دعوة الحق - لسان الدين بن الخطيب في المغرب

-1-

لعل الباحثين القدامى والمعاصرين لم يغادروا من متردم في شأن لسان الدين ابن الخطيب .. وشعره ونثره ومؤلفاته وأخباره .. ولعل حياته العادلة التي حتمت براجفة من الكيد والنفي والمصاردة. ورادفة من الاتهام والاغتيال والإحراق هي السبب المباشر في هذا الاهتمام الذي حظي به نابغة غرناطة وشهيد فاس .. في أقلام ومؤلفات ابن خلدون. والسخاوي والمقري ومن تلاهم إلى يوم الناس هذا ..
لذلك لا مجال هنا للحديث عن جمع ما فرقوا .. أو تفريق ما جمعوا، وإنما هو حديث عن ناحية خاصة جدير بالباحث في تاريخ المغرب أن يهتم بها اهتماما يلقى بعض الأضواء على إحدى الزوايا المفتقرة إلى مزيد من البحث والتنقيب وكشف الأسرار ..
فأين الخطيب لم يزر المغرب كسفير سياسي أو كرحالة باحث، أو كلاجئ سطو على نفسه .. بل إنه كان أكبر وأكثر من ذلك كله .. فقد كان سفيرا ومؤرخا ورحالة وسياسيا وكان إلى ذلك من أقطاب الفكر والعلم والأدب بالمعنى المعروف في عصره ..
وشخصية بهذه المثابة مع ما عرف عنها من طموح ودهاء وجاذبية لا بد وأن تفرض وجودها في الوسط الفكري والسياسي وأن تكون حولها حالة من التقدير والإعجاب وأن يتهافت عليها الناس على اختلاف مشاربهم وأهوائهمن وأن تأخذ حظها من خيرهم وشرهم ومدحهم وذمهم .. وكذلك كان ابن الخطيب في فاس . وسلا . ومكناس . ومراكش وأغمات وأنفا . وآسفي . وغيرها من المدن المغربية.
وقبل أن نرافق شريط الأحداث في حياة لسان الدين في المغرب يجدر بنا أن نلقي هذا السؤال الجدير بالإلقاء عند الحديث في هذا الموضوع .. وهو :
(هل عرف ابن الخطيب المغرب قبل أن يزوره سفيرا ؟).
وقد ألقيت على نفسي هذا السؤال مرارا وأنا أدرس حياة ابن الخطيب وآثاره الباقية .. ولكنني بعد البحث الشديد المستمر لم أجد نصا في الموضوع يشفي الغليل ويقطع الشكوك والظنون .. الأمر الذي جعلني لا أثبت ولا أنفي ولكنني أطلب مزيدا من البحث عل الأيام تجود علينا بما بخلت به الآن باكتشاف مخطوط ما زال محكوما عليه بالسجن المؤبد ..!
والشيء الذي يجعلنا لا نحكم حكما قاطعا في الموضوع هو أن نشأة ابن الخطيب الأولى ودراسته ما زالتا من النقط الغامضة في حياته، وقائمة شيوخه الذين تحدث عنهم في بعض مؤلفاته ولاسيما في تراجم "الإحاطة" فيهم الأندلسي والمغربي .. والأندلسي الذي أقام بالمغرب .. والمغربي الذي أقام بالأندلس .. والرحالة الذي عاش هنا وهناك .. فلا ندري أين أخذ عنهم ؟.. ومتى ..؟ وهذا جانب من المشكل .. وجانب آخر يرجع إلى أن ابن الخطيب كتب مرارا ترجمة حياته. ولكن هذه الترجمة نفسها قد بعثرت وتعرضت لزيادته ونقصه وحذفه واستدراكه حسب ظروفه التي كانت توحي إليه أحيانا بالفكرة والرأي .. ثم توحي إليه بعد ذلك بصكهما وضدهما فيكتب متأثرا بحالته النفسية فيمدح ويدم اليوم ثم ينسخ ذلك غدا لأن حوادث السياسة المتقلبة تأبى إلا أن تخرج خبايا النفوس فيشمت الخصم. ويتنكر الصديق وتتلاعب المطامح والأغراض بالمودات والعداوات .. والأمثلة على ذلك كثيرة في قصة ابن الخطيب مع القاضي النباهي والوزير ابن زمرك وغيرهما ..
ولا يخفى بعد هذا أن اهتمامنا بحياة ابن الخطيب في المغرب يرجع أولا وقبل كل شيء إلى أننا مدينون له في تسجيل جزء من الحياة السياسية والعلمية والأدبية بالمغرب على عهد بني مرين وما زالت كتبه المخطوطة والمطبوعة من مصادرنا الأساسية في تاريخ هذه الحقبة ..

