دعوة الحق - فجر العربية بالمغرب الأقصى والمراكز الأولى للثقافة العربية به

كان علينا ونحن نعالج هذا الموضوع أن نجعل كلمة المغرب عامة شاملة للأقطار الواقعة بين صحراء ليبيا إلى المحيط، حيث إنها تعمرها سلالة بشرية تسيطر عليها مظاهر اجتماعية وتتجاذبها مناح فكرية متشابهة كما كانت فيما مضى خاضعة لعوامل اقتصادية كذلك.
لقد عرف العرب هذه الجهات كما عرفها من قبلهم من الأمم، ولكن سرعان ما طبع أولائك العرب أقطارنا هذه بطابع قوي بارز بحيث تجانس فيه الجنسان بصفة تلقائية وتعانقا في السلم كما تواطآ على الحرب.
فإذا اعتبرنا المغرب بهذا الاعتبار الشامل فإن القيروان كانت تكون المشعل الأول للعروبة في هذه البلاد والمنار المشع الذي كان ينير على هذه الآفاق طيلة أربعة قرون كاملة إذ كانت ثالثة أو رابعة العواصم الإسلامية الكبرى، اعترف لها بذلك خلفاء الأمويين فعينوا لها -الوالي حسان بن النعمان- قاضيا من لدنهم مباشرة، تقليدا اختصت به العواصم الكبرى آنذاك، دون غيرها...
نعم كان هذا يكون وهو وجيه سليم، وكان في الإمكان أيضا أن نعمل بقضية مسلمة كذلك فنقول إن فجر العربية بهذه البلاد كان لأول ما أذن بها أذان الصبح بفجرها الصادق كما يقول الفقهاء، وكان أول مركز لهذه العربية لا محالة في أول بيت أقيم بهذه البلاد من بيوت الله يجتمع فيه قوم يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم عملا بالحديث الشريف، فكل مسجد مدرسة عربية، تلك قضية مسلمة.
ولكننا مع هذا الواقع تؤيده الافتراضات والعكس نريد أن نقصر كلمة المغرب على الأقصى منه ونترك إلى حين هذا الشمول الذي يتطلب كثيرا من القول والعمل معترفين في خضوع واعتزاز معا بما كان للقيروان من فضل عم المشارق والمغرب، القيروان الشهيدة التي لفظت نفسها وهي في ريعان شبابها واكتمال قوتها، فانتثر عقدها في المشارق والمغارب بعلماء أعلام وأدباء فطاحل من مثل الحصريين وابن رشيق وابن شرف الذي نعا القيروان بهذين البيتين النابضين باللوعة الممزوجة بالحيرة ولذاعة النكتة التونسية:
ترى سيئـات القيـروان تعاظمــت فجلت عن الغفــران والله غافــر
تراها أصيبت بالكبائر وحدهـــا ألم تك قدما في البلاد الكبائــــر
ومن فضل الله علينا أن كان المغرب الأقصى وارث إفريقيا في قيروانها فحمل ذلك المشعل في قوة وإيمان وعزة وهو يتلو قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ) [آل عمران: 200]، فكان المرابطون حقا ورثة رشداء حافظوا على ميراثهم الثمين ونموه في المغرب والأندلس على السواء.
نعم كانت دولة المرابطين منبثقة عن حلقة من حلقات العلم بالقيروان نفسها، كانت تدور على عالم من علماء المغرب الكبير هو أبو عمران الفاسي.
لنعد إلى موضوعنا الذي حددنا نطاقه وأردنا فيه قضية العلماء بالعربية ذاتا ولم نرد قضية العربية فيه انتشارا بمجرد انتشار الإسلام في هذه البلاد.
وبذلك نفصل بذكر مراكز علمية كانت مبكرة بعلمائها وأدبائها، ولا شك أن هؤلاء الذين سنضع أيدينا عليهم وهم مبثوثون في كتب التراجم الأندلسية وغيرها إنما هم آحاد من عشرات بل عشرات من المائات قد تاهت ذكراهم في بيداء الإهمال والنسيان اللذين عرفت بهما جيدا ذاكرة المغرب منذ أقدم العصور إلى أحدثها.
ولكن هذه القلة على كل حال توحي إلينا بالثقة والعزم وتحفزنا على العمل الدائب والبحث المتواصل عن دفائننا وكشف الغطاء عن تراثنا، وهو عمل لا يزداد مع الأيام إلا اتضاحا ولا يزيد مداركنا إلا تنورا، فلا كيان لأمة حقا بدون تراث فكري ولا عزة لها ترجى بدون الاعتزاز بأمجادها والمحافظة على مقوماتها، عاملة جادة مستبشرة متفائلة بتصميمها وصدق عزمها، وعلى هذا الضوء نستطيع أن نراجع حسابنا العسير فنصلح ما به من أخطاء إن شاء الله.
نرى أن المغرب الأقصى ما استقرت به الأحوال على عهد موسى بن نصير حتى وجدنا عاصمته الخالدة «طنجة» تعمل على نشر الثقافة العربية بفضل ما كان يبذله هذا الوالي الرشيد من جهود جبارة في هذه العاصمة التي اهتم بها اهتماما خاصا وجعل مقاليدها في يد قائده العظيم طارق بن زياد، الذي كان يتمتع بشخصية ثقافية عربية ينم عنها بعض ما نسب إليه من آثار، وأهمها خطبة الفتح التي سجلها له الدينوري في الإمامة والسياسة، فكانت طنجة أولى العواصم العلمية بالمغرب، وكان لها شأن عظيم في اتصالها بالأندلس الثقافي فيما بعد، كما نجد ذلك في كتب التراجم التي أشرنا إليها، وابن خلدون يقول إن موسى بن نصير أنزل عربا بطنجة مع طارق وأمرهم أن يعلموا البربر القرآن والفقه، ويقول غيره إنهم كانوا سبعة عشر، ويذكر بعض أسمائهم.
ولم ترد الخلافة الأموية بالمشرق أن تترك الأمور تسير في المغرب تلقائيا، بل كان من خلفائها عمر بن عبد العزيز يهتم بالمغرب اهتماما زائدا ويبعث إليه ببعض فقهاء الإسلام وعلمائه ليزيد في هذه الحركة المباركة قوة ويمدها بنشاط حثيث.
ثم كانت تقوم بالريف إمارة عربية هي إمارة صالح وبنيه بالنكور، فلقد بنت هذه الإمارة الصالحة عاصمتها النكور واتخذت لها جامعا عظيما، بنته على غرار جامع الإسكندرية، كما يقول المؤرخون، فخرج منه علماء لا يقل نشاطهم، في الأندلس وغيرها، عما كانت عليه طنجة آنذاك، وحسبنا أن نرجع إلى كتب تراجم الأندلسيين، فنراها تسطع بلوامع منهم.
وتمتد عاصفة الخوارج إلى المغرب، وتتوالى هجراتهم إليه، وإذا بالصفرية منهم يؤسسون دولة ويتخذون لها عاصمة في جنوب المغرب الأقصى «سجلماسة» فتكون هذه العاصمة ثالثة العواصم الثقافية في المغرب يؤمها أناس من الأندلس ويفد عليها آخرون من العراق، وتتطور هذه الإمارة إلى خلافة يدعيها أصحابها، ويلقبون بإمارة المومنين.
