مقامات جمال عبد الغفار بدوي - المقامة.. فن عربي خالص

(1)

ظهرت المقامة على يد بديع الزمان الهمذاني، الذي توفَّرت له موهبةٌ فذَّةٌ وإحاطةٌ بالتراث العربي؛ شعره ونثره، قصصه ونوادره، جدّه وهزله، فجاءت المقامة شكلاً- أو جنسًا أدبيًّا- عربيًّا خالصًا، استطاع أن يستوعب ما يمكن أن نطلق عليه (القصّ العربي).

وقد تعدَّدت الدراسات حول المقامات، والقضايا والموضوعات التي أثارتها تشير إلى اختلاف المقامة اختلافًا كبيرًا عن كلٍّ من "المُلَح والنوادر" و"الرسائل الفكاهية"؛ فإنها قد تجاوزت الحدث المفرد إلى البناء المحكم المترابط، والفكاهة المبنيَّة على الأحداث والأفعال والحوار بين الشخصيات، ورصد المجتمع بعينٍ ساخرة فكِهة.

إن مقامات "الهمذاني" تتَّسم كلها بروح الفكاهة، وقد ذاعت شهرة بعض المقامات خاصةً المقامة "البغدادية" والمقامة "المضيرية"، واللتان يقول عنهما الدكتور زكي مبارك: "هاتان المقامتان هما أبرع ما قصَّ بديع الزمان"(1).

هذه الشهرة الواسعة لبعض المقامات كانت سببًا في بعض الغبْن الذي أصاب المقامات كعملٍ أدبي له مقوِّمات تنحو منحى الوحدة والتكامل؛ على سبيل المثال يرى الدكتور زكي مبارك أن من مظاهر الضعف عند بديع الزمان ومن حاكاه وقوفه عند شخصية واحدة، ولا يجد مسوِّغًا لحديث عيسى بن هشام في كل مرة عن دهشته من كشف هذه الشخصية، مع أنه كان يكفي أن يشتبه عليه أمره مرةً أو مرتين فقط !!(2).

يبْدُو ظاهر هذا النقد كأنه يبحث عن وحدة المقامات كعمل يكمِّل بعضه بعضًا، غير أن باطنه- في اعتقادنا- لم يستوعب غاية الهمذاني، ولم يقف على قصده؛ إذْ كان مهتمًّا طوال عمله بالحفاظ على "المفاجأة"، واستخْدَم في ذلك طرقًا عديدة، كما ينبغي أنْ نتذكَّر أنَّ وحدة المقامات تأتي في سياق تفرُّد كلٍّ منها، وطواعيتها للشكل الذي اصْطُلِحَ عليه سمْتًا وشارةً لها.

يكشف الهمذاني عن غايته بوضوح وجلاء في شطر بيت أنطق به الإسكندري حين طلبوا منه أنْ يفسِّر أمرَهُ، ويكشف سرَّه، فقال: أنا ينبوعُ العجائب(3).

إننا لا نجد أنسب من هذا التعبير إحاطةً بالمقامة وما يمكن أن تسْفِرَ عنه قراءتها، وهو أشمل من قول الدكتور عبد الفتاح كيليطو: "فالمقامة هي الإطار الذي يستوعب أنواعًا عديدة، لا الأغراض الشعرية التقليدية فحسب، بل أيضًا اللغز والمأدبة، والمناظرة والموازنة.. إلخ، المقامة إطار للشعر وللنثر في الآن ذاته؛ قبل القرن الرابع كان الشعر والنثر منفصلَين تمامًا، كان الكتَّاب ينظِّمون أبياتًا على سبيل المصادفة، لكنَّ الشعراء يظلون عمومًا بمعزل عن النثر، والهمذاني- الذي خلَّف ديوان شعر وديوان رسائل- كان ابن عصره بامتياز؛ إن مقاماته تشكِّل مجموعًا هجينًا؛ تتعاقب فيه الأبياتُ وفِقَرُ النثر"(4).

