عبد الكريم التواتي - أبو حفص عمر الأغماتي

لم يشهد تاريخ الأدب المغربي، في مراحله الأولى، ومنذ عهد الفتوح إلى بداية الموحدين فترة حافلة بفطاحل المفكرين ورجال الثقافة والأدب مثل فترة الموحدين، فقد حفلت هذه الحقبة بعدد وافر من رجال الفكر ذوي الإختصاصات المتمايزة تبعا لتعدد المجالات الثقافية المتاحة، والتي احتضنتها اهتمامات الناس على اختلاف طبقاتهم ومراكزهم الإجتماعية، وعلى رأسهم الدولة، ونظرا لتباين تلك المجالات مابين الشرعية وعلمية وفلسفية وأدبية.

فإذا كانت لفظة العلم والعلماء إلى ما قبل تقعيد دولة الموحدين تعني نوعا من المشاركة العامة بين مختلف المعلومات المتداولة، وبالأخص ما يتصل بالشريعة: من علوم التفسير والحديث والفقه وأصوله وعلوم اللغة والقواعد بوصفها أدوات لفهم علوم الشريعة فحسب، أو بوصفها - حسب تعبير أولئك القوم - علوما آلية، فإن مفهوم تلك اللفظة في عهد الموحدين مطط وعمق، وأوشك أن يكون موسوعة لم يعد في مقدور أحد استيعاب جميع ما تضمه بين دفتيها، مما اضطر معه المشتغلون بالعلم والمهتمون بالفكر والثقافة إلى أن يمتهنوا نوعا من التخصص.

ويتجلى هذا الإتجاه التخصصي بمراجعة خاطفة لفهارس كتب تصنيف الرجال لذلك العهد، فقد كان هناك من العلماء من كان لا يهتم بغير التفسير - مثلا - كعبد الجليل القصري، أو بغير علم الحديث كالقطان وابن قاسم التميمي وابن دحية، أو بغير علم القواعد والآلة كابن معط وأبي موسى الجزولي، أو بغير كعبد السلام بن مشيش، وأبي الحسن المسفر، وأبي العباس السبتي، أو بغير الفلسفة وعلم الكلام كالسلالجي وابن الكتاني، أو بغير الطب كيوسف بن سمعان، أو بغير التاريخ كعبد الواحد المراكشي، أو بغير الجغرافيا كالإدريسي، أو بغير الريضيات وعلوم الهيئة كأبي الحسن المراكشي مؤلف كتاب (المبادئ والغايات في الميقات) وكابن الياسمين صاحب أرجوزة الجبر، أو بغير علوم الفقه وأصوله، وهؤلاء كثير.

فكان طبيعيا - أمام موجات التخصص هذه - أن تجد الحياة الأدبية التي هي الصورة المرئية المحسوسة للأمة والمجتمع وتراثهما الباقي الذي تتناقله الأجيال على مر الدهور والعصور، أن تجد أسواقا رائجة مربحة تجذب إليها الرهفي الأحاسيس والجياشي العواطف، وتستهويهم بما تتيحه لهم من إمكانيات روحية ومادية مغرية، ليعبوا من زلالها، ويطعموا من ثمارها، ويتفيأوا ظلالها الوارفة ثم ليكونوا سدنة لها وحجابا، ثم في نهاية المطاف لينكفئوا على مختلف أبعادها ومعطياتها يدرسون ما أتاحته من إتجاهات وتيارات، فإذا هم يجدون أنفسهم وقد تبلورت الرؤيا لديهم، يتخصصون في الإهتمام بهذا النوع لو ذاك الجانب من هذا الفن أو ذاك.

وهكذا قامت - إلى جانب المدارس التشريعية والعلمية - مدارس الأدبية، في مختلف فنون الآداب ومجالاته، وظهرت - كمميزات العصر - في هذا الميدان المقامات والمناظرات والرحلات والتوقيعات، بينما اختفت - تقريبا - الرسائل والخطب والتأليف، وكل ذلك فيما يخص المجال العام.



