قصة قصيرة جيوكوندا بيللي - بلد النساء.. ت: صالح علماني

كان مساء رياح وبرودة من شهر يناير/ كانون الثاني. عصف ريح الشمال القوية يشوش المشهد باختلاطاته. وفي المدينة، كانت زوابع أوراق الأشجار المتساقطة تشكل حوامات تطفو من رصيف إلي آخر وتلامس حواف الطريق بجلبة جرجرة سُلَّم صول مينور. ماء البحيرة قبالة قصر فاغواس الرئاسي كان مائجاً وقاتماً كلون القهوة بالحليب. تنبعث منه رائحةٌ صفراء، رائحةُ أزهارٍ برية فاسدة ، رائحة أجساد متعرقة متزاحمة.
وفوق المنصة، أنهت الرئيسة بيبيانا سانسون إلقاء كلمتها ورفعت ذراعيها عالياً بحركة انتصارية. كان يكفيها أن تهز ذراعها حتي ينفجر الميدان كله بتصفيق متجدد. إنها السنة الثانية لولايتها، والسنة الأولي التي يُحتفل فيها، بكل أبهة، بـ »يوم المساواة بكامل معانيها»‬ وهو اليوم الذي أمر حزب اليسار الايروتيكي (ح.ي.إ) بإدراجه ضمن تقويم أهم أيام البلاد. كان التأثر يعّكر عيني الرئيسة. فكل أولئك الناس الذين ينظرون إليها بحماسة عظيمة، هم السبب في وجودها هناك وشعورِها بأنها مبعث سعادة في العالم. الطاقة التي يبثونها فيها قوية إلي حدٍّ رغبتْ معه في مواصلة الحديث عن الأحلام الجنونية التي تحدّت بها توقعات الكثيرين بأنه لا يمكن لها الوصول إلي الحُكم أبداً، وأنه لا يمكن لها أن تري، مثلما تفعل الآن، نتيجة الجرأة والجهد العظيم الذي ثابرت عليه مع رفيقاتها في حزب اليسار الإيروتيكي.
نظرتْ في ما حولها. هنالك فتيات فوق سطوح الأبنية المحيطة، وفتيات يتسلقن أشجار الحديقة المجاورة، وحتي فوق سطح مستديرة وسط الميدان، ورجال يجلسون علي أدراج القصر الرئاسي. بينما تنتشر، حول المنصة، شرطيات الحزام الأمني، يتلفتن بحذر تحت ضغط الحشود. يا للمسكينات، فكرتْ بينما هي لا تزال تهرول من جانب إلي آخر، تهز ذراعيها عالياً، تجول علي المنصة الدائرية. لم تكن تريد شرطة، لكنَّ إيفا تصرّ علي حمايتها؛ ويُقلقها إلقاؤها الكلمات وسط الميادين.
كان العرق يسيل علي ظهرها بعد تلك الساعتين من التنقل من مكان إلي آخر. لم تُلق خطاباتها قطّ من وراء حواجز. وبأسلوبها الشبيه بأسلوب مغنيات الروك في الحفلات الموسيقية ــ بالأسود السابغ وبجزمة عالية ــ كسرت تقليد السياسيين الذكور القدماء الذين كانوا يحتمون، علي الدوام، وراء مناضد وحواجز أمامية. أما هي، فلا. إنها تريد أن يلمس الناس وجودها بالقرب منهم، وأنه يمكن لهم الوصول إليها.
منذ توليها المنصب كرئيسة لفاغواس، بل قبل ذلك، منذ حملتها الانتخابية، كانت تتكلم علي الدوام وهي وسط الحشود، ممسكة الميكرفون بيدها. وقد صرحتْ بأن الدائرة هي احتضان، وأن الكلمة السحرية لإدارتها هي »‬اتصال»؛ الجميع علي اتصال: تلامس متبادل، إحساس متبادل. الدائرة هي المساواة، هي المشاركة، هي البطن الأمومي... الأنثوي. الرمز يؤكد إيمانها بقيمة الإدراك والإحساس بالقلب وليس بالعقل وحده. وكانت هذه هي صرختها التي طبعت بها سياسة البلاد، وأتاحت لها أن تُحاط بدفء الآخرين، هذا الدفء الذي يجعلها تتعرق تحت الشمس البديعة في ذلك النهار الآخذ بالانطفاء.