إننا إذا نظرنا في كل مقامة نجد بها "أعجوبة" من هذه العجائب- التي كان الهمذاني يقصد إليها قصدًا تكمن في موضوع طريف أو حيلة لم يُلْتفت إليها من قبل، أو تصوير دقيق، أو تقنية عالية:

فهناك الألغاز الأدبية، وقضايا النقد المتصل بالشعر أو النثر في المقامات "القريضية"، و"الغيلانية"، و"الجاحظية"، و"العراقية" و"الشعرية"، مع اختلاف المشاهد في كل منها وتفردها؛ فنجد النائم الذي يعرض عمَّن يهجوه، ويواصل النوم احتقارًا له في المقامة "الغيلانية"، ونجد تصويرًا طريفًا ينطق بالحياة للنهم الشره في المقامة "الجاحظية".. إلخ.

* وجاءت الكُدية والاستجداء في شتَّى الصور والأساليب، حتى ما يبدو منها متشابهًا نجده يتميَّز عن غيره في أمرٍ ما؛ فالشحَّاذ يحمل أطفاله معه ليشحذ بهم في المقامة "الأزاذية"، ويستعطف الناس بحالهم وإن لم يحملهم معه في المقامة "البصرية"، ويصحب طفلاً في المقامة "البخارية" يأمره أن يتحدَّث عن نفسه، ويعرض أمره على الناس!!، ونجد من يطرق الأبواب ليلاً في "الكوفية"، وهناك من يستجدي بالدعاء للمسافر؛ مستغلاًّ حالته النفسية التي ترنو إلى التشبُّث بكل ما يدعو إلى التفاؤل كما في المقامة "البلخية"، ومن يدَّعي أنه عزيز قوم قد ذلَّ كما في "الجرجانية" أو يدَّعي العمى، بالإضافة إلى استخدام اللحن والإيقاع في المقامة "المكفوفية"، ويطالعنا صاحب القرد الذي يستجدي به في المقامة "القردية"، ونجد من يتبارزون في السّباب والتشاتم للحصول على درهم أو دينار كما في "الدينارية" أو من يسأل الناس بالألغاز كما في "الصُّفرية"، وتبلغ المفارقة أقصاها حين يستجدي من إبليس في "الإبليسية".

* ولم يكتفِ الهمذاني بما عدَّده وأحصاه من أساليب الاحتيال في المقامة "الرصافية"، بل عرض لأمثلةٍ كاملةٍ لما يمكن أن نطلق عليه عمليات النصب والتحايل؛ ففي المقامة "السجستانية" هناك من يحتال بدواء يدَّعي شفاءه الناجع، ويطالعنا المحتال الذي يصطاد سواديًّا ساذجًا في السوق ويوقع به في المقامة "البغدادية"، ومن يحتال بادِّعائه الإسلام بعد الكفر وهروبه من بلاد العدو الكافر ورغبته في التجهيز لغزوه ومحاربته لسابق معرفته به في المقامة "القزوينية"، وفي المقامة "الساسانية" يخرج المكدّون في كتيبة يردِّدون الشعر الطريف خلف قائدهم، وفي "الموصلية" يدَّعي المحتال قدرته على نشر الموتى وصدِّ السيل، ويستغل الكارثة في المقامة "الحرزية" ويؤذي الخباز وبائع اللبن ليحصل على الطعام في "الأرمينية"، ويدَّعي معرفته بأماكن الكنوز المطمورة في "المطلبية"، ويصحب زوجته ويحتالان على القاضي في المقامة "الشامية"، مستخدمًا الفحش والبذاءة.

* وتتطرَّق المقامات إلى المدح بطرق متعددة كما في المقامة "الناجمية" و"الملوكية".

* وفي المقامات وصفٌ وتصويرٌ لحياة القرن الرابع- كما في المقامة "المضيرية"- ولمفرداتها، مثل الأطعمة في "البغدادية" و"المجاعية" و"النهيدية".

* وقد أُفردت المقامة "الحمدانية" لوصف الفرس.

* ونجد للقصة والحكاية مساحةً كبرى في المقامات بصفةٍ عامةٍ، وفي بعض المقامات بصورةٍ أكبر وأتقن من غيرها، مثل المقامة "الأسدية" و"الأصفهانية"، و"البغدادية"، و"الموصلية"، و"المضيرية"، و"الحلوانية"، و"الصيمرية"، و"البشرية"، و"الشامية".

* ونراه يعرف الأسرار وخبايا النفوس كما في "المارستانية".