ابن الخطيب السفير

زار ابن الخطيب المغرب في سفارته الأولى عن سلطانه أبي الحجاج إلى السلطان أبي عنان سنة 749 هـ معربا في الملك العظيم أبي الحسن، ورابطا علاقات المود مع البلاط المريني بعد المآسي العظمى التي مرت بها الدولة في طول البلاد وعرضها، والنكبات التي أصيبت بها القوات المرينية في الأندلس من جراء تخاذل أمراء غرناطة وتلاعبهم حينا وتئامرهم مع الغزاة الإسبان حينا آخر .. وقد كان جرح مأساة – طريف – ما زال لم يندمل .. تلك المأساة التي استشهد فيها كل من والد لسان الدين وأخيه الأكبر .. والتي تركت في نفوس المغاربة أعمق الأثر ولاسيما رجال الدولة منهم ..
ولا نستطيع أن نجد لابن الخطيب آثارا مهمة في هذه الرحلة سوى أنه أدى واجب السفارة وحاول محو تلك الغيوم التي تلبدت في الجو السياسي بين غرناطة وفاس .. ورجع إلى بلاده متفائلا مستبشرا ..
وزار ابن الخطيب المغرب في سفارته الثانية عن سلطانه محمد بن يوسف الملك بالغني بالله سنة 755 هـ إلى السلطان أبي عنان. وقد كان السفير هذه المرة في أوج نفوذه السياسي وشهرته العلمية والأدبية .. كما أن أبا عنان كان في أوج عظمته وكان بلاطه يعج بأعلام الفكر والسياسة والأدب الذين تهافتوا عليه من تونس وتلمسان وسبتة والأندلس، وفيهم المؤرخ والسياسي والشاعر والفقيه والرحالة والمهندس والطبيب .. ولا حاجة بنا هنا إلى ذكرهم، وقد ترجم لبعضهم لسان الدين في الإحاطة كما احتفظت بتراجم بعضهم مصادر أخرى ..
ولاشك أن السفير قد اغتم فرصة وجوده في هذا الجو الحي فربط عدة صلات كان لها أعمق الأثر في حياته العلمية والأدبية والسياسية .. فعرف ابن خلدون، وابن مرزوق، وابن جزي، والمقري الجد وغيرهم .. واطلع على كثير من الاكتب الموجودة بخزائن فاس وعرف كثيرا من الأخبار والآثار والأسرار ..
وقد تحدث عن هذه المرحلة بالخصوص في الإحاطة(1) بإعجاب كبير حيث نوه بأبي عنان وعظمته وحسن استقباله ووصف حضوره في حفلة مصارعة الثور والأسد إلى جانب رجال الدولة المرينية في مهرجان عظيم ثم أنشد في نهاية المهرجان مقطعة شعرية يصف فيها الأسد الصريع أمام جبروت الثور :

أنعام أرضك تقهر الأسادا
طبعا كسا الأرواح والأجادا
وبالسعي للجد قلت ضروبها
في الخلق ساد لأجلها من سادا

