دعوة الحق - أبو العباس أحمد سكيرج في نفحة من نفحاته التصوفية

لقد كان للتصوف في المغرب آثار حسنة حينما كان يهدف إلى تهذيب السلوك وتربية الأفراد وتدريبهم على الطاعة وحينما كان يساهم في ترقيق أذواقهم وترهيف إحساساتهم وتنمية مداركهم الجمالية.
وهذا هو السر في أن التصوف المغربي كان يستمد من أصول الشريعة أحكامه وقواعده ولم يكن ينزلق فيه بعض الاتجاهات الصوفية الشرقية التي تسربت إليها فلسفات من الهند ومن بلاد فارس فأعطتها صورة رمزية لم تستطيع كثير من عقول العوام استساغتها فجعلتها في دوامات الهائمين التائهين.
وليس هذا عدم استعداد النفوس المغربية لتلك الاشراقات الشرقية فالنفوس واحدة والإحساسات البشرية متحدة ولكن المغاربة كانوا في حياتهم العامة واقعيين وكانت عقائدهم التي يتبعونها في غالب الأحيان تهدف إلى البساطة في المظهر ليلا تتعقد الأمور وتبهم فيعيش الفرد في حيرة واضطراب ولذلك نجدهم حتى في المذاهب الفقهية انسجموا مع الإمام مالك لما يمتاز به هذا المذهب من البساطة وعدم التعقيد. ورغم وجود بعض الاتجاهات التي كانت تعكس بعض النظريات الأخرى في بعض الحقب التاريخية فإن بعض المغاربة لم ينسجموا معها ولم تأخذ طريق الاستقرار في حياتهم أو امتداد البقاء في بلادهم.
وكانت الدراسات الفقهية في المغرب متكاملة مع الدراسات الصوفية ومتعايشة معها فلم تحدث تلك التفرقة الكبرى بين الاتجاهين وحاول الفقهاء في كل حين أن يردعوا كل حركة لم تحافظ على سنيتها أو انزلقت في بعض المزالق الضالة التي حرفت التصوف عن مجراه السليم وأفسدت عليه قوة الجلال ورقة الجمال.
وحين تسربت إلى الطرق الصوفية بعض شلالات الجهال أو حرفتها عن وجهتها بعض الخزعبلات المفسدة تصدت لإصلاحها جماعات من العلماء أحيوا روح السلفية ودعوا إلى الإنقاذ من الضلال ومن بينهم في العصر الحاضر المحدث أبو شعيب الدكالى والعالم الهمام الشريف سيدي محمد بن العربي العلوي والأستاذ المشارك البحاثة علال الفاسي رحمهم الله جميعا برحمته الواسعة دعوة لامتنا من أمثالهم من يحيى السنة ويعيد لها روحها التائقة إلى الخير والإصلاح.
ولا ينبغي أن يفسر وجود هؤلاء وأمثالهم في طليعة الهادفين إلى تطهير الشريعة بأنهم لم يكونوا منسجمين مع الروح الصوفية النزيهة بل أن معارضتهم كانت موجهة إلى مظاهر التعفن والجهل واشتغال بعض الطرق للمصالح الخاصة التي لا يعو نفعها على المجتمع العام.
ولهذا يمكننا أن نقسم الحركات الصوفية التي انبثقت عن طريق بعض الزوايا والطوائف إلى قسمين:
القسم الأول هو الذي يمثله الجاهلون سلوكا مثقفين أو غير مثقفين. أولئك الذين تسربت الضلالات إلى أنفسهم فانحرفوا وأشاعوا كثيرا من العوائد الضالة واستغلوا مظاهر التعبد فحولوها إلى غلو ظاهر جعلوه وسيلة لتضليل الناس وطريقا لربح المال واستدرارا لعطايا المترفين. وهؤلاء هم الذين أفسدوا طبيعة التربية الوطنية والخلقية فقامت الدعوة السلفية لتطهير البلاد منهم ولتحرير العقول من سيطرتهم الكاذبة ودعاويهم المزيفة.
أما القسم الثاني فكانت تمثلة طائفة من العلماء الواعين الذين فهموا الروح الصوفية على حقيقتها ودعوا إلى أتباع السنة المحمدية وإلى الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يكدر صفاءها أو يطفىء ضياءها ويدخل في هذا القسم دعاة الإصلاح من السلفية أو أصحاب السلوك المستقيم من المنتمين لبعض الطوائف انتماء لا يصل إلى حد الابتذال والاسفاف فحاولوا هم بأنفسهم أن تكون لهم مواقف مخصوصة لا تترك للتصوف تلك الصورة المحرفة التي غلب عليها الجهل والتعصب.