سيطول بنا المقام إذا أخذنا في حصر عجائب الموضوعات التي تناولتها المقامات، وما عرضنا له سابقًا، أردْنا منه الرهان على أن هذا التنوع كان هدفًا من أهداف بديع الزمان لا يحقق لمقاماته عدم الإملال فقط، أو كان هدفًا موضوعيًّا فحسب، بل كان وسيلةً فنيةً تبعث على البهجة والمتعة، وتثير المرح والضحك، كما حافظت على المفاجأة والإثارة داخل بنية المقامة؛ إذ نجد في كل مقامة مفاجأةً ما، ربما تمثَّلت في طرافة الموضوع، أو تناوُله بطريقة مبتكرة، أو في وصفٍ لم يسبق إليه أحد قبل الهمذاني.

كما تكمن المفاجأة أحيانًا في قدرة الهمذاني على الاستقصاء والحصر كما في المقامة "الرصافية" التي استقصى فيها حيل المكدّين وأساليبهم المختلفة.

استطاع الهمذاني أيضًا أن يوظف شخصية الإسكندري توظيفًا فنيًّا يخدم أهدافه، بجانب توظيفه من ناحية الشكل، فصار علمًا على المقامة، يبحث المتلقِّي عنه، وينتظر ظهوره بين رغبةٍ في الاطِّلاع على حيلته الجديدة، وبين خوفٍ من انتهاء المقامة بظهوره.

ما كان يعدُّهُ الدكتور زكي مبارك عيبًا في المقامات- من تكرار دهشة عيسى بن هشام وجهله المتتابع بأبي الفتح الإسكندري- نعتقد أنه ذو قيمة فنية عالية، كان للهمذاني فضلُ السبق إليها؛ إذْ أرسَى قواعد الشكل الفني الناجح لمقاماته، فتوفَّرت لها أسباب التميُّز وعدم الذوبان في غيرها من أجناس الأدب وأنواعه.

إن للهمذاني دوافعه ومبرراته الفنية التي تُحيل هذا الاستنكار إلى مدح وثناء، غير أنه لم يتعامل مع ظهور الإسكندري وتعرُّف عيسى عليه بهذه السذاجة الفنية- إن جاز هذا التعبير- فبجانب عدم ظهوره في بعض المقامات على عكس ما يتوقع القارئ، فقد نوَّع وتفنَّن في طُرُق إظهاره والكشف عنه؛ مما أضفى على عمله جوَّ الإثارة والتشويق:

- فقد ظهر في بداية بعض المقامات مثل "الموصلية"، و"المضيرية"، و"العراقية"، و"الوصية"، و"الدينارية"، وظهر في منتصف المقامة "النيسابورية" مع اختلاف أسلوب إظهاره في كلٍّ منها؛ فمرةً يسأل عنه عيسى بن هشام، ومرةً يسمع به ويُدلُّ عليه، وأخرى يكون صاحبًا له منذ البداية.. إلخ.

- والمقامات التي كان يظهر أو يكشف عن شخصه في آخرها- وهي الغالبية العظمى- لم تأتِ على نسقٍ واحد؛ فمرةً تكشفه ثناياه كما في "القريضية"، ومرةً يميط لثامه، فإذا به الإسكندري في "الأزاذية"، وأخرى يعرفه بعض من حضر في "البلخية"، وقد يتشبَّث به عيسى بن هشام حتى يعرِّفه بنفسه في "الفزارية"، وربما عرَّف نفسه شعرًا في "الجاحظية"، وقد يعرفه عيسى بن هشام أثناء انشغاله في الاحتيال، فيسهو عن خطأٍ يكشف أنه متعامٍٍ وليس أعمى، فيهدِّده بفضحه إن لم يكشف له عن نفسه كما في المقامة "المكفوفية"، وفي "الوعظية" يغيِّره الشيب، وفي "الشيرازية" ينكر على عيسى بن هشام جهله به، ويصاب بالجنون والهذيان في "الحلوانية"، ويظهر كعابر طريق في "الإبليسية"، وفي المقامة "الأسودية" يظهر بصورةٍ مفاجئةٍ للسياق والأحداث.

