عباس الجراري - التيار الفقهي المرابطي ومدى تأثيره على الفكر والأدب

يعتبر التعليم الجامعي الدعامة الأساسية لبناء أي مجتمع ناهض يسعى للسير في طريق التطور و التقدم.
وقد كان إنشاء الجامعة المغربية غداة الاستقلال تجاوبا مع هذه الحقيقة و إيمانا من المغفور له محمد الخامس بان بناء هذا الاستقلال لا يمكن ان يتم بدون تكوين اطر عليا قادرة على تحمل المسؤولية في مختلف القطاعات، و بدون خلق ثقافة وطنية تكون استمرارا علميا و تجديديا لثقافتنا الاصيلة.
و اذا كانت جامعة محمد الخامس قد قدمت الكثير من العطاء الغني المثمر على توالي السنوات الاولى لعهد الاستقلال، فانها في ظل الحسن الثاني العظيم قد طفرت بعيدا بفضل عنايته و رعايته ابقاه الله، حيث اصبحت تتسع لمختلف الاختصاصات العلمية و لجميع ابناء الشعب، في تشجيع منقطع النظير.
و قد عاشت الجامعة هذه السنة طفرة جديدة حيث دشنت مباني جديدة اضيفت لكلية الاداب سواء في الرباط او فاس، و تم تعريب مختلف فروع الدراسة بهذه الكلية، كما اعلن عن انشاء كليات و احياء جامعية جديدة تلبية للمتطلبات المطردة التي يقتضيها النمو المتزايد للمجتمع المغربي، و تأكيدا للتجاوب التلقائي الذي يجعل الجامعة في خدمته و باستمرار.
ولقد كان يوم الاربعاء سابع نوفمبر 1973 يوما مشهودا في تاريخ الجامعة حيث دشن الموسم الدراسي الجديد في حفل علمي رائع حضره اساتذة الجامعة و طلابها و جمهور من المثقفين غص بهم مدرج ابن خلدون بكلية اداب الرباط حيث كانت المناسبة فرصة لافتتاحه.
و قد تراس هذا الحفل معالي وزير التربية الوطنية السيد الداي ولد سيدي بابا، و الى جانبه عدد كبير من اعضاء الحكومة و في طليعتهم صاحب المعالي وزيرا الدولة الفقيه السيد الحاج محمد ابا حنيني و الدكتور محمد بنهيمة.
و فيما يلي نص المحاضرة التي القاها في الحفل الدكتور عباس الجراري أستاذ الأدب العربي و الأدب الشعبي بكلية الآداب:

اصحاب المعالي و السعادة
زملائي الاساتذة
ايها الاخوة الطلاب
حضرات السادة
موضوع هذه المحاضرة التي يشرفني ان افتتح بها الموسم الجامعي الجديد هو "التيار الفقهي المرابطي و مدى تأثيره على الفكر و الادب".
و سأناقش فيه قضية لعلها من اهم القضايا التي يثيرها ادبنا – الادب المغربي – و التي لا جدال في انها تعترض الباحثين فيه.
هذه القضية ترتبط في اطارها العام بفكرة شاعت عند الدارسين و غير الدارسين، تذهب الى طغيان الروح الديني و الطابع الفقهي على ادبنا في مختلف انواعه و اشكاله و على مر الحقب و العهود، و ترتبط في اطارها الضيق بعصر لا اخال عصرا من عصور التاريخ و الادب في المغرب تعرض لما تعرض له من نقد متطرف لاذع، كاد لشدته و عنفه ان يشوه ملامح صورة القوة و المجد التي رسمها المغاربة على صفحات التاريخ لهذا العهد، ببطولة نادرة و في كثير من الصدق و الاخلاص.
و يتلخص هذا النقد في حملة اتهام للمرابطين بالاقتصار على الفقه و الجمود عنده و محاربة ما سواه. وقد بدأت هذه الحملة على المرابطين منذ عهد خصومهم الموحدين، و على يد مؤرخ موال لهم هو عبد الواحد المراكشي، ثم اتقلت الى بعض الاندلسيين امثال الشقندي، و استمرت كذلك الى ان تلقفها المستشرقون فيما بعد، لهوى صادفته في نفوسهم، و غلفوها بمظهر الموضوعية العلمية و البحث النزيه، حتى حمل عنهم عبء شنها بعض الدراسين العرب، سواء منهم المشارقة او المغاربة، عن اقتناع حينا و عن تقليد في غالب الاحيان.
و يكفينا للتعرف على الاتجاه الذي سارت فيه هذه الحملة ان نستعرض امثلة من اقوال هؤلاء:
يقول المراكشي في المعجب : "فلم يكن يقرب من امير المسلمين و يحظى عند الا من علم علم الفروع، اعني فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب و عمل بمقتضاها و نبذ ما سواها، و كثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب الله و حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم، فلم يكن احد من مشاهير اهل ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء، ودان اهل ذلك الزمان بتفكير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام، و قرر الفقهاء عند امير المسلمين تقبيح علم الكلام و كراهة السلف له و هجرهم من ظهر عليه شيء منه و انه بدعة في الدين، و ربما ادى اكتره الى اختلال في العقائد" (1).
و عند المستشرق دوزي في تاريخه ان الحياة الفكرية تدهورت في الاندلس المرابطية بسبب سيطرة الفقهاء (2).
اما المستشرق اشباخ فباقسى من هذه اللهجة يتحدث، و يذهب في تاريخه للاندلس الى ان المرابطين "اضطهدوا كل ما عنيت الدول العربية بتشجيعه من قبل، و طاردوا العلوم الفلسفية و الكلامية التي تنكرها التعاليم المرابطية، و حظروا قراءة الكتب التي تحتويها و احرقوها علنا" (3).
