دراسة رائد حسين - قراءة في “استخدام الحياة”

يقبع الكاتب الروائى (أحمد ناجى) خلف القضبان تنفيذا لحكم الحبس الذى صدر ضده على خلفية خدش حياء أهل الحياء فى روايته المعنونة بــ “استخدام الحياة”، لم أكن لألتفت لروايته إلا بعد حبسهِ، فأى إجراء يتخذ ضد الكاتب يكون فى صالح أعماله، ولكن حبس الكاتب ليس دليلا على روعة أدبه، بقدر ما هو دليل على تخلف وطنه.

من قبل حاولت قراءة “أولاد حارتنا”، التى اكتسبت شُهرتها بمحاولة اغتيال كاتبها، فلم أجد فيها الكنز الدَفين الذى توقعت، ربما فكرة الرواية رائعة، لكن السَرد خال من المتعة، وحتى الآن لم أعبر للدفة الثانية من “أولاد حارتنا”، وفضلت قراءة النقد والخلاصة، لكنى استطعت الإنتهاء من “استخدام الحياة”، وهذا انتصارٌ للكاتب على قارئ مَلولٍ مِثلى.

(1)

تبدأ الرواية بكارثة طبيعية تحُطُّ على القاهرة، يعتمد الكاتب طريقة البوح، أو استخدام ضمير المتكلم، وهى طريقة لها سحرها عند الكتابة، لكنها تقتل الدهشة فى القارئ.. شعرتُ أن الكاتب قد غرق حتى مفرق رأسه فى المحلية، وهو يصفُ مشهد القاهرة بعد أن غرقت فى الرمال والتراب جراء عاصفة قاسية، ظنَّها البعضُ إرهاصاً ليوم القيامة، لكنهُ ارتفع مُحلِّقاً حين عمم الكارثة على العالم كله، وهو خيال يستند على أساس من الواقع، فمشكلة الاحتباس الحرارى ستتولى هذهِ المهمة يوما ما، إذا لم تتضافر الجهود لحماية الطبيعة من طمع الإنسان، يستخدم الكاتب هذا الدمار ليدمر الهدف الذى يضعهُ المتفائلون للحياة غاية، إعمار الأرض.

(2)

الأحداثُ تسير فى المستقبل، ولكى لا يسقط فى فخ التأريخ، تجاهل التاريخ، إنه المستقبل الذى صنعت فيه اليابان بشرا، وتطورت فيه تكنولوجيا المعلومات تطورا مذهلا، فصار التلاعب بالعقل البشرى سهلا عن طريق نزع وإحلال الأفكار.

انهارت الحدود بين الدول، انكمشت الحكومات القومية لصالح الرأسمالية، وصار العالم كله يُدار بشركة واحدة، شركة الإعمار التى تهدف الى إعادة الحياة الى المدن الكبرى.

(3)

البطلُ شابٌ قاهرى (بسَّام)،عاش الفترة قبل الكارثة (النكسة) وقبل انتقال زحام القاهرة الى السادس من أكتوبر، حيث بحر الرمال والميناء، حملت السادس من أكتوبر إرث القاهرة القديم، الدمار طال كل شيء حتى الأهرامات، فخلق فجوة زمنية بين جيل وجيل، فجوة ضاعت أحداثها ومعالمها فى الدمار، حتى إن الأجيال الجديدة خلطت بين أم كلثوم وسميرة سعيد.

ستشعرُ بأنفاس البطل عبر السطور بعد كسر حاجز الملل الذى يصاحب اقتحام أى عمل أدبى يعتمد طريقة البوح.

شخصيات الرواية تدور حول البطل، كلٌ حسب دوره المعنى من الحياة هى أنها بلا معنى، فالتكنولوجيا حوَّلت الإنسان إلى هيكل هشّ الجسد، يقتات على المخدرات والخمور ليهرب من التعاسة.

التعاسة، التعاسة، كل شيء تعِس بين دفتى الرواية، كل شيء واقعى رغم خيال الكاتب الغنى.

