جمال بامي - سيدي أوسيدي

1

آثرت أن أعنون المقالة التي أخصصها للفقيه الصوفي السوسي أبي محمد صالح بن واندالوس بسيدي أو سيدي باعتباره اللقب الذي اشتهر به، ولا يذكر في محروسة تارودانت إلا به، وهو على كل حال صاحب "المدينة" كما يقال..
لم يكتب لسيدي أو سيدي أن يترجم بوفرة كباقي الصلحاء الكبار ببلاد المغرب كأبي يعزى، وبوشعيب السارية ومولاي عبد الله أمغار وأبي مدين الغوث وعبد السلام بن مشيش، إذ نجد ابن الزيات التادلي في التشوف ينفرد بالترجمة لهذا الفاضل الذي طبع التاريخ الروحي لتارودانت بإضافة نوعية…
ولقد عثرت على كتيب نفيس كتبه الفاضل أحمد بزيد الكنساني سماه سيدي وسيدي: أبو محمد صالح بن واندلوس صالح تارودانت، فوجدت الدراسة قيمة انطلق مؤلفها من ترجمة يتيمة في التشوف وتفرع منها تنقيبا وتحقيقا وتدقيقا، واستدعاء لمعاصري سيدي وسيدي في السياق الثقافي والسياسي والتاريخي العام حتى تمكن من إضاءة جوانب من حياة ومسار صالح تارودانت سيدي أو سيدي..
يقول أمين جمال في مقدمة كتاب سيدي أو سيدي لأحمد بزيد: "يصدر هذا الكتيب النفس في سياق المسح العلمي الميداني لملامح وخطوط وجه سوس الحضاري في المجال الفقهي والأدبي والفني والصوفي، ويعكس بجلاء من خلال المنهجية التي ارتضاها الباحث مستوى التحري والتتبع والاستقصاء للوثائق الدالة، وتسقط الأخبار من مضانها وعلى مستوى السبك الحدثي والتنضيد الإخباري والنفاذ الدلالي".
ويبرز أمين جمال أهمية المنحى الصوفي في حياة صالح تارودانت كما سعى إلى إبراز ذلك مؤلف كتاب سيدي أو سيدي بقوله: "وهذا المنحى الصوفي العميق الذي نعكسه في حياة الشيخ أبي محمد صالح بن واندالوس (..) يأتي واضحا في هذا الكتيب النفيس، لتأكيد حقيقة النزوع الروحي والصوفي المشكل للشخصية السوسية، كحلقة وإضافة مهمة ترصد حياة هذه الشخصية المتصوفة الشهيرة، ردا غير مباشر على الأوهام التاريخية، والقصور المعرفي عن هذه الشخصية، وعلى الأوهام التي ارتبطت بها من خلال تعاقب الزمن.. ".
قام أحمد بزيد في بداية دراسته بإبراز أهمية القرن (6ه/12م) باعتباره يمثل مرحلة شديدة الأهمية في تاريخ المغرب الوسيط؛ فقد شهد المغرب خلال القرن السادس نشاطا علميا وفكريا واسعا.. فأثمرت العقول، وأينعت الأفكار، وازدهرت العلوم والفنون والمعارف الدينية والأدبية والفلسفية، وانتشر التأليف والتدوين وجمع الكتب واستنساخها[1]..
لقد كان الحاضن لهذا الازدهار العلمي دولة سياسية عظمى اقترنت بوفرة اقتصادية وتفوق حضاري، لكن هذا التفوق المادي والحضاري سيثمر بالإضافة إلى ازدهار العلوم العقلية والنقلية ازدهار التصوف وطرقه وطرائقه وعلومه..
وقد أحسن أحمد بزيد في ترجمته لسيدي أو سيدي إلى وضعه ضمن سياق معاصريه الذين ليسوا غير أقطاب التصوف خلال القرن السادس الهجري، وقد ساهمت هذه الطريقة المنهجية في إضاءة بعض جوانب حياة سيدي أو سيدي التي لم تكن لتتيسر بشكل موضوعي لغياب المصادر..
إن عصر سيدي أو سيدي إذن هو عصر أبي شعيب الدكالي الصنهاجي، المعروف بالسارية دفين محروسة أزمور (توفي 561ه) وأبي يعزى بن عبد الرحمن، إيلا النور الهميزي (يلنور) (توفي 572ه)، وأبي مدين الأندلسي الغوث (توفي 572ه)، وعمرو بن هارون الماديدي السكتاني (توفي بعد 590ه)، وأبي العباس الحباب المراكشي (توفي 292ه).