وهناك على الشاطئ الغربي من المغرب، دولة اختلف في أصلها، ولكن لم يختلف في أن منشئها كان من جماعة الخوارج الصفرية أيضا، الذين كان من قوادهم طريف البرغواطي، فعمل على تكوين جماعة قوية الشكيمة صعبة المراس، ظهرت بمظهر دولة واتخذت لها مقرا لملكها، هو بسيط تامسنا الكائن بين أسفي وسلا، وكان طريف على دين الإسلام لأول الأمر، ولكن هذه الجماعة ضلت فيما بعد بعقائدها الزائغة وشريعتها التي سنها لهم ابنه صالح.
ومع هذا فمما لا شك فيه أنها كانت عاملا من عوامل بث الثقافة العربية في تلك الناحية، فهؤلاء رجالها وأولهم صالح العالم بن طريف، كان منهم من توجه إلى المشرق للارتواء من معينه، وجميعهم كانت أسماؤهم عربية إسلامية، وهذا له مغزى لا محالة، كما كانت طقوسهم تسمى في معظمها بأسماء إسلامية وسور قرءانهم المزعوم لا تختلف في أسمائها عن تلك السور الموجودة في القرآن الكريم. ويذكر ابن عذارى أن صالح ابن عيسى كان شاعرا فصيحا.
وكانت لهم صلات بالأندلس، صلات رسمية دولية بمعنى الكلمة، ويقال إن صالحا أوصى ابنه إلياس الذي عهد إليه بربط صلاته مع الأندلس، وذكر المؤرخون أن إلياس هذا أظهر الإسلام والعفاف.
وعلى كل حال فقد كانت لهذه الإمارة علاقات دبلوماسية وثقافية مع الأندلس، استمرت في رجالها الذين ظلوا يتسمون بالبرغواطية، وإن كان بعضهم قد نبذ ضلالتها كصالح، وبعضهم لم ينبذها كابنه يونس فأظهر ديانة جده.
وإلى جانب الخارجة، وما كان لها من أثر محمود في الحقل الثقافي، نجد هناك موجة من الاعتزال طغت في بلاد المغرب أيضا، ويذكر ياقوت وغيره أن الواصلية من المعتزلة كانت في المغرب تربو على ثلاثين ألفا، فكانت هذه تضرب في بلاد المغرب طولا وعرضا وهي تدعو إلى مبدئها بألسنة حداد غير أشحة ببيانها المعروف، ولقد رأينا من شعراء الاعتزال من يشيد بزعيم الواصلية فيقول:
له خلف شعـب الصين في كـل ثغـرة إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر
رجال دعاة لا يفــل عزيمهــم تهكم جبار ولا كيد ماكـــــر
وكان جمع من الاعتزال أتى بالواصلية إلى المغرب، ذكر التاريخ منهم زيد بن سنان الزناتي الذي كان يعيش أوائل القرن الثاني، وقد تركزت جماعتهم أخيرا في ايزرج قرب تاهرت.
وعلى العموم فإن هؤلاء المعتزلة انتشروا في جهات من المغرب، فأقاموا لهم مراكز عديدة في المغرب الأقصى وفي مزاب والزاب، وكونوا لهم إمارة بمكان يذكره الجغرافيون القدامى باسم «إيزرج» وهي تلي تاهرت كما يقول ابن خرداذبه، وذكر أنها كانت لعهده بيد إبراهيم بن محمد البربري المعتزلي، وغيره يذكره بمحمد بن محمد، كما كان نفوذهم يقوى في المغرب الأقصى ويتركزون في طنجة ووليلي التي وجد عليها المولى إدريس بن عبد الله أميرها عبد الحميد بن إسحاق الأوربي المعتزلي، وكان اعتزاله هذا مما مهد لإدريس أن يقيم دولته في يسر وطاعة، لما بين الاعتزال والعلوية من صلة.
والنتيجة أن هذه العواصم تشابكت فيما بينها، وعملت على نشر الثقافة العربية بهذه البلاد أواسط القرن الثاني وكما ألمعنا إليه، فقد انضمت إلى هذه الطوائف طائفة الشيعة التي قام بالدعوة إليها رجال منهم وعلى رأسهم إخوة النفس الزكية، فاستقر منهم عيسى أو علي بالقيروان، ثم توغل آخرون في المغرب الأقصى، مثل إدريس السالف الذكر وأخيه سليمان الذي نزل بنواحي تلمسان، فاستقل بها بنوه، فكانت عاصمة ثقافية أخرى، تكونت بعد عاصمة فاس التي اتخذها إدريس أو ابنه إدريس عاصمة له.
ويذكر المؤرخون أن بناء فاس كان لما ضاقت وليلي بالعرب النازحين إليها من الأندلس والقيروان، وبذلك صارت فاس على عهد إدريس الأصغر عاصمة عربية، بل أهم العواصم العربية بالمغرب الأقصى، تضم عدوتاها عرب الأندلس من ناحية وعرب القيروان من ناحية أخرى، وكان في كل عدوة مسجد جامع عظيم، فهذا مسجد الأشياخ بالأندلس وهذا مسجد الأشراف بالقرويين، ويذكر المؤرخون أن الوافدين على إدريس الأصغر من عرب القيروان والأندلس كانوا من مهاجرة قرطبة وحدها نحو ثمانية ألاف بيت ومن مهاجرة القيروان نحو ثلاث مائة بيت، وقد ذكرت قبائلهم أو بطونهم اليمنية من قيس وأزد ومذحج ويحصب والصدف وغيرهم، كما ذكرت بعض أعيانهم مثل عمير بن مصعب الأزدي المعروف بالملجوم وزير إدريس الأصغر، وعامر بن محمد بن سعيد القيسي قاضيه، وأبي الحسن عبد الله بن مالك الخزرجي كاتبه، وعلى كل فقد كانوا من الكثرة والمكانة لدرجة أنهم شطروا العاصمة الجديدة شطرين اختص كل فريق بأحدهما, وكان كلا جامعي العدوتين قائما على نشر الدين والثقافة العربية بين الأندلسيين وجوارهم البربر والقرويين وجوارهم كذلك، ومن محاسن مهاجري القيروان أن تكون فيهم سيدة فاضلة عربية الأصل هي فاطمة بنت محمد الفهري، ترث مالا فتنفقه في بناء مسجد حمل راية الثقافة بالمغرب، وهو مسجد القرويين الذي انضم إلى تلك المساجد الثلاثة، ولكن الله آثره فيما بعد بالبركة والخلود، فهو من أقدم جوامع الإسلام، حيث بني عام 245.
أجل هكذا أصبحت فاس العاصمة الكبرى في المغرب، وكان لها صلات مع الأندلس وثيقة في بعض الأحيان، كما كانت لها مع القيروان كذلك وان اختلفت السياسة، وهذا مما يحمد بين دول الإسلام، أن اختلاف السياسة بين الأقطار لم يكن بالمرة عائقا عن اتصال المسلمين بعضهم ببعض في تلك الأقطار المتباينة، ولم تحاول الدولة أن تحد من هذا الاتصال بالمرة.
وطبعا حينما يكون هناك انسجام أو اتحاد تكون الفوائد أعم والصلات أقوى، وهذا ما حدث أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع حيث امتد سلطان الأندلس إلى المغرب، فكان ممن تخرج من القرويين علماء عرفوا في أروقة جامع قرطبة.
وبعد، فلا يفوتنا أن نذكر مدنا أخرى كان لها شأن في نشر الثقافة، إلى جانب المذكورات آنفا، وذلكم مثل سبتة ومليلية والبصرة المغربية وأصيلا، فهذه كلها وجدنا لها أصداء علمية أصيلة، سواء بالمغرب والأندلس، وكان منها من تولى رجالها مناصب علمية عالية في الخلافة الأموية.
