلاطون له باعتبار أنه لا قيمة له. واتباعاً من أفلاطون لنفس المنطق الذى جعله يقوم بزيارته الثانية، فقد قرر القيام برحلته الثالثة، والأخيرة. لكن من وجده حين وصوله كان رجلاً أكثر صلفاً وغروراً يعتبر نفسه فيلسوفاً وقيل إنه ألف كتاباً، وضاعت تلك القضية ولكن أفلاطون لم يلم إلا نفسه، حيث قال: «لم يكن لدى من سبب لأن أغضب من ديونيسيوس أكثر من غضبى من نفسى ومن هؤلاء الذين أجبرونى على المجيء». ولم يكن ديون شديد التفاؤل. وبعد ثلاث سنوات من سفر أفلاطون الأخير، هاجم سيراكوزا بالمرتزقة وحرر المدينة وطرد ديونيسيوس، إلا أنه كان هناك من خانه واغتاله بعد ثلاث سنوات. وبعد سلسلة من الانقلابات العنيفة استعاد ديونيسيوس العرش لكى يخلعه منه جيش كورنيث المدينة الأم لسيراكوزا. وامتد العمر بديونيسيوس وعاد إلى كورنيث، حيث يقال إنه أنهى حياته مديراً لمدرسة يعلم فيها مبادئه.
إن ديونيسيوس معاصر لنا. وقد اتخذ على مدار القرن الماضى أسماء عدة مثل: لينين وستالين، وهتلر وموسولينى، وماو وهو، وكاسترو وتروهيو، وأمين وبوكاسا، وصدام وخمينى، وتشاوشيسكو وميلوسيفتش ـ والقائمة تطول. وفى القرن التاسع عشر كان المتفائلون يعتقدون أن الطغيان أمر من أمور الماضى. وعلى أية حال، كانت أوروبا قد دخلت العصر الحديث وكان الكل يعرف أن المجتمعات الحديثة المعقدة، ذات الصلة بالقيم الديمقراطية الدنيوية، لا يمكن حكمها بالوسائل الاستبدادية العتيقة. قد تكون المجتمعات الحديثة سلطوية، وتتسم بيروقراطياتها بالبرود وتتصف أماكن العمل فيها بالقسوة، إلا أنها ليست أنظمة طاغية بالصورة التى كانت عليها سيراكوزا. لقد كان من المعتقد أن التحديث كفيل بإحالة مفهوم الطغيان التقليدى إلى أمر لا وجود له. وأنه مع دخول أمم أخرى من خارج أوروبا مسيرة التحديث، فإنها ستدخل هى الأخرى المستقبل ما بعد الاستبدادى. ونحن الآن نعرف مدى خطأ ذلك. صحيح أن الحريم ومتذوقى الطعام فى العصور القديمة اختفوا، إلا أن أماكنهم شغلها وزراء الدعاية والحرس الثورى وبارونات المخدرات والبنوك السويسرية. فمازال الطاغية يحيا.

ومشكلة ديونيسيوس قديمة قدم الخلق. إلا أن مشكلة أنصاره المفكرين جديدة. وبينما أخرجت القارة الأوروبية فى القرن العشرين نظامين مستبدين كبيرين، هما الشيوعية والفاشية، فقد أخرجت كذلك نمطاً اجتماعياً جديداً نحتاج اسماً جديداً له: إنه المفكر الفيلسوف الطاغية. إذ جرؤ عدد قليل من كبار مفكرى تلك الفترة ـ الذين لا تزال أعمالهم مهمة لنا حتى الوقت الحالى ـ على خدمة ديونيسيوس الحديث صراحة بالقول والفعل، وحالاتهم يعرفها الجميع ومنهم مارتن هيديجر وكارل شميت فى ألمانيا النازية، وجورج لوكاش فى المجر، وربما آخرون غيرهم. وانضم كثيرون إلى الأحزاب الفاشية والشيوعية على جانبى الستار الحديدى، سواء بدافع من الانجذاب الاختيارى أو الطموح المهنى، دون مخاطرات كثيرة؛ وقليلون من قاموا بدور الجنود لبعض الوقت فى غابات العالم الثالث وصحاريها. وقام عدد يدعو للدهشة بالحج إلى السيراكوزات الجديدة التى تشيد فى موسكو وبرلين وهانوى وهافانا. وهؤلاء هم العيون السياسية التى قامت برحلات خُطِّطَت بدقة على أراضى الطغاة وفى أيديها تذاكر العودة، حيث كانوا يبدون إعجابهم بالمزارع الجماعية ومصانع الجـرارات ومزارع قصب السكر والمدارس. إلا أنهم لسبب أو لآخر لم يزوروا السجون.