في هذه الأجواء العلمية والروحية والحضارية سطع نجم أب محمد صالح بن واندالوس الروداني السوسي المعروف بسيدي أو سيدي دفين محروسة تارودانت..
يقول أحمد بزيد في كتابه سيدي أو سيدي (منشورات نادي الغد الأدبي بتارودانت، 2002): "في نفس العصر كانت بلاد سوس تشهد حركة علمية مذكورة لفضل عدو مراكز علمية مبثوثة في أرجائها، كانت كعبة الطلاب والمدرسين والعلماء، وشيوخ التصوف، والتجار، والسائحين.. وغيرهم من ذوي المقاصد والغايات، تستقبل الأجيال على توالي العقود والسنوات من الشرق والشمال والجنوب ليستكملوا تكوينهم العلمي الذي بدؤوه في مساقط رؤوسهم، ومدارس قبائلهم ليأخذوا فيها عمن تصدر للتدريس بها من كبار الشيوخ والعلماء، فيرجعون إلى مواطنهم متخلقين بأخلاق العلم والمعرفة والحضارة، والتنور بأنوار العلم والنضارة، متزودين بالكتب والإجازات في الآفاق، كثير منهم آثر الاستقرار في تلك المراكز واتخذها دار قرار واستقراره.
ففي هذا العهد كانت بلاد سوس في ما وراء الأطلس الكبير جنوبا، مجال نشاط إنساني متعدد الأوجه، بما فيه النشاط العلمي والدراسي الذي احتضنته مدارسه ومساجده في عديد من المراكز، تحدثت عنها المصادر بصوت خافت، انطلق منها كثير من الطلبة السوسيين والعلماء، متسلحين منها برصيد علمي كان أساس مساهمتهم في إمداد الحركة العلمية في مختلف الحواضر والمراكز.. ". وهذه مسألة طالما وقفت عندها في مقالاتي حول علماء المغرب، ومفادها أن ازدهار الحركة العلمية ببلاد المغرب مسألة شاركت فيها الحواضر والبوادي على حد سواء، ولا يمكن فهم العمق العلمي والحضاري لبلدنا المبارك إلى بالوقوف على سلاسل انتقال العلم المباركة وما ارتبط بها من معطيات تاريخية وفكرية ومجالية، وهذا مبحث شيق يعد بالكثير..
لقد كانت هناك مراكز متعددة في سوس خلال القرن السادس، ساهمت في تنشيط الحياة الثقافية، بما كان يسودها من نشاط علمي ودراسي، استفاد منه كثير من أبناء سوس الذين نزلوا في مختلف الحواضر المغربية وشمال إفريقيا ومصر والأندلس في هذا العهد، ويذكر أحمد بزيد في كتابه حول سيدي أو سيدي مراكز: أنسا، وهو مركز سكاني قديم العمارة، حافل النشاط شمال سهل سوس بتاريخه العلمي والسياسي[1]. والعمراني في هذا العهد، قبل أن ينزل به الشيخ عمرو بن هارون الماديدي، في مدشر (وأوسلاخت) قرب أولوز، حيث هناك للعبادة والتربية والتعليم والإرشاد، قصده شيوخ عصره فضلا عن طلبة العلم، وتألق نجمه بنشاطه الصوفي والعلمي الذي اندثرت بعد القرن 7ه.
ومركز ماسة، وهو تجمع سكاني كبير، ومركز تجاري بحري قديم، ورباط مقصود من أهل العلم والصلاح قبل القرن 6ه/12م، وهذا المركز غير بعيد عن مدرسة (أكلو)، التي كانت مركزا علميا كبيرا منذ أسسها سيدي وجاج بن زللو اللمطي، تلميذ أبي عمران الفاسي في صدر القرن 5ه.. ومركز زاوية بني نعمان التي كانت مركز نشاط علمي وصوفي جنوب تزنيت قبل القرن 7ه/ 13م، اندثرت معالمها العمرانية والعلمية في غمرة الصراع التاريخي بين قبائل جزولة، وقبائل المعقليين والحسانيين، بالإضافة إلى مراكز أخرى في سوس كانت موضع نشاط علمي خلال القرن، لكن أخبارها اندثرت وآثارها انطمست بسبب إغفال التدوين وإهمال المصنفين -بتعبير أحمد بزيد- مثل مراكز (كرسيف) و(تنملت) و(إفران) و(مسكينة) و (حاحة) و(تين إيمل) و (أولاد يحيى) و (أيت إيكاس) و(تالكجونت) و (تفنوت) و(أوناين) و(أيت وادجاس) و(هزميرة) وإيداوزال)، وغيرها..
