مقامات نبيل منصر - الرواية العربية انطلقت من المقامات وليس من «ألف ليلة..»

يواصل عبدالفتاح كيليطو في كتابه «الأدب والارتياب» (دار توبقال 2007)، حفره المرهف في جسد الثقافة العربية الكلاسيكية يتسلل منه إلى مناطق الغواية والالتباس، التي تجعل تراثنا السردي والشعري والفلسفي والصوفي يكشف عن جمال خفي، نتأكد، مع كل اصدار جديد للكاتب، أنه كان بانتظار اليد السحرية لهذا المحلل للإفشاء الهادئ والسخي بكثير من أسراره. وعبدالفتاح كيليطو، في كل مرة ، يخفي مراجعه، إلا أن نصوص الثقافة العربية الكلاسيكية تسلس له الانقياد، فتجد نفسها وقد ادمجت ضمن شبكة من التأويلات النسقية المؤسسة لدلالات مدهشة تغري بمزيد من الاستقصاء، وحده عبدالفتاح كيليطو يملك مفاتيحه.

يتكوّن كتاب» الأدب والارتياب» من عشر دراسات تستقل بموضوع لايمت، أحياناً، بصلة الى موضوعة الارتياب إلا بطريقة مواربة، بحيث يدفع المحلل خيوطاً متباعدة نحو الالتقاء في مركز نسيج نصي وثقافي، يسعى بدأب نحو بلورة شعرية الارتياب. لا ينظر كيليطو الى هذه الشعرية، وإنما يعمل، منذ البداية، على لملمة بعض خيوطها، فيستعيد في مفتتح دراسته الأولى «نموذجاً» محكياً شعرياً ونقدياً سبق له أن استثمر بعض عناصره في أعمال سابقة («الأدب والغرابة» مثلاً). محكي يحمل، في الواقع، على مستوى العرض والتحليل، كثيراً من الأثر الشخصي لعبد الفتاح كيليطو. لذلك فهو يأخذ، في كل مرة، مظهراً جديداً يسعف الكاتب في بلورة ما يريد من أطروحات. ومن الشعر إلى السرد ينتقل المحلل مقتفياً أثر تحولات مفهوم المؤلف وما يتصل به من استعارات نقدية تكشف عن انتقال الشعرية العربية من حقل الإلهام (القوى الخارقة) إلى حقل الصناعة (الصياغة والحياكة). وبتمفصل مع ذلك يتوقف المحلل عند كيانات مفهومية أخرى كالراوية والشارح والسارد، لينخرط في تأملات تتصل بالانتحال ووضعية القارئ والإسناد السردي، فيخلص، من ذلك، إلى انقسام كل كتاب، من المؤلفات الكلاسيكية، على نفسه، إلى كتابين: كتاب صريح موجه الى السخفاء الذين يكتفون بالظاهر، وآخر ضمني موجه الى الحكماء الذين يتوغلون إلى الباطن. ومن قلب هذه الثنائية تنبثق بذرة من الارتياب تهمّ علاقة المؤلفين بالقراء في مختلف مجالات التأليف. وعلى رغم المظهر الجدلي لهذا الارتياب، فإن المؤلفين هم الأكثر تأثراً به. فالكاتب « يعرف أنه محل ريبة لمجرد أنه يكتب»(ص10)، لذلك يسعى نحو الحد من أثر ذلك بانتهاج أحد سلوكين إما الضن بالمعرفة على القراء( موقف الصوفية مثلاً) أو التودد إليهم والسعي الى استمالتهم(موقف الجاحظ مثلاً).

يعود كيليطو ببذرة الارتياب، في سياق تحليله مؤلفات كلاسيكية، إلى تربتها الدينية، كان من السهل عليها الانتقال إلى المجال الدنيوي لتمس علاقة القراء بمؤلفات البشر. إن مؤلفاً مثل الحريري اضطر، بعد مجيئه إلى بغداد، ليجعل مقاماته الأربعين محل تأكيد، من خلال تأليفه شعر مقامات أخرى، أثبت بها للناس جدارته كمؤلف، وبذلك تم الاعتراف بقيمته» وكثرت الإشادة بمقاماته إلى حد الإفراط» (ص15).
للارتياب أوجه عدة، لذلك فبذرته لا تلبث أن تنقسم على ذاتها لتستشري في كل تربة الأدب الكلاسيكي. ومن الطريف أن عبدالفتاح كيليطو ينبهنا إلى أن مصنفاً لغوياً مثل «لسان العرب» هو وليد برهة ارتياب وإحساس بالقلق على مصير اللغة العربية في عصر المماليك. والمثير أن مبادرة ابن منظور الى تأمين سلامة « اللغة النبوية» لم يجن منها، على المستوى الشخصي، إلا الارتياب والسخرية. لذلك يصر: «جمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير العربية يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه يسخرون» (ص17). نجت العربية «باعتصامها في الفلك»، أي القاموس الذي صنعه لها ابن منظور، من دون أن يتمكن مشروعه الجليل من تمزيق ستار الارتياب واللا تقدير، الذي يقابل به المعاصرون أعمال مؤلفيهم.