و في موضوع اخر من تاريخه يضيف ((ظهر المرابطون من بين سكان الصحراء البدو الساذجية، فكانوا اعداء لكل حضارة عربية، و من ثم كانت حكومتهم كريح الصحراء اللافح حيث يهب على الغياض النضرة، تعمل لتحطيم جميع العلوم و الفنون... و كان اولئك الحكام القساة يمقتون القبائل العربية و ثقافتها، و يعملون على سحق هذه الثقافة بكل ما وسعوا، فكانوا يطاردون العلماء الذين ينحرفون عن معتقداتهم و يحرقون كتبهم)) (4).
و نود منذ البدء ان نقرر ان التيار الفقهي – متمثلا في المذهب المالكي – كان موجودا بالفعل على عهد المرابطين ، و لكنه لم يكن جديدا على المغاربة. فقد اخذوا به و التزموا بارائه فقها و عقيدة منذ العهد الادريسي، و استمروا يعملون به – و لا يزالون -لاسباب ترتبط بعملية فكرية تاريخية طويلة ستحيد بنا عن الموضوع لو حاولنا تناولها. كل ما فعل المرابطون انهم عمموا نشره و اتخذوه دليل عمل لحركتهم الاصلاحية.
و معروف ان الدولة قامت على اساس من الاصلاح الديني، انطلاقا من التفوق الاقتصادي، لحماية هذا التفوق من جهة، و لضرورة تقتضيها هذه الحماية، وهي اقامة تنظيم سياسي، أي اقامة الدولة.
هنا يحق لنا ان نذكر ما قاله يحيى بن ابراهيم الجدالي – احد زعماء المرابطين قبل انشاء الدولة – في التعبير عن الواقع الفكري للمنطقة التي خرج منها هؤلاء المرابطون. فقد قال ((اننا في الصحراء منقطعون، لا يصل الينا الا بعض التجار الجهال، حرفتهم الاشتغال بالبيع و الشراء، و فينا اقوام يحرصون على تعلم القران و طلب العلم، و يرغبون، في الفقه و الدين لو وجدوا الى ذلك سبيلا))(5).
و هذا النقد الذاتي المتمثل في هذا الاعتراف بالجهل كان في الواقع اساس انبعاث صادق، و اساس تطور المعرفة عند المرابطين، تلكم المعرفة التي انطلقوا منها في حركتهم الاصلاحية حتى اتيح لهم انشاء الدولة.
مهما يكن، فقد اسس المرابطون – و لاول مرة – دولة بكامل المعنى، ليس على مستوى القطر المغربي فحسب، بل على مستوى منطقة تمتد في الشمال الافريقي و الصحراء و في شبه الجزيرة الايبيرية. و نقول لاول مرة لان المغرب لم يكن يعرف من قبل غير نظام الامارات الموزعة هنا و هناك على اساس اسري او قبلي.
و قد ساعدت على ظهور هذه الدولة جملة عوامل يمكن تلخيصها فيما يلي:
اولا : التحام عدد من القبائل الكبيرة، و اهمها لمتونة و جدالة و جزولة. وهو التحام لم يلبث ان تحول الى سند شعبي لم يلبث بدوره ان تحول الى سند عسكري لم يلبث في النهاية ان تحول الى قوة.
ثانيا : قوة اقتصاد هذه القبائل و سيطرتها على مناجم المنطقة و طرقها التجارية.
ثالثا : (وهومهم) اعتماد المرابطين في مبادئ حركتهم الاصلاحية على المذهب المالكي، حيث كان المغاربة مستعدين (و هنا تكمن اهمية هذا العامل) لقبول هذه المبادئ لمعرفة سابقة لهم بالمذهب و لموافقة مزاجهم.
و كان – و في هذه المرحلة التاريخية بالذات – المذهب الوحيد القادر على توحيد المغاربة في خط ايديولوجي معين.
و لعلنا ان نسجل هنا ان المستوى الفكري و الحالة العقلية التي كان عليها المغاربة يومئذ لم تكن لبساطتها تسمح بفتح المجال للمذاهب المعقدة، و انما كانت في حاجة الى ان تثبت فيها قواعد الدين و مبادئه الاولية بابسط ما يكون. و ليس يخفى ان المذهب المالكي – باعتماده على النص و النقل و ابتعاده عن المنطق و القياس – كان اكثر من غيره قدرة على تحقيق هذا الهدف. ولو حصل شيء غير ذلك في هذه الفترة الاولى من عهد الاصلاح لعاد المغرب لما كان يعاني من فوضى فكرية، و لاستغل المشعوون و اصحاب الاغراض هذه الفوضى لترويج بضاعات مزيفة و مذاهب باطلة ضالة – و ما امر البورغواطيين ببعيد – من شانها ان تصدع الصفوف و تمزق الوحدة و تبعث على التفرقة و الضلال، لاسيما و ان العالم الاسلامي في هذه الفترة كان يتخبط في خلافات مذهبية و انقسامات حزبية لم يكن يجني منها غير الوان من التفرقة و ضروب من التنافر و التناحر لا حد لها و لا حصر.
من هنا لم يكن الدين عند المرابطين مجرد مذهب، بل حركة تقود نضالهم، و تكيف طبيعة هذا النضال، و تحدد شروطه و غاياته. و من تحليل للواقع التاريخي و تناقضاته سواء في المغرب او الاندلس، في المغرب الذي كان يتخبط في فوضى فكرية و اضطراب سياسي، تم في الاندلس التي كانت ظروفها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية تنذر بالانهيار، من تحليل هذا كله انطلق المرابطون يحققون الاصلاح الديني، و يحققون في نفس الوقت الاسلام المبسط الواضح في صيغة ثورية كانت رهنا بمرحلة نضالية محدودة الاهداف، لا ترمي الى برنامج طويل الامد و الى اهداف بعيدة و نهائية.