بينما امتاز العصر من حيث الاسلوب الأدبي - وفي ميدان النثر خاصة - بالسجع المطبوع حينا، و المتكلف أحيانا، وامتاز من حيث المضمون باستقطاب الروح الدينية، والإحتفاء بعلوم القرآن وبالتصوف والإبتهالات.

فكان (ميمون الخطابي) شاعر النبويات و(ابن حبوس) شاعر الحكمة و( الجراوي) شاعر المديح ووصف الملاحم الحربية، و(ابن العابد الفاسي) شاعر الصناعة البديعية والوصف الهفهاف، و(سليمان الموحدي) شاعر العاطفة الذاتية والفخر، و(ابن الياسمين) شاعر الرياضيات، وكان (أبو حفص عمر الأغماتي) الذي نخصص له هذه الكلمات ما يمكن أن نطلق عليه - رغم اشتغاله بالقضاء واهتمامه بالفقه و الفتيا - شاعر الغزل والتشبيب في دولة الموحدين.

وأبوحفص عمر هذا، هو عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر السلمي الأغماتي، ولد بـ(أغمات) حوالي 530 هـ حسب تخمينات بعض الدارسين المحدثين، أما المراجع القديمة التي تناولت الرجل وآثاره فلم تشر إلى تاريخ وفاته التي كانت سنة 603 هـ أو سنة 604 كما في جذوة ابن القاضي الذي يحدد وفاته بالخامس والعشرين من ربيع الأول، بمدينة(إشبيليا) بالأندلس، حيث كان يتولى قضاءها للمنصور الموحدي، ولكنه إذا كان من حيث المولد أغماتيا فإنه كان فاسيا إقامة ونشأة، ومن فاس انطلقت شهرته العلمية.

ثم هذا الذي نترجم له، ليس هو أبا حفص عمر زيد الهناتي الذي وزر ليعقوب بن أبي يوسف ابن عبد المومن بن علي، والذي كانت بينه وأبي العباس الجراوي شاعر البلاط الموحدي الرسمي مناقشات حادة تطورت إلى شبه عداء مستحكم، وإن يكن هذا الهنتاني يعد أيضا من شعراء هذه الدولة ومادحيها، من أشهر مدائحه في الموحدين قصيدته الرائية التي مطلعها:
إلا هكذا تبنى العلى و المآثر = وتسمو إلى الأمر الكبير الأكابر

وحياة أبي حفص عمر الأغماتي الثقافية ابتدأت بتتلمذه على جده لأمه: أبي محمد عبد الله بن علي اللخمي، الذي أجاز له في صغره، وروى الحديث عن أبي مسرة و ابن الرمامة، ودرس اللغة و القواعد على أبي بكر الطاهر، كما أخذ عنه في نفس الوقت كتاب (سيبويه) تفهما ودراية.

وتتحدث المراجع التاريخية التي تناولته بالحديث - وخاصة (الحلة السيراء) لابن الابار، و(الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة) لابن سعيد أبي الحسن علي بن موسى المغربي الأندلسي - بأن الرجل حقق في الميدان العلمي مكانة مرموقة أهلته لأن يشار إليه بالبنان، وفي مدينة فاس التي كانت يومئذ مأوى فطاحل العلماء وكبار الحفاظ، وعظماء الفقهاء، وجهابذة الأدباء في مختلف العلوم والفنون، فيقول عنه ابن الآبار: ( كان فقيها علامة، وفي النظم والأدب أندر علامة، جل بين قومه بمدينة فاس مقداره، وقضيت بها الجاه والمال أوطاره، إلى أن كان هناك من أهل الفتيا، ثم ترقى إلى الخطابة، وصار ذا ابرام و إمضاء).

فكانت الدولة لذلك، ولكونه أحد الشعراء الذين وقفوا مديحهم عليها، توليه عناية خاصة، وتحله مكانة ممتازة، وكان لعهده أحد جلساء اصحاب الأمر وأرباب العليا.