ومن بين هؤلاء الفقيه الأديب العالم الحاج أحمد بن العياشي سكيرج رحمه الله دفين ضريح القاضي عياض بمدينة مراكش الحمراء.
يمتاز هذا الصوفي المتوفى في اليوم الثاني عشر من شهر غشت سنة 1944 بخصائص كثيرة.
منها أنه كان اديبا رائعا وشاعرا بديعا ومؤلفا تبدوا على تأليفه سلامة التعبير وسلامة الأداء.
ومنها أنه كان مشاركا في مجالات علمية مختلفة فلم تلهه الاهتمامات التيجانية عن التآليف الفقهية والعلمية والتاريخية فهو الذي نظم كتاب الشفا للقاضي عياض وتوجد منه نسخة مصورة بالخزانة الوطنية بالرباط تحت رقم 1061 قسم المخطوطات وله كتاب قيم في تاريخ الثورة التي قام بها القائد المغربي العظيم عبد الكريم الخطابي ضد الفرنسيين والاسبانيين اسمه الظل الوريف في محاربة الريف يوجد مصور الخزانة العامة بالرباط أيضا تحت رقم 1020 بالميكرو فيلم.
ومنها أيضا كان قوى الحجة والدلالة قوى الشخصية لا ينساق مع الآراء لمجرد كونها صدرت عن قريب أو من قدوة بل يدخلها في معيار النقد ويضعها في ميزان العقل والنقل ليكون حكمه مبنيا على أساس من العلم متين.
ومن أهمها أنه كان مجتهدا في الطريقة التيجانية نفسها بحيث تعتبر أقواله حجة في شرح كثير من بنودها وتوجيه بعض مميزاتها وهو في العصر الحاضر يعد المؤرخ العمدة لرجال هاته الطريقة ويتجلى ذلك في كتابيه كشف الحجاب ورفع النقاب بعد كشف الحجاب.
ونظرا لتهافت الناس على كتابه الأول فقد طبع مرات مختلفة صار من الكتب التي تداولها الدول الإفريقية وتعتنى بها خصوصا في السنيغال وما جاورها.
وغير خاف أن هذا الرجل اكتسب هذه الشهرة من مواقفه العلمية ومن صدق لهجته فيما كتب. قرأت له عن طريق الصدفة في أوائل شهر مارس من هذه السنة أي سنة 1978 م رسالة كان قد وجهها قديما إلى شيخ الطريقة السليمانية بندرومة وهي رسالة مطبوعة بتونس وليس عليها تاريخ الطبع إلا أنها كانت تمثل الفقيه في أوائل عهده بالوظيفة حينما كان قاضيا بمدينة وجدة.
اسم هذه الرسالة " عقد المرجان الموجهة إلى الشيخ محمد بن سليمان" ولا تتجاوز أوراقها ست عشر صفحة ولكنني استفدت منها أن الصوفي الحقيقي هو ذاك الذي لا يجعل الاستغراق في العبادة وسيلة للتغرير بالناس وتضليلهم واستغلالهم لأخذ أموالهم فإن الحزم كل الحزم في أن يبحث الإنسان عن وسيلة من وسائل الرزق تغنيه عن الناس فإذا اكتسبها بقيت عبادته لله خالصة.
قال في هذه الرسالة يخاطب السيد محمد بن سليمان:... وإني لأقول لكم قولة ذي صدق مراقب للحق أيها الولي الحميم قد كنت فيما سلف قبل اشتغالي بين الموالى ولوعا بمطالعة كتب الحقائق حتى دهشت في أمري بما نراه من نفسي ويتجلى لي من حضرة الغيب واستحلى التكلم بين قوم استميل قلوبهم إلى واستلذ ما أكتسبه منهم فهم يكرمونني لصلاح في نظرهم وأنا آخذ منهم بافصاحى لهم عن حقائق غيبية أجدها في نفسي بمحضرهم وكادت نفسي أن تسول لي التظاهر بدعوى ليزيدوا في أكرامي لكوني لا أعرف حرفة اكتسب بها المال أو الجاه سوى ذلك حتى وفقنى المولى بخشية منه ألا أعد نفسي في حيز من يغر الناس في الله ولما علم الله تعالى صدق انابتى نشلنى من وحلتي وشغلنى عني فزج بي في بحار المخزن حتى يقضي الله أمرا مفعولا والحمد لله على هذه الحالة وقد شرحتها لك عسى أن تجد فيها إشارة لا يعرفها غيرك فتعمل عليها.
