رحاب الخترشي - تأملات في مسألة خلق حواء من ضلع آدم

إختلفت الأراء والتصورات على مر التاريخ البشري بخصوص كيفيّة خلق آدم و حواء وما يترتب عنها من دلالات، وما استوقفني وسط ركام الروايات هذا تكرار بعض التفاصيل عند أقوام وشعوب يُفترض فيها تباين الموروث الثقافي والعقدي.

من ذلك ما طُرح في التوراة والإنجيل من أن حواء -بما هي رمز للأنثى في كلّ زمان ومكان- خُلقت من ضلع آدم. وهو ما نجد له صدى في الموروث الإسلامي، سواء منه الشعبي أو المنسوب روايةً لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كالحديث الوارد في صحيح البخاري، (باب خلق آدم عليه السلام وذريّته، برقم 3153) وقد جاء فيه:

“حدثنا أبو كريب وموسى بن حزام قالا حدّثنا حسين بن علي عن زائدة عن ميسرة الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء”.

وثمّة غيره من الأحاديث الصحاح الواردة بالمعنى نفسه وإن اختلف ملفوظها قليلاً. امّا ما ذكرناه من ورود ذكر مثل هذا لدى اليهود والنصارى، فنجده مثلاً في الإصحاح الثاني من سفر التكوين بلفظ:

“فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما”.

و لسائل أن يسأل ماجدوى إعادة طرح هذا النوع من الأسئلة، فسواء خلقت حواء من ضلع آدم أو بشكل مستقل ما يهمنا هو الاشكاليات التي يُواجهها الإنسان في عصرنا الحالي؟!

مثل هذا الرأي على وجاهته الظاهرة يُهمل مُعطى أساسيّا هو أن العلاقة بين الجنسين الصانعين للحياة غير معزولة عن الجذور الأولى المُشكّلة لماهية كلّ طرف، ولتمثّله لماهية الطرف المُقابل.

من ثمّة كان لا بدّ من إعادة النظر في مسألة خلق حوّاء من ضلع آدم بعين اليوم، لا سيّما أنّ الخوض السابق في المسألة كان أساسه النقل لا العقل.

في مسألة الضلع

قبل النفاذ إلى صلب الموضوع لا بد من الإشارة إلى أن إهتمامنا بمسألة الخلق الأنثوي من ضلع أعوج إنما نصبو من خلاله إلى رصد الدلالات المعنوية للقصة، بعيدا عن تأكيد الحادثة أو نفيها إذ أن ذلك من مشمولات أهل الإختصاص .

إنّ الدلالة التي نسعى للتوقف عندها قصد تمحيصها هي “التبعية”، فرواية الضلع الواردة في قصة الخلق جوهرها ثنائية الأصل/ الصورة, آدم/ حواء، ولها أكثر من معادل موضوعي منها : الكل/ الجزء، المركز/ الهامش، الذات الكاملة/ الذات الفرعية. الأول يحدد الثاني.

ومع أنه مامن إجابة قطعية عن سؤال أي الزوجين (آدم/ حواء) خلق أولا، يسود الإعتقاد العام بأن آدم هو المخلوق الأول الذي حظي بهذا الشرف، على أساس مخاطبة الخالق له كذات واضحة المعالم واحدة ومتحدة، ثم عرضه على الملائكة، وماتبع ذلك من تفاصيل التشريف..

لتأتي بعد ذلك حواء واقعا لا ذاتا، يقع مخاطبتها فيكون حضورها مرتبطا بتخفيف الوحشة عن آدم، فهي الذات المكلمة، لا الكاملة، المفرغة من كل دلالة، إلا من دلالتي ” التبعية ” و”الإنتساب”.

وعلى إثر ما تقدم، ظل السؤال حول طبيعة الأنثى قائما حتى القرن السادس ميلادي. فبعد عصر الظلمات الذي ساد فيه الإعتقاد أن الأنثى تحمل روحا حيوانية، عُقدت مؤتمرات عدة ناقشت طبيعة روح المرأة و طرح هذا السؤال “هل للمرأة روح من الأصل؟”

وظهرت إجابات عدة من نوع نعم لها روح، لكنها ليست مثل روح الرجل، فهي روح أقل منزلة، بإعتبار أنها خلقت لإسعاده. فقد جاء على لسان القديس بولس.