لكن معظم المفكرين الأوروبيين بقوا على مكاتبهم، حيث زاروا سيراكوزا فى خيالهم وحسب، وأنتجوا أفكاراً لافتة للانتباه ورائعة فى بعض الأحيان لتوضيح معاناة الشعوب التى ما كان لعيونهم أن تلتقى بها أبداً. فقد شحذ أساتذة بارزون وشعراء موهوبون وصحفيون ذوو نفوذ مواهبهم كى يقنعوا كل من يستمعون إليهم بأن الطغاة المحدثين محررون وبأن جرائمهم التى لا رادع لها تتسم بالنبل، إن نحن نظرنا إليها من منظور صحيح. ولا بد لكل من يأخذ على عاتقه كتابة تاريخ فكرى صادق لأوروبا القرن العشرين أن يتمتع بقدر كبير من الشجاعة، إلا أنه سيحتاج كذلك إلى شيء آخر. إذ سيكون عليه التغلب على كراهيته بالقدر الذى يتيح له تدبر جذور هذه الظاهرة الغريبة والمحيرة. فما هو ذلك الشيء الموجود فى العقل البشرى الذى يجعل الدفاع الفكرى عن الطغيان ممكناً فى القرن العشرين؟ كيف بلغ الأمر بالتراث الغربى الخاص بالفكر السياسى، الذى يبدأ بانتقاد أفلاطون للطغيان فى «الجمهورية» ورحلاته غير الموفقة إلى سيراكوزا، بحيث يصل إلى النقطة التى يصبح عندها من صحة القول أن الطغيان طيب، بل جميل؟ سيكون علينا طرح هذه الأسئلة الكبيرة، ذلك أنه سنجد أنفسنا نتعامل مع ظاهرة عامة، وليس مع حالات منفصلة من السلوك الذى يتعدى الحدود المعقولة. وما حالة هيديجر إلا أوضح أمثلة القرن العشرين لانحدار الفلسفة، التى هى حب الحكمة، إلى حب الطغيان، خلال الذاكرة الحية.
ولكن من أين نبدأ؟ قد يكون أول ما يرد على الخاطر هو الاتجاه إلى تاريخ الأفكار، على افتراض أن حب الطغيان الفكرى والممارسات الاستبدادية الحديثة تشترك فى جذورها الفكرية. وهو سيجد الكثير من التحقيقات العلمية بشأن مصادر الفكر السياسى الحديث الذى يشترك فى هذا الافتراض، كما يشترك فى منهج يقسم التراث الفكرى الأوروبى إلى اتجاهات متضاربة، ومن ثم يسم أحدها بأنه محب للطغيان. والهدف المفضل لمثل هذه الدراسة هو عصر التنوير، الذى شاع تصويره اعتباراً من القرن التاسع عشر على أنه انتزاع الجذور الأوروبية المعقدة من تربة الديانة والتراث المسيحيين، وتشجيع التجارب المتعجرفة لإعادة تشكيل المجتمع تبعاً لأفكار النظام العقلانى البسيطة.
وطبقاً لهذه الصورة، فإن عصر التنوير لم يأت بالطغاة وحسب، بل إنه كان مستبداً فى أساليبه الفكرية ذاتها، التى كانت تتسم بأحكامها المطلقة وبعدم المرونة وعدم التسامح والقسوة والعجرفة والعمى. وهذه المجموعة من الصفات مأخوذة من كتابات إيساى برلين، الذى عرض، فى سلسلة من المقالات شديدة الأهمية فى التاريخ الفكرى كتبها فى عقود ما بعد الحرب، أعقد قضية بإلقائه اللوم فيما يخص نظرية الطغيان الحديث وممارساته على «الفلاسفة». وكان هم برلين الأساسى هو معاداة التنوع والتعددية التى لاحظها فى تيار رئيسى فى التراث الغربى بدأ بأفلاطون وبلغ ذروته الفكرية فى عصر التنوير، قبل أن يؤتى ثماره السياسية فى شمولية القرن العشرين. وكانت افتراضات هذا التيار الفكرى الرئيسية هى أن كل المسائل الأخلاقية والسياسية لها إجابة صحيحة واحدة، وأن هذه الإجابة يمكن التوصل إليها من خلال العقل، وأن كل هذه الحقائق تتوافق بالضرورة مع بعضها البعض. وبناء على هذه الافتراضات، أقاموا معسكرات الكولاك ومعســكرات الموت ودافعوا عنها. وكان عصر التنوير هو الذى قدم النموذج المثالى «الذى ضحت فى عصرنا من أجله كائنات بشرية بأنفسها وبغيرها، ربما أكثــر من أية قضيــة أخرى فى التاريخ الإنساني»، كما يقول برلين.
تبدو هذه قصة مقنعة. ولكن مشكلتها، هى أنها تتضارب مع قصة أخرى تبدو مقنعة يرويها مؤرخو الفكر تتوصل إلى حكم مختلف بعض الشيء بشأن المسئولية الفكرية بالنسبة للطغيان الحديث. وتركز هذه القصة الثانية على الدوافع الدينية أكثر من تركيزها على المفاهيم الفلسفية، وعلى قوة اللاعقلانى فى الحياة الإنسانية، وليس على ادعاءات العقل؛ وقد نقول إنها تقدم التاريخ الفكرى بالطريقة التى ربما كتبه بها دوستيوفسكى، وليس روسو. وفى العقود التى تلت الحرب العالمية مباشرة حظيت النزعة اللاعقلانية الدينية بقدر كبير من اهتمام المؤرخين الغربيين الذين قدموا حلقة تربط بين نظرية الطغيان الحديث وممارسته والظواهر الدينية، مثل التصوف واليسوعية والعقيدة الألفية والقبلانية والفكر الغيبى بصورة أكثر عمومية. وما كانوا يرونه أثناء العمل فى عقول الثوار والمفوضين هو نزعة لاعقلانية قديمة لتعجيل المجيء إلى مملكة الرب فى عالم دنيوى. وفى كتاب The Pursuit of the Millennium (1957) وضع نورمان كون أسساً تاريخية راسخة لهذا المنهج. فقد عرض مدى أهمية انتشار النزعة الألفية الثورية والنزعة الفوضوية الصوفية فى أوروبا فيما بين القرنين الحادى عشر والسادس عشر، كما أوجد تشابهاً بين الخيالات الأخروية الخاصة بتلك الفترة وخيالات القرن العشرين.