ومن العلماء الذين ساهموا بحظ كبير في ازدهار الحركة العلمية بسوس خلال القرن السادس نذكر إبراهيم بن يحيى السملالي المسكيني : (توفي بعد 514ه)، وأبو إسحاق إبراهيم بن القاسم التنملي: توفي 572ه، وأبو عبد محمد بن الأمان الجزولي: توفي 586ه، وسالم بن سلامة الروداني: توفي 589، وأبو بكر بن محمد بن عتيق الروداني: توفي 591ه، وأبو محمد عبد الرزاق الجزولي: توفي 594ه، وعثمان بن سعيد بن عبد الرحمان التنملي: توفي 605ه، وأبو محمد يزركان بن محمد الجزولي، وأبو موسى عيسى الجزولي: توفي 607ه، توفي في أزمور، في أثناء قيامه بمهمة كلفه بها الناصر الموحدي، ليلة السبت 13 شعبان عام 606ه-1209م أو الذي بعده، ودفن بضريح أبي شعيب بأزمور، وإبراهيم عبد الله التهالي ويوسف الحرار، وعمر بن محمد الصنهاجي: توفي 622ه، اشتهر ب (ابن طوير الجنة) ويعرف بأبي الخطاب السوسي..
هذه هي البيئة العلمية والثقافية والروحية التي عاش فيها سيدي أو سيدي دفين تارودانت، وفيما يلي سأحاول التعريف بهذا السوسي الروداني الفاضل اعتمادا على التشوف لابن الزيات، وعلى الإضاءات المنيرة التي قدمها أحمد بزيد حول شخصية سيدي أو سيدي في كتابه المذكور…
يقول أحمد بزيد في كتابه سيدي أو سيدي: إذا سلمنا أن وفاة الشيخ أبي محمد صالح واندالوس كانت بعد عام 591ه/1195م كما يقول ابن الزيات[3] فمعنى هذا أن ولادته كانت في إحدى سنوات القرن 6ه أو أوائل القرن (7ه) على سبيل الاحتمال. وإذا افترضنا كذلك أنه عاش عمرا يتراوح ما بيت 65 و 80 سنة فإن ولادته قد تكون أوسط القرن ما بين 528 و550ه على سبيل الافتراض، فتكون حياته قد امتدت ما بين نهاية النصف الأول من القرن السادس إلى صدر القرن 7ه الذي يليه، طيلة عهد عبد المومن توفي سنة 558ه وابنه يوسف توفي سنة 580ه ويعقوب المنصور توفي 595ه وابنه محمد الناصر توفي 610ه..
وتعتبر الفترة التاريخية التي ولد فيها أبو محمد صالح كما جاء في كتاب أحمد بزيد من الفترات الحاسمة في تاريخ المغرب الوسيط، شهدت فيها البلاد انقلابا سياسيا ومذهبيا واجتماعيا قويا، في غمرة الصراع الموحدي المرابطي في منطقة سوس، وفي مناطق أخرى من البلاد فيما بعد، منذ أعلن المهدي بن تومرت دعوته، وأعلن الحرب على المرابطين حوالي عام 518ه/ 1124م، واستمر هذا الصراع زهاء أربعين سنة إلى أن انتهى بجلاء المرابطين عن سوس وحاضرته تارودانت حوالي 535ه، والقضاء على ثورة ابن هود الماسي عام 541ه. وثورة جزولة المنضوية تحت قيادة يحيى الصحراوي وأبي بكر بن عمر عام 548ه.. والراجح أن سيدي أو سيدي ولد خلال السنوات الأخيرة من هذا الصراع، في ظل مناخ سياسي واجتماعي جديد، تحكمه مبادئ ثورة المهدي المذهبية والسياسية، في كنف أسرته التي لا تحدثنا عنها المصادر بشيء عن أحوالها ومكانتها لمعرفة ظروف نشأة المترجم الأولى..
ويبقى أهم معطى نوعي مرتبط بترجمة صالح تارودانت سيدي أو سيدي التقاء ابن الزيات به في محروسة مراكش، وهو المصدر الوحيد الذي ترجم له، لكنه لم يستفد منه شيئا عن حياته وأخباره؛ لأنه كان كثير الصمت والإطراق. لكنه اتصل بأخباره عن طريق بعض فقهاء جزولة النازلين بمراكش في تلك الفترة، ولم يجمع كل ما يتعلق به من معلومات ممن اتصل بهم واستفاد منهم..
