معتز حجاج - الصحابة والجنس و”السنجل ماذر”

رُمي المغيرة بن شعبة بالزنا في خلافة ابن الخطاب، فاستقدمه وواجهه بالشهود، ثلاثة منهم شهدوا برؤية “المرود في المكحلة”، فلما أقبل رابعهم، زياد بن ابيه، قال “رأيت منظراً قبيحاً وسمعت نفساً عالياً، وما أدري أخالطها أم لا”، وفي رواية لم يشهد بشيء، فأقام عمر الحد على الشهود الثلاثة. هنا تتعالى الصيحات ببراءة الشريعة من العنت، ولكننا نريد الفهم لا التهليل، فلا يسعنا أن نمرر الرواية هكذا قبل أن نضع بضع ملاحظات:
أولاً: أن المغيرة المتهم بالزنا كان كاتب رسائل الرسول، شهد بيعة الرضوان وغزوة اليرموك، وكان عامل بن الخطاب.
ثانياً: أن الشاهد الرابع لم ينف وقوع الزنا، ولكنه خالف شهادة أصحابه فلم يكتمل النصاب.
ثالثاً: عندما أقبل زياد قال له عمر: “أرى فيه وجه رجل أرجو ألا يُرجم رجل من أصحاب رسول الله ولا يخزى بشهادته”، وهو تصريح يدفعنا إلى الشك في أن شهادة زياد كانت خالية من تأثير القاضي، وعمر هنا لا يتصرف باجتهاده، بل يطابق فعل رسول الله، وهذا ما سنبينه لاحقاً.

قذف من أعلى منابر الدين والفضيلة:

لو اشتعلت الحرب العالمية الثالثة لما كان لها هذا الصدى، فتاة أنجبت من زواج عرفي ورفضت التخلي عن وليدها، وصرحت بذلك على صفحتها الشخصية، لتتحول فجأة لمقوض لدعائم المجتمع وثوابته الدينية، كأن لا إثم ارتكب إلا علاقة جنسية بين شاب وفتاة، لا فساد وإهمال وإفقار وقتل تم في وادينا الطيب.. تبارى الجميع في قذفها من أعلى منابر الدين والفضيلة!
انقسم مجتمعنا الخلوق ورجال دينه حول منشور هدير مكاوي لفريقين، الأول يراها زانية مُصرحة بالدنية، والثاني يرى أن الزواج شرعي، ولكن كليهما اتفقا على أن هناك مجتمعا غابرا كان مثالياً خالياً من كل نقص، حتى فطرة التلاقي بين الجنسين بشكل شرعي أو غيره، وأن علينا الرجوع لهذه اليوتوبيا، مجتمع الصحابة. وهو تصور فضلاً عن عدم معقوليته، ونجد عكسه إذا ما تناولنا المدونات الفقهية والحديثية وكتب السير، والتي إذا ما تم قص شينها لن يبقى منها شيء يذكر، هو أنها تجعل الحاضر منقاداً للماضي، وتُكبل التجربة الإنسانية بما تشتمل على الصواب والخطأ والبحث عن حلول لمشكلات واقعنا، لتحصر دورنا كله في تقليد أمة قد خلت، لذا سنبحث هذا الافتراض.
لا أقيم للقراءة المغرضة وزناً، فالقارئ المُغرض يقرأ نواياه لا المنتج، ومُسيء الفهم محسوب علينا خطأه، ووجب الاعتذار له بادئ ذي بدء، لذلك أوضح أن هذه القراءة لمجتمع الصحابة لا تهدف التشويه، بل تقديم صورة أشمل لعلاقاتهم الجنسية، تبحث في التاريخ لا النوايا، فالأخيرة كلها لله. ولا أنكر أنها قراءة صادمة، وذلك شأن كل عمل ينظر خلف ضباب القداسة فيرى ما يعكر صفو اعتقاده، لكن عزائي أنني تحريت الأمانة في النقل وأعملت عقلي في التفسير ولا أستطيع إدعاء الكمال، وغير معقول طلبه، فالضعف فطرة البشر.

كل ابن آدم خطاء:

