دعوة الحق - خاتمة كتاب المعسول، للعلامة المختار السوسي

(1)
اليوم نجز بحمد الله كتاب(المعسول) بأقسامه الخمسة. فقد رسمت معالمه. وبينت مناهجه. وحر في كل قسم ما عندنا الآن من تراجم الذين يليقون لكل قسم من الأقسام الخمسة. ولم يبق إلا تحرير ذلك وتصفيته. وتتميم ما لا يزال ناقصا وإصلاح ما عسى أن نقع عليه من خطأ. ومتى انحلت العقدة. وأزيل عنا هذا الحصار الذي نحن فيه. نبذل جهودنا أن شاء الله في تحرير كل ما سودناه الآن. وتخريجه من مبيضته وإدخال ما لا نزال نرجو إلحاقه بالأصل. وعلى اله وحده التكلان. وحسبنا اله ونعم الوكيل:
اكتب هذا في دار أهلي بـ(الغ)حيث جمعت من مواد الكتاب ما جمعت وأنا في عزلة تامة عن العالم الذي يتلظى بهذه الحرب الثانية. وفي غربة أرخت على عزاليها. وأنا منفرد في غرفتي هذه البدوية الساذجة. وولدي عبد(2) الله يقفز أمامي. وأخوه سعيد المولد لنا منذ شهور، يرقد في مهده. وأمه تحركه بيدها لينام وهولا يزال في بكاء مستمر. لكن لبكائه الحان ونغمات وأنا أجد منها ما لا أجده من الحان أم كلثوم. ومن نغمات عبد الوهاب. وعادتي أن أشغل وأفراد أسرتي الصغيرة يذهبون ويأتون حولي. وظهري إلى جدار،ففي النهار استند إزاء قويس صغير مفتوح إلى دائرة وسط الدار.فاستمد من نور النهار. وفي الليل استند في حجرة إلى جدار آخر. وعن يساري إزاء راسي مشكاة(3) فيها سراج من السرج المعتادة(4)ذوات الشعب الأربع ونور فتيلته الغريقة في الزيت كتب بعض هذا الكتاب الذي سيقرأه غدا إن شاء اله من يتصلون به من أهل الحواضر الذين لا يألفون إلا الكهرباء الوهاجة في قصورهم الشماء البهجة. هذا وأنا احمد الله حين وجدت الآن هذا المنعزل في هذه الحرب الضروس التي تتموج في العالم. وتضيق على الناس بغلاء الحاجات الضرورية. فلا شمع ولا ملبوس ولا سكر. وإلى الله المشتكى. وعسى ما نحن فيه أن يكون له فرج قريب بحول الله.