لم يهتم ابن الزيات بالجانب الاجتماعي من حياة سيدي أو سيدي، لكنه اقتصر على شخصيته الصوفية مبرزا نزوع المترجم إلى الزهد والتقشف.. وعلى الرغم من قيمة ترجمة ابن الزيات لصاحبنا سيدي أوسيدي، نظرا لتفردها، لكنها لا تمدنا بالمعلومات الكافية لوضع صالح تارودانت ضمن إطار اجتماعي وتربوي وثقافي واضح، ولولا الاستعانة بتراجم معاصريه، وبالأحداث السياسية والثقافية العامة خلال القرن السادس لما تمكنا من لملمة شتات المعطيات المتفرقة هنا وهناك..
يتبع في العدد المقبل..
————————————————
1. المعحب في تلخيص أخبار المغرب، عبد الواحد المراكشي، ص: 311. أحمد المقري: نفح الطيب، ج: 1. ص: 180-184-215.
2. رسائل موحدية، ص: 87. نشر وتعليق ليفي. بروفنصال.
3. ابن الزيات التادلي التشوف إلى رجال التصوف، ص: 347.





****



2
يرمز لقب ابن واندالوس في الغالب إلى أن أصول أسرة صاحبنا أبي محمد صالح بن واندلوس المعروف بسيدي أو سيدي أندلسية، كانت قد استقرت بتارودانت قبل القرن السادس، ضمن من قدموا إلى سوس مع حركة التجارة الصحراوية في عهد المرابطين. وكان المرابطون قد استعانوا بالعناصر الأندلسية في الوظائف الإدارية والسياسية والعسكرية والثقافية، وأنزلوهم في مختلف المناطق والحواضر، ومن بينها حاضرة سوس تارودانت.
وكنت في إحدى زياراتي لمحروسة تارودانت في أواسط التسعينيات قد وقفت على حي في المدينة القديمة يسمى حي "إندلاس"، ويعني حي الأندلسيين. والطريف أن بعض بيوت هذا الحي مصبوغة بالأبيض والأزرق كما هي عادة الأندلسيين بكل الحواضر المغربية. وهذا دليل على أن التأثير الأندلسي قد تجاوز الحواضر التي طُبِعت به مثل تطوان وشفشاون والرباط وفاس ليصل إلى جنوب المغرب، كما هو الحال هنا مع عاصمة سوس الثقافية.
ومعلوم أن العنصر الأندلسي نزل بحاضرة سوس منذ عهد الملثمين كجنود وموظفين إداريين للقيام بمهام الإشراف على شؤون الإدارة والأمن العام، وتحصيل الجبايات، ومنهم من صدر في حقهم النفي إلى سوس[1].
عرفنا أن ابن الزيات انفرد بالترجمة لسيدي أو سيدي، وجملة ما أورده ابن الزيات التادلي عند هذا الرجل الفاضل هو عبارة عن مسار عام لرحلته مند خروجه من تارودانت شابا ممتلئا حماسا وإصرارا على القيام بالإصلاح عبر تغيير المنكر، ومحاربة مظاهر الفساد والانحراف الأخلاقي، إلى أن رجع إلى تارودانت في أواخر أيامه شيخا من شيوخ التصوف زاهدا في الدنيا بعدما تجول في أنحاء المغرب والمشرق.
ومع أنه لم يرد عند ابن الزيات ما يلقي الضوء على نشأة ابن واندلوس الأولى وسياقها الاجتماعي والثقافي في ظل الحياة العلمية والفكرية والثقافية التي كانت تعيشها تارودانت آنذاك، فيمكن الاستئناس بما أورده ابن الزيات التادلي في "التشوف" لتوضيح بعض الجوانب عن أسرته وشخصيته..
قد يكون جد أسرة أبي محمد صالح بن واندلوس أو أبوه من الطارئين الذين استقرت بهم الأحوال بالمدينة، واتخذوها موطنا للاستقرار؛ ويستنتج أحمد بزيد في كتابه "سيدي أو سيدي" (منشورات نادي الغد الأدبي بتارودانت، 2002) من كون أبي محمد صالح بن واندلوس أسود اللون[2]، معناه أنه ابن أمة من الإماء السودانيات المستجلبات مع قوافل تجارة الرقيق، انتهت بها الرحلة إلى تارودانت في كنف هذه الأسرة الأندلسية المستقرة بها، وهناك ولدته أمه نتيجة التسري، وقد كانت تارودانت في هذا العهد مركزا نشيطا للعنصر السوداني إلى الشمال. ومعلوم أن تملك العبيد والإماء لا يتاح إلا لذوي اليسار والمكانة المرموقة في المجتمع، مما يرجح معه أن تكون أحوال أسرة المترجم –الأندلسية الأب– ميسورة ومكانتها معتبرة، كان لها دور ما في حياة المدينة نجهله اليوم.