وفى دراستيه بعنوان The Origins of Totalitarian Democracy (1952) وPolitical Messianism (1960) قرَّب المؤرخ الإسرائيلى يعقوب تالمون هذا المنهج من الحاضر بقوله إن أهم ملامح الفكر السياسى الأوروبى فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لم يكن نزعته العقلانية، التى ربما كانت ستقوده إلى اتجاه ليبرالى، بل هو حماسه الدينى والآمال اليسوعية التى باتت الأفكار الديمقراطية الحديثة مشربة بها. على خلاف ما قاله برلين. وفى عنفوان الثورة الفرنسية، لم يعد العقل عقلانياً وأصبحت الديمقراطية ديانة زائفة بالنسبة للرجال المحدثين المحرومين من الإيمان التقليدى بالآخرة. وكان تالمون يعتقد أنه فى هذا السياق الدينى فقط يمكننا فهم كيف أن النموذج المثالى الديمقراطى الحديث صار حلماً استبدادياً دموياً فى القرن العشرين.
نها قصة أخرى تبدو مقنعة. ولكن أياً من هاتين القصتين سنختارها لنرويها؟ إذ إن هذا سيعتمد اعتماداً كبيراً على أى جوانب الطغيان الحديث الفكرية والسياسية يشعر هو أنها تستحق اهتمامنا. وإن كان الأمر على سبيل الحصر فهناك «التخطيط» السوفيتى، وبرنامج النازيين شديد الفاعلية للقضاء على اليهود، وتدمير كمبوديا الذاتى المنظم، وبرامج التلقين الأيديولوجى، وشبكات المخبرين المصابة بجنون الارتياب، والشرطة السرية، أما إذا كانت المسألة تفسير الطريقة التى تكونت بها هذه الممارسات الاستبدادية وكيفية الدفاع عنها، فإن هناك ما يغرى لإلقاء اللوم على النزعة العقلانية الفكرية القاسية التى سحقت كل من وقف فى طريقها. ومن ناحية أخرى، فإنه إذا خطر على البال الدور الذى يقوم به فى الطغيان الحديث كل من تقديس الدم والتراب، والانشغال الهستيرى بالفئات العرقية، وتمجيد العنف الثورى باعتباره قوة من قوى التطهير، وعبادة الفرد، والاجتماعات الجماهيرية التى تتسم بالعربدة، فسيكون هناك ما يغرى على القول بأن العقل انهار أمام العواطف اللاعقلانية التى هاجرت من الدين إلى السياسة. ولكن ماذا لو كنا أكثر طموحاً ورغبة فى تفسير كلتا الفئتين من الظواهر؟ فى هذه الحالة سيكون علينا الابتعاد عن تاريخ الأفكار.
هناك طريقة أخرى لبحث حب الطغيان الفكرى، وهى فحص التاريخ الاجتماعى للمفكرين فى الحياة السياسية الأوروبية، وليس تاريخ الأفكار التى كانوا يؤمنون بها. وهناك كذلك بعض الروايات التى تقدم تفسيرات يعتد بها لحب الطغيان فى القرن العشرين. وأكثر القصص شيوعاً قصة مأخوذة من التجربة الفرنسية. وهى تبدأ بقضية دريفوس، التى يصورها الجميع على أنها أخرجت المفكرين الفرنسيين من مستنقعات «الفن للفن» l'art pour l'art ونبهتهم إلى مهمتهم الأسمى باعتبارهم المراقبين الأخلاقيين على الدولة الحديثة. والفصول التالية يمكن أن يتلوها غيباً أى تلميذ فرنسى: الاشتباكات بين الدريفوسيين الجمهوريين وخصومهم الوطنيين الكاثوليك؛ والاختلاف بشأن الثورة الروسية والجبهة الشعبية بعد الحرب العالمية الأولي؛ وتسويات فيشى الفكرية والسياسية؛ وسيطرة ماركسية سارتر الوجودية بعد الحرب؛ والانقسامات الحادة بين المفكرين بشأن الجزائر؛ وبعث الراديكالية اليسارية بعد مايو 1968؛ وأزمة الضمير crise de conscience بعد نشر كتاب سولجنتسين Gulag Archipelago فى السبعينيات؛ وظهور إجماع جمهورى ليبرالى فى عهد ميتران.