إذن فقد وضعنا أيدينا على شبكة محكمة لمراكز الثقافة الأولى بالمغرب، وهي مراكز متعددة المشارب فبعضها كان أصحابها على مذهب أهل السنة وبعضها على مذهب الاعتزال وبعضها على مذهب الشيعة المعتدلة وبعضها على مذهب الخوارج وبعضها على شعائر ومعتقدات زائغة - كما قيل- ولكنها جميعا على تعدد مشاربها واختلاف أهوائها كانت تحمل ثقافة عربية، وترتبط جميعها بمراكز الثقافة بالأندلس والقيروان بالرغم من اختلاف السياسية.
وقبل أن ندخل في التفاصيل، نرى أن نقف وقفة قصيرة عند قضية أومأنا إليها، وهي صلة الاعتزال بالتشيع، فالصلة من حيث التعاليم شديدة وثيقة بين المذهبين، إذ هما يشتركان في القول بالتوحيد القائم على دعائم كانت بسيطة أولا ثم تعقدت جدا وتفرع منها فيما بعد قول آخر كان مثار الخلاف الشديد بين المعتزلة والأشعرية بالخصوص، وهو العدل الذي أوجبه المعتزلة في الجزاء، وثالث الأسس هو القول بالوعد والوعيد، أي الوعد بالإثابة لمن أحسن وأطاع، والوعيد بالعقاب لمن كان على العكس، ورابعها القول بالمنزلة بين المنزلتين، فالعاصي من المسلمين لا يوصف بالإيمان الحق ولا بالكفر، بل منزلته بينهما، فهو بذلك ليس بكافر ولا مؤمن، وخامسها الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، فهذا كله داخل حقيقة في التوحيد ( انظروا ضحى الإسلام)
هذا ما يتصل بالعقيدة عند الطائفتين، وهناك ما يتصل بأعلام هاتين الطائفتين ورجالهما الكبار، فواصل الذي انتشر مذهبه بالمغرب كله كان تلميذا لأبي هاشم عبد الله بن محمد بن حنفية وكان واصل نفسه أستاذا للأمام زيد بن علي بن الحسين، وكان عبد الله والد المولى إدريس يعد في الطبقة الثالثة من طبقات المعتزلة، ويذكر قدامة بن جعفر في كتابه "الخراج وصناعة الكتابة" أن مملكة الأدارسة كانت موطنا للاعتزال إذ يقول: إن وراء تاهرت مسيرة أربعة وعشرين يوما بلد المعتزلة، وعليهم رئيس عادل وعدلهم فائض وسيرتهم حامدة ودارهم طنجة ونواحيها والمستولي عليها في هذا الوقت ولد محمد بن إدريس، كما أن معاصره ابن خرداذبه يقول بوجودهم في إيزرج، ونحوه يقول به ابن الفقيه الهمذاني معاصرهم أيضا، وفي القرن الرابع يزور المقدسي المغرب ويتحدث عن الشيعة فيقول: نظرت في كتاب الدعائم فإذا هم يوافقون المعتزلة في أكثر الأصول، وهذه الأصول هي مذهب الإدريسية وغلبتهم بكورة السوس الأقصى. وينقل ابن عذاري في الجزء الثاني عن ابن حزم أن الأدارسة هم أصحاب الاعتزال والشيعة بالمغرب، وزاد فنسب إليهم حتى الخارجية.
والنتيجة أن الاعتزال بالمغرب انساح في الخارجية والشيعية وانتهى أجله بالمغرب قبل أن ينتهي بالمشرق.
ولا يفوتنا أن نذكر- على سبيل الاستطراد- أن المولى إدريس كان مهتما بتلمسان اهتماما زائدا، فبنى بها مسجدها الجامع، ثم استقل بها أخوه سليمان أو أبناؤه من بعده، ويظهر أن ابنه المولى إدريس الأصغر أراد أن يجعلها إمارة حاجزة بينه وبين الرستميين وهوما يعرف في العرف الدولي بـ (Buffer Start)، وعلى كل فقد انتشر أبناء عمه في هذه الجهات وكونوا بها إقطاعات عديدة فيما بعد، حتى قال معاصرهم اليعقوبي في كتاب البلدان عن ولد محمد بن سليمان، كل رجل منهم مقيم متحصن في مدينة وناحية وعددهم كثير حتى أن البلد يعرف بهم وينسب إليهم، وآخر المدن التي في أيديهم المدينة التي تقرب من ساحل البحر يقال لها سوق إبراهيم، وهي المدينة المشهورة فيها رجل يقال له عيسى بن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن عبد الله.
وعلى الجملة فتلمسان كان لها شأن في إنجاب كثير من العلماء الذين استفادت منهم الأندلس واستفادوا هم منها، مثل أبي الحسن خطاب بن أحمد ابن خطاب بن خليفة الشاعر، ويحيي بن عيسى المعروف بابن الصيقل المري، سمع بمرسية من أبي علي الصدفي وعمر أكثر من مائة سنة، ويعقوب محمد بن الأغماتي الفقيه الحافظ الذي سمع من أبي علي الصدفي كذلك جامع الترمذي وغيره، وعلي بن عبد الرحمن المعروف بابن أبي جنون، وهو كذلك من أصحاب الصدفي ومن المؤلفين في أصول الفقه، كما قصد تلمسان من علماء الأندلس جابر بن محمد الأنصاري الحافظ، والراوية أبو عبد الله بن عبد الرحمن التجيبي، وعبد الملك الوراق من رجال القرن الثالث، وقد أمها من الشعراء مثل بكر بن حماد الذي قال شعرا في قومها كما نجد ذلك بالبيان المعرب.
وبعد تلمسان التي كانت على اتصال بإمارة عظيمة لعبت دورا هاما في الثقافة العربية في المغرب الأوسط عامة، وهي إمارة تاهرت، التي كانت تسمى بلخ المغرب أو عراق المغرب، تأتي إمارة استقلت بنفسها في الريف، على أوائل القرن الثاني، وكان لها شأن عظيم في الحقل الثقافي، كما كانت على اتصال وثيق بالأندلس من ناحية، وتاهرت من ناحية أخرى، وهي إمارة النكور، التي كانت عاصمتها، مدينة النكور، تقع قرب المزمة، بنحو خمسة عشر ميلا وكانت هذه الإمارة قد تأسست على يد عائلة تنتمي إلى حمير العربية، وكان على رأسها صالح بن منصور المعروف بالعبد الصالح، ويذكر اليعقوبي في كتابه السالف الذكر، أن أهل البلد يزعمون أنه من أهل البلد نفزي وهذا مهم أيضا، ثم قال: ومن هذه المدينة جاز رجل من ولد هشام ومن معه من آل مروان إلى جزيرة الأندلس، يريد عبد الرحمان الداخل الذي كانت أمه من نفزة هؤلاء، وقد نشر صالح تعاليم الإسلام بهذه المدينة الساحلية، ولما توفي أوائل القرن الثاني خلفه ابنه المعتصم فصار على منهاج أبيه ثم تولى بعده شقيقه إدريس، وهو الذي اختط مدينة النكور وأتم بناءها ابنه سعيد وبنى الجامع بها، ومهما يكن فقد ازدهرت المدينة في القرن الثاني وقصدها الناس وكان فيها علم وأدب يتمثل في كثير من رجالها مثل إبراهيم بن أيوب الشاعر، والعالم موسى بن ياسين مولى صالح، وحسين بن فتح الذي روى عنه الباجي وأثنى عليه، وهؤلاء كانت لهم صلة بالأندلس كما كان من الأندلس من أتى إلى النكور وأقام بها مثل الأحمس الطليطي شاعر الإمارة، ومن شعر إبراهيم بن أيوب قوله:

أيا أملي الذي أبغي وسولي = ودنياي التي أرجو وديني
أأحرم من يمينك ري نفسي = ورزق الخلق من تلك اليمين
ويحجب عن جبينك طرف لحظي = ونور الأرض من تلك الجبين
وقد جبت المهامه من نكور = إليك بكل ناحية أمون

فلعل هذه الأبيات كانت مدحا لأمير من أمراء الأدارسة، كما كان من بيت الإمارة أيضا مثقفون منهم مثل الفقيه المالكي عبد الرحمن بن سعيد.
ومن الطريف أن نجد أن زامر عبد الرحمن الناصر كان من النكور، فلقد وصفه ابن عميرة كما وصفه الحميدي وهو في بعض مجالس الأنس، وعلى أوائل القرن الرابع نجد بين شعراء النكور والعبيديين نقائض تسجلها لهم التواريخ، كما في ابن عذاري وغيره، فقد كان عبيد الله كتب إلى أهل المغرب عامة يدعوهم إلى الدخول في طاعته، وكان من جملة من كتب إليهم سعيد بن صالح الذي وصل إليه الكتاب مذيلا بهذين البيتين:
فإ تستقيموا أستقم لصلاحكم وإ تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا
وأعلو بسيفي قاهر لسيوفكم وأخلها عفوا وأملأها عدلا

فلما قرأهما أمر شاعره بنقضهما فقال:
كذبت ورب البيت لا تعرف العدلا= ولا عرف الرحمن من قولك الفضلا
وما أنت إلا كافر ومنافق= تميل مع الجهال في السنة المثلى
وهمتنا العليا لدين محمد = وقد جعل الرحمن همتك السفلى