كما أن قيام أبي محمد بن واندلوس بتكسير خوابي أنزير[3] التي اختزنها أبوه، وإهراق محتوياتها، يدل على تشبع بتعاليم حركة التطهير الديني الأخلاقي والمذهبي التي قام بها خلفاء المهدي بن تومرت لإزالة كثير من الظواهر الاجتماعية والأخلاقية الفاسدة -حسب رأيهم- والمنتشرة في المجتمع المرابطي، في سياق تطبيق مبدأ ابن تومرت في (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهذا ما يجعلنا نرجح تأييد بن واندلوس لثورة الموحدين المذهبية والسياسية.
ويرجح أحمد بزيد في كتابه "سيدي أو سيدي" أن تكون لأبي محمد صالح أسباب ذاتية أخرى يعكسها الشعور بالظلم الاجتماعي والاحتقار الدوني الذي كان يجده في نفسه، بسبب سواد لونه وكونه ابن أمة أنجبته بالتسري، فتولد في نفسه شعور مضاد لهذا الواقع الاجتماعي، وباعتبار هذه العوامل والمساوئ ممهدة لهذه الوضعية الاجتماعية التي وجد نفسه فيها، إنسانا مهمشا، يعيش في مناخ تسوده النظرة الفوقية إلى من في وضعيته من أبناء العبيد والإماء..
يقول أحمد بزيد في كتابه: "وموقف أبي محمد صالح بن واندالوس لا يتأتى لأمثاله تحت طائلة الجهل والأمية والرق، وإنما يتاح في وسط تحيطه ظروف التعلم والتنوير، أتاحت له الحصول على نصيب من العلم والمعارف الدينية التي لا بد وأن يتلقاها على يد مدرسي وفقهاء المدينة، وحتى يستطيع أن يكون موقفا واضحا على أساس شرعي يفرق بين الحلال والحرام من قبل أن يخرج من تارودانت، وإلا فمن أين يأتيه الرصيد العلمي الذي سيستغله في حلقات الدرس في أغمات ومراكش بعد انتقاله إليها؟ فيدرس ويناقش الشيوخ الذين يجلس إليهم، ويحاور رفاقه في الأخذ… في سياق حياة أضرابه الأفاضل السوسيين الذين ارتحلوا من قبائلهم مسلحين بزاد علمي يتيح لهم متابعة الدراسة والتكوين سيما وأنه انتقل من حاضرة سوس العلمية والسياسية والحضارية في ذلك العهد..
ذكر ابن الزيات التادلي في التشوف أن أبا محمد صالح بن واندلوس لما كسر خوابي عصير السكر، عاقبه أبوه بالضرب وحبسه في البيت لفترة من الزمن، تأديبا له على فعلته، ولما عفا عنه بتسريحه من حبسه التأديبي، أبى أن يخرج من سجنه حتى يدخل المدينة قوم يضفرون شعورهم، والمقصود هم (الغز) وهم جنس من أتراك مصر والشام، استعان بهم الموحدون في عهد أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، في منتصف القرن 6ه- 12م[4]، وتحقق دخولهم إلى المغرب في هذا العهد. وضمنهم يعقوب المنصور إلى جيشه النظامي، وإعطاءهم امتيازات[5]، وتكونت منهم فرقة في الجيش عهد دولة الموحدين والمرينيين.
ويحتمل أن يكون دخول الأغزاز إلى تارودانت في أثناء الحملات العسكرية المتكررة التي وجهت إلى تارودانت بشكل دوري منتظم خلال فترة حكم أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن التي كانت بين 558ه 580ه/ 1163-1184م[6] مما يرجح أن يكون خروج صاحبنا سيدي أوسيدي من سجنه ومغادرة تارودانت في غضون العقد السادس أو السابع من القرن السادي، وعمره يتراوح ما بين 15 و20 سنة..