بل وحتى عند ما تآمر عليه حساده بزعامة أبي بحر صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن عيسى بن إدريس التجيبي المرسي صاحب كتاب (زاد المسافر و الرحلة) وصديق ابن بقي الذي له معه مكتبات، والذي عاش مابين(561 - 598هـ)، وتقولوا عليه بأنه غير محافظ على الناموس الشرعي لكثرة تغزله واشتهار مقطعاته، وانهماكه في العشق، ورفعوا بذلك شكوى إلى السلطان، أيدت من طرف حافظ فاس (أبي موسى بن رمانة) الذي هاله أن يفكر القاضي أبو حفص في التدخل لصالح أخيه الذي رماه بتهمة أخلاقية استوجبت عليه حد القتل، وكان قد تولى الحافظ أبو رملة تنفيذ ذلك الحد، وأمر بضرب عنق أخي أبي حفص، وحرض على القاضي، و كتب إلى السلطان يقول: ( إن فقهاء فاس أجمعوا على تأخيره على الإمامة والخطابة، وولوا غيره حتى يصل الإذن العالي، أما باستقرار الثابت أو بتعويضه، أقول أنه رغم هذا التآمر فإن السلطان وسلطته الزمنية لعهده - تقديرا لمكانة أبي حفص العلمية، وتقديرا لنزاهته - لم يعاملاه إلا بالحسنى، يقول ابن الابار أيضا عن ذلك: ( فوصل الأمر بوصول أبي حفص إلى الحضرة، فما جهل مكانه، فلا صغر شانه، وإنما ولاه قضاء اشبيليا).

وانحدار أبي حفص من أم يحتل أبوها تلك المكانة التي كان يحتلها أبو محمد اللخمي، قد يساعدنا على مركز صاحبنا الاقتصادي، إذ في الوقت الذي يجمع فيه المؤرخون على نزاهته وعفته طيلة توليه مهمة القضاء، سواء بفاس أم بإشبيليا، ويصفون نزاهته بمثل هذه العبارات: (ومن المشهور عنه في قضائه العدل في الأحكام، وقلة النزق عند اختلاف الخصام، وولاه المنصور قضاء اشبيلية، فشكرت فيها سريرته وحمدت سيرته) إذا بهم يتحدثون عنه بأنه كان يرفل في بحبوحة من النعيم، ورخاء من رغد العيش، وكان ينعم بمباهي الدنيا، فيعشق المركب الفاره واللباس الفاخر، والفراش الوثير، والرياش والأثاث الوفير، وكان منزله - وكما يصفه ابن الابار - كأنه الجنة، وكان في غاية من الظرف، إذا أقبل شمت رائحة الطيب منه على بعد، وإذا اغسلت ثيابه لا يكاد يفارقنا)..

وبالمناسبة أذكر أن أحد شيوخنا الاجلاء وهو الفقيه المحدث الظريف الحكيم الشريف الأصيل سيدي محمد بن الطيب البدراوي، نقيب الاشراف العلميين - كان صورة طبق الاصل لهذه الصورة التي رسموها لأبي حفص: ملبسا ومسكنا وعيشا رغيدا ومعاشرة طيبة ودمائه أخلاق، رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته.

ونحن لا نشك في أن هذه الحياة المترفة الناعمة التي كان يحياها أبو حفص مع ما أحاطها به من كل صنوف البهجة والسرور وأنواع النعائم والحبور وداوعي رغد العيش، الذي في مقدمته قرضه الشعر الفزلي الذي أوشك أن يتخصص فيه، كانت هذه الحياة من أهم الأسباب التي دفعت أولئك المنافسين إلى التقول عليه واتهامه بعدم الحفاظ على الناموس الشرعي، الذي كان يقتضي يومئذ على من يمتهنونه، أن ينزووا عن المجتمعات العامة وأن يتزيوا بزي خاص لباسا ومسكنا ومظهرا ونشاطا، خاصة وقد ذيل أولئك المنافسون شكواهم من الرجل بقولهم : ( بكثرة تغزله واشتهار مقطعاته، وانهماكه في العشق).

