دعوة الحق ة - [كتاب] روضة الآس (لأبي العباس المقري )

منذ إتسعت آفاق البحث أمام الباحثين في التاريخ العلمي والأدبي لبلاد الأندلس واقطار المغرب العربي لم يجدوا مرجعا لهم يعتمدون عليه كل الإعتماد أوفى من ابي العباس المقري وكتابيه العظيمين: نفح الطيب، وأزهار الرياض، فقد شادت عارضة هذا الإمام الضليع من الأخبار والآثار ... الريان من العلم والأدب أن يجعل من شخصية وزير غرناطة ودفين فاس، لسان الدين إبن الخطيب 713ه 776ه محورا لموسوعة كبرى عن الأندلس وغابر ثقافتها وحضارتها وتاريخها ... وأن يجعل من شخصية عالم سبتة ودفين مراكش القاضي عياض (476ه 544ه) محورا لموسوعة أخرى لا تقل عن سابقتها أهمية وفائدة في المباحث الاندلسية والمغربية.

وكان إعجاب الباحثين بالموسوعتين لا يقل عن إعجابهم بمؤلفهما العظيم، فراحوا ينقبون عن ترجمته وشخصيته وثقافته وآثاره الأخرى التي لم تشتهر إشتهار (النفح) و (أزهار الرياض).
ومن حسن حظ المقرئ أن حياته العلمية والأدبية توزعتها كل من تلمسان، وقاس، ومراكش، والمدينة، والقاهرة، والقدس، ودمشق، فترك في كل منها خبرا أو اثرا أو تلميذا أو شيخا أو صديقا يروي للناس حديثه ...
ومن حسن حظ المقري أيضا أن يعرف في عصره بلون واحد من الوان العلم والثقافة .. لتبقى أخباره محفوظة عند طائفة خاصة من الناس ... بل أنه كان حافظا للحديث. ثقة في روايته ... مفتيا في الفقة. متضلعا من فروعه وأصوله ... عارفا وقدوة في علم التوحيد ومشكل العقائد ... خطيبا مدرسا ... وأخيرا أديبا ومؤرخا من اعلى طراز ....
فلهذا نجد له صدى عميقا عند المهتمين برواية الحديث وفروع الفقه والفتوى بالإضافة إلى المؤرخين والأدباء ... في المشرق والمغرب ... فهذا يصل سنده في الحديث بالمقري ... وهذا ينسب له فتوى في الفقه ... وهذا ينقل عن كتاب من كتبه المتنوعة ...
لكن هذا الإهتمام – النسبي – بشخصية المقري والخطوط البارزة في ترجمته لم يمنع من أن نتال بعض آثاره حظها من الإهمال والتبعثر إن لم نقل الضياع ...
وهذا ما يقال بالذات عن اثر فريد من آثار المقري وهو كتاب "روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس" فقد ظل هذا الكتاب قريبا من ثلاثة قرون ... لا تراه عين. ولا يصل غليه يد. حتى يئس من العثور عليه الباحثون، وإطمأنوا إلى دخوله في خبر ليس ...
ولكن الأيام ابت غلا أن تفاجئنا بالعثور على هذه الذخيرة النفيسة في نسختها الأولى الاصلية التي كتبتها يد المؤلف ... قبل أن تتاح له فرصة إخراجها في صيغتها النهائية ...
وقد عثر على هذه النسخة الوحيدة – لحد الآن –ضمن دخائر الخزانة الملكية بالقصر الملكي بفاس ثم طبعت في سلسلة مطبوعات القصر الملكي بعناية وتصحيح المؤرخ الباحث الأستاذ عبد الوهاب ابن منصور ...
وكان صدور هذا الكتاب فرصة مناسبة للحديث عن المقري وما جد من معلومات عن شخصيته وآثاره. مع إعطاء نظرة عن الكتاب وأهميته في عالم البحث عن تاريخ الأدب العربي بالمغرب في القرن الحادي عشر الهجري على عهد دولة السعديين.