ترك أبو محمد صالح بن واندلوس حاضرة تارودانت وهي أكثر ما تكون بهجة وجمالا، ورخاء واتساع أحوال، في وسط سهل سوس باتساع عمارتها، وكثافة سكانها وكثرة خيراتها، بنشاطها التجاري في وسط شبكة الطريق التجارية، من وإلى الصحراء. حتى أضحت أواخر القرن السادس مأوى كل غريب من التجار، واشتهرت في مختلف الأنحاء بتجارة مادة السكر والمنتوجات الفلاحية التي بلغت غاية ازدهارها، إلى صناعة التعدين والنسيج الرفيع، وكانت بذلك قبلة مختلف العناصر البشرية من تجار وحرفيين وطلاب الرزق والعلم من سجلماسة والصحراء وأغمات ومراكش والأندلس، وغيرها من جهات المغرب..
وانتظمت حياتها، وتألقت نضارة حضارتها، وبهجة الحياة فيها، حتى وصف سكانها في هذه الفترة بأنهم كانوا أكثر سكان المنطقة تحضرا وأرقى ذوقا وعناية بأناقة المظهر في التألق واللباس وأساليب صناعة الأطعمة والحلويات.. ورغم هذه الإشارات الواضحة، والمعلومات المفيدة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والحضارية التي لخصها أحمد بزيد في كتابه حول "سيدي أو سيدي" عن الشريف الإدريسي وعبد الواحد المراكشي، وابن عذاري، وغيرهم فإن أيا من هؤلاء الذين اعتمد عليهم لم يشر في سياق امتداح أوجه النشاط الذي استوعبته تارودانت في النصف الثاني من القرن 6ه، إلى الوضعية العلمية والحياة الثقافية القائمة بها في نفس الفترة، باستثناء الإشارة الوحيدة الواردة عند الإدريسي حول الخلاف المذهبي القائم بين سكانها وأهل حصن (تين واينان) من بقايا المرابطين، الذين كانوا في صراع دائم معهم ، وهذه إشارة تفيد أن هناك نشاطا علميا وثقافيا في ظل هذا الخلاف المذهبي على يد فقهاء المدينة الذين يفترض فيهم ينافحوا عن المذهب وينشروا قواعده بالدرس والتأليف والنقاش..
هكذا كانت حاضرة تارودانت عندما غادرها أبو محمد بن واندلوس في رحلته الطويلة، صحبة أحد أبناء بلدته، الذي لم يفصح ابن الزيات التادلي عن اسمه..
فيما يلي سنتعرف على بعض جوانب هذه الرحلة المباركة التي قام بها صالح تارودانت أبي محمد صالح بن واندلوس..
يتبع في العدد المقبل..
——————————————————
1. أحمد بابا التمبوكتي نيل الابتهاج، ص: 59 ك، الأولى، أحمد المقري النفح، ج: 2، ص: 259، الإعلام للمراكشي، ج: 1 ص: 165 وج: 3 ص: 144، ابن الزيات التادلي : التشوف ص: 98.
2. التشوف، ص: 347.
كان من عادة سكان المدينة، كما يخبرنا الإدريسي، أنهم يعتصرون قصب السكر، ويخزنونه في الأواني الفخارية (خوابي قدور..) وهو حلو جدا.
3. ومسكر جدا، انظر وصف شمال إفريقيا، ص: 39. ط. الجزائر.
4. الأنيس المطرب، ص:213. ط المنصور.
5. عبد الواحد المراكشي المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص: 168-191.
6. ابن صاحب الصلاة المن بالإمامة، ص: 23 تحقيق التازي.


***

3
غادر أبو محمد صالح بن واندلوس تارودانت على عادة فضلاء سوس في البحث عن المعرفة والعلم والصلاح وزيارة الأماكن المباركة في الحجاز مرورا بالعديد من معاقل العلم والحضارة في بلاد المغرب ومصر والشام..
يفترض أحمد بزيد في كتابه حول سيدي أو سيدي أن يكون هذا الأخير قد اتجه نحو أغمات بعد خروجه من تارودانت. وكانت حاضرة أغمات في عهد سيدي أو سيدي مركزا علميا كبيرا تشد إليه الرحال من شمال إفريقيا والأندلس والشرق. كما كانت معروفة باستقبال القوافل التجارية، كما تردد ذكرها عاليا، لأهميتها الطبيعية ونشاطها الاقتصادي وازدهارها العلمي وكونها أيضا مركزا عاليا للتصوف وأهله.
كانت أغمات هي المرحلة الأولى من رحلة صاحبنا بن واندلوس على الرغم من غياب دليل مكتوب، مادام ابن الزيات لم يذكر ما إذا كانت أغمات أو مراكش المرحلة الأولى في رحلة بن واندلوس، لكن طبائع الأشياء تؤكد أن القادم إلى مراكش من سوس لابد وان يعرج على حاضرة أغمات التي كانت حلقات الدرس والتصوف بها عامرة، وحركتها التجارية مزدهرة، وهو الإغراء الذي لا نظن أن سيدي أو سيدي يمكن أن يقاومه.