ولعل هذا النص في وصف مصارعة الثور والأسد أيام أبي عنان عظيم الأهمية بالنسبة للتاريخ الاجتماعي على عهد بني مرين .. فهذه العادة لا تكاد تجد لها ذكرا في مؤلفات أخرى ..
أما موضوع السفارة فكان تجديد العادة الأندلسية في الاستنجاد بالمغرب وملك المغرب لمجابهة الأطماع الصلييبة التي تدفقت على غرناطة من الشمال والشرق والغرب.
وقد علق ابن الخطيب على سفارته هاته بقوله(2) :
"وقد نجح السعي، وأشعر الجهد، وصدقت المخيلة"
كما أنه ذكل لنا تاريخ ابتدائها ونهايتها حيث قال :
"وكان دخولي عليه (أبين عنان) في الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة عام خمسة وخمسين (وسبعمائة) "وكان الوصول (إلى غرناطة) في وسط محرم عام ستة وخمسين وسبعمائة".
فقد مكث في المغرب نحو شهر في ضيافة أبي عنان ورجال بلاطه .. وهذه المدة كافية لإغراء صاحبنا بتخطيط عدة مشروعات لمؤلفاته، فهو يحدثنا بالخصوص عن هذه الرحلة أنه دونها كما دون ما سابقتها في جزء خاص من مؤلفاته فيقول(3) :
"وقد تضمن رحلته لوجهته والأخرى قبلها جزء والحمد لله الذي له الحمد في الأولى والآخرة".
أما عن تأثير السفارة في نفس أبي عنان ورجاله دولته فيكفي أنها تركت طنينا وثبتا ظل مضرب الأمثال مدة طويلة.
يقول ابن خلدون :
"قال شيخنا أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد، لم نسمع سفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا".
وشهادة أبي القاسم الشريف السبتي لها قيمتها في هذا المقام. فهو أولا وقبل كل شيء قاضي الجماعة بغرناطة وهو إلى جانب ذلك شهير بفضله وعقله ومعرفته وذلك ما جعل ابن الأحمر يعينه في وفد ابن الخطيب الذي يطلب النجدة من أبي عنان .. وقد كان منصب قضاء الجماعة من المناصب الخطيرة في الأندلس التي لها وزنها في المواقف السياسية. ولا سيما في الأزمات والشدائد ..
وشهادة أبي القاسم تعني أن ابن الخطيب حينما دخل على أبي عنان، وأنشده قصيدته :

خليقة الله ساعد القدر
علاك ما لاح في الدجا قمر
ودافعت عنك كف قدرته
ما ليس يستطيع دفعه البشر

تهلل وجه أبي عنان واهتز لها وأذن في الجلوس وقال له :
- ما ترجع إليهم إلا بجميع طلباتهم(4)
وهكذا بلغ نابغة غرناطة مأربة في لحظات الأمر الذي أثار الإعجاب بهذه الشخصية الجذابة ووزع لها في قلوب أعدائها وأصدقائها مزيدا من الغبطة حينا والحسد أحيانا ..!
ولا نودع صاحبنا في هذه الرحلة دون أن نشير إلى أن أخبار وصوله إلى فاس سبقته إلى عاصمة الدولة فأرسل إليه الخطيب ابن مرزوق قصيدة شعرية قرأها لسان الدين وهو على مرحلة من فاس ..! ومعها مطية لركوبه بسرجها ولجامها(5) وأجابه عنها بقصيدة أخرى ..
ومطلع قصيدة ابن مرزوق :

يا قادما وافي بكل نجاح
أبشر بما تلقاه من أفراح

أما قصيدة لسان الدين ابن الخطيب فهي :

راحت تذكرني كؤوس الراح
والقرب يخفض الجنوح جناح
وسرت تدل على القبول كأنما
دل النسيم على انبلاج صباح
حسناء قد غنيت بحسن صفاتها
عن دملج وقلادة ووشاح
أمست تحضن على اللياذ بمن جرت
يعوده الأقلام في الألواح
بخليفة الله المؤيد فارس
شمس المعالي الأزهر الوضاح

وانتهت الرحلة ورجع ابن الخطيب إلى غرناطة وهو يحمل لسلطانه كتيبا سياسيا عظيما فتح أمام غرناطة آفاق الأمل والثقة بالمستقبل.
ولكن فاسا وغرناطة كانتا على موعد مع الفواجع والانقلابات .. فقد مات أو اغتيل أبو عنان في شهر ذي الحجة من سنة 759 هـ كما أن انقلابا خطيرا أودى بعرش غرناطة في شخص السلطان محمد بن يوسف الغني بالله .. وبوزاراتها في شخص لسنان الدين ابن الخطيب في 28 رمضان سنة 760 هـ وبذلك كان الملك ووزيره على موعد مع النفي السياسي في المغرب .. حيث عاشا ثلاث سنوات كانت من أخصب حياة ابن الخطيب بالإنتاج العلمي والأدبي .. وسنلتقي به هناك في حديث آخر ..



(1) انظر ج 2 ص 6 ط القاهرة سنة 1318.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) الاستقصا ص 195 ج 3.
(5) المصدر السابق.


* دعوة الحق - ع/67


الادب المغربي.jpg
 
أعلى