عصر المقري ونشأته الأولى

عرف المغرب العربي إثر إنهيار الوحدات الثلاث دولة المرينيين في فاس، ودولة بني عبد الواد في تلمسان، ودولة الحفصيين في تونس، أهوالا داخلية دكت صروح المجد والحضارة والثقافة ... تبعتها فواجع الهجمات الصليبية التي شنها شارل الخامس ملك غسبانيا وعدو السلطان العثماني سليمان الثاني .... وإبنه فليب الثاني عدو السلطان سليم ... على طول الساحل الممتد من طرابلس إلى وهران ... تساندهما في نفس الوقت هجمات دولة البرتغال على الساحل المغربي من ثغر طنجة إلى أكادير..
كما عرف المغرب العربي في نفس العصر الفصول الأخيرة من مأساة المهاجرين الأندلسيين الذين لجأوا إلى أمصار الأقطار الثلاثة وإندمجوا في حياتها العامة وكأنهم كانوا لقاحا جديدا دب مفعوله في مرافق الحياة العادية والأدبية. وطبع بعض المدن بطابع له آثره المعروف إلى الآن ...
ومن أجل ذلك ظلت فاس وتلمسان وتونس وغيرها موصولة السند في عاداتها. وصناعاتها وحياتها العلمية والأدبية والعمرانية بالأندلس والأندلسيين ... وظلت أجبالها تتوارث هذا التراث.