إلا أن الدروس الأخلاقية المستفادة من هذه القصة تختلف تبعاً لما تلقاه الراوى من تعليم سياسى. فقد أصبحت حسب رواية جان بول سارتر أسطورة بطولية عن ظهور المفكر المنعزل «الملتزم» الذى أكد «ذاته المفردة» فى مقابل أيديولوجيا المجتمع البورجوازى والأنظمة الطاغية التى أفرزها فى أوروبا (الفاشية) وفى الخارج (الاستعمار). وفى كتابه المهم Plaidoyer pour les intellectuals الذى يضم نصوص محاضرات ألقاها سنة 1965، وصف سارتر المفكر على أنه جان دارك يسارى يمثل ما هو فى المقام الأول إنسانى فى مواجهة قوى «السلطة» الاقتصادية والسياسية اللاإنسانية، وكذلك فى مواجهة تلك القوى الثقافية الرجعية، بمن فى ذلك الزملاء الكُتَّاب الخونة الذين تدعم أعمالهم الطاغية الحديث «بموضوعية».
وكان الأمر بالنسبة لخصمه ريمون آرون هو على وجه التحديد أن هذه المقابلة الساذجة بين «الإنسانية» و«السلطة» كانت تصور عجز المفكرين الفرنسيين، منذ قضية دريفوس، عن فهم التحديات الحقيقية للسياسة الأوروبية فى القرن العشرين. ويرى آرون أنه لم يكن من قبيل المصادفة ـ بل كان بالفعل أمراً متوقعاً إلى أقصى حد ـ أن نموذج سارتر المثالى للالتزام سوف يحوله إلى مدافع لا يلين عن الستالينية فى العقد التالى للحرب العالمية الثانية. وفى كتابه L'Opium des intellectuals (1955) أعاد ريمون رواية قصة ظهور المفكر الحديث، ولكن لا شك فى أن ذلك كان وراءه قصد مضاد لما هو شائع، حيث أوضح مدى عجز المفكرين وسذاجتهم كفئة، عندما كان الأمر يتعلق بالأمور السياسية الخطيرة. وكان يرى أن مسئولية المفكرين الأوروبيين الحقيقية بعد الحرب هى أن يجعلوا ما لديهم من خبرة متصلاً بالسياسة الديمقراطية الليبرالية، وأن يبقوا على الشعور بالقدر الأخلاقى فى الحكم على المظالم النسبية الخاصة بالأنظمة السياسية المختلفة ـ وهو ما يعنى باختصار أن يكونوا مشاهدين مستقلين لديهم إحساس معقول بأدوارهم كمواطنين وكصناع رأى. وهذه المسئوليات لم يتقبلها سارتر ولا أتباعه.
كان آرون محقّاً. ففى فرنسا كان المفكرون الرومانسيون «الملتزمون» هم من خدم قضية الطغيان فى القرن العشرين. إلا أن الصورة فى ألمانيا، التى لم يكن آرون يعرفها حق المعرفة، كانت مختلفة تمام الاختلاف. فقد كانت المشكلة هناك هى على وجه التحديد الانفصال السياسى. فلعدة أسباب يناقشها مؤرخو ألمانيا ـ وهى تراث اللامركزية السياسية، وعدم وجود عاصمة ثقافية، ونموذج الجوهر الروحى innerlichkeit، والنزعة المحافظة الفطرية، واحترام السلطة العسكرية ـ لم تُكَوِّن ألمانيا طبقة فكرية على النمط الفرنسى، وبالتالى فإن الالتزام السياسى لم ينشأ نفس النشأة. وكان الافتراض شرقى الراين فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين هو أن أساتذة الجامعات مشغولون بعلم Wissenschaft لا ينقطع فى الجامعة المعزولة، وأن الكُتَّاب يسعون وراء ثقافة bildung خاصة وهم يكتبون أعمالهم، وأن الصحفيين وحدهم هم الذين يجرؤون على الكتابة فى السياسة، وهم ليسوا جديرين بالثقة.
كانت تلك خرافة، ولكنها خرافة شديدة الجاذبية فى الثقافة الألمانية الحديثة. ولا يتضح هذا أكثر من وضوحه فى كتاب توماس مان «تأملات رجل لاسياسي» (1918)، وهو عمل شديد الشخصية، وهو كذلك أكثر أعمال مان السياسية قسوة. فبينما كان مان يستهدف أخاه هاينريش، حاول توجيه ضربة إلى ادعاءات الأديب Zivilisztionsliterat الفرنسى بما لديه من ولع طفولى بالديمقراطية والتنوير الشعبى. ودافع مان عن تراث الجوهر الروحى Innerlichkeit الألمانى على أسس جمالية وسياسية. وقد كتب يقول:
التراث الألمانى ثقافة وروح وحرية وفن وليس حضارة ومجتمعا وحقوق تصويت وأدب.... فعلى العكس من العقل raison والروح esprit الفرنسيين، هناك الجوهر الروحى Innerlichkeit الألمانى الذى يضمن عدم إعلاء الألمان المشاكل الاجتماعية فوق المشاكل الأخلاقية وفوق التجربة الروحية.