و كانوا في هذه المرحلة مطالبين بتحديد طبيعة الدولة و تحديد علاقاتها بالمجتمع، أي تحديد المصالح السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، أي وضع تنظيم متكامل، و لكن على غير النموذج الذي كان ينهار امامهم في الاندلس.
و الاصلاح - بصفة عامة – اما ان يدعو له فلاسفة و مفكرون ينطلقون فيه من تأملات و استنباطات و ارهاصات بالنظر الى الاوضاع، و نقدها و تمثل صياغة جديدة لهذه الاوضاع، و اما ان يدعو له رجال الدين بالرجوع الى كتب هذا الدين و مبادئه، و هذا ما حدث في ظل المرابطين.
و لنا ان نتساءل : من هم رجال الدين الذين قادوا هذه الدعوة ؟
و الجواب ليس صعبا، فالداعية الاول هو عبد الله بن ياسين وهو فقيه مالكي، و شيخه و دافعه للدعوة هو وجاج بن زلو اللمطي وهو فقيه مالكي كذلك، اما الموجه الاول فهو ابو عمران الفاسي الذي كان المغراويون قد ضايقوه و اضطروه الى مغادرة فاس و الذهاب الى القيروان، و كان شيخ فقهاء المالكية في عصره.
اذن، ليس غريبا ان يكون المذهب الذي تقوم عليه هذه الدعوة هو المذهب المالكي. هنا افتح قوسا: وجود ابي عمران في طليعة الموجهين، وهو يومئذ بالقيروان، و خروج يحيى بن ابراهيم الكدالي – السسالف الذكر – في رحلة استطلاعية – كما يقال – الى المشرق قبل الاتصال بابي عمران في طريق العودة اليست هذه عناصر تسمح لنا بان نوسع مجال النظر الى الامر ، و بان نعتقد ان اعتماد المرابطين على المذهب المالكي داخل في نطاق صراع المذهب السني عموما مع المذهب الشيعي على مستوى العالم الاسلامي، و لاسيما في الشرق.
و لست اريد ان ادخل في التفاصيل، و لكني لا استبعد ذلك، لا سيما حين ارى مساندة العباسيين ليوسف بن تاشفين، و كان بحاجة الى مثل هذه المساندة، بل الى مسالمة مع الجانب الشرقي، حتى لا يعزل سياسيا و حتى لا يواجه أي تحالف ضده، و حتى يتفرغ للعمل في الداخل، أي في المغرب و الاندلس.
اقفل القوس، و اعود الى اللائحة فاراها طويلة باسماء الفقهاء المالكيين الذين زخر بهم العصر، و لا داعي للاطالة بذكرهم، و لكن الذي يجب التنبيه له هو انهم لم يكونوا فقهاء بالمعنى التنقيصي الذي يتبادر الى ذهننا بعد ان مسخ لقب الفقيه، بل كانوا علماء كاوسع ما يعطيهم الوصف، ليس في الفقه و ما يتصل به فقط، بل في جميع فنون العلم و الثقافة المعروفة لوقتهم.
وقد احتفظ لنا المقري في النفح بمفهوم لقب الفقيه حيث قال : " وسمة الفقيه عندهم (أي عند الاندلسيين لانه في النص يتحدث عنهم) جليلة، حتى ان الملثمين (أي المرابطين) كانوا يسمون الامير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه بالفقيه. (و يضيف المقري :) وهي الان (في عصره أي في اوائل القرن الحادي عشر) بالمغرب بمنزلة القاضي بالمشرق، و قد يقولون للكاتب و النحوي و اللغوي فقيه لانها عندهم ارفع السمات)) (6).
وكان الفقهاء المرابطون في نفس الوقت رجال الدولة، يخططون سياستها و يتحملون مسؤولية حماية كيانها و الاشراف على تنفيذ التعاليم و توجيه الحكام. و لعله خير لامة مهما كانت – و لا سيما اذا كانت ناشئة في العلم و السياسة كما كان حال المغرب يومئذ – ان تتولى شؤونها طبقة من العلماء، و لتكن طبقة فقهاء المالكية.
و المرابطون، باعتمادهم على الفقه، كانوا يرفضون العفوية و اللاعقلانية، و ينظرون للحكم و الدولة من خلال تصور علمي و تمثل واع تجليان عندهم في التعاليم الدينية. و ابن تاشفين، وهو رجل عمل و ممارسة اكثر مما هو رجل معرفة و نأمل، كان حكيما حين لم يعتبر نفسه حكيما قويا تغنيه حكمته و قوته عن أي قانون، و حين اراد ان يعطي لحكمه الشرعية الشكلية الموضوعية، و حين احتكم في هذه الشرعية الى الدين و الى الفقه المالكي خاصة.
الان ، و بعد ان اثبتنا وجود التيار الفقهي و طابعه ودوره، ننتقل الى نقطة اخرى في الموضوع، فنتساءل : هل كان لهذا التيار اثر على الفكر و الادب ؟
و نبدأ بالجانب الفكري.
و قبل ان اشير الى ملامح الحركة العلمية في المغرب، لابد ان الفت النظر الى بعض اعلام الفكر الاندلسي الذين كان لهم دور في تنشيط تلكم الحركة، و الذين في وجودهم و امثالهم دليل قاطع ضد من زعم ان المرابطين خنقوا الفكر في الاندلس.