في دراسة» صورة البخيل بطلاً»، يعود عبدالفتاح كيليطو الى مؤلف أثير لديه هو «كتاب البخلاء» للجاحظ، فيتجه نحو بلورة بنية تكافؤ الأضداد التي تسم محكي البخلاء، والتي تجعل الجاحظ يتقدم نحو قارئه بمظهر من يدافع عن الشيء ونقيضه. فالبخل، كما يعرضه الكتاب، هو محط نقد وتقريض في آن واحد، كما أن البخيل يتقدم كشخص مرذول إلا أن بلاغة خطابه وسلوكه الزاهد المتقشف يرفعانه إلى مقام الحكماء الصالحين. وفي سياق ذلك يكشف البطل الجاحظي عن قدرة نقدية، تمكنه من إعادة ترتيب أو تقييم النصوص والخطابات، في صيغة تزرع في داخلها بذور ارتياب تنتهي بتقويضها. ثم يرتاب بخيل الجاحظ في محكيات الجود، كما يحتقر الشعر الذي يمجد « الإنفاق المفرط»، مستبدلاً، في سياق ذلك، بيداء الشعر بالفضاء المديني الذي ألغى امتياز العشيرة والنسب وربط قيمة الفرد أكثر بجدارته الشخصية.

تتغذى شعرية الارتياب، في دراسة «الرقيب»، بأبعاد أخرى منبثقة من تناول مختلف ل «طوق الحمامة» لابن حزم. فعبدالفتاح كيليطو يصل فيها، في شكل مدهش، بين بنية التلقي وبنية النص، لينسج من اعترافات محقق «الطوق» حديثاً (الطاهر أحمد مكي) وناسخه قديماً بعضاً من خيوط الارتياب التي وسمت تاريخ تلقي مصنف في الحب في الثقافة العربية. فحذف الناسخ أكثر أشعار ابن حزم المضيئة للأخبار والقصص الواردة في الكتاب، مضافاً إلى ما اعتمل في محققه نفسه من رغبة في الحذف، يوسع من مساحة الارتياب في حجم « التصرف» الذي لحق كتاب «الطوق»، حتى أصبح من المؤكد أن ما» نقرأه اليوم ليس هو الكتاب الذي ألف في الأصل» (ص29). وليس التصرف فقط بنية ملحقة بالنص من خارجه، بل يمكن أن نفترض، مع كيليطو، بأنها بنية مدمجة في ثناياه، بالنظر إلى سكوت ابن حزم عن كثير من» أسرار الحب» التي تعرف عليها في» الفضاء المغلق للحريم» (ص31). إن الارتياب المتصل بالكتابة يصبح مضاعفاً عندما ترتبط الكتابة بالحب، بخاصة أن ابن حزم يفتح حيزاً لمحكيه الذاتي.

يعكف كيليطو في دراسة «المتطفل حي بن يقظان» على وصل شعرية الارتياب بالفلسفة. ومنطلق هذه الشعرية» سرد ممزوج بقضايا فكرية» (ص65)، صاغه ابن طفيل في روايته الفلسفية «حي بن يقظان» . نواة الارتياب الأولى في هذه الرواية، ترتبط بأصل حي بن يقظان الذي لم يحسم فيه المؤلف، فضاعت حقيقته بين رواية تعتبره تولد من طينة متخمرة في جزيرة من جزائر الهند، وأخرى تعتبره ثمرة زواج سري بين أخت ملك جزيرة عظيمة وقريب لها يدعى يقظان، حيت بادرت الأخت، بعد الولادة، إلى وضع مولودها في تابوت قذفت به في اليم، فحملته قوة جريان الماء إلى ساحل جزيرة هندية.