مع ذلك فإنه كما كان هو نفسه يعلم ـ وهو وما أسف عليه فيما بعد ـ فقد كان موقفه «اللاسياسي» المبدئى يحمل قدراً كبيراً من المغزى السياسى وكان بمثابة مبرر للأهداف الألمانية فى الحرب العالمية الأولى، وشجع الرأى الشائع القائل بأن صلح فرساى كان عملاً من أعمال الحرب الثقافية. وكتب يقول: «هذه الروح السياسية المعادية ثقافياً لألمانيا هى بالضرورة المنطقية معادية لألمانيا من الناحية السياسية».
ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يستهل فيها مفكر ألمانى «لاسياسي» حياته السياسية استهلالاً مريعاً. فعند إنشاء الرايخ سنة 1871، وعند نشوب الحرب فى أغسطس 1914، ومرة أخرى فى ليلة أول مايو Walpurgisnacht 1933، أقحم العشرات من كبار أساتذة وكُتَّاب ألمانيا أنفسهم بحماقة وجهل فى السياسة، سواء على أسس متناقضة للدفاع عن التراث الألمانى «اللاسياسي»، أو بدافع من الاعتناق الساذج المفاجئ للسياسة التى لم يكونوا قد بدءوا فى فهم أساليبها (ومن أبرز هؤلاء هيديجر). وانتهى معظمهم إلى أن اقتحامهم المفاجئ للسياسة كان خطأ، وسرعان ما عادوا إلى دراساتهم ومعاملهم.
وقال الفيلسوف يورجن هابرماس فى عدد من الكتابات المهمة فى فترة ما بعد الحرب عن الموقف السياسى والثقافى الألمانى إن هذا كان على وجه الدقة الدرس الخطأ المستفاد من تلك الغلطات. فمنذ بداية القرن التاسع عشر صار الكُتَّاب والمفكرون الألمان، بانسحابهم من السياسة الحديثة من حيث المبدأ، معتادين على العيش فى عالم فكرى خرافى تحكمه الخيالات بشأن بلاد اليونان أو الغابات التيوتونية، وهى الخيالات التى جعلت الطغيان النازى يبدو لبعضهم على أنه بداية التجديد الروحى والثقافى. وفى رأى هابرماس أنه فقط بالنزول من على جبال العلم Wissenschaft والثقافة Bildung إلى سهول الخطاب السياسى الديمقراطى، كان يمكن تطعيم المفكرين الألمان ضد هذا الإغراء الاستبدادى.
وتبدو مقولة هابرماس مقنعة. ولكن إذا كان محقّاً فى إلقائه باللوم على الفلسفة الألمانية بشأن الانفصال السياسى، وإذا كان آرون محقاً فى إلقائه باللوم على الالتزام السياسى الأعمى فى فرنسا، فأين يصل هذا الأمر بنا؟ من الواضح أن أياً من التفسيرين لا يعنى أوروبا القرن العشرين بصورة عامة. إذ يبدو أنه لا يمكن لأى من «العقلانية» ولا «اللاعقلانية» فى تاريخ الأفكار أن تفسر نظرية الطغيان الحديث وممارسته، كما يخفق كل من «الالتزام» و«الانفصال» فى التاريخ الاجتماعى للمفكرين فى الوصول بنا إلى قلب الموضوع. ومن الواضح أن كل هذه الاتجاهات والميول كان لها دورها فى التاريخ الأوروبى، سواء باعتبارها أسباباً وثيقة أو آثاراً، إلا أن أياً منها لا يدلنا بحال من الأحوال على سبب ظهور حب الطغيان الفكرى. وعند هذه النقطة فإن مؤرخنا ـ إن كان لا يزال معنا ـ قد يبدأ فى الشعور باليأس. ربما يبدأ فى التساؤل عما إذا كانت الإجابة عن هذا السؤال التاريخى موجودة فى التاريخ أم يجب البحث عنها فى مكان آخر. وكان هذا سيصبح تساؤلاً مفيداً، ذلك أنه ربما شجعه على إعادة بحث تاريخ أفلاطون وديون وديونيسيوس القديم من زاوية أخرى، سعياً وراء أدلة على القوى الأعمق التى تجتذب العقل إلى الطغيان.
أكثر ما يلفت النظر بشأن ديونيسيوس الشاب هو أنه كان مفكراً. ربما كان أول طاغية لديه مثل تلك الادعاءات، ولكن من المؤكد أنه لم يكن الأخير. فاليوم، وفى أركان مكتبات بيع الكتب الأوروبية ذات الميول اليسارية، مازال بإمكاننا أن نجد مجموعات غير مرغوب فيها من الأعمال الكاملة للينين وماو، بل وستالين، التى تولت ترجمتها مكاتب الدعاية فى العالم الشيوعى ونشرتها منظمات كانت واجهة لها فى الغرب. وقد يبدو مضحكاً لنا الآن أن هناك من كان يشعر بحاجة إلى الرجوع إلى مثل هذه الأعمال، أو حتى إلى كتابتها. إلا أننى أشك فى أن أفلاطون أو ديون كان قد فكر فى ذلك. واحتكاماً إلى أعمالهما فى سيراكوزا، فقد أدركا أن دافع ديونيسيوس الفكرى كانت له علاقة مهمة ما بطموحاته السياسية الاستبدادية ـ ومن ثم كان أملهما فى أنه بإحداث تحول فى ديونيسيوس يمكنهما الحد من طموحاته السياسية الاستبدادية. والواقع أن ذلك بدا مستحيلاً. ولكن إذا كان أفلاطون وديون مخطئين فى آمالهما، فهما لم يخطئا بالضرورة فى افتراضاتهما بشأن القوة النفسية والمنطقية التى تجتـذب بعض الرجال إلى الطغيان.
