جابر عصفور - جمعية جبهة علماء الأزهر

كتبت عن انحدار الخطاب الثقافي العام في العاشر من الشهر الماضي ولم أكن أتعمد ذكر أحد بعينه حتي لو فعلت ذلك علي سبيل التمثيل‏,‏ فلا يزال مقصدي أكبر من هذا الشخص أو ذاك‏,‏

وإنما الظاهرة التي كنت أقصد إليها ظاهرة عامة, يمكن أن نرصد مظاهرها وأسبابها علي السواء وأعترف أنني لم أكن أتخيل أو أظن أن يصل هذا الانحدار إلي أقصي درجات الإسفاف ولذلك أعترف بصدمتي القاسية والمحزنة عندما قرأت بيانا صادرا عن جمعية جبهة علماء الأزهر المشهرة برقم 565 لسنة1967 في الشهر الماضي, بعنوان إلي صبيان المواخير سفهاء ألف ليلة. وقد أصابني العنوان والبيان بالدهشة المحزنة, ودفعني إلي قراءة بقية ما أتيح لي من بيانات هذه الجمعية, فتزايدت الصدمة المحزنة, وتولد السؤال هل يمكن أن يسف الخطاب الثقافي أكثر من ذلك؟ وماذا يمكن أن نقوله وبيانات هذه الجبهة يقرؤها شباب أدعو الله أن ينجيهم من جراثيم خطابها. علي أن السؤال الأكثر حزنا هو كيف يمكن لمن يسمون أنفسهم علماء, وينسبون أنفسهم إلي الأزهر أن يستخدموا هذه اللغة المسفة, في بيان, كل ما فيه لا يمكن أن يتصل بالأخلاق أو المجادلة بالتي هي أحسن؟
وأخطر من ذلك أنه بيان يتمسح بالإسلام, ويدعي الحديث باسمه, كما لو كان علماء( ؟!) هذه الجبهة قد نصبوا أنفسهم وصاة علي الإسلام, ومحتكرين الحديث باسمه, وتحولوا إلي دعاة يرجمون بأقبح الكلمات كل من يختلف معهم أو عنهم سأترك ما تعلمناه من أن اختلاف أمتي رحمة, والمخاطبة بالتي هي أحسن, وأسأل هل هذا بيان لعلماء مسلمين, ينتسبون إلي الأزهر الشريف, يخاطبون غيرهم من المسلمين أو غير المسلمين؟ وهل يعرف هؤلاء العلماء أن أزهرهم لا يزال بخير, وأن مستنيريه يرفضون كل ما قاله هؤلاء المنتسبون إلي الأزهر, ظلما, عن ألف ليلة, تماما كما فعلوا مع هؤلاء الذين أطلقوا علي أنفسهم مسمي رابطة محامون بلا قيود الذين طالبوا النائب العام بمصادرة الطبعة التي صدرت ضمن سلسلة ذخائر التراث التي يشرف عليها الأستاذ جمال الغيطاني عن هيئة قصور الثقافة برئاسة الدكتور أحمد مجاهد الذي طالب المحامون أصحاب البلاغ بعقابه والغيطاني بسبب نشرهما الطبعة المصرية الأولي من ألف ليلة وقد نعذر المحامين( بلا قيود؟!) علي جهلهم بالتراث العربي الإسلامي بوجه عام, لكن ماذا نفعل بمن يصفون أنفسهم بأنهم جبهة علماء الأزهر الذين يفترض بهم أن يعرفوا تراثهم الذين لا يختارون من تياراته إلا أشدها ظلاما وتخلفا تري هل يعرفون أن أزهرهم الذي يظلمونه بالانتساب إليه, كما يظلمون لقب العلماء, قد أخرج الذين تولوا تصحيح ألف ليلة وليلة, طوال القرن التاسع عشر الميلادي, دون أن يجدوا حرجا, أو يروا فيها ما رأي علماء جبهة الأزهر.
