محيي الدين اللاذقاني - أوهام الحب والحرية في معاتبات وغزليات الشاعر المشاكس

ابن الجوزي يقدم الحكاية الأكثر إقناعا عن نهاية عبد بني الحسحاس في كتاب «رفع شأن الحبشان»


بدأت المأساة من ذراع أبيض بضّ ومذراة، ويا ليت صاحبتها احتقرت الشاعر وحده لهان الأمر، لكنها أبت إلا أن تنال من شعره أيضاً، كي لا تترك له قائمة معنوية ينهض عليها، فذهب الجرح عميقاً إلى أساس الروح ولم يترك للشاعر غير التفكير بالانتقام، ويا لبئس حب تذروه أول نسمة مشاكسة غيورة:

أشارت بمدراها وقالت لتربها = أعبد بني الحسحاس يزجي القوافيا
رأت قتباً رثاً وسحق عباءة = واسود مما يملك الناس عاريا

وما كان رأي سحيم عبد بني الحسحاس بنفسه أفضل من رأي صاحب المذراة، وكيف يكون وهو لا يحسن الكرّ ولا الحلب والصر، وليس في جعبته إلا تلك الموهبة وذلك اللسان اللاذع الذي يلسع صاحبه قبل الآخرين:

أتيت نساء الحارثيين غدوة = بوجه يراه الله غير جميل
فشبهنني كلباً ولست بفوقه = ولا دونه إذ كان غير قليل

ويزعم الرواة ان عبد بني الحسحاس كان يحمل شارة موته منذ خلق، وان الخليفة الراشدي الثاني تنبأ له بالقتل بعد سماع احدى غزلياته، وقصة تلك النبوءة محفوظة في أكثر من كتاب من تلك التي يسمونها «الأمهات» ويجمع الرواة والكتبة ومنهم النويري صاحب «نهاية الأرب»، على أن عمر بن الخطاب سمع سحيما ينشد يائيّته العذبة:

فياليتني من غير بلوى تصيبني = أكون لأجمال ابن أيمن راعيا
وفي الشرط أني لا أباع وأنهم = يقولون غبق باعسيف العذاريا
فأسند كسلى بزها النوم ثوبها = إلى الصدر والمملوك يلقى الملاقيا

فلما وصل إلى قوله:

فلما أبت لا تستقل ضممتها = ترى الحسن منها والملاحة باديا
توسدني كفاً وتثني بمعصم = علي وتحوي رجلها من ورائيا

قال الخليفة عمر للشاعر إنك لمقتول، وتحققت نبوءة الفاروق، فطار رأس الشاعر الذي ولغ بأعراض صبايا القبيلة، وتلك قصة سيأتي أوانها، فما هذه القصيدة وحدها التي قتلته، انما قادته الى حتفه مشاكسته ويبدو انه رسم ذلك الطريق واختاره بعناية، فماذا يملك العبد صاحب الروح الحرة حين يحرمونه من الحرية، ومن الحب، ومن الشعر، غير أن يشاكس، ويلعب بأعصاب سادة القبيلة ليقض مضاجعهم بأسلوب فيه من الخبث والمكر الكثير.

* خلافات ومتناقضات

* ويقال في وصف معابثات ذلك الشاعر اللعين انها من النوع الذي لا يعلى عليه، فقد انتظر ذات يوم إلى أن انعقد مجلس القوم، وطلع قمرهم، وبدأ سمرهم، وذهب إليهم، فوقف في وسطهم وانشد البائية التي منها ذلك البيت الرهيب المنظوم خصيصاً ليقض مضاجع السادة:

ولقد تحدر من كريمة بعضهم = عرق على جنب الفراش وطيب

ولم تنم القبيلة تلك الليلة، فقد انفضت حفلة السمر، وبدأت داخل كل مضرب وكل صدر حفلات الشك التي لا تنتهي، وذهب كل رجل إلى خيمته يحدق مرة في وجه زوجته، وثانية في وجه بناته ويشم طيبهن ولسانه يضرع بالدعاء بألا يكون الطيب المذكور في بيت سحيم قد تحدر من احدى كريماته الفاضلات.