ففي العلوم الدينية لمعت اسماء ابي علي الصدفي و ابي علي الغساني و ابن ابي الخصال و ابن ايوب الفهري الذي قامت حوله نهضة احياء السنة. و في المتكلمين لمع اسم ابو بكر المرادي الذي كان قد استقدمه ابو بكر ابن عمر، زعيم المرابطين قبل ابن تاشفين و ابن عمه. و يعتبر المرادي كما عند المقري في ازدهار الريــــاض (7) اول من ادخل علوم الاعتقاد الى المغرب، و كان له فيها تلميذ حمل مشعلها، هو يوسف بن موسى الكلبي. وقد ذكر عياض انه اخذ عنه ارجوزة في الموضوع (8) و في الفلسفة ظهر مالك بن وهيب الذي كان وزيرا لابن يوسف، و مثله ابو بكر بن باجة. و في الطب برز ابو العلاء بن زهر الي قال عنه ابن ابي اصيبعة في طبقات الاطباء "كان في دولة الملثمين... و حظي في ايامهم و نال المنزلة الرفيعة و الذكر الجميل، و كان قد اشتغل بصناعة الطب... و في زمانه وصل كتاب القانون لابن سينا الى المغرب" (9).
كان طبيعيا ان تلقي هذه النهضة العلمية الاندلسية باشعاعاتها على المغاربة، وهم ما يزالون في طور التكوين و لما ينضج فكرهم بعد، فازدهرت الى جان الفقه المالكي دراسة التفسير و ما يتصل به من علوم، و خاصة علم القراءات. و ظهرت عناية المغاربة بالرواية و الحفظ و الاسناد، و نشط التصوف التعبدي البعيد عن التعقيدات الفلسفية.
و اشتهرت اسماء كثيرة من الفقهاء نذكر منهم عبد الملك المصمودي قاضي الجماعة بمراكش، و عبد الله ابن سعيد الوجدي و كان قاضيا ببلنسية، و عبد الله اللخمي قاضي الجماعة بمراكش و كان بارعا في الحديث و الاصول، و عبد المنعم بن علوش الطنجي وتولى القضاء في عدة مدن بالاندلس، و ابراهيم البصري قاضي سبتة، و العالم المناظر عبد الرحمن الكتامي الاصيلي المعروف بابن العجوز، و عبد الله الازدي القاضي المفتي الذي كان مشهورا بصلابته و عدم مصانعته و كان ابن يوسف يقدر فيه ذلك.
و اشتهر من رجال التفسير و القراءات ابو بكر محمد بن علي المعافري السبتي المعروف بابن الجوزي و قد الف تفسيرا لم يتمه، و ابو عبد الله القيسي المكناسي، واحمد بن عبد الله بن الخطيئة اللخمي الفاسي الذي كانت له رحلة الى المشرق عرض عليه فيها قضاء مصر فرفض.
و برز في الحديث بكار بن الغرديس الذي روى عن الهروي حافظ مكة، و ابراهيم ابن احمد بن خلف السلمي المعروف بابن فرتون، و محمد بن عيسى التميمي الفاسي، و ابراهيم اللواتي احد شيوخ عياض في الحديث (10). و لمع في التصوف اسم علي بن حرزهم.
و نبغ في العلوم اللسانية الحسن بن طريف السبتي شيخ القاضي عياض في النحو و الادب و الحديث كذلك (11).
و في الاصول و الكلام لمع نجم ابي القاسم المعافري السبتي. و قد ذكر القاضي عياض في فهرسته (12) انه درس هذين العلمين في سبتة طوال حياته، و عليه اخذهما جماعة من العلماء، و كان الناس يرحلون اليه لدراستهما.
اما الفلسفة فقد استدعى ابن ماجة لتدريسها و ما يتصل بها من علوم، و كذلك الطب فقد كان يدرسه ابن زهر، و نبغ فيه من المغاربة ابو الحسن بن زنباع الطنجي. و في علوم اخرى كالحساب برع ابن مرانة السبتي و تلميذه ابن العربي، وهو من سبتة كذلك.
اذا اضفنا الى هذه اللائحة المقتضبة اسم القاضي عياض مفخرة المغرب في هذا العصر و الذي يليه، و اذا اضفنا اسماء العديد من العلماء الذين زخرت بهم الحركة الفكرية، سواء في المغرب او الاندلس على عهد الموحدين، من امثال بن رشد و ابن طفيل، دون ان ننسى ان هذا العهد استمرار لعهد المرابطين ، تأكد لنا الى أي حد كانت مبالغة تلكم الاحكام التي صدرت ضد المرابطين و التي رمتهم بخنق الفكر و تعطيل حركته و تقييده داخل الفقه المالكي لا يتعداه لما سواه.
و مع ذلك لا مناص لنا من الاعتراف بان المذهب المالكي قد اكتسب في هذا العهد قوة جعلته يصمد امام تيار الموحدين، ابتداء من دعوة المهدي الى التقلبات المذهبية الاخرى التي عرفتها هذه الدولة، و لا سيما ايام المنصور.
سيقول لنا معترض : تذهب الى ان الحركة الفكرية كانت مزدهرة، و كانت الحرية الفكرية متيسرة، و لم يكن هناك خنق او تعطيل فكيف يحرق كتاب احياء علوم الدين لابي حامد الغزالي؟
الحق ان القضية كبيرة و مثيرة، و ساحاول مناقشتها بسرعة، و في نقاط محدودة:
اولا : قضية الاحراق في حد ذاتها دليل على ان الامير – و المقصود هنا علي بن يوسف – كان يصغي للفقهاء، و يخضع لما يفتونه به .
ثانيا : الذين ثاروا على كتاب الاحياء او ((نجوا ضده)) على حد قول المستشرق جولد تسيهر (13) هم بعض فقهاء الاندلس، و على راسهم ابو عبد الله ابن حمدين قاضي قرطبة، ثم تبعهم بعض الفقهاء المغاربة.