وفي غمرة الأحداث المتتالية إستطاع العثمانيون أن يثبتوا أقدامهم في تونس والقطر الجزائري وأن يطردوا الغسبان ومن حالفهم من الأمراء المتوثبين ... كما أن دولة السعديين إستطاعت أن تملك زمام السياسة والقيادة في المغرب الاقصى وأن تجدد الأمل. وتبعث الماضي، حتى اصبح بلاطها كعبة رجال العلم والأدب من كل قطر من اقطار الغسلام ... لا سيما بعد فتوحات المنصور الذهبي وإنتصاراته المتوالية في كل ميدان ...
والفرق واضح بين عمل الأتراك في تونس والجزائر وعمل السعديين في المغرب ... كما أن الفرق واضح بين ما تصادفه اللغة والأدب والعلوم بوجه عام من عقبات واشواك على يد حكام لا يمتون غليها بصلة ... وبين ما تجده عند دولة عربية إحتضنت تراث العرب ورفعت شأن حامليه من شعراء وكتاب وعلماء ومؤرخين
في هذا العصر ولد أبو العباس أحمد بن محمد المقري بمدينة تلمسان من أسرة عرفت بثروتها وجاهها وعلمها في هذه المدينة منذ إنتقل غليها جدها في القرن السادس الهجري من مقرة (مقرة) (بتشديد القاف) صحبة الشيخ الصوفي ابي مدين الشهير ... وكان ميلاد أبي العباس سنة 986هـ وقد إقترن هذا التاريخ بالحادث العظيم في المغرب وهو الإنتصار الذي حققه السعديون في معركة وادي المخازن على جيش البرتغال بقيادة –سبستيان – وتسمى عند المؤرخين الأوروبيين: Bataille des trois rois.
وقد كانت نشأته نشأة الصيانة في الخلق، والجد في الدرس، والسباق إلى المجد العلمي، والنبوغ الأدبي، ووجد في عمه سعيد عالم تلمسان ومفتيها، نعم الاستاذ والموجه، والقدوة المربي، فتعهده بفنون من العلم، والوان من الثقافة طبعته منذ النشأة الأولى بطابع المعين الذي لا ينضب، والفيض الذي لا يفيض..
وكما رحل العلم إلى فاس لطلب العلم في صباه، وربط بأعلامها صلة متينة متجددة على ممر الايام ... كذلك رحل إبن أخيه على هذه المدينة التي إحتفضت جامعتها ومدارسها وخزائن كتبها بما لم يحتفظ به غيرها من تراث العلوم الإسلامية في ذلك العصر ...
وصل صاحبنا إلى فاس سنة 1009 هـ وهو في الثالثة والعشرين من عمره وقد بدت مواهبه تتفتح عن الذكاء المتقد والفهم الواسع، والطموح المغري فحضر المجالس العلمية يفيد ويستفيد ونال مكانة مرموقة ...
فأجازه أقطاب العلمن ورأوا فيه ما يبشر بالتفوق والنبوغ ولم يلبث أحد قواد السلطان أحمد المنصور الذهبي ملك المغرب إذ ذاك أن تعرف بهذا الشاب ورأى نبوغه المبكر فرأى أن يصحبه إلى العاصمة – مراكش – ليلتحق ببلاط المنصور الذي كان حريصا على ان يضم مجلسه أكبر عدد من رجال العلم والأدب ليستعين ويسترشد بهم في مهماته ومشاريعه المتعددة في العلم والسياسة ...
وفي مراكش عاصمة السعديين فتح الشاب النابغة عينيه على عظمة دولة المنصور الذهبي ببلاطها وقصورها وجيوشها وحفلاتها ومجالسها العلمية التي كان المنصور يترأسها ويبدئ ويعيد في الجدال والمناقشة لآراء العلماء في جميع القضايا المطروحة على بساط الدرس .. كما سمع قصائد شعراء الدولة الذين اشادوا بفتوحات المنصور ومؤسساته الحربية والعمرانية ولا سيما قصر "البديع" الذي كان وما يزال عنوان طابع الدولة السعدية.
وفي مراكش تعرف بأقطاب العلم والأدب داخل مجلس المنصور وخارجه وإستفاد وأفاد مما جعله يفكر في كتابة مؤلف يجمع فيه ما استقر بذاكرته من أخبارهم وآثارهم العلمية والأدبية بالإضافة إلى ما استقر بذاكرته من أعلام فاس وعلمائها الذين فتحوا صدورهم لإستقبال نابغة تلمسان ...
وحيث أن هؤلاء الأعلام سواء منهم من لازم مجلس المنصور في العاصمة .. ومن بقي منهم في مدينة فاس ينعمون في ظلال ما أغدقه عليهم هذا الملك العظيم من صلات ومرتبات وجوائز في كل مناسبة ... فقد أراد المقري أن يتوج كتابه بفصول يصف فيها دولته ومجالسه ونبوغه في العلم والأدب. وما قيل فيه من شعر ونثر ... وما ألفه من كتب ...
ولهذا إختار لمؤلفه هذا العنوان: "روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس" ورجع المقري من مراكش وقد إختمرت في ذهنه فكرتان.
- الإقامة بالمغرب في ظلال دولة المنصور العظمى.
- - تأليف كتاب الروضة وإهداؤه لخزانة المنصور.
أما التوقيت الزمني الذي تمت فيه رحلة المقري نفسه فهو كما يلي:
- في 4 صفر1009هـ وصل لفاس
- في رمضان كان بمراكش يزور معالمها
- في شهر ربيع الأول عام 1010هـ حضر حفلات المولد النبوي بمحضر المنصور...
- في 15 ربيع الثاني من نفس السنة غادر مراكش إلى فاس
- في 17 ذي القعدة غادر فاسا إلى تلمسان ...
وهكذا أقام بالمغرب أقل من سنتين عرف فيهما ما يجب أن يعرفه إنسان في مثل سنه وثقافته وطموحه يريد أن يفارق وطنه إلى آخر، يجد فيه ما يصبو إليه من أسباب العيش ... وطمأنينة النفس .. وفرص المجد والجاه ...
ومكث في تلمسان يهييء الأسباب في شوق إلى تحقيق مشروعه الذي خطط لنفسه ... ويكتب مؤلفه روض الآس ... وكلما ذكر المنصور دعا له بطول العمر .. ودوام العز والنصر
ولكن الأقدار أبت إلا أن يموت المنصور في غيبة المقري سنة 1012 هـ فلم يثن ذلك النبأ المقري عن عزيمته، ولم يحل دون إرادته ... وصل إلى مدينة فاس يقصد الإستيطان بها في جوار أعلامها
ومدارسها وخزائن كتبها ... وجامعتها الكبرى ...