كان مجتمعا عاديا انشغل بالجنس كما انشغلت غيره من المجتمعات، عرفوه في إطار العرف الاجتماعي والديني فيما بعد، فأغلب الصحابة آمنوا في أواسط أعمارهم ونهاياته، أو خارجه. بحثوا عن إشباع غرائزهم كما نبحث تماماً، ولا يمكن إخراجهم من سنن البشر. وقد احتل عقولهم حتى وهم قرب حتفهم، ترى أحدهم يسأل رسول الله: “أيباضع أهل الجنة؟”، أي يمارسون الجنس، قبيل معركة فاصلة ستغير شكل المنطقة مع الروم، أقوى إمبراطورية في زمنها، والمسلمون أقل منهم بعدد بلغ عشر آلاف مقاتل، والرسول يرد كأنما خاطبه في شأن عسكري!
وفي لحظات المعارك لم يكن السؤال فقط عن الجنس في العالم الآخر، بل كان منهم من يتتبع النساء، يحاول التقرب منهن ومجالستهن “عن خوات بن جبير بن النعمان عن ابيه أنه قال: خرجت مع النبي في غزوة فخرجت من خبائي فإذا بنسوة حولي فلبست حلة ثم أتيتهن فجلست إليهن أتحدث معهن، فجاء النبي فقال: يا جبير ما يجلسك هنا؟ قلت: يا رسول الله بعير لي شرد”، وهنا لم يتقرب الصحابي لمجالس النسوة فحسب، بل حاول التهرب من الحرج الذي أوقعه فيه الرسول بالكذب، ومن الملاحظ أن الرسول لم يضغط عليه أكثر حتى لا يقع في أخطاء أخرى، وذاك تصرف رجل يدرك طبائع النفوس.
ولم تكن محاولة تقارب الجنسين من خلف ظهر الرسول فقط، بل في حضوره أيضاً “عن عبد الله بن عباس: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل الرسول يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر”، إن الرسول هنا يتعامل مع غلامين في بداية التعرف على تلك الكيمياء الملعونة والمحببة في آن بين الجنسين، لذا لم يغلظ القول لهما، ولم يحاول قطع حديث الفتاة التي شاركت الفتى الوسيم التطلع، بل صرف نظر أقربهما له، وذاك فعل لا يدركه المتأففون إعلاناً للفضيلة إذا ما حضرت النساء.
وفي حال الزواج يبدو أن الرؤية الشرعية لم تكن بالأمر الكافي لدى بعضهم، فقد قال جابر بن عبد الله: “خطبت امرأة فكنت أختبئ لها حتى رأيت ما دعاني إلى نكاحها”، ومن غير المقنع أن يكون قد رأى ما ظهر منها، الوجه والكفين، فمن المفترض أنه قد رآهما بالفعل حينما خطبها، فما الداعي للاختباء؟!
وحتى لا يفهم أن الرجل هو الوحيد المبادر للتطلع في هذا المجتمع، علينا أن نرى الجانب الآخر “ذات ليلة سمع عمر بن الخطاب امرأة تقول: ألا سبيل إلى خمر فأشربها.. ألا سبيل إلى نصر بن الحجاج”، ويقال إنها أم الحجاج الثقفي، لذلك قال له عروة بن الزبير: “يا ابن المتمنية”، وقد نفى “عمر” نصر بن الحجاج لملاحته وافتتان النسوة به، وفي رواية حلق له رأسه. ولعمر موقف آخر مع امرأة سمعها تقول: “تطاول هذا الليل واسود جانبه.. وطال علي ألا خليل ألاعبه.. والله لولا خشية الله وحده.. لزلزل من هذا السرير جوانبه”. فسأل عنها عمر، فقالوا له إن زوجها في الحرب، فأرسل يستقدمه وبعث بامرأة ترافقها حتى يعود، وكانت تلك المرأة سببا في أن يشرعن قاعدة “لا تحبسوا رجلاً عن امرأته أكثر من أربعة أشهر” في رسالته لأمراء الجند.
ومن الملاحظ أن عمر على ما عرف عنه من تشدد لم يعنف المرأة، بل راعى ظرفها، رغم ما صرحت به، والذي هو بالقطع أقسى بكثير مما قالته هدير عن زواجها غير الرسمي، فلِمَ لم ينهاها عمر عن الجهر بالمعصية ونهى رجال الدين هدير عما هو أقل من قول المتمنية بمراحل؟!

زنا وتحرش واغتصاب وامرأة لا تمانع يد لامس:

“عن بن عباس قال: جاء رجل إلى الرسول فقال: إن عندي امرأة هي من أحب الناس إلي وهي لا تمانع يد لامس. قال: طلقها. قال: لا أصبر عنها. قال: فاستمتع بها”.
صححه ابن حجر وابن حزم والنووي والألباني، وضعفه ابن القيم وابن تيمية وابن الجوزي والنسائي والإمام أحمد. وأمام هذا الاختلاف على الحديث، وكثيراً ما يكون الاختلاف بهذا الشكل، ليس أمامنا غير طرح سؤال وبحثه باختصار: “هل هذا جائز في ذلك المجتمع؟ وهل تصرف الرسول وارد منه؟”. ويجب قبل الشروع في بحثه الإشارة لملاحظتين هامتين. أن علم الحديث، ولا أقول علوم الدين كلها، سارت في توجه لا وعي لإضفاء هالات مقدسة على مجتمع الصحابة كله، حتى إنك لن تجد حديثا صحيحا يزعزع هذه الصورة عند إمام، إلا وقد ضعفه آخر، ويسمح عدم دقة معايير علم الرواية وجموده بهذا. أما الملاحظة الثانية، هو انعكاس شخصية الإمام/ الباحث، الذي يدخل فيها المكون النفسي والاجتماعي والاقتصادي وموقفه من السلطة والفرق المختلفة، على موضوع بحثه.
ولنعد إلى تساؤلاتنا. المدقق في المجتمع وقتها يرى من العلاقات خارج الإطار الشرعي الكثير، بدءً من التحرش حتى الاغتصاب، مروراً بالزنا. ومن ذلك أن صحابياً راود بغيا تائبة عن نفسها فصدته، فتولى عنها فاعترض طريقه حائط فأصاب رأسه، فأخبر النبي بذلك، فقال: “أنت عبد أراد بك خيراً، وإذا أراد الله بعبد خيراً عجل له العقوبة في الدنيا”.