تلك القوة هى الحب، إيروس. ويرى أفلاطون أنك لكى تكون إنساناً لا بد أن تكون مخلوقاً ساعياً، أى مخلوقًا لا يعيش فقط لكى يلبى حاجاته الأساسية، بل هو مدفوع بصورة أو بأخرى إلى توسيع تلك الحاجات والارتقاء بها فى بعض الأحيان، وحينئذ تصبح غايات جديدة للسعى. فلماذا «يبذل» البشر «قصارى جهودهم» على هذا النحو؟ يرى أفلاطون أن هذا سؤال نفسى عميق، وهو سؤال تجيب عنه الشخصيات فى محاوراته بطرق مختلفة. وربما كان أحب تلك الإجابات هو ما قدمته ديوميتا وأورده سقراط فى Symposium، وهو أن «كل الرجال مبدعون من الناحيتين الجسدية والروحية». فنحن ـ أو على الأقل نشعر أننا كذلك ـ مخلوقات ناقصة ولا يمكننا البقاء إلى أن يصبح احتمال ما نشعر به داخلنا واقعاً ملموساً، وإلى أن يمكننا «إنجاب الجميل» كما تقول هى. وهذا الشغف، وهذا الحب، موجود فى كل رغباتنا الطيبة والصحية، فى رغبات الجسد ورغبات الروح؛ وبعض الناس يشعرون فى المقام الأول برغبات الجسد ويلبونها، بينما يصبح أصحاب الأرواح المتلهفة فلاسفة أو شعراء، أو يشغلون أنفسهم بـ«التنظيم الصحيح للمدن والمنازل» ـ أى بالسياسة فى أسمى معانيها. وتقول ديوميتا لسقراط إنه حيثما رأينا النشاط الإنسانى الذى يستهدف الخير، فسوف نجد بعضاً من آثار الحب.
ولكن ما هو النشاط الموجه لما هو ضار لنا أو لغيرنا ـ هل هو السُكْر مثلاً أم القسوة؟ وهل هذان يدفع إليهما الحب كذلك؟ يقودنا أفلاطون فى Phaedrus إلى الظن بأن الأمر كذلك، عندما يجعل سقراط يقدم صورة شهيرة للروح تبينها على أنها فريق يضم حصانين مجنحين يقودهما سائق عربة. ويقال إن أحد الحصانين نبيل ومشدود إلى ما هو خالد وصادق، بينما يتسم الحصان الآخر بالوحشية ولا يمكنه التحكم فى نفسه ويعجز عن التمييز بين ما هو غث وما هو سمين: فهو يرغب فى كل شيء. ويرى سقراط أنه إذا كان الحصان الأدنى أشد قوة من الحصان الأعلى فإن الروح تظل قريبة من الأرض، أما إذا كان الحصان النبيل هو الأقوى، أو كان بإمكان سائق العربة مساعدته، فإن الروح ترتفع لتكون أقرب إلى الحقيقة الخالدة. ويمكن أن توجد كل الأرواح ـ وبالتالى كل الأنماط البشرية ـ فى مكان ما من هذا السبيل السماوى، حيث يكون بعضها أدنى للأرض والبعض الآخر أقرب للسماء، تبعاً لطريقة سير خيولهم التى تحركها الشهوة. ويصف سقراط تسعاً من تلك الأرواح، أعلاها هى روح الفلاسفة والشعراء، وأدناها روح الطاغية.
ن خلال قراءة تاريخ سقراط وأعمال أفلاطون خاصة كتابه «الجمهورية» يتضح لنا أن هناك صلة بين الطغيان الذى فى العقل والطغيان الذى فى الحياة السياسية. فبعض الأرواح المستبدة تصبــح حاكمة للمدن والــدول، وفى هذه الحــالة تصبــح شعوب بكاملها خاضعة لجنون الحكام الشهوانى. إلا أن مثل هؤلاء الحكام نادرون وقبضتهم على السلطة ضعيفة. وهناك فئة أخرى أكثر شيوعاً من الأرواح المستبدة التى يفكر فيها سقراط، وهى تلك التى تدخل الحياة العامة ليس فى صورة حكام، بل كمعلمين وخطباء وشعراء ـ وهم من نسميهم الآن مفكرين. وهؤلاء الرجال يمكن أن يكونوا خطرين، لأن الأفكار «لوَّحتهم». وكما هو حال ديونيسيوس، فإن هذا الصنف من المفكرين عاطفى بشأن حياة العقل، ولكنه على العكس من الفيلسوف لا يسعه التحكم فى عاطفته؛ فهو غارق حتى أذنيه فى النقاش السياسى، وكتابة الكتب، وإلقاء الخطب، وتقديم النصح بنشاط محموم لا يكاد يغطى عجزه وعدم تحمله للمسئولية. وهؤلاء الرجال يعتبرون أنفسهم عقولاً مستقلة، بينما الحقيقة هى أنهم قطيع تقوده شياطينهم الداخلية وتعطشهم إلى تقبل جمهور متقلب الأهواء لهم. ومن يستمعون إلى هؤلاء ـ وهم عادة من الشباب ـ قد يشعرون بتأجج المشاعر داخلهم؛ إذ يجعلهم ذلك الشعور موضع ثقة، ذلك أن التوجيه الصحيح قد يسبغ عليهم الشرف وينشر العدل فى مدنهم. إلا أنهم بحاجة إلى تعلم التحكم الفكرى فى النفس إن هم أرادوا تحويل تلك العاطفة تحولاً خالصاً إلى الانتفاع الطيب.