المقري في فاس

رجع المقري لفاس للمرة الثانية سنة 1013هـ وهو يحمل لها ولعلمائها وأدبائها كامل التقدير والإكبار. كما عرفوا النابغة المتبحر العالم الواسع الأفق والأديب الضليع ..
ورغم أن الجو السياسي في المغرب على العموم أخذ يكفهر بموت المنصور بسبب مطامح أبنائه في الإستئثار بالعرش وقيام الحروب بينهم هنا وهناك ...
ورغم أن نبغاء الفكر الذين إجتمعوا في بلاط الملك الراحل قد عصفت بهم العواصف السياسية وتوزعتهم مصالح المتصارعين حول العرش ... وفقد كثير منهم جاهه ومكانته في الدولة ... فإن ذلك لم يحل دون الإزدهار العلمي في فاس ... ولم يثن العلماء عن التدريس والتأليف والبحث والمناظرة ... فوجد المقري ضالته المنشودة يدرس ويؤلف ويبحث ويفتي ويسهم في الحياة العلمية والأدبية يوصل السند وربط الصلة وأخذ الإجازة من شيوخ العلم ... ومنحها لشبابه ...
لكن الفراغ الذي أحدثه موت المنصور سار بالمغرب نحو أهوال وفواجع داخلية وخارجية قسمت البلاد بين الأمراء السعديين وغيرهم من المتغلبين وأباحت حمى لغورها لهجمات الإسبانيين المتربصين ..
وجاءت قضية "العرائش" التي اراد فيها الأمير السعدي المأمون الملقب بالشيخ أن يجبر علماء الشريعة على فتوى بجواز تسليم هذا الثغر المغربي إلى إسبانيا لتسلم له ما عندها من رهائن فيها أولاده .. فكان ذلك إحراجا لرجال العلم والدين... أوقعهم فيه هذا الطائش المفلس... فتجرأ بعضهم وارضى ضميره بالفتوى بمنع هذا التسليم وتحدي بذلك إرادة الأمير .. فكان جزاؤه القتل .. من طرف الأمير ...
ووافق بعضهم إرادة الأمير .. فكان جزاؤه الإهانة أو القتل من طرف الشعب ..
وتملص فريق ثالث من الفتوى بالفرار من فاس إلى البوادي والجبال .. أو الإختفاء في مكان مجهول .. فماذا كان موقف المقري من هذه الفتنة العمياء؟ بيدنا نصوص مخطوطة ومطبوعة عن موقف كثير من العلماء الذين إمتحنوا بالفتوى في هذه القضية ... وبخصوص موقف أبي العباس المقري بيدنا نص صاحب "الإستقصاء" الذي يقول:
"فر جماعة من تلك الفتوى كالإمام أبي عبد الله محمد الجنان صاحب الطرر المختصر. وكالإمام أبي العباس أحمد المقري مؤلف نفح الطيب فاختفيا مدة إستبراء لدينهما حتى صدرت الفتوى من غيرهما..."
وصرع الأمير السعدي قريبا من مدينة تطوان سنة 1022 هـ. ولكن ذلك لم يجعل حدا للفتن والأهوال بل إن الجو السياسي لم يعرف إستقرارا ولا هدوء. فظلت المدن الكبرى ولا سيما فاس ومراكش تشاهد الإنقلابات وما تعقبها من حوادث الإنتقام والفتنة.