وهذه آية تنزل في صحابي تحرش بزبونة “والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله”. ونعم بالله، فلو تركت المغفرة في يد دعاة الدين والفضيلة اليوم، لما عرفت الجنة ساكناً!
أما عن الاغتصاب فنعلم عنه واقعتين، الأولى أن صحابياً اعتدى على امرأة ذاهبة لصلاة الفجر، وكانت الطرق وقتها غير ممهدة ولم تعرف الإنارة، فلم تتبين ملامحه، واشتبه عليها الفاعل بين من استنجدت به والذي اغتصبها، فعندما هموا بإقامة الحد على البريء، استيقظ ضمير الجاني واعترف، فقال عمر: يرجم، لكن الرسول قال: “لا، إنه قد تاب إلى الله”. ويبدو أن عمر وعي الدرس النبوي، الغاية لا حرفية النص، وكثيراً ما كان يعي الغاية حتى اعتبر أول مجتهد برأيه في الإسلام، فحينما جاءوا بامرأة على حمار هاتفين: “زانية زانية”، لأنها زنت حسب اعتقادهم في المسجد أثناء الحج، وعلم منها أنها كانت نائمة عقب قيام الليل فلما استيقظت وجدت رجلا فوقها، فقال عمر: “لو قتلت هذه خشيت على الأخشبين النار”، ولم يكتف بهذا بل وضع قاعدة أخرى أرسلها لولاته على الأمصار “لا تُقتل نفس دونه”.
وعرف ذلك المجتمع الخلوة بمعناها الحقيقي لا ما يوجد في التجمعات المختلطة اليوم “جاء رجل للرسول فقال: يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة” إلى آخر الحديث، فتلا عليه الرسول: “وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل”. وعرف أيضاً زواج غير البكر على أنها بكر، فقد اختصم بصرة بن أكثم زوجته التي وضعت بعد أربعة أشهر من الزواج، فحكم الرسول: “لها الصداق بما استحللت من فرجها، فإذا ولدت فاجلدوها”، نظر الرسول في تلك الواقعة لحق المرأة في صداق تحيا منه، وبعد أن اطمئن على مصير الوليد، أقر بالجلد، العقاب آخر ما يكون في حسبان مصلح للمجتمع.
ولولا أنه كان هناك طفل، سنحسبه مجازاً آداة الجريمة، لما حكم بذلك، ففي واقعة أخرى جاءه رجلٌ يروي له، أنه تزوج من بكر فلم يجدها كذلك، فسمع الرسول منها، فأنكرت فحكم باللعان. وهو حكم جاء كمخرج للزوج من حد القذف إذا لم يستطع إقامة البينة على زوجته. يُحكم بجلسة يتلاعن فيها الزوجين، ويحذر ذكر الطفل أثنائها، إن وجد، ويفرق بينهما للأبد، ويحمل الطفل اسم والدته، لتصبح “سينجل ماذر” في الإسلام.
أفلا يعلم الإمام علي جمعة، مفتي الديار الأسبق أن المصطلح الذي رآه “غريبا على مجتمعنا وديننا”، ليس غريبا إلى هذا الحد الذي استدعى أن يسب على الهواء، في حلقة استفتوه فيها عن أمر هدير مكاوي ومفهوم “السينجل ماذر” الذي أطلق عليها، لقد وجدتم كل مستحدثة في العصر الحديث في الإسلام، لِمَ لم تجدوا هذه أيضاً؟!
نعم؛ كان هناك “سينجل ماذر” في الإسلام، وكان هناك أطفال يربون في كنف أمهاتهم، منهم من صاروا قوادا في الجيش الإسلامي كـ”زياد بن ابيه” داهية العرب، المولود في السنة الهجرية الأولى، والذي لو شاء له الله أن يولد بيننا لما استطاع الوقوف على عربة فول. واليوم يوجد 14 ألف حالة إثبات نسب أمام المحاكم. أفلا تنظرون لهم من خلف منشور هدير. أفلا تنظرون خلف ضباب القداسة؟!




* منقول عن موقع زائـــ18ـــد
 
أعلى