ويدرك سقراط ذلك. إلا أن هؤلاء المفكرين يفتقرون إلى تواضعه وحرصه التعليمي؛ فسمعتهم تعتمد على إثارة العواطف وليس توجيهها. ويرى سقراط أن هؤلاء المفكرين يقومون بدور مهم فى دفع الديمقراطيات ناحية الطغيان بدفعهم عقــول الشــباب إلى حالة مــن الإثارة والجنون، إلى أن ينتقل بعضهم ـ ربما أكثرهم ذكاء وشجاعة ـ من الفكر إلى العمل ويسعى إلى تحقيق طموحاته الاستبدادية فى السياسة. وبعد أن يشعر هؤلاء المفكرون بالرضا لتحقق أفكارهم فى الواقع، يصبحون مداهنين للحاكم خانعين له ويؤلفون «أناشيد الطغيان» عندما يتولى السلطة.
يقدم سقراط فكرة الملوك الفلاسفة المثيرة فى «الجمهورية» ليخرج محاوريه من رضاهم فى التفكير فى هذه العلاقة بين المفكرين والطغاة. وكان هذا الملك الفيلسوف ـ سواء أكانت تلك فطرته أو نشئ عليها ـ سيقضى على الفئتين معاً. فالملك الفيلسوف «نموذج مثالي»، ليس بالمعنى الحديث لهدف الفكر المشروع الذى يتطلب التحقيق، بل ما يسميه سقراط «حلماً» يساعد على تذكيرنا بكيف أنه من غير المحتمل الجمع فى يوم من الأيام بين الحياة الفلسفية ومطالب السياسة. فقد لا يكون فى قدرتنا إصلاح الطاغية، إلا أننا قادرون دوماً على ممارسة التحكم الفكرى فى الذات. وهذا هو السبب فى أن أولى مسئوليات الفيلسوف الذى يجد نفسه محاطاً بالفساد السياسى والفكرى قد تكون هى الانسحاب. وفى «الجمهورية» يشبِّه سقراط قَدَر الفيلسوف الحق فى مدينة ناقصة بـ«كائن بشرى رافق وحوشاً برية، دون أن تكون لديه الرغبة فى الانضمام إليها فيما ترتكبه من ظلم، فى حين أنه لا يكفى كرجل وحيد لمقاومة كل الحيوانات المتوحشة». ولأنه يضع كل هذا فى حسبانه فإن يظل هادئاً ويفكر ويتدبر ما يخصه من أمور ـ كرجل فى عاصفة، يلجأ إلى جدار يعصمه، حين تثير الريح التراب والأمطار من حوله.
هل يعنى هذا أن أفلاطون تخيل الحياة الفلسفية حياة منفصلة انفصالاً تامّاً؟ لا. فبعد إلقاء شخصية سقراط كلمتها عن الفيلسوف فى العاصفة، تمضى فى القول بأن هذا الرجل لا يحيا الحياة الفضلى، ذلك أنه فى المدينة الطيبة وحدها «سوف يزداد نمواً ويصون الأشياء العامة إلى جانب الأشياء الخاصة». وكما نعرف فإن سقراط الحقيقى قُتل بسبب محاربته الطغيان، ليس بتجلياته السياسية الواضحة وإنما فى مصدره النفسى داخل العقل البشرى.
وهذا الوعى الذاتى هو ما يميز سلوك أفلاطون وديون فى سيراكوزا عن المفكرين المحبين للطغيان فى أوروبا القرن العشرين. ولأن أفلاطون وديون كانا قد اتبعا النموذج السقراطى وانتزعا كل طغيان من روحيهما، فقد كانا قادرين على فهم طبيعة حكم ديونيسيوس وكان هناك ما يبرر سعيهما لتحرير سيراكوزا من طغيانه. وكان كل منهما يأمل كمفكر تحويل ديونيسيوس إلى الفلسفة وجعله يرى ما فى أعماله من ظلم وما فى كتاباته من حمق. وكانا يأملان كذلك مكافحة الطغيان بالكلمة، وليس بالسيف. وفشلا، ورغم اتخاذ كل منهما سبيلاً منفصلاً فيما بعد، حيث عاد أفلاطون إلى أثينا ونزل ديون إلى ساحة الوغى، فقد دافع أفلاطون عما قام به ديون فى المجالين. فقد اعترف بأن ديون، بصفته مواطناً من سيراكوزا يحب وطنه، ربما ترك آماله تضلله بشأن فرص إقناع ديونيسيوس وبأنه شعر بضرورة رفع السلاح بعد فشل مساعيهما. إلا أن أفلاطون كان مقتنعاً بأن ديون فعل هذا كله دون أن يدع الطغيان الذى حاربه يدخل روحه. فليس من العار أن يفشل المرء أو يموت فى السياسة، مادام متحرراً من ذلك الطغيان. ولم يكن بإمكان ديونسيوس إدراك هذا المبدأ البسيط. فقد طالت حياته ولكنه عاش فى خزى، بينما مات ديون ميتة مجيدة، حيث بقى على وفائه للحق ولمدينته.