كما نجد في سقوط هذه المدينة بيد قائد عبيد الله على تاهرت، مصالة البربري، رجزا لشاعرهم كالآتي، يتشفى فيهم من سعيد وقد قتل:
لما طغا الأرذل وابن الأرذل = في عصبة من الطغاة الجهل
قال نكور دون ربي معقلي = أتاه محتوم القضاء الفيصل
من الإله المتعال الأعدل = حطم أهل كفـــرها بالكلكل
على قنا من الرماح الذبل = ذو لمة شعثـــــاء لم تفتل
ولحية غبراء لم ترجل

وللمكانة التي كانت عليها النكور لدى الأمويين ألف فيها لهم ابن الوراق.
وكذلك مليلية بنيت أوائل القرن 2 أو جدد بناؤها ونسبت إلى مليل البربري، وكان اسمها الفنيقي روسدير، وكان مليل من يفرن الذين كانوا مع إدريس بن صالح المذكور، وظهر نشاطها العلمي مبكرا حتى كان منها أحمد بن فتح يضاهي ببكر بن حماد معاصره في العلم والأدب، وخلف بن مسعود الجراوي المليلي، وكلاهما رحل إلى الأندلس فأخذ عن رجالها وأخذوا عنه.
ولما كان الغزو العبيدي، كانت مليلية من المدن المغربية التي ضمها إلى الأندلس عبد الرحمن الناصر فازدادت بذلك تعريبا.
وأما سبتة فقد كانت الحركة الثقافية بها نشيطة بلغت أوجها أوائل القرن الرابع، وكانت قد ضمت إلى الأندلس كذلك، فوجدنا لأول ما ضمها إليه الناصر الأموي شعرا لأمير إدريسي بهذه المناسبة، وهو عبيد الله ين يحي بن عمر بن إدريس حيث يقول: -مخاطبا للناصر-
بسيفك دانت عنوة وأقرت =بصائر كانت برهبة قد تولت
وما قربت أهواؤها أن تقربت =ولا حليت بالزي لمـــا تحلت
ولكن أزالت راسيات عقودها =عزائم لو ترقى بها العصم زلت
ودولة منصور اللواء مظفر= تدال بحمد الله من شر دولة
فهذا أوان النصر منها وهذه تباشيرها تروي الأقاحي بسبتة المهم من هذه الأشعار التي، وإن لم تكن في مرتبة سامية، فهي على كل حال تثبت أصداء للعربية كانت تتردد في كثير من المناسبات، وكان من الأدارسة أنفسهم شعراء منذ إدريس الثاني فأبنائه ثم أحفاده الذين كان منهم شاعرنا هذا، ونعود إلى سبتة بالذات فنجد منها مثل خلف بن علي بن ناصر البلوي ومحمد بن علي الأموي وعتيق بن عمران بن محمد الرفعي النفزاوي قاضي سبتة ثم إبراهيم بن أبي العباس القيسي ويوسف بن حماد بن خلف الصدفي وعبد الله بن غالب الهمداني ثم محمد بن يعلى المعافري ثم أبا محمد بن إبراهيم السبتي وعيسى بن علاء بن نذير بن أعين، ونجد آخرين يذكرون بكتب تراجم المالكية، وعلى رأسها ترتيب المدارك لعياض، وهذه ترجمة لأحد قضاتها من المدارك: أبو بكر محمد بن عيسى رحمه الله ويعرف بابن زوبع من أهل سبتة، وقال ابن حيان: ابن زوبع من أهل العلم والأدب وأجل قضاة سبتة، وكان تخطط بالشرطة العليا وقضاء سبتة وأصيلا والمغرب، كذا رأيت السجلات تنعقد عليه.
ويقال إن أصله من البصرة وله رحلة إلى الأندلس، ويقال إنه دخل العراق وحج ولقي علماء البلاد ورجع إلى قرطبة فاختص بابن ذكوان وهو كان الحفي به لما وجد عنده من العلم، وكان له مال واسع، وذلك أن قاضي الجماعة تسلف له مالا من مال الأحباس بإشبيلية، وأخرجه في زيت باسمه، فعاد عليه منه عائد كان أصل ماله فيما ذكر.
وكان حسن السيرة في قضائه، وأيامه مشهورة لعلو مكانه وسعة علمه وبعد صيته. قال لي بعض الشيوخ: وكان متفننا في علمه، نظارا صاحب حجة وجدل، عالما بالحديث.
وقال ابن حيان: وكان له منزلة عالية عند سلطان الأندلس متمكن الأسباب لديه، وهو آخر قضاة بني أمية بسبتة. قال أبو مروان بن حيان: وكان من وجوه أصحاب ابن ذكوان وله في العلم والفقه والصرامة درجة سامية وقدم صدق أدته إلى المنية.
وقال: وقلده المظفر قضاء سبتة بلده وعمله بإرشاد ابن ذكوان إليه، وذلك عند اختياره لخطة قضاء أهله، فحمدت ولايته واتصلت إلى أن قامت الفتنة، وسما قاسم بن حمود إلى الخلافة على بني مروان بسبتة، كان من قاضيها هذا عنه بعض التأخر، فأغرى به العامة وقتله، ورعب الناس بقتله، فلم يختلفوا عليه، وخبره مشهور.
وما قاله ابن حيان من إغرائه للعامة غير صحيح، فقد كان أجل في قلوبهم من ذلك، وإنما قتله رجال بني حمود، والصحيح أن الآمر بقتله علي بن حمود وأخوه قاسم، وذلك بعد الأربعمائة، وقد بسطت أخباره في ذكر قضاة سبتة من تاريخها.
وكانت سبتة في القرن الخامس أسعد حالا وأثرى أدبا -خصوصا- من باقي المدن المغربية، وحسبنا أن نقرأ "ترتيب المدارك" السالف الذكر و"الخريدة" للعماد و"المطرب" لابن دحية و"عنوان المرقصات والمطربات" لابن سعيد، فنجد أدباء وشعراء غير من تقدم بهم الذكر، من مثل الشاعر ابن يقظان وابن شقرة وابن غالب وغيرهم، وفي هذا القرن بالذات نجد المعتمد بن عباد، وهو من هو أدبا ووفرة قصره بالعلماء والشعراء، يحسد سبتة على ثلاثة نفر من رجالها، قال -كما في معجم البلدان لياقوت-: اشتهيت أن يكون عندي من أهل سبتة ثلاثة نفر: ابن غازي الخطيب، وابن عطاء الكاتب، وابن مرانة الفرضي.
نعم، حتى الخطيب من هؤلاء والكاتب كذلك كان لهما شعر احتفظت ببعضه كتب التراجم، فلابن غازي شعر مذكور في المطرب لابن دحية، يصف به ناقة فيقول:
حرف كمثل الصاد إلا أنها =بعد السرى جاءت كحرف النون
كالبدر قدره الإله منازلا =في الأفق حتى عاد كالعرجون