وقد يتكلم حينًا كما نتوقع، ويخيب ظننا حينًا آخر فلا يتكلم ويصمت، أو لا يأتي بما نتوقع من حيله ومهاراته.. كل ذلك دون مبررات موضوعية سوى تعمُّد الهمذاني توظيفه فنيًّا بما يحفظ قدرًا من المفاجأة والإثارة، أو كأن الهمذاني يجعل من أبي الفتح لغزًا يداعب به القارئ، يرضي غروره مرةً، ويحقِّق توقُّعه، ويخيِّب ظنه أخرى، فيحثُّه على مواصلة التحدي.




* الهوامش
1- النثر الفني في القرن الرابع- د. زكي مبارك- دار الكاتب العربي- القاهرة- ص 252.
2- المرجع السابق- ص 256.
3- مقامات أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني- شرح الشيخ محمد عبده- مؤسسة أخبار اليوم- القاهرة- 1988م- ص 124.
4- المقامات.. السرد والأنساق الثقافية- عبد الفتاح كيليطو- ترجمة عبد الكبير الشرقاوي- دار توبقال- المغرب الطبعة الأولى- 1993م- ص 73.

المقامات.jpg
 
جمال عبد الغفار بدوي
المقامة.. فن عربي خالص
(2)

إذا أمعنَّا النظر في مقامات "الهمذاني" أدهشنا وعيُه التام بتقنياتٍ فنيةٍ قد يظن البعض أن الأقدمين لم يتطرَّقوا إليها، وما يعنينا هو المضحك في المقامة؛ إذْ وصل به "بديع الزمان" إلى ذروةٍ سامقةٍ عزَّ الوصول إليها بعده!.

والقراءة الموضوعية السابقة للمقامات وبطلها تثبت إدراكه ووعيه بقيمة المفاجأة بشتى صورها لإحكام القصة وحَبْك عقدة الحكاية، وهو مضحك أصيل ربما تجاهله البعض في غمرة الاحتفاء بغيره من المضحكات التي حوتها مقاماته، وما أكثرها وأروعها!.

يؤكِّد ما نذهب إليه رأي الأستاذ "أحمد عطية الله" الذي يرى أن التشخيص والتمثيل مضحكٌ في ذاته، سواءٌ أكان تراجيديًّا أو كوميديًّا، فكل "فنون التمثيل، بما في ذلك المسرحيات الحزينة و"التراجيديا" تثير المرح والضحك، وقد يبدو هذا الرأي غريبًا في ظاهره، فإذا رجعنا إلى واقع الأشياء نرى أن المتفرِّج لمشهد تمثيلي تدوي أكفه بالتصفيق ويرتفع صوته بالاستحسان، إذا ما أجاد الممثِّل في تمثيله دون تفريق بين موضوع المشهد التمثيلي ذاته.

فقد تدمع عين السيدة لموت البطل على المسرح مثلاً، فإذا انتهى المشهد راحت تصفق وتضحك وعيناها ما زالتا مغرورقتين بالدموع" (سيكولوجية الضحك- أحمد عطية الله- مطبعة عيسى الحلبي- القاهرة- 1947م- ص 84).

ونضيف هنا أن القصص والحكايات أدعى إلى البهجة والسرور، وكلما كانت ذات حبكة متقنة، وعقدة مثيرة، كانت أكثر تعلُّقًا بالنفوس والقلوب، فإذا جاءت مع ذلك بموضوع طريف، وبطل ظريف، فهي آنذاك إلى المرح والبهجة أدعى، وعلى الفكاهة والضحك أبعث!.

إن المضحك تمثَّل في العديد من الصور التي سبق أن استخدمتها النادرة والرسالة في الأدب العربي، وقد استفادت المقامة من جميع هذه الصور والأساليب وأضافت إليها الكثير مما يتناسب مع الحكاية والحوار وتصوير الشخصيات، وغير ذلك مما استحدثته المقامة، وقد اتسمت مقامات "الهمذاني" كلها بروح الفكاهة، ولا تخلو واحدة منها من مضحك أصيل متقن الصنعة، ولكن أهم المقامات التي كانت الفكاهة هي العمدة فيها والغاية منها وفق ترتيبها: "الأسدية"، و"الأصفهانية"، و"البغدادية"، و"الموصلية"، و"المضيرية"، و"الرصافية"، و"الحُلْوانية"، و"الأرمينية"، و"الدينارية".