محتويات الكتاب
كان الغرض الأساسي في الكتاب مناول يوم هو تخليد أهل هذا البسيط(الغ) في التاريخ. أداء لحق هذه الأسرة الصالحة العالمة، أسرة آل عبد الله ابن سعيد. ثم لما جمعت منهم وممن يساكنوهم أخبار صلحائهم وعلمائهم وأدبائهم ورؤسائهم ما أمكن، تعالت همتي أن أمد السماط لغيرهم من جميع السوسيين الذين يمكن لي أن أدخلهم في الكتاب. على شرط اشترطته على نفسي. ففتحت بذلك الباب على مصراعيه. فأتتبع أشياخ الالغيين من الصوفية والعلماء. ثم الذين اخذوا عن الالغيين من العلماء والصوفية. وقد اقتصرت في الاخذين عن الالغيين على الذين اخذوا من المدرسة(الالغية) ومن الزاوية الدرقاوية0الالغية) خاصة. فسرت أتتبع من الفريقين كل من يقعون تحت شرطي هذا فأجدني أؤدي اكبر واجب لغالب السوسيين المخالطين للالغيين من أهل هذين الجيلين الماضيين، بل ومن أهل هذا الجيل أيضا. فقد أمكن لي أن اتصل بوساطة من هم على شرط الكتاب من أشياخ اللغيين، وممن اخذوا عن الالغيين. بكثير من رجال الأسر العلمية الجزولية، وحين اشترطت أن أذكر أسرة كل من هم على شرطي، ذكرت البعقوبيين اولاد سيدي عبد الله ابن يعقوب السملالي. والمافانيين السملاليين والوكاكيين والاكضيضين والكوساليين. وآل يعزي السملاليين، والعباسيين والبوشيكريين. والواسخنين والازاريفيين والشرفاء التازروالتيينن والاساكيين الافرانيين. وآل سيدي محمد بن ابراهيم اشيخ التامانارتيين وآل محمد بنعمرو الاسريريين. وآل الطيفور الساموكنييننواليزيديين الايسيين، والسلميين، والتمكيدشتيين الايسيين، والايديكليين التملين والجشتميين التمليين، والتاسكدلتيين،والتينكيين العبلاويين، والكرسيفيين، والدويملانيين، والتمليين الرادنيين،والخياطيين، التمليين الردانيين،والتاكوشتيين. والركاراكيين التاوريرتين، والاقاريضيين الصوابيين، والبوشواريين والواغزانيين، والاسغاركسيين، واليعقوبيين الايلالنيين والاكناويين واليلالنيين، والريشيين، وىل عبد الله بن داود الايسافنيين والاسكاريينن والكثيريين، والمزاواريين الرسموكين. وآل تامرة، وآل انزاض والمحجوبيين الرسموكييين، وآل سيدي علي بن احمد الرسموكيين، والمضائيين الرسموكيين، والتاغاتينيين الرسموكيين وآل ابن عمرو البعقيليين. والاغرابوئيين البعقيليين. وآل سيدي عمر البونعانيين، والسكراديين الجراريينن والغرميين الجراريين، والمسكداديين والتوماناريينن والاكراريين، وآل السملاليين الساحليين وآل تادارت البعمرانيين، وآل اغبالوا الماسيين،والياسيينن والناصريينن السومسيينن والبنسعيديين وآل حسين الطاطائيينن والركنيين. والتاتليين، والشرحبيليين، وآل تاغارغرت، وآل سيدي إبراهيم ابن علي التيغانيميين، وآل الشيخ ماء العينين الذين صاروا يعدون من السوسيين ومن أشياخهم. وغير هؤلاء مما سنقف عليهم فيما بعد إن شاء الله، يوم نملك أنفسنا فنذهب ونأتي كما نريد، ممن لهم تعلق باللغيين أستاذية أو تلميذية أو صداقة وربما جرى ذكر بعض اسر أخرى إن ذكر بعض رجالاتها أثناء تراجم أسرة من هذه الأسر. كآل حمزة، وآل تخفيست، وآل ارامو السملاليين، وكآل البرج الرسموكيين، فهذا علمنا في كل من لهم اتصال بالالغيين من العلماء. ثم لم ننس الرؤساء أصدقاء الالغيين. إزاء هؤلاء العلماء. فأتينا(في القسم الخامس) بفذلكة من القواد والشيوخ السياسيين الذين لهم مواصلة تامة مع الالغيين. والمقصود إفادة المؤرخين غدا. هذا علمنا في هذا الكتاب ولا ريب انه لا يدخل تحت شرطنا فيه إلا قليل من العلماء والرؤساء من مطلق السوسيين. ما لم يكونوا من رجالات هذه الأسر العلمية أو الرياسية. ولذلك خصصنا كتابا عاما جمعنا فيه من يذكرهم مؤرخونا السوسيون في كتبهم. كالبعقيلي في(كراسته) والتامانارتي في(الفوائد الجمة) والرسموكي في (وفياته) والكرامي في(بشارة الزائرين) والحضيكي في(طبقاته) والجشتمي في(لحضيكيين) والايكراري في(روضة الافنان) وابن الحبيب في(تعطير الطروس) وضمنا إلى ما في هذه الكتب ما تيسر لنا من غيرها. وسنبني على هذا إن شاء الله فنجمع كل سوسي من أي كتاب آخر إلى ذلك. ليكون سجلا خاصا بكل علماء سوس. وقد سميناه(رجالات العلم في سوس)(5) كما أن هناك مجموعا آخر خصناه للرؤساء. ولما نتمش فيه إلا خطوات. قلنا هذا لئلا يغتر القارئ ب(المعسول) فيظن انه تاريخ عام لكل علماء سوس ولكل أدبائه. بل هو صوان لطائفة خاصة يجمعها شرط خاص. نعم انفرد(المعسول) بسوق كثير من الآثار الأدبية المختلطة مع الإسهاب في التراجم. فتلك مزيته الخاصة وإزاء أدبياته. كتابان آخران. احدهما (مترعات الكؤوس) خصصناه لآثار أدبية حسنة لمن ليسوا على شرط(المعسول) والثاني(جوف الفرا) جعلناه كسلة المهملات نلقي إليه ماغت وما سمن بحسب رزقه مما يبقى عن تراجم(المعسول) وهذا كله عمل من يجلس وحده في هذا المنفى، يزجي الأيام بتسويد الطروس، ومداعبة القلم، حتى يفرج الله ولعل كل ما سودناه يكون له شأن فيكون أفضل هدية لمن سنفد عليهم غدا إن شاء الله يوم تنفرج الأزمة بحول الله.

كيف أحرر التراجم
يألف المؤرخون كالبعقيلي، والتامانارتي، والرسموكي والحضيكي، والكرامي، والجشتيمي، والايكراري. وابن الحبيب. منذ صاروا يكتبون عن رجالاتهم الإيجاز المطلق في تراجم من يترجمونهم في كتبهم. ويكون ذلك غالبا إيجاز مخلا لا يستفيد منه المطالع الباحث عن النواحي التي ترتكز عليها معرفة حياة الرجال. فكنت أتألم كثيرا متى احتجت إلى معرفة رجل من الرجال المذكورين في تلك المؤلفات التاريخية. حين لا أجد ما أتطلبه من الإحاطة بترجمة من أبحث عنه. ومن هنا حرصت كل الحرص إن أسهب في التراجم غاية جهدي حتى لا يقع غيري بعدي فيما وقعت فيه فالتزم أن اذكر كل ما استطعت إليه سبيلا مما يتعلق بنسب المترجم مع ذكر ما اعرفه من وقت الولادة ووقت الوفاة أولا تحت اسم المترجم، ثم اذكر نسبه ومن له من الأساتذة في القرآن والمعارف. مع ذكر الأمكنة التي أخد فيها القرآن والمعارف( والمعهود أن يغفل أساتذة القرآن في التراجم) ثم اذكر أعمال المترجم من كل ناحية في التدريس وفي غيره مع التزام ذكر المدارس التي درس فيها. وذكر التلاميذ الذين اخذوا عنه- إن عرفتهم- ثم اذكر مختلف الأنباء التي تتعلق بالمترجم، والأطوار التي تطور فيها. والآثار الأدبية إن كانت له. وبالإجمال اذكر كل ما اعرفه عن المترجم. إلا أنني من كتاب اليمين لا من كتاب الشمال- إلا لبيان ما لابد منه- وان بإشارة من بعيد، ثم اختم بذكر أولاد المترجم وبمراثيه إن وجدتها. هكذا سرت في التراجم التي وجدت لها مستمدات تمدني بكل ما أريد. ثم إن كان المترجم من أسرة علمية اذكر جميع رجال أسرته. من أولهم إلى آخرهم. بكل ما اعرفه عنهم نسبا مولدا وأساتيذ وتلاميذ وأعمالا وآثارا أدبية. وان لم تكن إلا تافهة كرسالة ساذجة أو قوافي موزونة معربة، فلذلك أمكن في الكتاب جمع رجالات الأسرة الواحدة في صعيد واحد. فيخرج القارئ من كل أسرة، وقد الم بغالب أحوالها حتى ليمكن للقارئ أن يعد مجموع كل أسرة مؤلفا خاصا،فيكون كتاب(المعسول) مجموعة مؤلفات شتى، بعدد ما يحتوي عليه من الأسر التي جمع شملها. وهي عشرات فعشرات.