(4)

الجنس فى حياة الإنسان المُدمَّر بالتقدم العلمى وآثاره على البيئة والكائنات الحية، صار قطرات ندى ترطب شفاه من يقتله الظمأ، فلا هى ترويهِ ولا تتركه للفناء.

الحب لا فقه ولا قانون، لأنه مرتبط بنفس بشرية أقل ما يصفها أنها معقدة، ضعيفة، تتجاذبها النَسماتُ.

استخدم الكاتب شَخصية “مونى مى” لإبراز هشاشة الإنسان، وأثر الماضى فى المستقبل، فهى شخصية نشأت نشأة محافظة فى بيئة محافظة، ورغم تحررها تقريبا من المجتمع القديم، مازال التناقض يفترسها ويقتلها الذنبُ، لأنها خالفت ما أَلِفت، الملل يُسيطرُ على كل شيء حدَّ الاختناق، والعقل ليس نعمة، بل بلاء وابتلاء، يعبر البطل عن ذالك بجملة مشابهة لهذهِ:

(عندما يقرر الله أن يكافئ الإنسان على عذاب الدنيا، سيخلق له جنة يسرح فيها بلا عقل، كما البهائم، يأكل ويرعى ولا يُفكر، هذهِ هى الجنَّة).

(5)

(بابريكا) سيدة شركة الإعمار، شَخصية عقلانية لا تعانى من أى تناقضات، شخصية مُبرمجة “حرفياً”، كما أن العلم قد زوَّدها بالقُدرة الكافية لقراءة الأفكار فى عقول من حولها، والسيطرة عليها وتغييرها بالنزع والإحلال.

تدخلُ “بابريكا” فى علاقة جنسية مع “مونى مى” أثناء فتور علاقة الثانية مع (بسَّام)، تستجيب “مِى” لرغبات “بابريكا”، ولكن الشعور بالذنب والاكتئاب يفترسانها، العقل البشرى ليس مُقدسا،هذا ما صرَّح به الكاتب بقوة، الإنسان أقل من أن يكون لحياته معنى.

(6)

السرد تقليدى والجمال كامن فى البساطة، والأفكار المُبتَدعة، كما لعبت ريشة (أيمن الزرقانى) دورا كبيرا فى إضفاء التميز الذى استشعرته فى الرواية.

قصة إنسان المُستقبل الذى تحدى الله، فخلق الذبابة الذكية لتنظف مؤخرته، قصة لها بُعدان، أحدهما دينى والآخر علمى، أما الدينى فيشرح معاناة الإنسان المعاصر (المتحرر) بعد أن تخلىَّ عن الأساطير وتخلَّى عنه العزاء، وأما العلمى، فيَخبر عما ستجلبهُ التكنولوجيا على الإنسان من كوارث حال استمر العمل فى اتجاه انتاج روبوتات ذكية قادرة على اتخاذ قرارات.

الغاية، الغاية، الغاية، لا يبحث الكاتب عن الغاية، بل دمَّر كل الغايات بواقعية الخيال.

تنتهى الرواية بانتصار العلم على العقل فى مشهد تراجيدى، أو هكذا قرأته، فقد صارت “مونى مِى” جزءًا من “بابريكا” قدَّم الكاتب النهاية للقارئ فى لوحة جميلة من إبداع الزرقانى قبل أن يسردها بإيجاز ذكى.

لم تمنعنى الألفاظ الخارجة من الاستمتاع بالمعنى، وإن كان الكاتب قد أَسرف فى استخدامها، فربما يمارس حقه فى استخدام الحياة، ولا يسعنا إلا أن نحترم رقصتهُ الأخيرة قبل أن يُدمَّر العالم، ونطالب له بالحرية حتى ينالها.

“أحمد ناجى” حفر بأنفاسٍ باردة مقبرةً للمعانى، ووقف فوقها يطلُّ بنظرة حائرة على العدم.
 
أعلى