” فَإِنَّ الرَّجُلَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ لِكَوْنِهِ صُورَةَ اللهِ وَمَجْدَهُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَهِيَ مَجْدُ الرَّجُلِ.لأَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ مِنَ الْمَرْأَةِ، بَلِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ.وَلأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ أَجْلِ الْمَرْأَةِ، بَلِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَجْلِ الرَّجُلِ.

إن إعتبار أن المرأة كائن ناقص كان أمرا متسفحلا في أوروبا في تلك العصور وتبرر الأحكام عن قصة الخلق المستمدة من سفر التكوين و الإصحاح الثاني، فنجد أن المرأة تتموقع حسب نظرية الضلع في ذيل النشأة و الخلق، أو كملحق تابع للذكر، شخصية ذائبة في شخصية.

و نجد لهذا صدى حتى في أفكار فلاسفة اليونان القدماء العالقين في برزخ جراح الطفولة و الحب الأمومي و عشق المرأة ككائن نوعي معادل لهم.

فبالنسبة لأرسطو، النساء أدنى منزلة من الرجال، ونستشهد في ذلك بفهرس سينثا فريلاند فنجد أنه قال إن شجاعة الرجل تكمن في إعطاء الأوامر، بينما المرأة في الطاعة والاستجابة، وبأن المادة تتوق للشكل، كما المرأة للرجل البشع للجميل، وبأن للمرأة أسنان أقل من الرجل، وبأن المرأة رجل غير مكتمل أو فيه تشويه. وهي التي تشارك في المادة فقط، وليس في الشكل مع أجيال النسل. وبأن المرأة في العموم كيان أدنى منزلة. وبأن شخصية المرأة في التراجيديا ستكون غير مقبولة إن ظهرت بصورة شجاعة أو قوية”.

هذه الصورة التقزيميية المبنية على تبعية الأنثى للذكر نجد لها أيضا أثرا في كتابات أفلاطون ومفكرين آخرين مثل غوتة و روسو و مونتكسكيو.

و مع أن النص القرآني في مجمل آياته استعمل أكثر من مرة ألفاظ “زوج” و “أزواج”، “المؤمن- المؤمنة”، و ان الخطاب في أكثر من مرة موجها لهما الإثنين، فإن ماورد في نص الحديث بخصوص مسألة الضلع الأعوج فهم منه أفضلية الرجل عن المرأة و أنها كائن مجبول على النقص و النقصان و الحاجة لتقويم هذا الإعوجاج فيه.

والمقابل لكلمة إعوجاج إستقامة، أي ان الرجل الصورة الأولى، فيما تمثل المرأة الصورة الثانية والنسخة المحرفة و المعوجة لهذه الصورة السليمة.

نجد نفسنا في كل مرة نحوم حول نفس الدلالات (الإستتباع / التكميل/ الأول و الثاني). ويعبر فليسوف نظرية التفكيك و الباحث في مسألة المركز والهامش، جاك دريدا، عن هذه المعضلة قائلا “الأول هو إختيار لتمثيل الثاني، أما الثاني فهو بحث مستمر حول هذا الإختيار”.

إن كثيرًا من علماء الدين و الفلاسفة لم يجدوا حرجا في الإستناد على أساطير وأحاديث للتأكيد على هامشية الأنثى، والنظر إليها كعنصر مخلوق من أجل الذكر، وبالتالي التأكيد على دونيتها وعلى علوية المخلوق الأول. ومن صور هذه التفاضلية (أعلى/أدنى) في عصرنا هذا ما تعكسه الأرقام من تدني نسب تولي المرأة المركز السيادية في شتى الدول المعتقدة في قصة الضلع من منطلق أن هذا الكائن المعوج، أصالةً، لا إكتسابا، لا يمكن أن تسلم إليه مهام القيادة بما تحلمه مفرد “القائد” من دلالات ” الأول والمتفوق”.

و الواقع أن قصة الضلع الأعوج بما فيها من رمزية و توليد للدلالات ليست التفصيل الوحيد المشبع بالمعاني من بين مجمل تفاصيل حكاية خلق حواء من آدم، إذ هناك مايتعلق بلحظة الخلق تلك، وما كان عليه آدم من سبات و غياب للوعي وهذا ماسنتطرق إليه في مقال لاحق.




رحاب الخترشي

منقول للفائدة

لوحة الفنانة العراقية وسماء الآغا

Wasmaa_Alaga.jpg
 
أعلى