إنني احرص في الكتاب أن اذكر الأحياء(6)بين الأسر، متى وجدت لهم الماما بالعلوم، بحيث يقرأون العربية ويكتبونها بلا لحن، أو بلحن قل قليل مع مرورهم على المتون، وأن أسوق الآثار الأدبية، وان مل تكن ذات قيمة في نظر أصحاب الأذواق السليمة، لا يقاني أن ما لا يصلح للأديب الماهر، يصلح للمؤرخ الماهر التي يستنتج من أثر سقيما يدل عليه سقمه. فإذا بذلك يعود عليه مع غيره بفائدة عامة. عن آثار أدبية في عصر من العصور أو في إقليم من الأقاليم أو لا يرى المؤرخ الماهر الحريص على الاستنتاج أن هذا من الفوائد العظمى ؟ والكتاب ليس كتابا مدرسيا ينتقى له. بل كتاب تأريخ يحشر فيه كل ما أمكن كيفما كان جيدا أو غير جد. ما دام عربيا وان لم يكن من الواقع. فقد يستفيد المؤرخ من عبارات الرسائل الساذجة ما لا ستفيده من الرسائل الرائعة، كما أنني اذكر الصوفية كما هم في بيئتهم وعند معتقديهم فان ذلك إن لم ينقل كما هو في بيئته لا يفيد المؤرخ، سواء كان ذلك على مبدأي السلفي أم لا. وليت شعري كيف يعرف رجال عرفوا بخرق العوائد، إن لم يذكر معهم ما عرفوا به.

الشلحيون والعلوم العربية
ينشأ الفاسي في بيئة تتكلم اللغة العربية الدارجة. يسمعها من أبويه ومن الخدم، ومن أقرانه في ملاعب الآزفة. ثم إذا دخل مكتب القرآن يجد في كتاب الله ألفاظا لا يغيب منها عن فهمه إلا بعض كلمات لا تستعمل في بيئته. ثم لا يكاد يدرك التمييز حتى ترى والده يصاحبه إلى مجالس العلم خصوصا بين العشائين(7) والى المساجد حيث يحضر خطب الجمعة. فيمكن له انم يفهموا و تفهما بسيطا ما يقوله الأستاذ في مجلس علمه. والخطيب في خطبته. هذا إذا كان والده عاميا.وإنما إن كان الوالد احد العلماء. فان الولد يسمع أيضا في وسط الدار العربية الفصحى من بعض العلماء الزائرين لأبيه. في أثناء المذكرات مما لابد أن يفهم منه القليل إن لم يفهم الكثير. ثم إذا جمع القرآن أو كاد يدفع به إلى تعلم أسس العربية الفصحى. فسرعان ما يتذوقها. فلا تمضي عليه إلا شهور، حتى يعرف مواقع الكلام العربي المرتب بمرفوعاته ومنصوباته ومحفوظاته ثم لا يقطع إلا شوطا أو شوطين حتى ترى كمه يتفتح عن الزهرة التي تتبعها الثمرة وشيكا.

هكذا يكون ابن فاس الذي ينشأ في بيئة عربية علمية. فلا يمضي عليه في تلقي العلوم إلا قليل حتى يظهر بفطنة وذلاقة وفهم مكين. قبل أن يمضي عليه أحيانا حتى سنة.

وأما الشلحتي البربري القح الذي يحيا في مثل جبال(8)جزولة الذي ينشا في بيئة لغته الشلحية البعيدة عن العربية، فانه قد يحفظ القرآن- وكثير منهم لا ستتمون حفظه إلا عند البلوغ أو أكثر- وهو لا يدري حتى معنى الخبز والسمن والبصل والحصير والفاس، لأنه ينشأ في إقليم منزو ومنكمش على نفسه، قلما يزوره عربي أجنبي عنه- كما هو الحال في جبال جزولة قبل الاحتلال- وقلما يخرج منه أهله إلا تجارا قليلين إذ ذاك. وهم الذين يلمون وحدهم بالعربية الدارجة ويبقى سواهم مرتطمين في لغتهم الخاصة فمن حفظ منهم القرآن لا يفقه من معناه أي شيء. ما لم يلم بدراسة العربية في المدارس. وهكذا يكون حافظ القرآن الذي تبلغ سنه غالبا نحو ثمانية عشر عما. فتراه إذا افتتح الجرومية بتحير في معنى(الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع) ثم يزداد تحيره يوم يغرق في (باب معرفة علامات الاعربا) فلا يأخذ كل ذلك إلا تلقينا وتقليدا. وحفظا لمة يكتب له(وقد يتم الجرومية ثم يعيدها مع(الجمل) و(الزاوري) وهو لا يفقه ما يزاوله إلا توهما. وترديد كلمات يحفظها كالتصريف في(اللامية) على قواعدها. يلقنه إياها الأستاذ تلقينا ليجيب بها. وهكذا يسير كما يسير الأعمى المقود بيده وقد تمضي سنتان أو ثلاث، وهو بعد بعيد عن تفهم ما يتعاطاه حق التفهم(9). حتى أن الأستاذ سيدي محمد ابن عبد اله الألغي يقول:
ندميك قبل ثلاث سنين = فلا تهجرنه أخير أنيس
فان الثلاثي مصـدره = اجل مواضيه غير مقيس