على أننا سنرى - فيما بعد - إلى أي حد صدق هؤلاء المتقولون أو كذبوا، وذلك عن طريق تحليل بعض آثاره الشعرية التي نجت من الاتلاف والإهمال إذ أن كثيرا من الآثار العربية الأدبية - ولمختلف عصور التاريخ الأدبي - ضاعت إما بسبب النسيان، كما هو الشأن بالنسبة لآثار ما قبل ظهور الإسلام في جميع البلاد العربية تقريبا، وبعده في بعض المحيطات المتحفظة أو المحافظة، أو بسبب الإتلاف المتعمد المقرون بسبق الإصرار، كما حدث بالنسبة لكثير من أشعار شعر المنافرات الجاهلية - مثلا - وشعر المذاهب السياسية لعهد الفتنة الكبرى، فتنة التهارش على السلطة بين عثمان وأنصاره من جهة وبين معاوية من جهة أخرى، وما واكب تلك الفتنة أو جاء بعدها من أحداث دموية انتقامية، أو بسبب التحوط الديني، كما هو الشأن بالنسبة للأشعار التي كانت قيلت في مهاجمة الرسول (ص) ودعوته، وأما بسبب الإهمال وقلة الاهتمام كما هو الشأن بالنسبة لمعظم الآثار المغربية.

أما عن مخلفات وآثار أبي حفص الأغماتي الأدبية، فإنه إذا كان أكثر مؤلفي رجال الطبقات يدرجون الرجل ضمن قائمة الكتاب لعصر الموحدين، أو بالأحرى ضمن قائمة الخطباء، لأن أبا حفص وضع رسالة مطولة بعض الشيء يرد فيها على الفلاسفة، ويطعن في معتقداتهم التي كانت تعتبر باطلة ومتجانبة مع مذهب وعقائد الموحدين، وقد يكون وضعه لهذه الرسالة أساسا إنما كان بإيعاز من هؤلاء الموحدين أنفسهم، فإننا نرى نحن أفضلية إدراج اسمه ضمن لائحة شعراء ذلك العصر، لأنه إذا لم يكن في الإمكان - ولو الآن على الأقل - أن نجد من آثار أبي حفص النثرية سوى هذه الخطبة، فإننا نستطيع أن نعثر من آثاره الشعرية على قطع كثيرة، لا تعالج - فحسب - مذهبه العقدي أو موقفه من الفلسفة والفلاسفة الذين كانوا مناهضين من طرف الموحدين، هذه المناهضة التي كانت قطعا سبب لتلك الرسالة أو الخطبة، وربما لنفس السبب قرئت حتى المنابر ووزعت بصورة واسعة الانتشار في منشورات أو ملصقات لإثارة اهتمام الرأي العام وتحذيره من مغبة الانصياع لأوامر الفلاسفة أو الإنصات لترهاتهم بله السير على مهيعهم الضال، أقول أن هذه الآثار الشعرية لا تعالج فحسب هذه النواحي من حياة الرجل، وإنما تعالج ذلك وتعالج في نفس الوقت القضايا الخاصة والذاتية لأبي حفص، وتعالج بالتالي بعض اهتمامات عصره ومجتمعه.

ثم إذا كان أبو حفص قد أسهم - تقريبا - في مختلف فنون الشعر والمتباين من اتجهاهه - وكما سنرى عند تصنيف القطعة الشعرية التي بين أيدينا - فإن شعره العاطفي يفوز بحصة الأسد بالنسبة لباقي اهتماماته الأدبية.

فمن بين القطع السبع التي أوردها له ما بين أيدينا من مؤرخي آثاره، نجد أكثر من صنفها في الغزل، وما هو في الغزل المكشوف، مما لا يتناسب مع مركزه العلمي والإجتماعي كقاض، أو على الأقل لا يحسن من مثله نشره على الجمهور ولا يجمل البوح به من طرف شخصية مثله، المفروض فيها أن تحمي الأخلاق - أو نا تعارف المجتمع على اعتباره أخلاقا - وترعى الفضائل، وتطارد الرذائل، مع العلم أن كل هذه الأشياء نسبية الإعتبار تخضع للزمنكية، أي للزمان والمكان بل المستويات المجتمعات تقدما وانحطاطا، انفتاحا و انغلاقا.