ويظهر أن القصد من شرح الإشارة المذكورة ما يأتي:
أولا: المتصوف الحقيقي يجب عليه أن يبتعد عن الدعوة ليلا يسقط في زلة الإعجاب والرياء والدعوى والاختلاف.
ثانيا: أن أكبر منقد من الانزلاق أن يشتغل الإنسان من أجل كسب رزقه وأن يحترف بحرفة تغنيه عن الناس وتبعده عن الافتقار إليهم.
ثالثا: أنه يرى أن الوظيفة مرحلة أولية في كسب الرزق وأحسن ما فيها أنها أغنته عن الناس فهو لا يعتبرها عملا نهائيا لذلك قال: أن المولى زج به في بحار المخزن حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
وعلى كل حال فالنص صريح في الدعوة إلى نزاهة الإنسان الصالح من الدعوى والغرور وإلى النهي عن التعالي والتطاول وإلى عدم الاستثناء بأقوال المعجبين وهو من النصوص الصالحة للاستدلال بأن الصوفية في المغرب لا تنساق للأهواء ولا تنزلق مع الضلال ولا تؤمن بالتواكلية وأنها تهدف إلى ربط سلوك الإنسان تهدف إلى ربط سلوك الإنسان بالبحث عن وسائل رزقه ليلا يكون عالة على غيره.
وهي بهذه الاعتبار تعد صوفية عملية واعية.
فعلينا أن نحيى هذه الروح العملية في بلادنا وأن نجعلها عملا مقرونا بالتربية الصالحة. وعلينا الإسلام وآداب السلوك لنتحرر من تناقضات عديدة أن نعيد لصفاء نفوسنا طريقا نستمده من تعاليم فرقت بيننا فجعلت طائفة من الناس جامدة متحجرة تعيش على مفاهيم متخلفة وجعلت طوائف أخرى تتحرر كل التحرر من قيود الدين وتنبذ ما فيه من روعته وموضوعية وجلال.
أن الصوفية العلمية حل وسط نستطيع به أن نتغلب على تحجير الجامدين وعلى اضطراب المنكرين والجاحدين لأنها صوفية لا تترك مجالا للدعوى ولا تهيم في سبحات الخيال وتجليلات الواصلين ولا تترك الفروق الكبيرة بين المرشدين والمريدين وتصير بذلك مهياة للتصديق من قبل العوام والخواص ومن قبل العوام والخواص ومن قبل المثقفين على اختلاف مناهلهم الثقافية ولا يقع في التصديق بهاثنا فضلت بين العلم ونتائجه ولا بين الفلسفة وتصوراتها ولا بين الفقه ووجوه تأويلاته.
ولقد دفعتني روح هذه الفكرة إلى الاستدلال مرة أخرى برسالة الفقيه سيدي أحمد سيكرج رحمه الله بعد أن تصور نفسه وقد عمرته التجليلات حتى خرج من حدود المحسوس إلى تطلعات المشاهدين فإذا به يرى أن الانقياد لهذه الشطحات لا ينسجم مع الطبيعة البشرية العادية فيعود مرة أخرى إلى الواقع المعيشي ويخشى أن تستبد به سيطرة الأحوال فتعيده عن طبيعة الإنسان لذلك قال. ووالله ثم والله لقد رأيتني في حيز الفراغ انظر السماء دخانا والبروج في خللها وهي في حيز والأرض مثل السفينة وهي في حيز وعملت هنا ما في نفس البشر من سر الحق الذي أدار به الأفلاك ولما رأيت هذه الأحوال وهي في الحقيقة أوحال ألزمت نفسي الرجوع لأبناء الجنس وألجمتها بلجام الحق فطويت رأسي تحت جناحي وأخذت الحذر في البدو والحضر بعدم استعظام ما تجلى لي خشية الوقوف معه فلم أعبأ في هذا المقام بنتيجة الدعوى لتحقيقي بأنها بلوى بسيان كنت فيها محقا أو مبطلا فقالوا ثم ماذا؟ فقلت فعلت فعلتي وليست من لباس الخمول حليتي فلم أتظاهر بمظهر من يأكل من مال الغير بأغراره ولا يظهر من يربى لربه وهو مقيد في قيود أكداره وأغياره ولكن عرفت أن التباعد من هذا الأمر لا يكون إلا باتخاذ حرفة ولم أجد حرفة تشغل أفكاري عن الدعوى أكثر من تداخلي في حيز المستخدمين فالحمد لله على هذه الحالة فها أنذا في راحة بال من هذه الحيثية وان كنت في شغل شاغل فلما أجد منه مخلصا ولكن الله قادر على ستر القبيح بإظهار المليح وهو المطلع على ما في صميم الصميم فهذا ما أورده على الوارد لأكتبه وقد قيل:
فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه..