يقصد إن الأستاذ لا يتطلب من تلميذه تمام الفهم فيما يقرأه من العربية إلا بعد مزاولة ثلاث سنوات(10)فإذا ذاك فقط يؤاخذه إذا لم يفهم ما يزاوله. وضرب لذلك مثلا بالمصادر التي تبنى من الأفعال الثلاثية) فان غالبها غير مقيسة بخلاف الأفعال الرباعية فما فوق فإنها مقيسة.
ذلك هو التلميذ الشلحي الذي تدرس له العلوم العربية باللغة الشلحية على ما هو العادة فيقرأ الجرومية واللفية حتى مختصر خليل بلغته المعتادة(11)، فمتى يا ترى يتمكن في اللغة العربية ؟ حتى إذا تمكن من قواعدها بكثرة الانكباب سنوات فانه لا يتذوق لبابها وآدابها إلا بعد جهود اخرى بين ثلاوات كتب أدبية كثيرة خارج الدروس المعتادة- كما هي عادة بعض المدارس التي كتب على أمثال هذه الكتب في عطل الأسبوع يوم الخميس والجمعة والعواشر وبعد مدارسة أمثال المقامات، ولامية العجم، ولامية العرب، والشقراطيسية، وبانت سعاد، والهمزية، والبرد، وقلائد العفيان وديوان المتنبي. والمعلقات السبع وأمثالها مما يدرس في كل المدارس أو في بعضها. ثم لا بيئة عملية إلا في المدارس أو في مجلس العلماء. أثناء الدراسة فقط. وإما لغة التخاطب فهي اللغة الشلحية دائما.

فلتسمع الآن أيها الفاسي ما يقاسيه صنوك السوسي في تطلعه إلى التمكن في اللغة العربية. والتضلع منها. حتى يمكن له إن سافر من بلده إلى (القرويين) أن يجاورك في الأخذ عن أساتذة(القرويين) فربما لم يمض لك أنت في الدراسة إلا سنتان أو ثلاث مع انه مضى له هو فيها زهاء عشر سنوات. ثم لا يفوق مستواك غالبا. والعلة في ذلك ظاهرة بيناها غاية البيان. ومتى ظهر السبب، بطل العجب.
( وبعد أفلا تشكر هذا الجزولي المكب على العربية وأدبها حتى استطاع أن يتذوق منها بعد سنين كثيرة في فقر وإقلال في باديته القاحلة. ما تتذوقه أنت، و|أنت في أعظم حاضرة تجبى إليها ثمرات كل شيء. أفلا ينبغي أن تعبر ما كان يلاقيه حتى استطاع أن يتطلع إلى التعبير بالعربية وان يقول فيها ما يقول، ميدانا عظيما تجلت فيه التضحية في أعلى مجاليها.
ثم لا يحسبن القراء إننا نشيد بكل ما في هذا(الكتاب) من منظوم ومنثور. فلسنا والحمد لله من أهل الغباوة حتى نحسب الجمرة تمرة. والقضة(12)فضة. وإنما كل مقصودنا أن يدرك القارئ بتمهل إن لم في هذا الكتاب صدر عن الناس شلحيين. تربوا في غير العربية. ثم لا تصل سلك احدهم بالعربية إلا بعد جهد جاهد، فان احدهم لا يزال يتخطى من الاجرومية فالتي نتولها من الكتب المدرسية شيئا فشيئا..فهو يا×ذ من القواعد العربية بلسان أبويه. ثم لا يزال يتعالى إلى العربية فتتسرب إليه قليلا قليلا بمقدار ضئيل. حتى يتأتى له بكثرة المزاولة وشدة الإمعان، وبطول الحرص أن يسلس له قياد تلك اللغة ، وان لا تحجب الفظها المعاني التي تقمصتها، ثم إن كان قدر له أن يكون كأحد هؤلاء الأدباء المذكرين في هذا الكتاب. فانه يسير قدما. يواصل الاسئاد بالتاويب. ولا يفتأ عن سير الميقاب(13) حتى يتبحبح اللجج. ويسبح في العباب، ثم لا يقنعه إلا أن بتسربل شملة عربية، ويستلئم فكرة مضرية. وان يتصور انه من جبلي(نعمان) فيستخلص إليه نسيمه. أو انه احد بني عذرة فيتهالك على نسفه هياما انتوهم انه سنحت له إحدى الحسان. أو أنه عنترة العبسي فيلحظ جلده كأنه خافية الغربا. ويرفع عقيرته وقد أغلط من صورته فينشد كما يحسب أن عنترة ينشد كذلك:
ولقد شفى نفسي وابرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم أو أنه أبو نواس فيغازل الكأس والطاس. ويثأثئي بالسين إن أجرى على لسانه ذكر محبوبه عباس(14) أو انه ابن زيدون في اكتاف(الزهراء) وهو يراسل ولادة بقواف رقيقة. ومعان تفعل باللباب ما تفعل الخمر).