ولعل هذا الاعتبار هو الذي دعا مؤلفي الطبقات العاطفية على عهد أبي حفص إلى أدراج اسمه ضمن الخطباء، ودعاهم بالتالي إلى إيراد نصوص خطبته المناولة للفلاسفة والتي سنورد نتفا منها فيما بعد. بينما نجد له قطعتين في الحكم والوصايا، وقطعة في مدح مذهب الدولة ورئيسها لعهده، وأخرى في مدح المنصور وتهنئته بالنصر في موقعة (الاراك) ثم قطعة في الفحر، ثم أبيات منثورة هنا وهنا، مع التذكير بأن أغلبها في الغزل والتشبيب.

والملاحظة العامة على آثاره تلك، إنها من: حيث الصياغة والأسلوب: تمتاز بالوصف الفني للكلمات، وبالجرس الموسيقي الساحر الوقع، كما تمتاز بالبديع المطبوع.

وأما من حيث المضمون: فإن المعاني التي حاول معالجتها فقد سبق إليها إلا في الأقل النادر، بحيث أن اهتمامه بالأداء الفني كان أكثر بكثير من اهتمامه بالموضوع.

على أنه في القطعة الميمية التي تناول فيها تحليل المذهب العقدي للموحدين ومحاولة استغلالهم لبعض الميادين، أو بتعبير أدق لبعض المبادئ الشيعية، يلاحظ أنه بذل جهودا محسوسة لتحوير تلك المبادئ إلى ما يتفق كثيرا مع مذهب أهل السنة، مما قد يشعر أنه تراجع في الموقف، أو محاولة للتنزيه، فهو مثلا لا يلوح بفكرة الشيعة تلويحا مجردا أو بدون قيد، ولكنه قرنه بسور(حاميم) السبع، وصاغه في قالب ديني، نافيا في نفس الوقت أن يكون الموحدون من دعاة التنجيم، ثقة بوعد ربهم، وإيمانا بأن القرآن وحده هو الحكم الفصل أو الفيصل، وأن الموحدين به يحكمون وبه محكومون، ونورد فيما يلي هذه القطعة الميمية، منبهين إلى أنه كان قد أنشدها يمدح أبا يعقوب يوسف بن عبد المومن قال:
الله حسبك والسبع الحواميم = تحوي بها سبعة، وهي الأقاليم
سبع(المثاني) التي لله قمت بها = عليك من سرها معنى وتقديم
وأنت بالسور السبع الطوال، على = كل الورى حاكم بالله محكوم
وسبعة الشهب لم تحفل بها ثقة = بوعد ربك، هيهات التناجيم
تسمو النفس على السبع الشداد سمت= فينا، وثم لها زلفى وتحكيم
فؤاده بضياء العلم منشرح= ووجهه بجمال النور موسوم
وكفه، بطنها بالخير منهمر = وظهرها لعهود الله ملثوم
العلم قيمته، والحلم شيمته = طابت أرومته، والنفس والخيم
يا سامعين أماديح الإمام ألا = فاجثوا على الركب الأعظم، أو قوموا
خذ كأس لفظي دهاقا من مدائحه = فيها الحقائق لا لغو ولا تاثيم
ندعو له بدلا من مدحه لقصـــ = ـــور المدح عنه وفية العذر معلوم
عز الامام فلا نضرب به مثلا = من ذا يقاس؟ والمثل معدوم
أعطى الورى فضل ما أعطاه خالقه = عليه من ربه بشرى وتلسيم
صل بالصلاة عليه صدق مدحته = ذاك الرحيق بهذا المسك مختوم

