نقد سامر أبو هواش - في بيروت

سألت النادل العجوز في "الويمبي" متى ستقفل المقهى، على ما أخبرني به بعض الأصدقاء سابقاً، في نبرة تجمع بين الحدث المحزن والعادية، فنفى الأمر بسرعة وعزاه إلى الشائعات. ولم يفرحني الأمر، ولا أحزنني، ولم أعرف لماذا طرحت عليه السؤال أصلاً. ثم بعد قليل جاء النادل وقال لي إن المقهى ينبغي أن تقفل الليلة على الأقل، وهي طريقة مهذبة لكي يقول لي بأنه عليّ أن أغادر. فحملت نفسي وذهبت إلى "الريغستو" المطلة على "ستاربكس" في الشارع المقابل من "الويمبي" وتحدّثت هناك مع الساقي الشاب عبد الله، وأخبرني أنه ينتظر أن ينهي دراسته الجامعية في إدارة الأعمال لكي يسافر إلى الخليج، فنصحته ألا يفعل، ثم بعد أن شرح لي أوضاعه الاقتصادية بدا من السخف لي أن أنصحه مثل هذه النصيحة أنا المقيم حالياً في بلد خليجي بسبب الأوضاع الاقتصادية تحديداً. انتقلت من هناك إلى "جدل بيزنطي" متأملاً، دون توقع كثير، أنني سأجد عدداً من الأصدقاء هناك. فلم أجد أحداً كذلك، وكان هناك فقط شاب يخبر شاباً آخر أنه رأى صدفة الرجل الذي باعه سيارته وعرض عليه أن يعاود شراءها منه، فطلب منه سعراً أعلى "شو هيك يعني... لازم أقرطو". وضحك الشاب الآخر وأيده في رأيه "أكيد لازم تقرطو"، ولم أسأله لماذا لازم "يقرطو". لكنني تذكرت عندها زياد الرحباني. وأنهيت زجاجة البيرة وخرجت. وكانت الساعة نحو الواحدة بعد منتصف الليل. وفي الخارج كان ضوء الشارع، ولم يكن كلام في فمي ولا كانت عيناي تبحثان عن شيء. وبعد دقائق مرت سيارة تاكسي أقلتني إلى الفندق في شارع جان دارك بمنطقة الحمرا. صعدت إلى غرفتي، شغّلت التلفزيون وشاهدت "ناشيونال جيوغرافيك" حتى الثالثة فجراً ونمت. واستيقظت عند السابعة ولم أصدق ذلك. خرجت فوراً إلى الشرفة التي يظهر منها جانب من الزاروب حيث يقع الفندق، ويقابلها مبنيان متجاوران أحدهما حديث والآخر قديم تقشّر معظم طلائه الأصفر من دون أن يقلل ذلك من بهائه، في نفسي على الأقل. ومن هناك، من ذلك الشارع الضيق، مع إتمام الصباح انتشاره الصامت، ضوءاً ودمدمات بعيدة، رأيت بيروت كلها.