هكذا يعود ذلك الشلحي عربيا مبينا. وقد سلخ عنه مسلاخ أبويه، وعادات قومه، ونسى كل ما يسامته أو يكون على إيمانه وعن شمائله من الشلحيين والشلحيات. يطير كل ذلك عنه. كما طار عن جده الأول كفره يوم حلق دين الإسلام عليه بأجنحته البيضاء، وقد أعار أمس للعرب قلبه وشعوره على عهود أجداده. ثم اتبعه اليوم لسانه وذوقه فيستطيب السبح في بحور أشعارهم وآدابهم. كما يستطيب الصب السبح في مغازلة من تميت فؤاده وملكت عليه مشاعره. كأين من شلحي جزولي تراه في شملته السوسية وفي سحنته الجزولية. تكشف لك عما في طواياه. لرأيت أدبيا عربيا يمد إليك راحته ليصافحك، كأنما انتساخ الأرواح صحيح. فجالت أرواح بعض أدباء العربية في العالم. فلم يطب لها أن تتقمص إلا أشباح بعض أفراد من السوسيين الكرام ومن تختارهم الأرواح من عليها. فتعود بهم ثانيا إلى هذا العالم. أفلا تختارهم أنت أيها القارئ الذي تحذر جسمه من أصلاب عربية حقيقية، فتقد ماليهم يدك. فتشكرهم على ما قاموا به من الجهود الجبارة، حتى حرصوا على لغة آبائك العربية، فحنوا عليها حنو المرضعات على الفطيم ؟
لا يهمنا من هؤلاء الأدباء أنهم مجيدون فيما يقولون أو غير مجيدين، بل هل كل أدباء الحواضر يجيدون دائما. فالإجادة رهن الحظ، ومن بنات البخت وكم من أديب كبير عالم بالفنون التي أتقنها حتى في الحواضر لا يحسن أن يضم كلمة إلى كلمة عند مناجاة ربة القريض. كما هو المعتاد عن المفلقين في القريض، ولهذا ينبغي أن تكبر من هؤلاء الأدباء الجزوليين هذه الهمم المتحفزة الطيارة التي تقطع أجواء فيحاء واسعة، قبل أن تطل على ما هو الأدب العربي الذي كان منها بمنزلة السماء السابعة ممن هم في الأرض السفلى.
لا نشك في أن غالب هؤلاء أدباء، ما دمنا نحد الأدب بأنه الاطلاع الواسع على اللغة العربية، والنفوذ إلى روحها المكنونة. والإنصاف بأوصافها تخلقا، حتى يكون خلقا راسخان ذوقا واريحة وشعورا. فإننا ما دام هذا هو الأدب العربي، وان المتصف به هو الأديب العربي. نحكم بان غالبهم مع تفاوت أقدارهم أدباء. بلا شك يعترينا في مجموعهم إن كان بعض شك يعترينا في بعضهم إن سحب عليه وصف كاتب بارع، أو شاعر مفلق، أو علامة كبير.

قد يتراءى من بين بعض عباراتهم اختلال في التراكيب. وضعف في التعابير، وهلهلة في النسج،ولكن لا ينسين القارئ أن هؤلاء المذكورين في هذا الكتاب متوزعون على عدة قرون، كما لا ينسين أن الأدب العربي ب(سوس) جزء متصل دائما بوساطة(القرويين) و(الجامع اليوسفي)و( تامكروت) بالأدب العربي المغربي العام مدا وجزرا، افلاقا واسفاقا فليدرس الأدب المغربي العام في هذه القرون كلها في جميع أجزاء المغرب وليدرس هذا الجزء في ضمن ذلك. ثم لا علينا إن صدر حكمه أو عليهم، فان الجهود المبذولة- وهي وحدها مفخرتهم الوحيدة- لا يمكن أن ينساها هذا الحكم. وان أمكن إن يكون عليها. فمهما بلغ ان يلسعها من الشدة والعنف ما يلسع، فان جهودهم لا ننسى في إتقان العربية وعلومها وآرائها. وعلى المرء أن يسعى وليس عليه أن يساعده الدهر. ومن بذل جهده فقد اعذر.
على أننا لو قدرنا أن امة من أمم الهند أو أمريكا أو أوربا اعتني أفرادها من عند أنفسهم باللغة العربية كما اعتني بها هؤلاء الشلحيون الاقحاح حتى برز في علومها من بينهم في إعصار متتابعة كثيرون تحصيلا وتأليفا وآدابها وشعرا. ثم أحصى باحث علماءها في ذلك، فوجدوا نحو أربعة(15) آلاف، والمؤلفون في علومها عشرات فعشرات، ثم ألقيت نظرة عجلى على أدبائها فحشر ممن تيسر منهم أن توضع اليد على الآثار التي بها يكتبه القدر ويسير الفوز فيلفون عشرات فعشرات وبينهم نخبة منتقاة منتخلة ممن مروا في قرون قليلة. ولعل أضعافهم موجودين. ولكن إنما هي جولة قليلة في زمن قصير تحت شرط خاص ملتزم. من رجل ليست يده بطولى علما ومتناولا. لو قدرنا
أمة ما هكذا.ثم خفي أزمانا عن الأعين كثير مما تنطوي عليه هذه الأمة من آثار العروبة. وءايات لسانها الذلق. ثم قام اليوم احد الباحثين فاكتشف لنا ما اكتشفه هذا الكتاب المتواضع. فليت شعري كيف يقابل عند القراء في هذا العصر الذي تقدر فيه جهود الأمم. ويشار فيه بنبوغ النوابغ ؟ فما هؤلاء الشلحيون وأعمالهم تحت لواء العربية الفصحى. وما قاموا به خير قيام قرونا متوالية بلا ملل ولا فتور. إلا مثل امة من تلك الأمم فإذا لم ترسل صحيحة عالية تعجبا واستغرابا تمثل أمام الأعين جهود أدبائها المستعمرين كما لاشك أنها ترسل مثل تلك الصيحة لو ظهر مثل ذلك فجأة من إحدى تلك الأمم. فما ذلك إلا إغماض في الحق. ونكران مجهود بعض الأمم دون بعض وإشادة بقوم. واحتقار أمثالهم من أقوام آخرين.