لقد كان أول من أشرف علي طبع ألف ليلة وليلة في زمن محمد علي سنة 1835 هو الشيخ عبد الرحمن الصفتي الشرقاوي المتوفي سنة1848 وكان شاعرا له ديوان جمعه تلميذه محمد عياد طنطاوي أسماه تلاقي الأرب في مراقي الأدب وكان عالما أزهريا فاضلا, ينفر من الرياء والتصنع, ويسير سيرة السلف الصالح في إرسال النفس علي السجية والرغبة بها عن التزمت والتطرف ولم تمتد يد هذا الشيخ الجليل إلي متن ألف ليلة إلا ليصوب اللغة من ركاكة الغلطات السخيفة للعامية, مؤكدا إعراضه عن استهجان المعاني الكثيفة التي أدرك أنها بعض ما يلازم الخصائص الأدبية للمتن ومضي في طريقه الشيخ محمد عبد الرحمن الشهير باسم قطة العدوي المتوفي سنة1864 وكان نحويا مقتدرا, من آثاره فتح الجليل بشرح شواهد ابن عقيل وتولي تصحيح مجموعة من ذخائر التراث, أذاعت صيته إلي اليوم, بين العلماء حقا لا العلماء زورا وقد مضي الشيخ طه محمود قطرية في اتجاه سلفه الشيخ قطة, فختم نسخة المطبعة الوهابية الصادرة سنة 1880 بحمد الله الذي قص علي نبيه أحسن القصص, وأباح لأمته فنون الرخص من الحكايات التي تعينهم علي احتمال النوازل وجاء بعد ذلك الشيخ عثمان عبد الرازق صاحب المطبعة العثمانية, فأعاد طبع ألف ليلة سنة 1884, وختم طبعته بوصف ألف ليلة بأنها تجاور بين بدائع المنقول والمعقول وفعل الأمر نفسه الشيخ إبراهيم الفيومي في الطبعة التي انتهي من تصحيحها سنة1886 ولم يفته مغزي ألف ليلة التي تجعل من سير الأولين عبرة للآخرين وهو المغزي الذي أكده الشيخ أحمد كبير الذي أشرف علي طبعة كلكتا الثانية في الهند وهي الطبعة التي ندين للأستاذين جمال الغيطاني وحسين مهران بإصدارها منذ سنوات, ولم تثر هذه الضجة المشبوهة التي واجهتنا عاصفتها الهوجاء في الشهرين الماضيين وقد حرص العلماء الخمسة من المشايخ علي نص الليالي المكتوب وعدم استهجان المواضع المنطوية علي جنس, أو حتي سفاح المحارم, تماما كما حافظوا علي متن رجوع الشيخ إلي صباه في القوة علي الباه الذي أصدرته مطبعة بولاق الأميرية لابن كمال باشا سنة.1891
وقد كان مصححو كتب التراث القديم, طوال القرن التاسع عشر, في منزلة كبار العلماء لما تحلوا به من دقة وتفان وإخلاص لم يعد لها مكان في زمن أشباه العلماء الذين يسيئون إلي الإسلام لجهلهم بتراثهم العظيم وما فيه من كنوز وذخائر ولذلك تخلو الطبعات التي أشرف عليها هؤلاء من الخطأ والسهو, وتدل علي التقاليد العلمية التي حافظوا عليها وقد كان القائمون علي المطبعة الأميرية يختارون المصححين من أبناء الأزهر النابهين, كي يتلقوا تدريبا شاقا يستغرق نحو ست سنوات, تشرف عليه رئاسة خاصة, بدأت بالشيخ نصر الهوريني الشافعي المتوفي سنة 1874 شارح ديباجة القاموس المحيط وصاحب كتاب المطالع النصرية للمطابع المصرية في الأصول الخطية الذي أعده أول كتاب في العصر الحديث يتصل بعلوم التحقيق ومراجعة المخطوطات في أثناء طبعها وقد أضاف الشيخ الهوريني به إلي علوم العرب التراثية ما أفاده من علوم أوربا, خصوصا حين أرسله محمد علي إماما لإحدي البعثات كما فعل مع رفاعة الطهطاوي.