سنحاول الكشف عن التوظيف الفني للمضحك في بعض هذه المقامات، ونعتقد أننا لسنا بحاجةٍ إلى تعديد طرقه وأساليبه؛ إذ إنها من الوضوح بمكان لا تحتاج معه إلى إشارة أو قول.

المقامة الأسدية
بلغ "الهمذاني" درجة عالية في حَبْك القصة وإحكام عقدتها في هذه المقامة، مع توفير كل أسباب التسلية والإثارة والمتعة.. تبدأ المقامة بأمنيةٍ "لعيسى بن هشام" بلُقْيَا "أبي الفتح الإسكندري"

"حدثنا "عيسى بن هشام" قال: كان يبلغني من مقامات "الإسكندري" ومقالاته ما يصغي إليه النَّفور، وينتفض له العصفور، ويُرْوَى لنا من شعره ما يمتزجُ بأجزاءِ النفس رقةً، ويغْمُضُ عن أوهام الكهنة دقّةً، وأنا أسألُ الله بقاءَهُ، حتى أرْزَقَ لقاءَهُ، وأتعجَّبُ من قعود همته بحالته، مع حسن آلته، وقد ضرب الدهرُ شئونَهُ، بأسْدَادٍ دونه، وهلمّ جَرَّا، إلى أن اتَّفَقت لي حاجةٌ بحمصْ، فشحذتُ إليها الحرص، في صحبة أفرادٍ كنجوم الليل، أحلاسٍ لظهور الخيل..".

إلى هنا قد أفصح "عيسى بن هشام" عن الأمنية التي تداعب مخيلته، وتراود نفسه، ويطيل في عرضها، فلا نشكّ في أن لقاء "الإسكندري" هو محور الأحداث، وموطن الحبكة والإثارة، نتوقع ظهوره بين الحين والآخر، وباستمرار الرحلة إلى "حمص" نعرف أن التعب قد أصاب القوم، وألجأهم إلى ظلِّ بعض الأشجار في سفح جبل، وبعد أن ربطوا خيولهم وتهيَّئوا للنعاس، حدثت مفاجأة مثيرة:

".. فما راعنا إلا صهيلُ الخيل، ونظرت إلى فرسي وقد أرهفَ أذنيه، وطمَحَ بعينيه، يَجُذُّ قُوَى الحبل بمشافره، ويَخُدّ خدَّ الأرض بحوافره، ثم اضطربت الخيل فأرسلت الأبْوَالَ، وقطَّعت الحبال، وأخذت نحو الجبال، وطار كلُّ واحدٍ منا إلى سلاحه، فإذا السَّبُعُ في فروةِ الموت، قد طلع من غابِهِ، مُنتفِخًا في إهابه، كاشرًا عن أنيابه..".

إن روعة تصوير الأحداث تبلغ منزلةً عاليةً تجعلنا كأننا نشاهد الأحداث حيَّةً ماثلةً أمام أعيننا؛ فلقد استخدم التمهيد الفني المتقن لإثارة المتلقي، ووزَّع "معلومات" المقامة ببراعة فائقة؛ إذْ جعلنا نستشعر هدوء الكون المطبق في سفح الجبل تحت ظل أشجار "الألاء" و"الأثْل" والخيول المتعبة قد رُبطت بالحبال وعيون القوم قد أُغمضت استقبالاً للنعاس والراحة، فجأةً يتبدّلُ الهدوء صخبًا وضوضاء، محاطًا بالرعب والذهول، يزداد هذا الفزع لجهل القوم بالخطر الذي داهمهم وروَّع الخيل.

لقد وظّف "الهمذاني" (الوقت) توظيفًا ناجحًا حين لم يفصح عن كُنهِ الخطر الداهم مباشرةً، فاستشعارُه والتيقّنُ منه- لهلع الخيل مع الجهل به- أكثر إثارةً، وأشدُّ وطأةً على النفس؛ إذْ إنه يجعل الهواجس المرعبة تتقافز إلى ذهن المتلقِّي، كلٌّ حسب تكوينه وثقافته.