وختاما أقول أن كل طلبتنا وراء هذا العمل أن يعرف أن هناك في قاصية الجنوب المغربي لعلوم عربية، وآدابا مسترسلة، منذ أوائل القرن الخامس. يعتريها إتباعا للحركة العلمية المغربية العامة جزر ومد، وقوة وضعف، ولم يزل ذلك مسترسلا إلى الآن. وما هذا المجموع في هذا الكتاب إلا كعنوان لكل ما يروج في عصور مختلفة. خصوصا في الأجيال الأخيرة، فإذا قرأه قارئ أو قرأ بعضه إن لم يتركه ذوقه العصري أن يقرأه كله. أو تصفحه ورقة ورقة، كما يفعل أناس غير قليلين من إنصاف المتعلمين، أو ألقى نظرة على عنوانه. ثم ألقاه كما يفعله بعض من أولعوا بمس كل كتاب في دكان(الكتبي) ثم لا يشترون أي كتاب إذا قرأه احد هؤلاء كله أو بعضه، ثم ألقاه استثقالا لأدبه القديم. أو تصفحه متعلم أو لمسه من أولع بصدع رأس(الكتبي) ثم أدرك أن هناك منذ أوائل القرن الخامس في(سوس) علماء وأدبا عربيين كانوا يعيشون بالهواء المغربي في قرون مختلفة كما عاش أمثلهم من العلماء والأدباء في الحواضر والبوادي التي في ضواحيها، وتحت أحضانها. إذا أدرك القراء هذان واذكروا من ورائه أن من في تلك الزاوي الجنوبية المغربية شاركوا أيضا في النبوغ المغربي في العلوم العربية وآدابها. فان ذلك هو مقصودي الوحيد الذي انقطعت له منذ سنين.

ثم لم يبق لي إلا كلمة إن لم تكن في ذهن بعض من يطالع هذا الكتاب. فانه يتألف إن وصل بعض من كانوا عاشوا في هذا الجيل، ثم درجوا أخيرا. لأنه يصب عليهم جاتم غضبه حين لا يزالون عاضين بالنواجذ على ما يزعم انه أدب أمشاج كمومياء. لا روح فيه إلا المحاكاة وإلقاء الألفاظ في بحور العروض بترصيف أو بلا ترصيف ويقول قد كنا نقرأ ذلك لمن عاشوا قبل هذا الجيل فنقلبه منهم. لأنهم عاشوا في عصور لا تعرف إلا ذلك. ومن يكلف احد أبنائها ما ليس في مستطاعهم من نبوغ في عصورهم. وعلو عما كان معهودا بين أيديهم من غير أن يبعثهم إلى ذلك فكر عال، وشعور وثاب وقريحة جياشة، فقد حكم عليهم بالمحال، وحاول منهم أن يطيروا بلا جناح، وأما من عاشوا في هذا العصر الذي انبعثت فيه الآداب العربية كما هي عصرنا الذهبي العباسي. وصرخت بصرخاتها الصاخبة، حتى اترجت بها المسامع، وتهاوت بها الأدب المهلهل الفقاقع. وحتى أبصر الأعمى الصراط المستقيم، وسمع حتى الأصم كيف يكون الأدب العربي ابن الشعور الحي. لا ابن أفكار ميتة معانيها كالودع الملقى في سيف كل بحر، وفي متناول كل يدلا قيمة لها. ولا يهتبل بالتقاطها عاقل ذو عينين. من عاش في عصر هذا أدبه المتواطأ عليه، ثم لا يزال يغمض عينه، وينكر الشمس، وينسج بخيوط العنكبوت، فانه لا يستحق إلا أن يرفس من قراء هذا العصر الحاضر بركلة يتدرج بها إلى الدرك الأسفل. إليه يقود مثل ذلك الأدب المنحط اليوم.

ذلك بلا ارتياب ما سيقوله بعض القراء الحاذقين أو المحتذلقين أو جلهم، ولكنني تنازلا لهم على فكرتهم وان لم يكن بعضها إلا خطلا. اقترب من أذن احدهم فألقى إليه سرا. لئلا يسمعنا سامع من هؤلاء السادة الذين احترم شعورهم. وكان فضلهم على عظيما، فأقول :إن أهل تلك الناحية لا يزالون الآن 1360هـ. بعيدين عن عذاب تانيبك. لان البعثة إلى الآن لا تزال متوقفة دونهم أو لم تحفظ قوله تعالى(( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا))ليلحقوا بأصحاب الفترة كلهم أجمعون اكتعون ابتعون ابصعون إلا ما كان من ثلة منهم كانوا هاجروا فرأوا كيف ترقى الأدب العربي اليوم وأما ما عدا هذه الثلة ممن كانوا يعيشون في هذه الجبال، فلا يزالون بعيدين عن تأثير روح شوقي وحافظ والزهاوي الوارفعي والرصافي والمنفلوطي في الأدب العربية اليوم والواجب أن يقابل كل من في تلك الجهة الدارجين منهم والأحياء بشكر جزيل على محافظتهم على اللغة العربية الفصحى في ذلك الإقليم. وعلى الأدب العربي من حيث هو الأدب العربي. فان الزمان كفيل إذا أراد السعد أن يستمر الأدب العربي في(سوس) بتلقيح الفكر الأدبي هناك بروح حية وتابة. حتى يترقى التعبير. ويتفوق هناك الشاعر اليوم. كما تفوق سلفه أمس، وتباشر فجر ذلك على الأفق. وحسبنا بالبونعماني والتناني والرداني(16)وأمثالهم دليلا ناصعا.