يقول أحمد بزيد في كتابه سابق الذكر: فمدينة أغمات بهذه الأهمية من شأنها أن تستهوي أبا محمد صالح الشاب الطموح، والصالح الجموح، بعد مفارقته لأسرته، ويجد فيها من الأسباب ما يقوي رغبته في التجوال، ويذكي حماسته في التنقل والترحال، بعد أن وسع فيها من دائرة معارفه العلمية، واتصالاته الشخصية، وعلاقاته الاجتماعية مع رجال العلم والتصوف، وشرائح المجتمع الأغماتي، التي لا بد وأنه وجد فيها السلوى، وفرصة اختبار الحياة والناس ليشتد عزمه على المغامرة والتحمل. ومن غير شك أنه أخذ بها قسطا من معارف العصر على يد شيوخ الدرس والتحصيل، بمعية عديد من الطلبة المصامدة والجزوليين، الذين نزلوا بها وشاركوا في حياتها العلمية والدينية، ممن نقرأ أسماءهم في ثنايا مختلف المصنفات التي وضعت في هذا العهد وبعده.
وصل بن واندلوس إلى مراكش في الربع الثالث من القرن 6، فوجدها تعج بالعلم والصلاح، مليئة بالحركة والنشاط الحضاري والعمراني، الذي لا شك أغراه بالتنقل في رحابها، طالبا ملازما لحلقات شيوخ الدرس، والتزود منها بمراتب عالية في العلم والتصوف.. ومع أن ابن الزيات التادلي لم يزودنا بما يكفي من معطيات عن الفترة التي مكثها بن واندلوس في أغمات ومراكش.. فإننا نستطيع القول بأن سيدي أو سيدي لا يمكن أن يتأخر عن مجالس العلم وحلقات الدرس التي يعقدها العلماء منهم والمتصوفة، فيتصل بأهل العلم والصلاح، ويعاشرهم رغبة في الإقتداء والاستفادة والاطلاع. فلا نعرف بالتحديد مدة إقامته في مراكش، قبل أن يغادرها نحو الشرق، ولا بمن كان له به اتصال، فهذه الفترة تعتبر أشد الفترات غموضا في حياة صاحبنا بن واندلوس.
يمكن الاطمئنان إلى أن بن واندلوس لا بد وأن يمر في طريقه إلى الحجاز بمختلف المراكز الحضرية والعلمية المزدهرة في تلك الفترة، مثل تلمسان وبجاية والقيروان والإسكندرية والقاهرة ومكة والمدينة.. ويتصل فيها بمن يلقاه من أهل العلم والدين والصلاح، ويحضر مجالسهم، وهو تقليد تاريخي علمي، وسلوك اجتماعي راسخ عند المغاربة منذ القرن 3ه مما هو معروف في كتب الرحلات.
ومن المؤكد أن أبا محمد نزل بمراكش بعد عودته من رحلته الحجازية، وقضى فترة يتردد فيها بين مراكش وبين أغمات، قبل أن يرجع إلى مسقط رأسه بتارودانت، لكن تفاصيل حياته واتصالاته خلال هذه الفترة أيضا لم تسلم من الإهمال والإغفال في ما دونه ابن الزيات، رغم أن كل ما دونه عن بن واندلوس تم خلال هذه المدة التي قضاها أبو محمد صالح بن واندلوس بمراكش قبل مغادرتها إلى تارودانت[1]. ولولا ما أخبر به ابن الزيات عن هذا الشيخ الكبير، لظل شخصا مجهولا ولا يعلم به أحد من أبناء اليوم، فيطويه النسيان كما طوي كثيرين من أمثاله الأعلام. فقد احتفظ لنا بمعطيات هامة عن المترجم تهم علاقته بمعاصريه ومحيطه الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه، فجميع من أخبروا عنه وعرفوه، كانوا أصدقاء له من تلاميذ الشيخين يوسف بن علي الصنهاجي (سيدي يوسف بن علي)، أحد الرجال السبعة توفي 593ه/1197م[2]، وأبي العباس السبتي توفي 601ه/1204م، أحد الرجال السبعة كذلك، وكان بن واندلوس ممن عاشوا هذه الفترة وصاحبوا هذين الفاضلين.