و نسبة القضية للاندلس لا تبرئ ساحة المرابطين من التهمة الملصقة بهم ما دامت العدوتان تكونان دولة واحدة. حقا ان الوحدة كانت تجمع الاندلس و المغرب ، و لكن لا ينبغي ان ننسى شيئا، لعله ان يؤكد ما نقصد اليه حين ننسب القضية للاندلس، وهو ان الوحدة بين البلدين كانت قائمة على الاخذ و العطاء، و على التبادل المثمر لكل من الطرفين. فالمغرب لقوته يحمي الاندلس و يسير فيها شؤون الحكم، و الاندلس لمكانتها العلمية تثقف المغرب و تؤدبه. و كلا الطرفين افاد مما عند الاخر الشيء الكثير، و اذن فلعلماء الاندلس و فقهائها ان يحكموا على الاحياء و يفتوا بعدم صلاحيته و بضرورة احراقه، و على امراء الدولة وولاتها – و قد اعترفوا للاندلس بهذا الحق – ان يطبقوا الفتيا، و يعملوا على تنفيذها بكل شدة و حزم.
ثالثا : بعض الفقهاء المغاربة عارضوا في الاحراق و انتصروا للغزالي. و موقف ابي الفضل بن النحوي و فتياه المضادة اكبر شاهد على ذلك. و كان قد تبعه فيها علي بن حرزهم، ففي ((التشوف)) ان هذا الاخير قال : "لما وصل الى فاس كتاب علي بن يوسف بالتحريج على كتاب الاحياء و ان يحلف الناس بالايمان المغلظة ان الاحياء ليس عندهم، ذهبت الى ابي الفضل استفتيه في تلك الايمان ، فافتى بانها لا تلزم" (14) ثم تبعهما في الرفض غير قليل من فقهاء المغرب و الاندلس بعد ذلك.
رابعا : و رايي ان احراق الاحياء – و كان في أواخر عهد المرابطين – يعتبر مظهرا من مظاهر عجز فقهاء الدولة المسؤولين، او بداية العجز عن توجيه الراي العام. وهو عجز قد يكون ناتجا عن عدم قدرة هؤلاء الفقهاء على تطوير المذهب باعتباره ايديولوجية حتى تنسجم مع ظروف الدولة الكبيرة التي اصبحت تحت نفوذ المرابطين. و يبدو انهم في هذه المرحلة كونوا بيروقراطية كهنوتية خصت نفسها و بعض الولاة الموالين لها بجميع امتيازات الاستثمار و السيطرة، و كان ذلك سببا من اسباب انهيار هذه الدولة.
اذا تركنا الجانب الفكري، و نظرنا في الجانب الادبي ، ماذا عسانا نجد؟
هنا نصادف بعض النقد الموجه للمرابطين ، يكفي في تلخيصه هذا النص من دوزي يقول فيه : ان سلاطين المرابطين لم يبدوا ((كبير عناية بامر العلوم و الفنون و الشعر)) (15) و انهم كانوا ((يعملون بالاخص على تحطيم الروح الشعرية الاندلسية)) (16).
الواقع ان عناية المرابطين بالادب اوضح من ان تنكر، فقد اجتمع ليوسف ((من اعيان الكتاب و فرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الاعصار)) على ما يروي صاحب المعجب (17) . و من كتابه عبد الرحمن بن اسباط و محمد بن عبد الغفور و عبد المجيد ابن عبدون . و كذلك كان علي، فقد ذكر عنه المراكشي انه لم يزل ((من امارته يستدعي اعيان الكتاب من جزيرة الاندلس، و صرف عنايته الى ذلك حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك )) (18) ، و من كتابه محمد ابن ابي الخصال و ابو القاسم بن الجد المعروف بابن الاحدب و ابو بكر بن محمد المعروف بابن القبطرنة.
و كان لبقية امراء الدولة وولاتها كبير اهتمام بالكتاب و الشعراء، يقربونهم في عناية و تشجيع، و ربما كان من اكثر هؤلاء رعاية للادب ابراهيم بن يوسف و ابو بكر ابن تافلويت و عبد الله بن مزدلي.
فقد قرب ابراهيم الفتح بن خاقان الذي الف القلائد باسمه، و ذكر في المقدمة فضله على الادب حيث قال : ((و لم يزل شخص الادب وهو متوار و زنده غير وازر وجده عاشر و منهجه داثر، الى ان اراد الله اعتلاء اسمه و احياء رسمه و انارة افقه و اعادة رونقه، فبعث من الامير الاجل ابو اسحق ابراهيم بن يوسف ابن تاشفين ملكا عاليا للبة المجد حليا وهي على الامة وسما دوليا البس الدنيا جمالا جدد لاهلها امالا ناهيك به من ملك عالي ناظم لاشتات المعالي)) (19).
و من الشعراء الذين مدحوه ابن خفاجة و ابو بكر بن رحيم و الشمنتري، و غيرهم كثيرون تجدون مدائحهم في قلائد العقيان و مغرب ابن سعيد.
اما عبد الله بن مزدلي فكان يقصده الادباء للمدح، امثال ابو محمد بن عطية و ابي عامر بن ارقم و ابي جعفر ابن مسعدة الذي اتخذه كاتبا له.
اما ابن تافلويت فكان من اهم كتابه و مادحيه ابو بكر بن باجة و كذلك ابن سارة الشنتريني، وهو نفسه كان يقرض الشعر..
و بلغ من عناية المرابطين بالأدب – و الشعر خاصة – ان نساءهم كن يتعشقنه و يحفظنه و ينشدنه، و يحكى انه كانت لهن مجالس ادب، و قد لمعت في هذا المجال حواء بنت ابراهيم بن تافلويت و اختها زينب و كذلك تميمة بنت يوسف بن تاشفين.
كان نتيجة لهذه الرعاية ان نبغ ادباء من ابناء المغرب. و مع ان الباحث يصادف كثيرا من العناء في الكشف عن هؤلاء الادباء، فانه لا يلبث ان يعثر على غير قليل من الاسماء، نذكر منها ابن حبوس و ابن زنباع و ابن الزيتوني و ابن القابلة السبتي و عبد الله التادلي و ابن عطاء و ابن غازي و كذلك القاضي عياض.