هذا ما يجب نحو أولئك الفضلاء المستعمرين الكرام الذين جعلوا مناغاة العربية هجيراهم. وموضع اسمارهم، وعاهدوه معاهدة مستمرة الوفاء. لم يخسها الآباء، يضحي الأستاذ بجميع عمره في تعليم التلاميذ كما يضحي التلميذ بشرخ في إتقان الفنون مع المحافظة على المثل العليا الإسلامية.
تذييل
ذلك ما كتب عن(المعسول) يوم كتابه الأولى. وظن أن إتمام ما ينقصه ربما يكون على طرف التمام، وان تنقيح تراجمة المكتوبة. وزايدة تراجم أخرى أمر سهل، لا يستدعي جهودا أخرى. ولا مواد أوسع. ثم لما أفرج عني الإفراج الأول. في(سوس) وحدها مختتم 1360هـ. فصرت أتنقل في الإسفار السوسية التي سجلت رحلاتها في كتاب(خلال جزولة) وقفت على ما أزيده في التراجم التي كنت كتبتها في تلك العزلة. كما وجدت بحرا زاخرا من تراجم أخرى يدخل أهلها تحت شرطي في الكتاب. فملت ما بين 1360هـ. إلى مختتم 1364 ÷ت واندغمت في الدراسة مع طلبة جدد، اجتمعوا حولي في(باب دكالة( بقي الكتاب في حقيبة كبرى منسيا يندب شجوه. حتى كأنني لم اكتبه، فلا يجري ذكره على لساني، ثم لما دهمت الأزمة سنة 1370هـ، وانتقلت إلى البيضاء صرت التفت إلى ما في الحقيبة فأزيد الكتاب أشياء ظفرت بها جديدا. وحين غام الأفق وكان الاعتقال على الأبواب، وخيف من تفتيش الشرطة الفرنسية. نقلت كل مخطوطاتي في حقائب. ومن بينها حقبة(المعسول) إلى إنسان أمكين، ثم اعتقلنا فكان ما كان. وحين رجعت من الاعتقال، كان أول ما اشتغلت به وشغلت به من يلتفون حولي. كالأستاذ سيدي احمد الاقاوي- لسان الحق والأستاذ الحوزي سيدي محمد بن هماد الكديوي. والأستاذ سيدي محمد بن مبارك السوسي والمراكشي. إن أكببنا على تخريج كل مسوداتي في ذلك المنفى. ومن بينها(المعسول)، وقد عزمت على أن انتهز الفرصة السانحة من خلوي من الدروس، فقطعنا أشواط تلك السنة في ذلك العمل. ثم جاء الاستقلال. فدهمت الوظيفة على غرة. فكنت فينة بعد الفينة، التفت أوقات فراغي إلى علمي الخاص هذا، فإذا به قد اشرف على التمام. فإذا ذاك خطر في بالي إن الكتاب إذا لم يطبع في حياة صاحبه، وتحت إشرافه. فانه يكون عرضة للضياع. وهذه مجلدات بقيت من تاريخ أستاذينا الكبيرين: المراكشي والمكناسي. فأين هي الآن ؟ وهل يحرص على انجاز إكمال الملفات إلا من أسسها من أول يوم. وقردها قدرها. وعرف مواقع الأغلاط فيها. وما الطبع تحت نظر المؤلف حقيقة إلا النظرة الأخيرة التي يتم بها العمل. على أن هناك أمورا أزيدها كلها الآن من جدي. والكتاب تحت الطبع مثل حياة(القائد الناجم) التي زيدت كلها أخيرا. والمنة لله أولا وآخرا.