لم أشعر بالغربة هذه المرة. بيروت كانت أليفة أكثر من أي وقت مضى. ربما لأنني أزورها هذه المرة بنفسية مختلفة. لم آت بحثاً عن بيروت. لم آت من أجل الأصدقاء. ولا الأهل. ولا الذكريات، ولا الفهم، ولا من أجل بيروت حتى. لعله صحيح أنه كلما سعى المرء إلى شيء ما ابتعد عنه، وكلما أهمله اقترب منه. هذا يحدث مع العشاق، ومع المدن أيضاً. هذه المرة أهملت البحث عن بيروت، وعن نفسي فيها. لأكتشف أنها هناك أمامي، مثلما هي، مثلما كانت، وأنه تكفي لمحة منها، مقطع من شارع أطل عليه من شرفة صغيرة، لكي أعيد علاقتي بها. هكذا عرفت بيروت للمرة الأولى، قبل نحو 16 عاماً، وهكذا عشت فيها وعشتها، وهكذا أعيشها الآن. آتي إلى بيروت بلا أدوات. بلا كاميرا، ولا موسيقى تصويرية أرى الأشياء والبشر من خلالها. كأنني لم أغادرها قط، لم أغادر شؤونها اليومية، إلى الشؤون اليومية لمدينة أخرى، كأنني أنزل الآن من البيت وأمشي في شوارعها، كأنني ابنها حقاً. لم تحضرني الدهشة إلى بيروت ولا هي التي جعلتني أحبها. كيف نسيت ذلك خلال غيابي عنها، وكيف جئت إليها زائراً مرات عدة سابقاً، باحثاً فيها عن ضائع افترضته وحدي، أي الدهشة، وأغفلت الحاضر الأكبر، أي الألفة. كانت الألفة هي ما أحضرني إلى المدينة وأنشأ علاقتي بها. لم آت أصلاً إلى المدينة بحثاً عن الجديد أو الغريب أو الكبير أو الفريد أو المدهش، جئت بحثاً عن نفسي، في مدينة تتيح لك أن تكون نفسك إذا ما شئت ذلك. جئت من مدينة أخرى صغيرة حولها الزمن وما عصف بها من أحداث إلى شبه قرية بائسة، وإن احتفظت ظاهراً بوجهها المديني، إلى المدينة المدينة، المدينة الحقيقية، المكان الذي تستطيع أن تكون فيه فرداً، وأن تحيا فرديتك هذه، بمراراتها ولمعاناتها، حتى النهاية. ولم تكن لي أمكنتي الخاصة في بيروت. لم يكن لي مقهى ولا حانة ولا زاوية شارع ولا صالة سينما ولا فكرة ولا منزل صديق ولا حتى بيتاً يخصني. كنت أعيش في بيت، وأذهب إلى مقهى أو حانة وأتسكع في شارع وأجلس على رصيف، لكنني لم ألصق نفسي في أي منها، ولم يكن لي موعد ثابت دائم روتيني مع أي منها. لأن المدينة كلها كانت بيتي ومقهاي وحانتي وكان هذا يكفيني حقاً.
ثم، أليس هذا هو الحب بعينه؟ حين يسألك أحدهم لماذا تحبني؟ منتظراً منك أن تعدد الصفات التي تميزه عن سواه حتى أحببته هو بالتحديد. تجيبه: "لأنك ذكي، أو حلو، أو ظريف، أو مثير أو..."، وتكون واثقاً من أنك لم تجب بشيء، فتقول، حين يعييك القول، بكل بساطة: "لأنني أحبك". هكذا هي بيروت بالنسبة إليّ. أحبها لأنني أحببتها ولأنني لا أزال أحبها. ثم، هناك الجانب الآخر من عبارة الحبيب لحبيبته، التي غالباً لا يصارحه بها: "أحبك لأنك تحبني". ولم أكف مرة عن الإحساس بأن بيروت تحبني.

عليك إذاً أيها المسافر، حين تعود إلى مدينتك، ولو زائراً ليومين، ألا ترهقها بالكلام، ألا تحمّلها أكثر مما ترغب أو تريد، ألا تشعرها بأنك آت لتذهب من جديد، ألا تملي عليها سلفاً كيف تحبك. فقط أنظر إليها نظرة صامتة تردم الفترة الماضية والآتية، وتملأ الفراغ الذي أحدثه غيابك هذا عنها، ولا تسألها "ماذا حدث لك في غيابي؟"، ولا تخبرها ماذا حدث لك في غيابها. لا مجال للثرثرة، ولا لالتقاط الصور الجديدة، ولا لموسيقى الحزن التصويرية، فقط اجلس في المقهى أو الحانة التي اختارت هي أن تلتقيك فيه، أو أنظر إليها متماهية في طلاء أصفر متقشر لمبنى عتيق، ولا تسألها "ماذا فعلت بالأمس؟"، أو "ماذا ستفعلين غداً"، وإذا كان لا بدّ لك من أن تسألها، يمكنك أن تقول لها، بكل الصمت الممكن بين عاشقين: "شو عملت اليوم؟



عن (كيكا) مايو 2006

المقهى
 
أعلى