وحين وأتت الفرصة أبا حفص لمدح المنصور ابن أبي يعقوب، وذلك حين انتصر في موقعة (الأراك) سنة 591 هـ ضد (الفونس الثامن) ملك ( قشتالة) وكان الحماس المذهبي قد فتر نسبيا عما كان عليه قبل، أو لم يأخذ من الدولة إحدى اهتماماتها الأساسية، تخلى نهائيا - وحتى عن طريق الإيماء أو الإشارة - عن معالجة وتناول القضايا العقدية والمذهبية، أو هذا على الأقل ما تثبته الأبيات التلية التي اخترناها من قصيدته التي أنشدها بالمناسبة أي مقعة (الاراك) تلك، قال:

أطاعتك الذوابل والشفار = ولبى أمرك الفلك المدار
ببشرى ما ابتهجت رياض = وسعد مثل ما وضح النهار
وفتح كما انفتحت كمام = وشقت عن صدورمها صدار
وأمال كما ملت ظلال = و أفعال كما مدحت بحار
وأعلام بنصرك خافقات = لها في كل جو مستطار
ليهني أرض الدلس بدور = من السراء ليس لها سرار

ومنها في وصف هلع الروم و هزيمتهم:
وكم رامو الفرار من الرزايا = ولكن أين من أجل فرار
تدار عليهم حمر المنايا = بكأس فيه عقر لا قعقـــــار
إذا ما الليث أصبح في محل = فما لطريدة فيــــه فـــــرار

أما شعره الحكمي فتبدو عليه البساطة مما يجعله أقل بكثير من شعر المتنبي أو أبي العتاهية مثلا، في موضوع الزهديات فهو صحوات عابرة، ونفتات تمس القلب، وقد تهز العاطفة، ولكن لا تخاطب العقل بما يحمله على غمعان النظر وإطالة التفكير.

وله في هذا الموضوع - فيما وقفنا عليه - قطعتان، صاغ فيهما حكمته ووصاياه من حيث قيمة الدنيا وإعراضها، ووزن ذلك بميزان التقوى، ومن حيث قيمة العلم واستعمال الفكر أو من حيث فلسفته تجاه قضية الانسان والحياة، قال أبو حفص للرؤيا البصيرية، لا البصرية، وللإدراك القلبي لا الحسي:

بقلبك يا غافلا فانظر = وعينيك غمضهما تبصر
إذا أرسل الطرف هام الفــ = ـــؤاد وبعض المرائي عمى المبصر
و آفة قلب الفتى عينيــــه = فإن ترع قلبك لا تنظــــر

ويقول في الموازنة بين اعراض الدنيا والتقوى، وبين العلم الباطني الحقيقي، وذالك الظاهرة المريء السطحي:

العلم يكسو الحلل الفاخرة = والعلم يحمي الأعضم الناخرة
كم ذنبا أصبح رأسا به = ومذنب أبحره زاخرة
ما شرف النسبة إلا التقى = أين تهيم الأنفس الفاخرة؟
من يطلب العز بغير التقى= ترجع إليه نفسه داخرة
أعرض الدنيا تكن سيدا = بل ملكا فيها وفي الآخرة

ونلاحظ أنه في هذه الابيات الأخيرة قد التزم ما لا يلزم، حين أتى بكل القوافي على وزن(فاعولة) والأحرف الثلاثة الاخيرة كلها من شكل واحد.