(وبعد ) فليعلم القارئ أنني اعرف الناس بكل ما يستهدف له المؤلف أن نشر مثل هذا الكتاب. في مثل قطرنا هذا. في مثل وقتنا هذا. فانه سيسمع ما لا يحب كل ذي قلب حي أن يسمعه. ولكن ذلك كله هين في سبيل المصلحة العامة، ولكل ورد شوكن وإزاء كل عمل مادح وقادح. على إن في إخراج المؤلف لكتابة وهو حي لمنافع أخرى. فانه هو بنفسه سيستفيد من التنبيه على أغلاطه من القراء، وخصوصا إن كانت أغلاطا لا يتسامح فيها. ومنذ أيام بعد نشر(الجزء التاسع) توصلت من الأستاذ الكبير(لسان الحق|) سيدي احمد القاوي، برسالة ينبهنب فيها على أغلاط واضحة في ترجمة أستاذه سيدي عبد الرحمان الفاسي. فقد ذكر أنني غلطت في ترجمة الفقيه سيدي عبد الرحمن الفاسي الاقاوي في ثلاث نقط أولاها حين جعلته اصغر مناخيه البقاضي، مع انه اكبر من أخيه. والثانية حين قلت انه اخذ عن أخيه وعن الأستاذ الآخر من(اقا ايكران) في المتون مع انه اخذ عن الأستاذ سييداتي الجاكاني. والثالثة أنني نسبته لقرية(تاوريرت) مع انه من أهل قرية(تاكادرت) ذلك ما نبهني عليه الأخ المذكور، جزاه الله خيرا. ولا أحب إلى من أن ينبهني كل من وقع على خطا مني لاسترده. ولا فائدة في نشر الكتاب في حياة المؤلف إلا ذلك. وقد قال عمر: رحم اله عن أهدى إلي عيوبي).
والكتاب كالملف ر يرفع عنه القلم ولو طبع.
الغث والسمين في الكتاب
إن في كل كتاب- وفي مقدمتها كتاب(المعسول)- غثا وسمينا، ورخيصا وثمينا، وصدقا ودرا. وتبئا وحبوبا. ذلك ما لا ريب فيه، زيادة على ما سيحتوي عليه من أخطاء، عن جهل أو عن نسيان. واختلاف بعضه عن بعضه(ولو كان عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) لكن بعد إقرارنا لكل هذا ؟ ألا تزال هناك أسباب أخرى. ربما كان التمييز بين الغث والسمين من مسبباتها ؟ أو ليس في إقليم إذا كان يقرأ بعض تفاصيل أخبار محلية نعيد ذلك كله عن الغث ؟ أو ليس من لم يكن بأديب يستثقل ما يعده الأدباء من الروائع ؟ أو ليس أن من هو أديب محض لا يستلذ كل ما لا يمت إلى الأدب، وأخبار الأدباء ؟ خصوصا ما يتعلق برؤساء وصوفية يزخر بهما مثل هذا الكتاب، أو ليس أن من له ذوق عال لا يستطيع أن يسمع ولو منظومة واحدة من غالب ما في هذا المجموع الذي سقناه للمؤرخ لا لأديب ؟
إن النقطة التي تنطلق منها النظرة التي تفرق ما بين الغث والسمين هي نفسية القارئ نفسه غالبا. ولذلك لا أقدم هذا المجموع إلا للمؤرخ وحده. الذي يستنتج من السقيم، كما يستنتج من الصحيح. وتشوق إلى إن يعلم عن ذلك الإقليم السوسي الذي هو احد أقاليم المغرب كما يود لو يعلمه عن جميع الأقاليم المغربية. وأما غير المؤرخ. فانه يعرف وينكر، ويقبل ويرد، ويستحسن ويستهجن، ويستغث ويستسمن، ولكنه إن اقر ما ذكرته آنفا من مقصودي في جمع الكتاب- على عواهنه- فانه سيجدني موافقه في كل ما يقر عليه حكمه. ومن باع وبين عيوب مبيعه فانه غير ملوم ولو أنصف القراء لنظروا إلى الصحيح لا إلى السقيم، والى الصواب لا إلى الخطأ.لان الإنسان مجبول على الأخطاء إلا من عصمه الله ولهذا أعلن أنني لا أبيع كتابي على البراءة، واستغفر الله مما أخطأت فيه فيما بيني وبين الله. أو بيني وبين الناس. وما أنا بشر أصيب وأخطئ. والكمال لله.



(1) كتبت هذه المقدمة سنة 1360هـ حيث كان المؤلف في المنفى
(2) استأثر الله به بعد رجوعنا إلى مراكش
(3) المشكاة: كوة غير نافذة من الجدار. وهي يوضع فيها السراج الصغير عادة عند الالغيين.
(4) هذا النوع رأيته بعينه في متحف قرطاجنة. وهو مما أعتيد من عهد الفينيقيين.
(5) كان هذا هو الجزء الثاني لكتاب(سوس العالمة) ولكن أثرنا أن نفرق بينهما ليؤدي كل واحد منهما مهمته الخاصة.
(6) صار غالب الأحياء إذ ذاك 1360. في عالم الموتى الآن 1980هـ.
(7) هذا وصف لأهل فاس في الجيل الماضي حين تحتفل بمجالس العلم بين العشائين كما كانت عليه كل الحواضر إذ ذاك.
(8) هذه الجبال لا عربي فيها، وإنما تسكن القبائل العربية، هوارة وأولاد يحيا والمنابهة فيما حوالي(تارودانت) في السهول. وأولاد جرار حوالي(تيزنيت) ولم تزدهر العلوم العربية بالدراسة منذ قرون إلا في جبال جزلة، حتى ان ابا الجشتمي قال: لا تكون قضاة أو عدولا في(تارودانت) إلا من قبيلة المن من جزولة، يعني أنذلك كثير لا انه لا يقع إلا ذلك.
(9) اكبر مؤرخ لشلحيين عن الفهم الباكر هو التدريس بغير العربية. وقد كنا في مراكش ونحن لا ندرس بالشلحة بل بالعربية الفصحى نرى فهما مسرعا منهم. وفي العهد الرداني اليوم وفر وعه دليل قوي. فلا يكاد الشلحي يمضي عليه إلا قليل حتى يتفتح فهمه بسرعة، بل يظهر من ذكائهم نوادر عجيبة. نعم إن لعموم العربية الدارجة المنتشرة اليوم لسببا كبيرا في ذلك.
(10) قد تنخرم هذه القاعدة في بعض الشلحيين الذين ينشأون في الأسر العلمية، ولكن العبرة بالكثرة الساحقة وهذا أمر نشاهده هناك إلى الآن.
(11) والعجب أن نحو العربية يقرا ويفسر بالشلحة. كما يقع مثل بالفرنسية. فقد حدثني الوزير المعمري انه ما قرأ نحو العربية أولا إلا بالفرنسية.
(12) القضة، الحصاة.
(13) الاسئاد: سير الليل كله. والتأويب: سير النهار كله. وسير الميقاب: السير في الليل والنهار معا بلا نزول.
(14) قال ابونواس فيما اسمه عباس:
وشادن سالت عن اسمه،فقال لي باللثغ عباث
فصرت من لثغته الثغا فقلت اين الكاث والطاث ؟
(15) في يوم من أيام المنفى الطويلة، جلست اعد علماء سوس في كل القرون، فجزرتهم بهذا القدر
(16) ولم أكن ادري وأنا اكتب هنا أن النابغة العثماني شرقت شمسه في الأدب الحي، في هذا الوقت نفسه.


* دعوة الحق - ع/63
 
أعلى