واصلت بيبيانا جولتها عبر المنصة الدائرية. لقد كانت تتمتع، وهي في الأربعين من عمرها، ببنية جسديه تُحسد عليها: جسد سَبَّاحة أسمر فاتح اللون ومتين البنيان، وشعر أفريقي أسود مجعد يصل حتي كتفيها ــ إرث الأب الخلاسي الذي لم تعرفه قطّ ــ ووجه أمها النحيل ذو التقاطيع الناعمة، ولكن بعينين واسعتين سوداوين، وفم بشفتين ممتلئتين حسيتين. في ذلك اليوم، كانت بيبيانا ترتدي بلوزة سوداء بفتحة عنق عميقة يبرز من خلالها الثديان الوافران اللذان لم تعترف بفائدتهما إلا عندما دخلت ميدان السياسة. ففي مراهقتها أزعجها حجمهما إلي حدّ أنها راحت تمارس رياضة السباحة حين انتبهت إلي أن جميع السبَّاحات ملساوات الصدور، مثل منضدة الكواء. ولكنها، علي الرغم من أنها لمعت في مآثرها المائية، وتوصلت إلي أن تكون بطلة وطنية في السباحة، إلا أنها لم تكد تُحدثُ تأثيراً يذكر علي الحدّ من النمو المندفع لثدييها الشهيرين. ولم يبق أمامها في نهاية المطاف سوي احتضان أبعادهما السخية وتقبلهما. وانتهت إلي التفكير بأنه عليها الاحتفاء بهما وتحويلهما إلي مرادف لالتزامها بأن تقدم لشعب تلك البلاد أنهار الحليب والعسل التي ضنَّ بها عليهم سوء إدارة الرجال. في بعض الأحيان كانت تلوم استعراضيتها تلك، ولكنها استعراضية مجدية ولها مفعولها. وهي لن تكون أول ولا آخر امرأة تكتشف مفعول التنويم المغناطيسي الذي يمارسه جسد مترف بالشهوانية.
بعد أن أكملت، راكضة، ثلاث جولات دوران أخري علي محيط المنصة الدائرية، متوقفة بين حين وآخر لترفع ذراعيها في إشارة نصر، قررت بيبيانا أن ذلك كافٍ. الاحساس بالانتصار يبعث علي النشوة، لكنها كانت متعبة ولا تريد المبالغة. فكَّرتْ: كفي عبادة للذات. فمن الخطير، برأيها، زيادة تغذية عبادة الناس لها. منذ البدء أصرت مارتينا وإيفا وربيكا وإيفيخنيا علي وجوب أن تركب موجة التأثير المغناطيسي الذي تمارسه علي الحشود. وهي تتولي القيام بذلك الطقس مرة بعد أخري؛ تحمل الجماهير إلي فورة الحماسة، ولكنها تشعر بعد ذلك بدافع أمومي يدفعها إلي تهدئتهم، وتضطر إلي كبح رغبتها في أن تغني لهم أغنيات مهد أو أن تروي لهم حكايات، مثلما تفعل مع ابنتها بعد جولة صخب جيدة بتراكضهما عبر البيت والصراخ والدغدغة والتقلب. فعندما كانت سيليستي صغيرة، كانت قادرة علي تهدئتها دوماً إلي أن تخلفها نعسة، وجاهزة لتنظيف أسنانها وارتداء البيجاما. لا يمكنها استخدام الأسلوب نفسه مع الحشود، ولكنها تحاول أساليب أخري: تُبدِّل الإيقاع، تسترخي، تدخل في مشي هادئ، تهز ذراعيها بنعومة، المشي ببطء، ثم بمزيد من البطء، حول الدائرة. وجهت إشارات إلي رفيقاتها في حزب اليسار الإيروتيكي، ممن بدأن معها فكرة ذلك الحزب، كي يصعدن إلي المنصة ويمشين جميعهن معاً ممسكات بأيدي بعضهن بعضاً كفرقة مسرحية عند انتهاء العرض. يروقها أن يشعرن أنهن محبوبات، وأن يستمتعن بانتصار ينتمي إليهن بالتساوي. إيفا سلفاتييرا، مارتينا ميلينديث، ريبيكا دي لوس ريوس، وإيفيخنيا بورتا كن نساء جذابات أيضاً ونابضات بالحيوية. فإيفا حمراء الشعر، ضئيلة، مع نمش علي خديها، ولها صوت أغنّ، فيه شيء من المراهقة الخفيفة، خلافاً لفعاليته القاتلة. أما مارتينا فشقراء كستنائية، أقرب إلي الامتلاء منها إلي النحافة، شعرها أملس. وقد ولدت مزودة بموهبة حس السخرية الخالي من الاحترام. عيناها الصغيرتان والقاتمتان تضعان كل شيء تقريباً موضع الشك منذ البدء. أما ريبيكا دي لوس ريوس، فطويلة القامة، سمراء، رشيقة مثل قصبة، كما قالت دونيا كورين تييادو، إنها جمال قاتم وغامض، ولها القوام الأكثر أناقة ورهافة بينهن جميعاً. وإيفيخنيا، إيفي، نحيلة، بوجه متطاول وأنف بارز؛ جميعهن يحببنها لأنها تشبه فيرجينيا وولف.