يخص كيليطو «ألف ليلة وليلة» أيضاً بوقفة تأملية، تكشف عن لطافة التأويل وقدرته على تغذية شعرية الارتياب بغير المتوقع من الخيوط. ولعل ما ينطوي عليه مبدأ التخييل ذاته من اختلاق وتوهيم هو أصل هذا الارتياب في الأدب، الذي لن تكون عاقبته، في محكي «الليالي»، بأقل من الإخصاء. هكذا يتأول كيليطو، في دراسة» في كل سنة كذبة» حكاية العبد كافور، رابطاً اخصاءه بما اقترفه من كذب روائي على أسياده: «إن رواية حكاية أو الاستماع إليها أمر لا يكون دائماً محمود العواقب» (ص46). هذه الخلاصة جعلت كتاب الليالي ينقلب، في لحظة، على المبدأ المؤسس لانبثاقه التخييلي، والذي سبق لعبد الكبير الخطيبي أن لخصه في عبرة «احك حكاية وإلا قتلتك».

في دراسة «الليالي كتاب ممل؟» يستحضر كيليطو تاريخ قراءته الشخصية لهذا الكتاب متمفصلاً مع ما حصل حديثاً، في الثقافة العربية، من تحول في أطر تلقيه، بتأثير من الاحتفاء الأوروبي وازدهار التحليل البنيوي للسرد. يستحضر كيليطو هذا السياق ليعيد، في ضوئه، بناء علاقته الشخصية بهذا الكتاب مشككاً، من زاوية لا تخلو من ارتياب، في دوافع وحقيقة قراءته حكايات شهرزاد، وأيضاً في جدوى انتمائها الى الأدب العربي» الحاصل أنني عندما اهتممت بها انخرطت في تقليد أوروبي بدأ مع أنطوان غالان، بعبارة أخرى، وضعت نفسي خارج الأدب العربي. وبالمناسبة، هل الليالي في عداد هذا الأدب؟ يبدو لي أنه يستطيع أن يستغني عنها، بل استغنى عنها بالفعل. سيكون تماماً هو هو إن لم يكن لها وجود، بينما سيكون منظره مختلفاً حتماً من دون المعلقات أو المقامات» (ص50). خلف هذا الموقف تكمن ازدواجية أثيرة لدى كيليطو المزدوج اللسان، المولع باقتناص اختلاف التأويلات (وربما صراعها) واكتشاف ما تنطوي عليه المؤلفات الكلاسيكية من تكافؤ للأضداد. إن النهاية السعيدة التي انتهى إليها كتاب الليالي لا ينبغي، برأي كيليطو، أن تخفي عنا حقيقة كون حكايات شهرزاد «لم تكن وراء أي مشروع تجديد أدبي»، بينما ساهمت المقامات، التي لم تعد تقرأ، في ظهور الرواية العربية (ص53). غير أن هذا المأزق لا يقلل، مع ذلك، من سحر «الليالي» وفتنتها التي أغوت المتخيل الغربي، وجعلت من حكايات شهرزاد، بدل الشعر، «أعظم مزية للعرب» (ص54).

يعتبر كيليطو، في تعليقه على بيت مشهور لأبي تمام ،أن التغرب أساس التجدد، والقراءة المختلفة التي يقترحها في كتابه الجديد، تجسد، في الواقع، هذا النوع من التغرب الذي يجدد الرؤية إلى الشعرية العربية بمختلف تقاطعاتها الثقافية. ومرة أخرى، تراث بكامله من الأدب العالمي والشعبي، يجد نفسه منقاداً، بسلاسة، للخروج عن مألوفه والمساهمة، من ثمة، من زوايا متعددة، في بلورة شعرية الارتياب. ويحضر تاريخ القراءة الشخصية، في ثنايا تحليل، يجمع بين بنية النص وبنية التلقي، في بلورة خيوط الارتياب، التي تجعل» الحقيقة» الأدبية حقيقة مواربة، تضيع بين طرق وعرة من الالتباس والكتمان والحذر وسوء الفهم واللايقين وفقدان الجدارة. ولعل هذه الصفات المقلقة المنفرة هي ما يجعل الأدب، في العمق، جديراً باسمه.

المصدر: الحياة

المقامات.jpg
 
أعلى