فقد صاحب سيدي يوسف بن علي بعد رجوعه من رحلته الحجازية، برفقة صديقه إبراهيم بن أحمد الوراق من تلاميذ أبي العباس السبتي، وأبيه أحمد الوراق، فلازمه في مكتبته واستفاد منه، وكانت بينهما علاقة صحبة ، استفاد منها ابن الزيات التادلي في بعض الأخبار المتعلقة بصاحبنا سيدي أو سيدي. ونعرف من التشوف أن من أصدقاء بن واندلوس بأغمات ومراكش: علي بن أحمد الصنهاجي، ومخلوف بن محمد الأنصاري، وكان جارا له، ويوسف بن عيسى القيسي، وعبد الوهاب الغاني…
كان هؤلاء المذكورون من معاصري سيدي أو سيدي في مراكش، رافقهم في ملازمة الشيخ أبي العباس السبتي، وسيدي يوسف بن علي، الذين كان لهما تأثير صوفي كبير في عصرهما، وأتباع كثيرون، ومنهم أبو محمد بن واندالوس الروداني، ولذلك أخذ هذا الأخير بمذهب السبتي في حياته. وقد بدا تأثير أبي العباس السبتي ومذهبه في الإحسان واضحا على بن واندلوس، حتى بعد رجوعه إلى مسقط رأسه تارودانت، حيث تفرغ للعبادة ونفع العباد بالإطعام والتصدق على المساكين ومساعدة المستضعفين والفقراء والمحتاجين..
قال ابن الزيات عن بن واندلوس: "لا يمسك شيئا مما يفتح له فيه… تصدق على المساكين بجميع ما ورثه من أبيه من أملاك، ولم يمسك شيء"[3]، كما أورد عنه أخبارا أخرى تؤكد تمسكه بمذهب السبتي، وتأثره به إلى أن لقي ربه، وكان بيته في تارودانت محشرا للمساكين لا يفارقونه.
ذكر ابن الزيات التادلي أن ابن واندلوس صاحب أبا يعقوب يوسف ابن علي توفي 593ه، بعد رجوعه من رحلته وهذا يعني أن سدي أو سيدي ارتحل قبل ذلك إلى الشرق لأداء الفريضة، ثم رجع ليلازم الشيخ مدة قبل وفاته في السنة المذكورة أعلاه، بمعية جملة من المريدين المذكورين في التشوف.
يستنتج أحمد بزيد في كتابه حول سيدي أو سيدي بأن فترة رحلة بن واندلوس قد تتحدد بين سنتي 580-590ه، فيكون قد ناهز الأربعين من عمره عند رجوعه من المشرق وحصرها فيما بعد سنة 591ه[4]، وهي السنة التي وقعت فيها (غزوة الأرك)، وابن واندلوس ما زال حيا سنتها، فقد أخبر بانتصار المسلمين في هذه الغزوة، وهذه آخر مرة رآه فيها ابن الزيات.
والذي يستفاد مما أورده صاحب التشوف، ابن واندلوس غادر حاضرة مراكش بعد سنة 591ه، فرجع إلى تارودانت سنة 591ه وهي السنة التي عاد فيها أبو محمد صالح بن واندلوس إلى بمسقط رأسه (تارودانت)، وتفرغ لخاصة نفسه بعد أن تصدق بكل ما ورثه من أبويه على الفقراء والمساكين، سيرا على نهج شيخه أبي العباس السبتي..
لكن الرغم من ندرة أخبار أبي محمد الروداني بن واندلوس في المصدر الوحيد الذي ترجم له، فقد برزت بعض ملامح شخصيته الصوفية وشفوفه الروحي من خلال النتف القليلة جدا، ولا أدل على ذلك من أن مؤلف التشوف أدرج ترجمته بين الرجال الصلحاء وأهل الورع في الدنيا في عصره..
وكغيره من كبار الصلحاء فقد تردد ذكره في الأغاني الشعبية الأمازيغية والعربية، تسجل جلاله قدره وآثار فيض بركته وصلاحه وإحسانه كأحد الوجوه الفاضلة المؤثرة في الاجتماع الإنساني في عصره بفضل من الله..
رحم الله أبا محمد صالح بن واندلوس، كبير أولياء حاضرة سوس وجازاه عن تارودانت والمغرب خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..
يتبع في العدد المقبل..
——————————————————————————
1. التشوف إلى رجال التصوف، ص: 349. ط. التوفيق
2. المصدر نفسه، ص: 298-210.348، ابن عبد الملك، الذيل والتكملة السفر الثامن، القسم الثاني، ص: 431. رقم الترجمة 225.
3. نفسه ص: 348.
4. نفسه، ص: 347.









 
التعديل الأخير:
أعلى