وكان هؤلاء المصححون العلماء والأجلاء يعرفون تراثهم وإسلامهم, ويعرفون سماحته وسعة أفقه, فلم يكونوا يرتعبون من أية حكاية تنطوي علي هزل, أو تشمل إشارات ووقائع جنسية, أو تذكر الأعضاء الجنسية للرجل أو المرأة وكان دليلهم علي ذلك كلمات مثل تلك التي ذكرها ابن قتيبة الدينوري في كتابه عيون الأخبار الذي هو من كتب الأدب بمعناه القديم الذي يشير إلي الأخذ من كل شيء بطرف وكان الرجل أحد أئمة المذهب السلفي, ونصير أحمد بن حنبل في القرن الثالث للهجرة, ومؤلف تأويل مشكل القرآن وتأويل مختلف الحديث وعدو العقلانية اللدود الذي هاجم الجاحظ والنظام وأقرانهما من المعتزلة أقسي هجوم ورغم ذلك, ذكر في كتابه عيون الأخبار ما نصه سينتهي بك كتابنا هذا إلي باب المزاح والفكاهة وما روي عن الأشراف والأئمة فيهما, فإذا مر بك, أيها المتزمت, حديث تستخفه فاعرف المذهب فيه وما أردنا به واعلم أنك إن كنت مستغنيا عنه بتنسكك فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه, وإن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك فيهيأ علي ظاهر محبتك, ولو وقع فيه توقي المتزمتين لذهب شطر بهائه وشطر مائه, ولأعرض عنه من أحببنا أن يقبل إليه معك, وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين وإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع علي أن تصعر خدك وتعرض بوجهك, فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم, وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب.
ويمضي ابن قتيبة في مخاطبة أسلاف جبهة علماء( ؟!) الأزهر, مجادلا إياهم بالمعقول والمنقول, مستشهدا بأحاديث للرسول صـلي الله علـيه وسـلم وأقـوال أبي بكـر الصـديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولا أستطيع أن أنقل هذه الأحاديث, فمن المؤكد أن تحرير هذه الجريدة سوف يحذفها, خوفا من متطرفي هذا العصر المتمسحين بالدين, أو أدعياء الوصاية علينا, لا لأنهم أكثر تدينا, وإنما لأنهم أكثر تشددا وتطرفا وتزمتا إلي أن وصل خطابهم إلي أقصي درجات الإسفاف. ولا أدري إلي متي سنظل نسمح بهذا وأمثاله بدعوي الحرية, فالحرية تنتهي عند إيذاء الآخرين ولا أعرف أية حكومة تلك التي تسمح لجمعية مرخصة من إحدي وزاراتها بوصف المدافعين عن ألف ليلة بأنهم صبيان المواخير أو يصفون الليالي بأنها أدب مراحيض, وأرجو من الوزارة المعنية بالجمعيات الأهلية أن تراجع بيانات الجمعيات التي تحت إشرافها, ومنها جمعية جبهة علماء الأزهر التي أظنها تخرق كل القوانين, وأن تتولي التحقيق في مثل هذا البيان وغيره الذي هو اعتداء علي الحريات والتراث وتقاليد الأزهر المستنير, فضلا عن التحقير من مكانة أنصار الدولة المدنية الذين توصف كتاباتهم بأنها قاذورات الأقلام الفاجرة ويوصف فيه الكاتب الكبير حلمي النمنم بكلمات بشعة مثل لو أن سفيها ذهب فأكل فخلط متضلعا من قمامات القاهرة التي ملأت فجاجها ثم نام مستقلا فحلم فهذي لم يأت بأقبح مما فاه به هذا النمنم علي رؤوس الأشهاد وأمثال هذا كثير وأقبح في بيانات لابد أن تخضع للقانون, فالفرق هائل بين حرية الرأي والسباب البذيء, ولابد أن يأخذ القانون مجراه, ليوقف الذين صاغوا هذا البيان وأمثالهم عن تحقير الخصوم الفكريين ووصفهم بما يعاقب عليه القانون إن الحرية مسؤولية أيها السادة, وعلينا الدفاع عنها حتي ضد الذين يسيئون استخدامها في غير ما وضعت له, وهو حماية حقوق الإنسان
 
أعلى