وهكذا تستمر الرسالة في هذا النفس العالي الذي يصلح للتوجيه والتربية وينفع في التأديب والتعليم فلا مجال للنفس من التذكر ببشريتها وإلا تاهت عن الوجود وضلت عن التواصل وأصبحت في معزل عن الكيان الاجتماعي وحينئذ يصبح الإنسان غير سوى ولا صالح للتعايش والتعاون.
والواقع أن هذا الاتجاه العلمي الذي يكبح جماح المتصوف فلا يتركه في شطحاته أسلم له وللناس لأن كثيرا من الذين أنكروا التصوف إنما أنكروا فيه ذلك الغلو الذي جعل كثيرا من الناس يضطربون في فهمه حين يديعون أفكارهم على العامة ولا يتركونها في مجالهم الخاص فإن عدم مراعاة مقتضى الحال يفسد على الناس أذواقهم وقد يثير فيهم الفتن ولهذا لا بد من التحرز قبل الإشاعة ومن المتحقق قبل الإذاعة ولهذا قال الإمام الصوفي الكبير أبو العباس أحمد زروق في كتابه قواعد التصوف على وجه يجمع بين الشريعة والحقيقة ويصل الأصول والفقه بالطريقة في إحدى قواعده " كثير المدعوون في هذا الطريق لغربته، وبعدت الإفهام عنه لدفنه، وكثر الإنكار على أهله لنظافته وحذر الناصحون من سلوكه لكثرة الغلط فيه، وصنف الائمة في الرد على أهله لما أحدث أهل الضلال فيه وما انتسبوا منه إليه حتى قال ابن العربي الحاتمي رحمه الله أحذر هذا الطريق فإن أكثر الخوارج منه وما هو إلا الطريق الهلك والملك من حقق علمه وعمله وحاله نال عز الأبد ومن فارق التحقيق فيه هلك".
وما ذكره الشيخ زروق يمكننا أن نعتبره أساسا للدراسات المتعلقة بالتصوف ونجعله مبررا لوجوه النقد المختلفة التي وجهت لبعض طوائفه وان بعد ذلك عذرا للمحب والناقد والناكص والرائد وأن نجعله نموذجا صالحا للصوفيين الذين يربطون بين العلم والعمل أولئك الذين تتجلى فيهم مظاهر الالتزام الخالص الذي لا يعرف المراوغات والانتهازات فيساعدهم ذلك الالتزام على التحقق من العلم والعمل والحال ويصيرون قدوة صالحة لا تجد من يفر منها أو يزور عن سلوكها وفي ذلك من الخير والصلاح ما يهيئ أمتنا للرقى والفلاح ويدفعها إلى الاطمئنان والخير والسلام سواء في علاقاتها الداخلية أو في علاقاتها الخارجية.
وهذا المنهاج الصوفي هو الذي يتلاءم مع طبيعة الإنسان الواعي الذي لا يغريه بريق الشطحات ولا تلهيه جاذبية الأحوال ولا ينزلق مع ضلالات الأوهام وهو الذي طبع حياة الفقيه سكيرج رحمه الله منذ أن نشلته القدرة الإلهية من أوحال التعالي ومن السقوط في براثين الرياء والنفاق منذ أن هدته إلى أن الصوفي الموفق هو الذي لا يستغل التظاهر بالعبادة والصلاح لابتزاز أموال الناس وإنما هو ذلك الذي يضيف إلى عبادته عملا يغنيه عن التملق إلى الخلق ليزداد بذلك تعلقا بالحق وتمسكا به في السراء والضراء.


* دعوة الحق - ع/ 191



الادب المغربي.jpg
 
أعلى