ولا يختلف موقف الذين أرخوا لهذا الشاعر عن موقف الذين ظلموه داخل قبيلته وخارجها، فهؤلاء يزعمون أن سحيماً كان لئيماً، وأن لؤمه كان يطغى على أفعاله الحميدة، فابن سلام في الطبقات، والبغدادي في خزانة الأدب يرويان حكاية له مع بعض اليهود تشهد له بالشجاعة واللؤم معا، ويقول البغدادي «إن يهودياً أسر امرأة من بني الحسحاس واستخلصها لنفسه وجعلها في حصن، فبلغ ذلك سحيماً واخذته الغيرة، وما زال يحتال حتى تسور على اليهودي حصنه فقتله وخلص المرأة، وأوصلها إلى قومها سليمة ثم مضت الأيام ولقيته ذات يوم فقالت يا سحيم والله لوددت اني قدرت على مكافأتك على تخليصي من اليهود، فقال لها وهو يغمز بعينيه: والله انك لقادرة على ذلك، فاستحيت وذهبت ثم لقيته مرة أخرى، فعرض لها بذلك، فأطاعته وهويها، وطفق يتغزل بها حتى فطنوا له، فقتلوه خشية العار، وخلصوه من أوهام الحب والحرية.

والحقيقة أننا لا نعرف المرأة التي قتلوه بسببها، فهن كثر، لكننا نعرف أن سمعته لم تكن فوق الشبهات عند الجميع، فغير الخليفة الراشدي الثاني الذي تنبأ له بالقتل يُقال إن سحيماً عُرض على الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان ليشتريه وبعد ان رغبه أصحاب سحيم به تفرس في وجهه ويبدو أنه كان قد سمع عنه فقال لأصحابه: لا حاجة لنا به ان شبع شبب بنساء أهله، وان جاع هجاهم.

والخلاف على طريقة القتل بحجم الخلاف على أسماء الحبيبات، وهذه الخلافات تصل الى حد التناقض، فقد قيل ان التي دفع حياته ثمناً لحبها والتغزل بها اسمها غالية، وقيل مية، وقيل سلمى، وفي موته قيل إنه مات مذبوحا، وقيل انه مات محروقا، وقيل مخنوقا، وأقرب الروايات الى التصديق تلك التي يرويها ابن الجوزي في كتاب «رفع شأن الحبشان» حيث يقول: ان بني الحسحاس لما أرادوا قتل عبدهم أوثقوه كتافاً، وقربوه من نار وجعلوا يجمعون عيدان العرفج الرطبة ويضربون استه بها ويرتجزون عليه، فلما مرت به التي اتهموه بها وهو مقيد اشار لها بيده، فاكثروا من ضربه فنام وهم الحب والحرية، واستيقظت غريزة المشاكسة، فأنشد الشاعر:

ان تقتلوني فقد اثخنت أعينكم = وقد أتيت حراماً ما تظنونا
وقد ضممت إلى الأحشاء جارية = عذب مقبلها مما تصونونا

* نساء وطبقات

* والأرجح أن إهمالها له كان أشد من وقع السياط ومن لسعات عيدان العرفج وإلا ما معنى هذا البيت، الذي يقال إنه انشده قبل ان يموت بدقائق..؟

شدوا وثاق العبد لا يفلتنكم = ان الحياة من الممات قريب

وفي خلفية مأساة سحيم غير الحرية التي كان يراها تيجاناً على رؤوس الآخرين ذلك التوق إلى الامتلاك الذي تكنه الطبقات الدنيا لنساء الطبقات العليا، فقد كان مجرد خادم بين عشرات وكن بيضاوات وشهيات، وسيدات لهن الكسل والعسل وحليب النياق والحرير وجر الذيول، والفتنة الخفية التي يطلع عليها العبيد أكثر من السادة، ولعله رأى حريته على شكل امرأة بيضاء سامقة، وكان قطار العمر يمضي وليس فيه غير الأسى والرغبات الرعناء وكمشة مشاكسة يتستر خلفها شاعر شفاف كان كل شيء حوله ضده حتى شعره.