ونختم هذه المختارات من آثار أبي حفص بفقرات من خطابه التاريخي الذي سجل فيه موقف دولة الموحدين من الفلسفة والفلاسفة، مع محاولة إثارة الرأي العام الشعبي ضدهم، عن طريق التنديد بهم دينيا، وقد حقق أبو حفص في محاولته أداء فنيا رائعا، وأبان عن مدى كفاءته العلمية ومقدرته على الإستدلال بالقرآن حين يحسن هذا الإستدلال بالقرآن حين يحسن هذا الإستدلال ويستصوب، قال: (... أياكم والقدماء وما أحدثوا، أتوا من الإفتراء بكل أعجوبة، وقلوبهم عن الأسرار محجوبة، الأنبياء ونورهم، لا الأغبياء وغرورهم، عنهم يتلقى ويدرك السول، - عالم الغيب، فلا يظهر غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول - إن الدين عند الله الإسلام، والعلم كتاب الله وسنة محمد عليه السلام، ما ضر من وقف عندهما، ما جهل بعدهما، خير نبي في خير أمة، - ليزكيهم ويعلمهم الحكمة - دلهم من قرب عليه، واختصر لهم الطريق إليه، فما ضر تلك النفوس الكريمة، والقلوب السليمة والألباب العظيمة، وما روي عنها من العلوم القديمة، نقاهم من الأوضار والأدناس و قال: - كنتم خير أمة أخرجت للناس - كتابهم أعظم كتاب أنزل، ونبيهم أكرم نبي أرسل، السيد الإمام، لبنة التمام، خير البرية على الإطلاق، بعثه ليتمم مكارم الأخلاق، أنزل الكتاب إليه مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه - هو الشفاء و الرحمة، وفيه العلم كله والحكمة، معجز في وصفه عزيز في رصفه، - لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه -.. إلخ.

والحق أن دراسة آثار أبي حفص ممتعة وشيقة، وبالأخص أشعاره الغزلية الرقيقة، التي تدغدغ النفس، وتغازل العاطفة، وتحرك في القلب الحنين إلى متع الحياة، وأيام الشباب، فما أحرانا - لو سمح المقام - بأن نقف أمامها لحظات نستلهمها صدق الأداء الفني، وحرارة الشوق و الهيام.

وله الأبيات الآتية:
أحبابنا الالــى سلفوا = بانوا، وما منهم شوق لنا خلف
كرهت سكن البلاد بعدهم أسفا = وقد يكسر - بعد الجوهر - الصدف

ومن أظرف ما يحكون عن بداهته الشعرية ما حكاه القاضي أبو الخطاب بن خليل عن أبي عمر خيران المعروف بـ (قطرب) من أن القاضي أبا يوسف حجاج خرج ذات يوم من مراكش إلى أغمات، ومعه أبو حفص بن عمر شاعرنا في حال شبابه ووسامته، فاستقبلتهم الشمس آخر النهار بلفحها المؤثر في الوجوه، فقال له أبو يوسف: اجز يا عمر:

فقال أبو حفص:
وسمتك الشمس يا عمر= سمة يبقى لها أثر
عرفت قدر الذي صنعت = فانتث صفراء تعتذر

وأبو حفص - فيما يحكون عنه - شديد الإعتزاز بنفسه، ولكن حلمه ينهاه عن ظلم الآخرين مادام هو يرفض أن يظلم، و في هذا المعنى يقول - ردا على الشاعر أبي العباس الكورائي و قد حاول النيل منه -:

نهاني حلمي، فلا أظلم = وعز مكاني فلا أظلم
ولا بد من حاسد، قلبه= بنور مآثرنا مظلم
رحمت حسودي، على أنه = يقاسي العذاب، و ما يرحم
بغانا الحسود ولسنا كما = يقول،ولكن لما يعلم

يقول ــ وقد أهديت إليه وصيفة أم ولده ــ:
يا مهدي الرشاء الذي الحاظه = تركت فؤادي نصب تلك الأسهم
ريحانه، كل المنى في شمها = لولا المهيمن، و اجتناب المحرم
ما عن قلى صرف الفؤاد وإنما = صيد الغزالة لم يبح للمــــحرم
إن الغزالة قد علمنا قبلهــــا = سر المهاة وليتنا لم نعلـــــم
يا ويح(عنترة) الذي شفه ما شفني = فشدا، و لم يتكلــــــــم
يا شاة، ما قنص لمن حلت له = حرمت علي وليتها لم تحرم

ومن كلماته الغزلية الفريدة قوله:
و من لم يبت - والبين يصدح قلبه - = لم يدر كيف تفتت الأكباد



دعوة الحق العدد 238




الادب المغربي.jpg
 
أعلى