صوَّر "الهمذاني"، هذا "المشهد" في أسلوب مشوِّقٍ نسمع من خلال كلماته: "صهيل الخيل"، وصوت تمزِّق الحبال، وصوت الحوافر وهي تشق الأرض، وصـوت اضطراب الخيل، واندفاعها إلى الجبل، وَوَقْعُ أبوالها على الأرض له صوت كذلك، كما تتداخل الأصوات وتتزاحم بهرج القوم ومرجهم، ونسمع قعقعة الأسلحة وهم يلتقطونها ويخطفونها.

و"المشهد" مُفعَم بالحركة، مترعٌ بها، بدايةً من نظرة "عيسى بن هشام" السريعة إلى فرسه، ومن إرهاف الفرس أذنيه، وطمَحِهِ بعينيه، وجّذ الحبال وخّد الأرض والاضطراب وانسياب الأبوال، والاندفاع نحو الجبل، إلى هلع القوم الذي عبَّر عنه بقوله "وطار كلٌّ منا إلى سلاحه" فليس هناك أدق من كلمة "طار" تعبيرًا عن السرعة وقوة الاندفاع.

يروي "عيسى بن هشام" بعد ذلك أن فتًى تصدَّى للأسد فصرَعَهُ، وانتقل إلى فتى آخر، ووثب على صدره، غير أن "عيسى" رماه بعمامته، فانشغل بها فمه وتمكَّن الفتى من القضاء عليه.
نكتشف في هذا الجزء من المقامة بطولة "عيسى بن هشـام" وذكـاءه، مع ما في الأحداث من حركة وتطور مستمر، وقتل قتيل، ونجدة هالك كان بين براثن الأسد.

يواصل "عيسى بن هشام" الحكاية فيخبرنا أنهم استعادوا ما استطاعوا من خيلهم، ودفنوا رفيقهم، ثم تابعوا رحلتهم حتى نفد زادهم وماؤهم، وحوَّم الخوف حولهم، فإذا بفارس يَعِنُّ لهم مُظهر الفروسية والنبل، واختار "عيسى" من بينهم يكون له عبدًا، ففرح "عيسى" وأخذه كلامه وفعاله، وأرشدهم إلى الماء، وبالغ في خدمتهم، فلمَّا تعجَّبوا من ذلك قال لهم:
"… فكيف لو رأيتموني في الرُّفقة، أريكم من حِذْقي طُرَفًا، لتزدادوا بي شغفًا. فقلنا: هات. فَعَمَدَ إلى قوس أحدنا فأوْتَرَهُ، وفَوَّقَ سهمًا فرماهُ في السماء، وأتبعه بآخر فشَقَّهُ في الهواء، وقال سأريكم نوعًا آخر، ثم عمد إلى كنانتي فأخذها، وإلى فرسي فَعَلاَهُ، ورمى أحدنا بسهمٍ فأثبَتَهُ في صدره، وآخرَ طَيَّرهُ من ظهره، فقلتُ: ويحك.. ما تصنع ؟! قال:اسكت يا لُكَعُ، والله لَيَشُـدَّنَّ كُلٌ منكـم يد رفيقـه، أو لأغصَّنَّهُ بريقه، فلم ندر ما نصنعُ وأفراسُنا مربوطة، وسُرُوجُنا محطوطة، وأسلحتنا بعيدة، وهو راكب ونحن رَجَّالة، والقوس في يدِهِ يرشُقُ بها الظهور، ويمشق بها البطون والصُّدور، وحين رأينا الجِدَّ، أخذنا القِد، فشدَّ بعضنا بعضًا وبقيت وحدي، لا أجد من يشُدُّ يدي، فقال: اخرج بإهابك عن ثيابك، فخرجت ثم نزل عن فرسه، وجعل يصفعُ الواحد منا بعد الآخر، وينزعُ ثيابَهُ وصار إليَّ وعليّ خُفَّانِ جديدان، فقال: اخلعهما لا أمَّ لك، فقلت: هذا خُفٌّ لَبِسْتُهُ رَطْبًا فليس يُمكنُني نَزْعُهُ. فقال: عليّ خَلْعُهُ. ثم دنا إليّ لينزِعَ الخفَّ، ومددتُ يدي إلى سكين كان معي في الخف وهو في شُغلِهِ فأثْبَتُّهُ في بطنِهِ، وأبنته من متنه، فما زادَ على فمٍ فَغَرَهُ، وأَلْقَمَهُ حَجَرَهُ...".