ولأبي بكر بن عطاء هذه الأبيات:
سأمنع قلبي أن يكون لكم مثوى = وأستدفع البلوى وأستصرف اللهوا
وما سرني بعد الرضى إذ غدرتكم = وغادرتم بين الحشا هضبتي رضوى
وصيرتم العتبى عتابا فكلما = أبثكم شجوي تزيدونني شجوى
قضى الله أن أقصى وأصفيكم الهوى = وغيري يستدني وإن كان لا يهوى
وما كان ظني قبل ذا أن حاسدي =بمنهلكم يروى وأني لا أروى
وما جلت البلوى علي وإنما = شماتة أعدائي أجل من البلوى

وأما أصيلا فقد كانت كذلك ذات حظ لا يستهان به من الثقافة المبكرة، كان رجالها مثل عبد الله بن إبراهيم بن محمد الأصيلي الذي قدم قرطبة فأخذ عن رجالها ثم اتجه إلى المشرق فأخذ عنه علماء جلة ثم عاد إلى الأندلس فتتلمذ عليه خلق كثير، وكان حافظا عالما بالكلام والنظر، ألف كتابا في اختلاف مالك وأبي حنيفة والشافعي، سماه "كتاب الدلائل على أمهات المسائل"، وكذلك ابنه محمد الذي اشتهر في الأندلس، وكلاهما من رجال القرن الرابع، ومثل إبراهيم بن محمد الأصيلي الشاعر الذي مدح بني زياد القاطنين وكانوا حول أصيلا بقصيدة يقول فيها:
سقى غربي أرض بني زياد = سحائب ما يجف لها غروب
ولا زال النعيم يعم قوما= إزاؤهم من الشرق الكثيب

ومثل أحمد بن عبد الله بن موسى الكتامي الفقيه الشاعر، دخل الأندلس فسمع من وهب بن مسيرة وغيره، وكان بيت هذا العالم مشهورا بالعلم والأدب حتى القرن الرابع، ومثل عبد الله بن أيمن الزويزي قاضيها لذاك العهد.
ولم تكن البصرة تقل عن هذه، قد نسب إليها علماء جلة مثل يحي بن خلف الصدفي الذي رحل إلى المشرق فسمع بمكة من أبي سعيد ابن الأعرابي ومن غيره، وأخذ عنه كثير من الأندلسيين ورجال سبتة التي توفي بها، ومثل أحمد بن حذافة الفقيه المالكي، وبشار بن بركانة، وغيرهم من فقهاء المالكية الذين يذكرون بطقباتها الأندلسية وغيرها. وكان أمراء البصرة يعملون جاهدين على جلب الشعراء إليها، وخصوصا أحمد بن القاسم الذي كان يجزل لهم الصلات، كما فعل مع بكر بن حماد الذي مدحه بأمداح كثيرة، بعد أن كان قد بعث إليه بهذه الأبيات:
إن السماحة والمروءة والندى = جمعا لأحمد من بني القاسم
وإذا تفاخرت القبائل وانتمت= فافخر بفضل محمد وبفاطم
وبجعفر الطيار في درج العلى =وعلي العضب الحسام الصارم
إني لمشتاق إليك وإنما يسمو= العقاب إذا سما بقوادم
فابعث إلي بمركب أسمو به =علي أكون عليك أول قادم
واعلم بأنك لن تنال محبة =إلا ببعض ملابس ودارهم

كما مدح القاضي أحمد بن فتح التاهرتي أميرها عيسى بن إبراهيم بن القاسم بن إدريس بقصيدة يقول فيها:
ما حاز كل الحسن إلا قينة = بصرية في حمرة وبياض
الخمر في لحظاتها والورد في= وجناتها هيفاء غير مفاض

فكان الشعر يتردد في هذه الجهات، من ذلك أن شاعرا كن آنذاك سكن في حصن كان مقاما على وادي ورغة فقال:
ألا هل أتى أهل المدينة أنني = بورغة بين الأعجمين غريب
إذا قلت شيئا قيل ماذا تريده =لهم بين أحرار الوجوه قطوب

وهذا يذكرنا بما قاله المتنبي في شعب بوان. والنتيجة أن الشعر في هذه الجهات كانت تتردد أصداؤه في القرن الثالث مدحا كان أم غيره، ولأهمية المدينة نرى محمدا الوراق المتوفى عام 292 ينظمها في سلك المدن المغربية التي ألف فيها للأمويين.
وأما سجلماسة فمن رجالها عيسى بن سعادة الفقيه، له رواية بالأندلس ورحلة إلى المشرق صحب فيها أبا الحسن الفاسي وأبا محمد الأصيلي ولقي معهما حمزة بن محمد الكناني، وكان القابسي يشهد له بالإتقان، أخذ عنه أبو محمد بن أبي زيد القيرواني وغيره من العلماء. ومن رجالها يحي بن زكرياء المعروف بابن الرباطي، روى عنه محمد بن مخارق وحدث عنه يحي بن هلال بن فطر. ومن رجالها جساس الزاهد، وغير هؤلاء نجدهم مبثوثين في تراجم الأندلسيين وغيرهم. وكذلك كان من أمرائها رجال لهم وزنهم في الثقافة الإسلامية، مثل سمكو الآخذ عن عكرمة، ومثل محمد بن الفتح بن ميمون.
وتقدم أن مملكة البرغواطيين الزائغة كن لها ولا شك حظها من العروبة، وليس هذا من باب الافتراض وحده، لأنها كانت على صلة بالأندلس وأن مدنا كانت في بسيطها تامسنا مثل شالة وآنفي عاصمتها وفضالة مينائها، بل وجدنا من رجالها علماء كطريف وابنه صالح وإلياس ابنه وابنه يونس وصالح بن عيسى الذي تقدم أنه كان شاعرا بليغا فصيحا، على أن طريفا كان مسلما أول الأمر، وكان إلياس يظهر الإسلام كذلك.
وقد ملك هذا خمسين سنة.
ومن ملوكهم المشهورين أبو عفير محمد بن معاذ بن اليسع، وقد ملك أواسط القرن الثالث، وكانت له وقائع مشهورة في قومه، منها وقعة بهت التي قال فيها شاعر مصمودي، اسمه سعيد بن هشام، قصيدة عارض بها قصيدة عمرو بن كلثوم النونية، حيث قال:
قفي قبل التفرق فاخبرينا = وقولي واخبري خبرا مبينا
هموم برابر خسروا وضلوا= وخابوا لا سقوا ماء معين
يقولون النبي أبو عفير =فأخزى الله أم الكتــاذبينا
ألم تسمع ولم تر يوم بهت =على آثار خيلــــهم رنينا
رنين الباكيات بهم ثكالى=وعاوية ومسقطة جنـــينا
هنالك يونس وبنو أبيه = يوالون البوار معظمينا
فليس اليوم ردتكم ولكن = ليالي كنتم مستيـــسرينا