ويزعم أبو الفرج ان سحيماً بقي مشاكساً حتى آخر يوم في حياته، فحين أوثقه القوم، واجتمعوا لمشاهدة حفل تعذيبه انتقاماً للشرف الرفيع تحت ضوء القمر قال لهم: دعوني إلى الغد حتى اعذرها ـ ابرئها ـ عند أهل الماء، فقالوا: هذا صواب وتركوه ليلة اضافية على قيد الحياة، فلما جاء الغد اجتمعوا لسماع البراءة، فوقف الشاعر المشاكس ودمه يغطيه من رأسه إلى أخمصه وقال: يا أهل الماء ما فيكم امرأة إلا أصبتها إلا فلانة فإني على موعد معها اليوم.

ولا شك أن سحيماً كان يحصل على قوة معنوية هائلة من هذه المشاكسات المبرمجة وينتقم بواسطتها لنفسه، وعبودية من حوله في مجتمعات قائمة على الاسترقاق والنفاق، وطعن الرجل البدائي في أثمن ما يملك، فنساء السادة ينظرن إلى عبيدهن وخدمهن نظرة تضعهم في مرتبة أقل من الرجولة وتجعل من معابثتهم مسألة لا خطر منها، ومن هناك تبدأ الجراح الخفية، خصوصاً حين يكثر العبث ويعرف الخادم والعبد ان «تشييئه» والسخرية منه، وتجريده من إنسانيته لعبة يدمنها السادة ونساؤهم دون ان يدركوا انها تعود بالضرر على الجميع، وتربي عند الضعيف روح الفتك والانتقام.

وفي حالة سحيم الذي يجازي العبث بعبث أشد في القصائد، كانت كل قصيدة تتحول إلى فضيحة تسعى فقد نزل ذات يوم في حي بني صبير بن يربوع فعابثته النساء وعابثهن وظنن ان الموقف انتهى، لكن الكاميرا الداخلية للشاعر المحروم سجلت المعابثة وأذاعتها، فكان وقع القصيدة السينية للشاعر الفاتك على القوم كوقع الكارثة:

كأن الصبيريات يوم لقيننا = ظباء حنت أعناقها في المكانس
فكم شققنا من رداء مورد = ومن برقع عن طفلة غير عانس
إذا شق برد شق بالبرد برقع = دواليك حتى كلنا غير لابس

في لعبة السادة والعبيد ليس هناك منطق، ولا مقدمات مقبولة، أو نهايات سعيدة، فالطيبات دوماً «للفاتك اللهج» وليس لمن يراقب عن بعد وحين تتدخل النساء تتوقع ان ينحزن للشعر والحرية لكن الأمر لم يكن كذلك في مأساة سحيم منذ صاحبة المذراة، وحتى تلك التي أهملته في يومه الأخير ولم تنظر إليه تاركة وجهه للتشفي وقفاه لعيدان العرفج الأقل قسوة على روح الشاعر من عينيها.

ولم يكن الخليفة الراشدي الثاني يرجم بالغيب حين قال للشاعر: انك لمقتول، إنما كان يعرف وبحكم موقعه من الارستقراطية العربية المتعجرفة ان رأس العبد هو الترضية الوحيدة المقبولة حين يصل لسانه إلى أطراف الشرف الرفيع.

سحيم شعرياً واحدة من أعذب النسمات التي مرت على جزيرة العرب، لكن مأساته الشخصية تمتص عذوبة شعره إلى درجة تتمنى معها لو أنك تستطيع أن تقرأ قصائده دون أن تعرف تفاصيل حياته، لكن فات الأوان، فهذا شاعر لا تستطيع مهما فعلت ان تخلص قوافيه العابثة من ألمه المصفى.



24312649_368.jpg
 
أعلى