اما في الاندلس – حيث الاسماء عديدة و شهيرة فقد عرف الادب على هذا العهد تطورا تمثل في ظاهرتين:
الاولى : ازدهار فن التوشيح، اقول الازدهار و لا اقول النشأة، فرق بين نشأو فن ما و بين ازدهار هذا الفن. في العصر المرابطي ازدهر فن التوشيح على يد وشاحين كبار اشهرهم التطيلي و ابن بقى. و كانت لهما موشحات في مدح بعض الولاة و القضاة المغاربة. بل ان بعض الوشاحين وفدوا الى المغرب وساعدوا على تعريف المغاربة بهذا الفن - الجديد عليهم – نذكر منهم ابن باجة و ابن اللبانة.
الثانية : ظهور الزجل كفن مستقل يفرض وجوده في ميادين الشعر، و كان نشأ من قبل، و لكنه في هذا العصر – مثله مثل التوشيح – يعرف كثيرا من الانطلاق و الازدهار.
و اذا كان كثيرا من الباحثين – و على رأسهم المستشرق الاسباني الكبير كارسيا كومث – يرون ان مثل هذه الظاهرة دليل على هبوط الذوق هبوطا بالغا في عهد المرابطين (20)، فانا نرى عكس ذلك ، ونؤكد هنا ما سبق ان شرحناه في بعض ابحاثنا المنشورة من ان (( العامية ليست مظهرا للغة المدرسية في صورة منحطة مسفة لانها كانت ابدا موجودة الى جانبها تقتبس منها و تغنيها و تتبادل و اياها التاثير، و من تم كان التعبير الشعري بها – كلا كما في الزجل او جزءا كما في الموشح – دليلا على تجذر تلك اللغة في الالسنة و الافهام و الاذواق، و دليلا في نفس الوقت على مدى حيويتها و انفتاحها للتوسع و التجدد، و ليس من شك في ان مثل هذه الظاهرة لا يمكن ان تتحقق الا على يد فنانين يكونون مالكين لناصية الاداتين العامية و المعربة، قادرين على تطويعها للتعبير في حرية و شجاعة. وقد كان شعراء التوشيح و الزجل من هؤلاء الفنانين، اذ استطاعوا ان ينشئوا تيارا ارفد اللغة و الادب في وقت ما و اتاح لهما بعض الازدهار)) (21).
و كما واجهنا في مجال الفكر من يعترض بقضية احراق الاحياء فسيواجهنا في ميدان الادب من يعترض بامرين :
اولهما : يتعلق بقضية المعتمد الشاعر و معاملة ابن تاشفين له. وقد وصف دوزي هذه المعاملة بانها ((كانت قاسية و مقيتة)) (22).
و الثاني : يتصل بما رمى به ابن تاشفين، و خاصة من طرف الشقندي في رسالته التي الف في فضل الاندلس، من انه كان قليل المعرفة منحط الذوق.
اما قضية المعتمد فلا نراها الا مقحمة على ميدان الادب و على هذا الموضوع بالذات، لانها قضية سياسية صرف لا مجال فيها لاقحام الشعر و مذى تذوقه او رعايته، و مع ذلك فقد كانت معاملة ابن تاشفين – الصحراوي الخشن – للمعتمد ارحم بكثير من معاملة المعتمد الشاعر الرقيق لوزيره ابن عمار الشاعر الرقيق حيث قتله بيده وهو مكبل بالقيود يجرها، يبكي و يستعطفه شعرا.
و اما عن معرفة يوسف، فلا جدال في انها كانت محدودة في مبادئ من اللغة و القران و الدين، خاصة و انه قضى سنوات طويلة في صحبة ابن ياسين، ملازما له في رباطه، و لكن ليس الى الدرجة التي تصوره بها الشقندي حين ذهب الى انه لم يكن يعرف العربية، و لم يكن يفهم ما ينشد امامه من شعر، و انه كان يسأل عن هذا الشعر اذا كان فهمه، كان يجيب بان اصحابه يطلبون الخبز (23)، و ما الى هذا من الكلام الذي لم اشأ ذكره هنا ، فقد ناقشته في دراسات لي موسعة عن المرابطين، وهو كلام دعت صاحبه الى اختلاقه و تلفيقه رغبة اقحام السخرية و التهكم، و ظهر به الشقندي بعيدا عن الثقة و النزاهة و الامانة و الموضوعية، يصدر عن مشاعر دفينة لديه.
و مع ذلك فالحقيقة التي تكمن خلف ما قاله هذا الاديب الاندلسي حين تحدث عن موقف ابن تاشفين من منشديه، هي انه لم يتخذ له شعراء رسميين، و ل يكن له مجلس رسمي للشعر. هذه الحقيقة تفسر لماذا خلا الشعر في هذا العصر – او كاد – من تأثير التيار المذهبي الذي قامت عليه دولة المرابطين. و هذا على عكس الموحدين الذين كان لهم بلاط و شعراء رسميون كابن العباس الجسراوي الذي كان يطلق عليه شاعر الخلافة. فقد كان لمذهبية الموحدين اثر ملحوظ في انتاج هؤلاء الشعراء، و لا سيما في المدائح حيث يختلط المدح بمعان دينية يتبلور من خلالها نوع من الشعر المتصل بالعقيدة و بالمذهب.