يريد أن كنتم أصحاب ميسرة المعروف الخارجي المصغري الذي ثار عام 122
وبهذا نرى أن أحداث المغرب كانت تسايرها أشعار تقال فيها، وقد نسب بعضها إلى المولى إدريس لأول عهده.
وبقيت هنالك مدن أخرى اشتهرت ببعض رجالها، مثل مدينة جراوة التي كانت بإزاء تلمسان، وتقدم ذكر بعض المنسوبين إليها عند ذكر مليلية، وممن أجادوا وصفها ابن عذاري في الجزء الأول من كتابه، وذكر أنه كان بها خمسة حمامات، مما يدل على عظم أمرها، قال: أسسها أبو العيش عيسى بن إدريس سنة 257، ويظهر أن العبيديين لم يخربوها في زحفهم، كما فعلوا بالنكور، ولهذا نجد لها أهمية حتى في أواسط القرن الرابع، بل إن موسى بن العافية، استولى عليها لعبد الرحمن الناصر وأخرج عنها الحسن بن أبي العيش.
وقد ورد ذكرها في شعر بكر بن حماد حيث قال:
سائل زواغة عن طعان سيوة = ورماحه في العارض المتهلل
وديار نفزة كيف داس حريمها= والخيل تمرغ في الوشيح الذبل
غشى مغيلة بالسيوف مذلة = وسقى جرواة من نقيع الحنظل

وكذلك كانت طنجة من المدن التي حاول الأمويون أن يضموها إليهم، ووفقوا فعلا في ذلك، فكان بها للعلم والأدب شأن، وكانت قد تعرضت في أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع لفتنة متنبئ قد تنبأ بها أو بأحوازها التي هي ما بينها وبين سبتة، وكان لهذا الرجل ما كان للبرغواطيين، من أدعية عربية وقرءان مزعوم، يهمنا لعربيته، وكان اسم الرجل حم، فلما قضي عليه أوائل القرن الرابع قيل شعر وهو:
وقالوا افتراء إن حاميم مرسل = إليهم بدين واضح الحق باهر

إلى أن يقول:
فإن كان حاميم رسولا فإنني= بمرسل حاميم لأول كافر
رووا عن عجوز ذات إفك بهيمة = تجاوز في أسحارها كل ساحر
أحاديث إفك حاك إبليس نسجها =يسرونها والله مبدي السرائر

وكان من علمائها وأدبائها أجلة مثل عبد الله بن سمجون وأبي عبد الملك مروان بن سمجون، الذي رحل إلى المشرق وقال لم أدخل إلى المشرق حتى حفظت أربعة وثلاثين ألف بيت من أشعار الجاهلية، وأقام به سبع عشرة سنة ، ويذكر ياقوت في معجمه أنه كان من فطاحل الخطباء. ومنهم عبد المنعم بن عبد الله بن علوش المخزومي وأحمد بن سليمان ابن أحمد المكناسي وقاضيها علي بن هارون وسليمان بن يحي بن سرواس الجمحي الذي روى عن ابن سمجون اللواتي وعنه حدث أبو القاسم بن بشكوال بمسند الموطأ رواية الجواهري، وهؤلاء زاروا الأندلس التي وفد منها على طنجة كثير منها مثل أبي إسحق إبراهيم بن صواب الشاطبي وكان من أهل المعرفة في الطب والنحو واللغة والأدب فتصدى للإقراء بطنجة والمعالجة بها ثم توجه أخيرا إلى فاس، ومنهم محمد بن عبد الله بن الغازي المتوفى عام 296.
وتأتي فاس التي عرفت قبل تأسيسها هجرات من عرب إفريقيا والأندلس ومن فرس العراق كذلك إلى مؤسسها، ولا شك أن هؤلاء الفرس الآتين من العراق كان لهم شأن في الثقافة وغيرها، لدرجة أن من المؤرخين من يرى أن اسم فاس نفسه محول عن فارس، كما في روض القرطاس الذي أثبت أن أحد أبواب المدينة كان يدعى باب الفرس، وهذا الاشتقاق لا يهمنا الآن بقدر ما يطلعنا على أهمية وجودهم في العاصمة الإدريسية، ولا نستبعد أن تكون لهم يد عربية إن لم يكن لهم لسان كذلك، وهم آتون من العراق العباسي.
ومهما يكن فقد احتفظت كتب التراجم بأولئك الذين يزاولون أعمالا ثقافية على عهد المولى إدريس الأصغر كما تقدم، وكان أبوه ومولاه راشد من المثقفين ثقافة عالية، أدب راشد بها المولى إدريس الأصغر فكان عالما يقرض الشعر ويستعمله في الصراع السياسي الذي كان بينه وبين الأغالبة، ويخاطب بعض رجاله به، وكان هو وأبوه وأبناؤه من بعده على حظ من العلم كما تحدثنا به التواريخ، ولا تبخل علينا بنماذج من خطبهم أو أشعارهم كالتي ذكرت في روض القرطاس والجزء الأول من البيان المعرب لابن عذاري، إلا أن هذه المدينة تعرضت لأهوال لم يتعرض لها غيرها فانبهمت معالمها الثقافية في عهودها الأولى، وإن كنا على كل حال نحس لها ركزا في الفينة بعد الأخرى. لقد أم هذه المدينة شعراء في القرن الثالث، منهم المادح ومنهم الهاجي، وكلهم نستفيد منهم بادئ ذي بدء، لأنها ما لفتت الأنظار حتى كان أصحابها يعلمون أنها تنعكس عليهم بالخيرات ممن يفهمون شعرهم، ولم تكن هذه الأهاجي تنصب على البقعة نفسها، كما وجدنا في غيرها، بل كانت تنصب على أصحابها، وهذا مهم أيضا، فابن إسحق الجليلي الذي نجده كما في ابن عذاري وياقوت يمدح عدوة القرويين بقوله:
ياعدوة القرويين التي كرمت =لازال جانبك المحبوب ممطورا
ولا سرى الله عنها ثوب نعمته= أرض تجنبت الآثام والزورا