تعالي إيقاع التصفيق للحظات، لكنه مالبث أن راح يخفت مع بدء بيبيانا التكلم ببطء: جميعنا سنذهب الآن إلي البيوت، قالتها عبر الميكروفون بعذوبة، كمن تهمس الكلمات، باسمة، ومكررة: شكراً، شكراً، كدعاء، كتعويذة تتيح لها هي نفسها تقبُّل الذهول البهيج بأن كثيرين قد منحوا ثقتهم لها ولحكومتها.
عند هذه النقطة، تبدأ حماسة الجمهور بالانخفاض عادة، فهي تخرج من الصدور والحناجر والأفواه كروحٍ منهوكة، لتتحلل وتذوب في هواء نهاية الاحتفال. وكانت الرئيسة قد اعتادت علي مراقبة العملية بافتتان: النشاط المتراكم وهو يتضاءل ويختفي في الأجساد مثل دفق ماء مسكوب يضيع في الزوايا، بينما الحشود المتراصة تنفرج مثل يدٍ ممدودة مودعة.
ولكن ذلك اليوم مازال يحتفظ بمفاجأة مع ذلك: ألعاب نارية مهداة من سفيرة الصين. سُمعت الفرقعة الأولي بعيدة. توقفت الحشود عن المغادرة. مظلة أضواء وردية مشتعلة راحت تنزل ببطء من السماء فوق الميدان. تلاها شلال بتلات بيضاء وثُريات خضراء، وندف ثلج زرقاء، ومجسات صفراء مضيئة. ارتفعت الوجوه كلها لتري البريق المبهر بينما راحت الهتافات تتعالي من الحناجر. ابتسمت بيبيانا. إنها تحب الألعاب النارية. كانت إيفا، وزيرة الأمن والدفاع، قد اقترحت عليها النزول، هي والأخريات، عن المنصة والانسحاب لمشاهدة الأضواء من مكان أكثر أمناً، لكن بيبيانا لم تتحرك من مكانها، وقفت مبهورة بالضوء وبتأثير السماء المشتعلة فوق وجوه تلك الحشود التي انتقلت فجأة إلي دهشة الخوارق الطفولية. وفي نسيانها لدورها كبطلة ذلك الاستعراض، ومع عودة انتظام تدفق الأدرينالين في سلوكها العام، تمكنت في لحظة الراحة تلك أن تمعن النظر إلي رجل تغطي رأسه قبعة زرقاء، كقبعات سائقي الشاحنات، يشق طريقه وسط الحشود. رأته يقترب، وعندما رفع ذراعيه من مسافة قريبة كمن يريد أن يخلع بلوزة عبر رأسه؛ أدركتْ حقيقة نواياه بعد فوات الأوان. لم تسمع صوت الطلقة، غير أن سخونة لزجة صفعتها بقوة شديدة في صدرها وفي جبهتها، أفقدتها التوازن. سقطت إلي الوراء دون مناص، هوت بكل طولها. وقد تمكنت مع ذلك من سماع جلبة الصراخ التي تعالت حولها. رأت رجلاً نحيلاً، يضع قبعة أيضاً، له وجه سامريٍّ طيب، ينحني فوقها. ومنكسرة في السائل اللامع الزلق الذي أحست أنها تغطس فيه ببطء، رأت وجوه إيفا ومارتينا وريبيكا كانعكاسات تطل علي بُركة راكدة. وعندما سمعتْ صفارات سيارات الإسعاف النائحة، كانت أفكارها، كما لو أن أحدهم قد فتح لها شركاً لتهوي منسكبة في صمت شامل.

Gioconda Belli جيوكوندا بيللي
 
أعلى