و ليس معنى هذا انا لا نصادف شعرا في مدح المرابطين، بل انا نجده، و نجد فيه احيانا، و في أبيات قليلة منه، بعض الكلمات التي تشم منها رائحة الاسلام و تاريخه، في محاولة لتشبيه مواقف الممدوح بمواقف المسلمين الاوائل. و نمثل لهذه الظاهرة ببيتين لابي الحسن بن الجد في مدح يوسف ، يقول :
انظر الى الصبح سيفا في يدي ملك = في الله من جنده التاييد و الظفر
يرعى الرعايا بطرف ساهر يقظ = كما رعاها بطرف ساهر عمر (24)
و باستثناء هذه الملاحظة الجزئية، فان القصائد التي قيلت في الامراء المرابطين تكاد تكون في عمومها اقرب الى شعر الحروب و المعارك و الى شعر الفتوح، منها الى شعر المدح. و يكفينا في هذا الصدد ان نذكر ابياتا للاعمى التطليلي، مقتبسة من قصيدة يمدح بها ابن يوسف ، يقول:
جلبت الخيل مشرفة الهوادي = تعز على قيادك او تهون
كارام الصريمة او مهاها = و ليس سوى الرماح لها قرون
سوابح من غمار في حديد = فما تدري اخيل ام سفين
يلقيها الطعان و لا يبالي = مشيح ما يبل له طعين
يجللها ثياب مكايديه = اذا انتفضت من الورق الغصون (25)
اذا تركنا هذا النوع من الشعر، وجدنا ان الشعراء كانوا ميالين الى القول في الغزل و الطبيعة، تأثرا منهم بالاندلسيين الذين كانوا قد برزوا في هذين الفنين. و لتمثل هذه الحقيقة ننشد الابيات البديعية التالية، نقتطفها من قصيدة لابن زنباع في وصف الربيع:
ابدت لنا الايام زهرة طيبها = و تسربلت بنضيرها و قشيبها
و اهتز عطف الارض بعد خشوعها = و بدت بها النعماء بعد شحوبها
و تطلعت في عنفوان شبابها = من بعد ما بلغت عتى مشيبها
وقفت عليها السحب وقفة راحم = فبكت لها بعيونها و قلوبها
فعجبت للازهار كيف تضاحكت = ببكائها و تبثرت بقطوبها
و تسربلت حللا تجر ذيولها = من له مها فيها وشق جيوبها
فادر كؤوس الانس في حافاتها = و اجعل سديد القول من مشروبها
و اركض الى اللذات في ميدانها = و اسبق لسد ثغورها و دروبها (26)
و ربما كان شعر القاضي عياض اكثر دلالة على هذا الاتجاه، وهو العالم الفقيه . ولنستمع اليه في هذه الابيات يخاطب حبيبه في شكوى مبرحة و جناس محكم تام:
يا من تحمل عني غير مكترث = لكنه للضنى و اليقم اوصى بي
تركتني مستهان القلب ذا حرق = اخا جوى و تباريح و اوصاب
اراقب النجم في جنح الدجى سهرا = كانني راصد للنجم اوصابي
و ما وجدت لذيذ النوم بعدكم = الا جني حنظل في الطعم اوصاب (27)
و لنستمع اليه كذلك في هذين البيتين اللذين ينسبان له ، و يمثلان معادلة غزلية رائعة:
رأت قمر السماء فأذركتني = ليالي وصلها بالرقمتين
كلانا ناظر قمرا و لكن = رأيت بعينها و رأت بعيني (28)
و نود ان نشير الى انا نلاحظ في بعض الاحيان اثر المعارك و الحروب منعكسا على التعبير الشعري حتى في موضوعات الغزل و الطبيعة، على حد قول ابن زنباع في هذا البيت الذائع:
و قد تحمي الدروع من العوالي = و لا تحمي من الحرق الدروع (29)
و عل حد قول عياض في هذين البيتين المشهورين:
انظر الى الزرع و خاماته = تحكي و قد ماست امام الرياح
كتيبة خضراء مهزومة = شقائق النعمان فيها جراح (30)
و لعل هذا الاثر – على ضعفه – يدل على مدى سريان روح القوة و البطولة التي تجلت في هذا العصر.
من هذا كله يتبين لنا ان التيار الفقهي الذي كان سائدا في هذا العهد و الذي اتخذه المرابطون اساسا لقيام دولتهم و لتحقيق دعوتهم الاصلاحية، لم يكن له من تأثير على الفكر الا بالقدر الذي نشطت به الدراسات الفقهية دون تجميد بقية الدراسات. اما في الادب فلم يكن له من تأثير يذكر الا ما كان من الغاء المظاهر الرسمية التي كانت تقام للادب و الشعر في احضان اللهو و المجون على عهد الطوائف، الا ما كان من روح القوة التي تسيطر على شعر المدائح و الفتوح و ما قد يعلو بعض ابيات هذا الشعر من مسحة دينية لعلها كانت باهتة في غالب الاحيان.
و على العكس من كل ما يقال عن جمود المرابطين، فقد عرف المغرب على عهدهم بداية نهوض و تفتح بعد ان تعثر فترة من الزمن طويلة. و ساعدت على ذلك جملة عوامل، اهمها (31).
اولا : قوة الدولة في مجال الدين و السياسة و الاقتصاد – كما لا احتاج ان اوضح – و ما نتج عن هذه القوة من استقرار بعث الطمأنينة في نفو المغاربة، و ثبت العقيدة في قلوبهم، و اتاح لهم فرصة الدرس و البحث في مختلف فروع العلوم و الاداب.
ثانيا : الوحدة مع الاندلس و الاستفادة – فكريا – من هذه الوحدة التي حملت للمغرب روافد في جميع ميادين العلم و الحياة ، حيث فتحت لابنائه كثيرا من الافاق الحضارية و الثقافية و اقبلت وفود العلماء و الفقهاء و الادباء الاندلسيين في تدفق لم يكن له مثيل.
ثالثا :عناية المرابطين بالثقافة ، و اقصد منهم رجال الدولة. فقد كانوا شغوفين بالعلم محبين لرجاله يستقدمونهم او يرحلون اليهم للدراسة عليهم و الاستفادة . نذكر منهم زاوي بن مناد بن عطية الله بن منصور الصنهاجي الشهير بابن تقسوط، و خلوف ابن خلف الله الصنهاجي ، و عمر بن امام المعتز الصنهاجي، و الامير المنصورابن محمد بن الحاج داود ، و كذلك الامير ميمون بن ياسين و غيرهم.