إن التقنيات الفنية التي استخدمتها النادرة من "توزيع المعلومات" و"تصعيد الحدث" و"التمهيد للمفاجأة"، جاءت هنا عند "الهمذاني" على أكمل وجه ممكن، بالإضافة إلى تلك الصور التي تعبِّر عن بيئتها وعصرها، وعن جوانب مهمة من حياة الناس آنذاك.

إننا بإزاء محتال يذكرنا بنوادر الاحتيال، أغدق على القوم من كرمه، وأراهم من حسن الخلق، وظرف المعاشرة، ما أنساهم الحذر الواجب على من كان في حالتهم وموقفهم، واقتادهم إلى حيث ربط خيولهم، ووضعوا سلاحهم، ثم راح يضحكهم بحركاته المدهشة حتى ذهلوا أو كادوا عما حولهم، فانقلب الضحك إلى مأساة، وراح المحتال يهزأ بهم وهو يجرِّدهم من متاعهم بصفعهم الواحد بعد الآخر بعد أن أوثقوا أنفسهم بالحبال.

وتركت عبقرية "الهمذاني" الثغرة التي لم يُعرْها السارق أدنى اهتمام، وكان كل همِّه منصبًّا على سلب "الخف"، استطاع "بديع الزمان" أن يملأ مقامته بالأحداث والمفاجآت والإثارة والتشويق، حتى ما يمكن أن يراه البعض ضعفًا أو سذاجة في الحبكة والعقدة، كانشغال الأسد بالعمامة التي ألقاها إليه "عيسى بن هشام"، أو عدم فطنة القوم كلهم للفتى المحتال مع ما يتمتَّع به المسافر عبر الفلاة من حذر شديد، أو سذاجة الحيلة في عدم ربط يدي "عيسى" ورفضه نزع خفه بسببٍ غير مقنع، هذه المآخذ نراها دليلاً على سبق "بديع الزمان" وإدراكه الفني الناضج لمثل هذه الأنواع من القصص والحكايات، التي تكون التسلية والإمتاع غايتها الكبرى، وما تلقاه مثل هذه الحكايات في صورها الحديثة، كالروايات البوليسية وأفلام الحركة، من تهافت وإقبال شديدين في عصرنا الحالي؛ دليل على وعي "الهمذاني" المبكِّر بالقيم الفنية لهذا النوع من القصص المثير والمسلي.

إن المضحك في هذه المقامة قد تمثَّل في حبكة القصة وفي مفاجآتها المتعاقبة، وفي طرافة الحيل وبراعة التخلص، بالإضافة إلى ما يتخلَّل ذلك من تشخيص وحركة أُحْسِن تصويرهما.

وفي النهاية.. تستوقفنا نقطتان غاية في الأهمية:
أولاهما: أن المقامة قد التزم "بديع الزمان" السجع في كتابتها، والحقيقة أن القارئ لا يشعر بالتكلف أو المبالغة بالرغم من طول المقامة وكثرة أحداثها، بل نجد على عكس التكلف تسامحًا أو تنازلاً من "الهمذاني" في بعض الفقرات عن التزام السجع حتى لا يوقف تدفق الأحداث.

أما الثانية: فبعد أن يدفن القوم رفيقهم، ويوزعوا سَلَبَ المحتال الذي قُتل، يواصلون السير حتى حمص، وبعد الانتهاء إلى سوقها، يصادفون رجلاً مع ابن وبُنَيَّة، بجرابٍ وعُصَيَّة، يستجدي بأبيات من الشعر فإذا هو "أبو الفتح الإسكندري" الذي استفتحت به المقامة ونسيناه في صخب الأحداث وضوضائها، ولا يسعنا إلا أن نسجِّل مرةً أخرى براعة "الهمذاني" الفائقة في هذه التقنية التي بها أعاد الهدوء إلى نفس المتلقِّي بعد أن حبس أنفاسه من كثرة الأحداث وصخبها.
 
أعلى