إن سحر سيراكوزا قوى بالنسبة لأى مفكر أو مفكرة، ولا بد أن يكون كذلك. فلا ينبغى للمرء أن يقبل خرافة سارتر النرجسية الخاصة بالمفكر كبطل كى يرى ما رآه أفلاطون منذ زمن بعيد. ذلك أن هناك صلة ما فى العقل البشرى بين النزوع إلى الحق والرغبة فى المساهمة فى «الترتيب الصحيح للمدن والأسر». ولكن لأن أفلاطون تعرف بالتحديد على هذه الرغبة الملحة باعتبارها حافزاً ـ أى كدافع يمكن أن ينقلب إلى عاطفة هوجاء ـ فقد كان واعياً بقدرته الهدامة ومشغولاً بتوجيهها لمصلحة الحياة الفكرية والسياسية الصحيحة. وهناك ما يغرى المرء على القول بأن هذا الوعى الذاتى السامى بشأن كيفية معالجة العقل للأفكار هو الذى يميز فى المقام الأول الفيلسوف بالمعنى الأفلاطونى عن كثيرين من المفكرين المحدثين. وهذا الوعى الذاتى نفسه هو ما ينبغى أن يكون بحوزتنا عند التفكير فى حب الطغيان فى القرن العشرين والتعلم منه.
ومن الصعب الظن بأن أى قرن من قرون التاريخ الأوروبى قد رُتِّب أفضل من القرن الماضى بحيث يثير عواطف العقل المفكر ويجره إلى كارثة سياسية. إن كثيراً من مبادئ الشيوعية والفاشية، والماركسية بأشكالها المختلفة، والنزعة القومية، والعالم الثالث، قد أوحت به كراهية الطغيان، وجميعها قادر على الإيحاء للطغاة البغيضين وعلى إغماض عيون المفكرين عن جرائمهم. ومن الممكن تصور هذه الاتجاهات باعتبارها جزءاً من سرد تاريخى رفيع المستوى يمكن أن نعزو إليه بعض القوى الخارجية التى تحرك كلاً من الأحداث وتأويلاتها.
عندما نقرأ الآن ما كتبوه ونبذل الجهد كى نفهم أفعالهم، فلا بد لنا أن نتعدى نفورنا الداخلى ونواجه القوى الفكرية الأعمق المؤثرة فى العقل المحب للطغيان ـ وربما أثرت فى عقلنا كذلك. ومع أن أيديولوجيات القرن العشرين تخاطب غرور بعض المفكرين وطموحهم الفج، فهى تخاطب كذلك ـ بخبث وغش ـ ما يبثه فينا التفكير ذاته من إحساس بالعدل وكراهية للاستبداد، وهو ما يمكن أن يتملكنا بالمعنى الحرفى للكلمة إن نحن لم نحكم السيطرة عليه. وسوف تبدو الدعوة إلى الاعتدال والشك ـ لمن تملَّكَهم ـ ضرباً من الجبن والضعف. وهذا هو سبب تعرض المفكرين الأوروبيين الذين أثاروا هذه الدعوة ـ ومنهم آرون ـ لهجمات بغيضة باعتبارهم خونة لمهنتهم.
لقد أقر القضاة بأن القضايا الصعبة تخلق قوانين سيئة. وعليه فقد يكون علينا أن نغمض أعيننا عن الأخطاء السياسية التى ارتكبها الفلاسفة الأوروبيون، ونحاول فهمها فى ضوء ظروف القرن العشرين غير العادية، ونأمل فى أيام أكثر هدوءاً فيما هو آت. إلا أننا نخطئ إن نحن استسلمنا لذلك. فالطغيان لم يمت، لا فى السياسة ولا فى أرواحنا بكل تأكيد. ربما يكون عصر الأيديولوجيات السائدة قد ولى، ولكن مادام الرجال والنساء يفكرون فى السياسة ـ ومادام هناك مفكرون ومفكرات بأى حال من الأحوال ـ فسيكون هناك إغراء للخضوع لجاذبية فكرة ما، وللسماح للعاطفة بأن تعمينا عن قدرتها الاستبدادية، وللتخلى عن مسئوليتنا الأولى، وهى السيطرة على الطاغية الذى بداخلنا.
ولم تكن أحداث القرن الماضى سوى مناسبة لإظهار حب الطغيان الفكرى غير العادى الذى لن تختفى مصادره فى الظروف السياسية الأقل تطرفاً، لأنها جزء من تكوين أرواحنا. وإذا كان مؤرخنا يريد حقاً فهم خيانة المثقفين، فإن عليه هو الآخر أن ينظر داخله.

بترتيب خاص مع:
The New York Review of Books
ترجمة أحمد محمــود
 
أعلى