نستفيد منه بقدر ما نستفيد من هجو إبراهيم ابن محمد الأصيلي لها، وأحمد بن الفتح القاضي التاهرتي كذلك والمبكي المفحش، فالمدح والذم لا يهماننا لمجردهما، فكل ممدوح للشعراء مذموم لهم، ولكن المهم أن العاصمة العلمية كانت بحق كذلك ولو خفت صوتها لعوامل ما، ولهذا لا نجد من مذكوريها في التراجم إلا من كان يعيش أواخر القرن الثالث فما بعده، مثل أبي محمد عبد الله بن علي الفارسي والعالم أبي الحسن بن محمد الصدفي والحافظ دراس بن إسماعيل المكنى بأبي ميمونة، الذي كان من كتبه ما ألفه في فضل فاس علما ودينا، والذي قصده من القيروان عبد الله ابن أبي زيد النفزواي السالف الذكر، والمعروف بمالك الصغير، وله رحلة إلى الشرق لقي فيها بالإسكندرية علي بن عبد الله بن أبي مطر وسمع منه كتاب ابن المواز وحدث به بالقيروان ودخل الأندلس طالبا ومجاهدا وسمع بها منه غير واحد، وكان من فقهاء فاس وحفاظها كذلك خير الله بن القاسم، وأبو موسى عيس بن سعادة، وعبد الملك الكوري، وموسى بن يحي الصديني الحافظ العالم بالرأي، وله رحلة إلى الشرق وحدث عنه وعن سابقه عبدوس بن محمد بالأندلس، ثم كان في القرن الرابع علماء على رأسهم فقيه فاس في هذا القرن تحت لواء الأمويين حينا من الزمن والعبيديين حينا آخر، إلى أن كان محمد بن أبي عامر يعيد كرته عليها فيضمها إلى الأندلس كما ضم غيرها إليها، فقويت الهجرة بينهما، ولهذا وجدنا بعض رجالها يذكرون لأول مرة في فهارس الأندلسيين، كما حصل فيما بعد بالنسبة للقيروان التي كان بها مثل أبي عمران موسى بن عيسى بن أبي حاج الذي اشتهر بالقيروان في القرن الخامس اشتهارا عظيما، فقصده تلاميذ من أقطار المغرب العربي والأندلس وغيرهما، وفي هذا القرن بالذات صارت فاس ينبغ فيها شعراء موهوبون، وكانت من قبل موطنا للعلماء الحفاظ.
وأخيرا، فلا بد أن نقول إن الحركة الأدبية بالمغرب الأقصى خصوصا، ظهرت متأخرة عن غيره زمنا، والسبب في ذلك لا يمكن أن نحصره في واحد، بل إن أسبابا كثيرة اعتورت المغرب المذكور، فجعلت العربية فيه تبدو كما قلنا، وكان عامل الاستقرار والزوابع التي تهب عليه من خارجه أو تنبعث في داخله كانت من الزوابع التي لا تبقى ولا تذر، فأول استقرار نجده به كان على عهد موسى بن نصير، ولكن ما حدث من فتح الأندلس في عهده كان وبالا على المغرب من هذه الناحية، ناحية التعريب، فلقد عرف أولئك العرب، وعلى رأسهم موساهم وبنوه، الأندلس فهرعوا إليها، ولم يعودوا إلى المغرب، بل ظل بالأندلس حتى أحفاد لطارق ذكرهم ابن حزم في جمهرته كما أن اتجاه حبيب بن عبد الرحمن إلى صقلية كان فرصة للثورة، فلما عاد لم يتعد منطقة القيروان وترك المغرب، وعلى كل حال فقد تعرب الأندلس قبل أن يتعرب المغرب الذي أمده بأولئك العرب، وبذلك سكت صوت العروبة والأدب العربي إلى حين، إن كان قد نطق به أصحابه، وهذا لا نستغربه، بل هو ما حدث في الجزيرة العربية نفسها، وقد نزح عنها شعراؤها والهادرون بلغة الضاد فيها، فترددت أصداؤهم خارج الجزيرة وخفتت أصواتهم بها، ولهذا لا نستغرب أيضا إذا قرأنا في التاريخ أن المولى إدريس الأصغر كان فريدا بين البربر ولو يكن معه عرب، إلى أن أتاهم منهم عرب القيروان والأندلس، كما قلنا. حقا لقد نعم المغرب باستقرار على عهد هذا الملك، ولكن سرعان ما قامت الفتن بين أولاده وأحفاده، وقضت على الأخضر واليابس، وحق كذلك أن الفتن والحروب كانت بالنسبة للعرب من عوامل تنشيط اللغة والشعر والخطب منها بالخصوص، ولكن هذا إن كان في العرب وهم أصحاب اللغة الأصيلة فيهم لا يكون في غيرهم واللغة طارئة عليهم غريبة بينهم تنتظر منهم التعرف عليها والإصاخة إلى نداءاتها، ولا بد في هذا كله من هدوء بال واطمئنان حال، وما كان هدوء وما كان اطمئنان، ففتن داخلية بين أبناء الأدارسة إلى أخرى بينهم وبين غيرهم ومن ورائهم العبيديون النازفون للبقية الباقية، إن كانت هناك بقية، والنازحون بها إلى الم



* دعوة الحق ع/68


1.jpg
 
أعلى