رابعا : انشاء المدارس و الرباطات في مختلف المراكز بقصد بث الوعي الديني و الاصلاح الاجتماعي ، و بقصد نشر التعليم و تعميم الثقافة. و اهم هذه المعاهد جامع ابن يوسف الذي اسسه علي بن يوسف بن تاشفين في مراكش. و مثله جوامع سبتة التي كانت مزدهرة بالعلم حتى قال عنها المعتمد : ((اشتهي ان يكون عندي من اهل سبتة ثلاثة نفر : ابن غازي الخطيب و ابن عطاء الكاتب و ابن مرانة الفرضــــي)) (32).
و قد اشتهرت مدارس هذه المدينة بتدريس علم الاصول و الكلام، و كان يتصدر فيها تدريسهما ثلاثة من الاعلام هم ابو القاسم بن محمد المعافري و يوسف بن الكلبي و ابو محمد عبد الله الغالب السالمي.
هذا بالاضافة الى الازدهار العلمي الذي عرفه جامع القرويين و جامع قرطبة.
خامسا : الاتصال بالمشرق . و قد ظهر هذا الاتصال في العلاقات الوطيدة التي كانت تربط بين امير المسلمين في مراكش و الخليفة العباسي في بغداد، و التي كانت لها انعكاسات تجلت في مظاهر متعددة تكفلت بذكرها كتب التاريخ.
و ختاما أشكركم على انتباهكم و السلام عليكم




المراجع المذكورة

ابن سعيد
المغرب في حلي المغرب
تحقيق الدكتور شوقي ضيف- طبع دار المعارف مصر.
ابو العباس احمد بن القاسم بن خليفة الخزرجي(ابن ابي اصبيعة)
عيون الانباء في طبقات الاطباء
تحقيق نزار رضا –نشر دار مكتبة الحياة بيروت 1965.
ابو العباس احمد المقري
1- نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب
2- تحقيق الدكتور احسان عباس- دار صادر بيروت 1968.
2- ازهار الرياض في اخبار عياض
تحقيق مصطفى السقا و ابراهيم الابياري
و عبد الحفيظ شلبي- مطبعة لجنة التاليف و الترجمة و النشر – القاهرة 1939 – 1942
احمد بن عبد الله (الاعمى التطليلي)
ديوان الاعمى التطليلي
تحقيق الدكتور احسان عباس – دار الثقافة بيروت.
بروفنصال E. Lévi –Provençal
Islam d’occident
Paris 1948
دوزي R. Dozy
Histoire des Musulmans d’Espagne
Leyde 1932
شاكر البتلوني الحاصباني
نفح الازهار في منتخبات الاشعار تصحيح ابراهيم اليازجي –طبع بيروت.
عباس الجراري
1- القصيدة (الزجل في المغرب) الطبعة الاولى – الرباط 1970
2- موشحات مغربية
دار النشر المغربية – الدار البيضاء 1973
عبد الواحد المراكشي
المعجب في تلخيص اخبار المغرب تحقيق محمد سعيد العربان و محمد العربي العلمي – القاهرة 1949.
محمد بن دحية (ابو الخطاب)
المطرب من اشعار اهل المغرب
تحقيق ابراهيم الابياري و الدكتور حامد عبد المجيد و الدكتور احمد بدوي ، القاهرة 1954.
عياض (القاضي)
الفهرست
مخطوطة الخزانة العباسية رقم 3147
غارسيا غومث
Garcia gome
الشعر الاندلسي
ترجمة الدكتور حسين مؤنس ، طبع وزارة التربية و التعليم – مصر (الالف كتاب).
الفتح بن خاقان
قلائد العقيان طبع بولاق 1284 ه .
لسان الدين ابن الخطيب
اعمال الاعلام
تحقيق بروفنسال – طبع دار المكشوف ، بيروت 1956.
مؤلف مجهول
الحلل الموشية في ذكر الاخبار المراكشية نشر احمد علوش – الرباط 1936.
ياقوت الحموي
معجم البلدان طبع مصر 1324.
يوسف اشباخ
تاريخ الاندلس في عهد المرابطين و الموحدين ترجمة محمد عبد الله عنان ، طبع مصر 1940
يوسف بن يحيى التادلي (ابن الزيات)
التشوف الى رجال التصوف


مطبوعات معهد الابحاث العليا المصرية – الرباط 1958.

1) ص 172.
2) ج3 ، ص 155.
3) ج 2 ، ص 239.
4) ج 2 ، ص 250.
5) الحلل الموشية ، ص 9.
6) ج 1 ، صفحة 221.
7) ج 3، صفحة 161 – 162.
8) نفس المصدر.
9) صفحة 517.
10) فهرست عياض ، ص 50 – 52.
11) المصدر السابق، ص 58.
12) صفحة 68.
13) islam d’occident – provençal صفحة 254.
14) صفحة 73.
15) ج 2 ، صفحة 239.
16) ج 2 صفحة 250 – 251.
17) صفحة 164.
18) صفحة 173.
19) صفحة 3.
20) الشعر الاندلسي ، صفحة 62.
21) موشحات مغربية ، ص 72 -73.
22) ج 3 ، صفحة 168.
23) انظر النفح ج 3 ، صفحة 191.
24) كتاب اعمال الاعلام، صفحة 242.
25) ديوان الاعمى التطليلي ، ص 200.
26) القلائد ، ص 225.
27 ) المطرب ، صفحة 87.
28) نفح الازدهار، صفحة 9.
29) القلائد ، صفحة 228.
30) المطرب ، صفحة 87.
31) انظر كتاب ((القصيدة)) ، صفحة 91-92.
32) معجم البلدان (سبتة) ج 5 ص 26-27.



* دعوة الحق
العددان 156 و157



عباس الجراري
 
أعلى