وقد شاهدنا المقري يتخذ موقفه من قضية العرائش بالإختفاء حتى تمر العاصفة فلهذا يمكننا أن نقول أن أمل المقري قد خاب في الحصول على منصب سام في بلاط دولة انثتر عقدها .. وحفت الأخطار بكل من يتولى منصبا فيها .. فلهذا عكف على دروسه وكتبه وأوراقه قانعا بما ناله من تقدير في نفوس أهل العلم والأدب وطلبتهما .. وفي تلك الفترة كان يكتب مؤلفه "أزهار الرياض" يجمع مواده من عدة كتب أندلسية ومغربية.


ونستطيع أن نعرف الصدمة النفسية التي كان المقري يعانيها في فاس ايام الأزمة السياسية من مقدمة كتاب "أزهار الرياض" فهو يشكو الغربة والأهوال، ويعزي نفسه حينا باللجو العلمي الذي يعيش فيه، وحينا بجمال فاس ومناظرها ومظاهر حضارتها ...
وفي سنة 1022هـ نجد المقري متوليا الخطابة والإمامة والفتوى بالقرويين ..
فمن ولاه الوظيفة ...؟
إن فاسا في هذه الظروف تعيش في فوضى ... فالشيخ خرج طريدا وصرع قريبا من تطوان ... وإبنه عبد الله حاول الإستبداد بفاس لكنه غلب على أمره بسبب قيام زعماء الشعب، وفيهم سليمان الزرهوني. والمربوع بأخد السلطة وقيادة الجماهير والسهر على الأمن والنظام ...
فهل كان المقري في صف الثوار ..؟ وهل تولى خطته السامية بإرادتهم ..؟
الواقع أن خطة الشيخ المقري وسلوكه كانت بغرادة الأمير عبد الله بن الشيخ رغم أنه كان مغلوبا على أمره .... والدليل على ذلك شيئان:
- أن المقري لم يخرج من فاس مهاجرا إلى الشرق وقاصدا بيت الله الحرام سنة 1027هـ إلا بعد أن أتهم بالميل إلى "شراقة" وهؤلاء هم جيش متكون من أهل المغرب الشرقي الذين كان الأمير عبد الله يعتمد عليهم كل الإعتماد في قمع ثورة زعماء الشعب ...
- إن المقري أخذ إذن الأمير عبد الله قبل أن يترك "المنصب والأهل والوطن والألف" على حد تعبيره ...
المقري في الشرق
في رمضان سنة 1027هـ ودع المقري المغرب لأداء فريضة الحج والإستيطان في بلاد نجد فيها الإستقرار الذي ينشده .. فيقصد الحجاز معرجا على القاهرة ويحضر موسم الحج مرات متعددة ويؤلف هناك عدة كتب اشتهر أمرها بين الناس وذاعت نسخها في جميع الأقطار الإسلامية في حياة المؤلف وبعدها ...
وقد نال المقري شهرة واسعة في عواصم الشرق التي زارها ومكث بها مدة ... وكان حفظه ونبوغه مثار إعجاب العلماء في القاهرة والقدس ودمشق وقدروا فيه سعة العارضة وغزارة المعرفة وتنوع الثقافة المعروفة في ذلك العصر ...
ولا نطيل الحديث عن حياة المقري في الشرق فالمعروف أن معاصريه هناك كتبوا عنه الشيء الكثير...
وهذا الشهاب الخفاجي في "الريحانة" بعد أن ترجم له تلهف أشد التلهف حيث أن المنية حالت دون إجتماعه به وقال:
"وجاءني بنعيه من كنت أرجوه بشير التهاني" ودع المقري هذه الحياة بالقاهرة سنة 1041هـ بعد أن ترك هذا التراث العظيم.


كتاب روضة الآس

بهرت دولة المنصور الذهبي أبا العباس المقري .. كما أن شخصية هذا الملك العظيم أثارت إعجابه وتقديره ... وشاهد نفاد سوق العلم والأدب في مراكش وفاس ... وإطلع على ما الف من كتب برسم خزانة الدولة ... فحفزه هذا كله ليؤلف هذا الكتاب في الفترة التي قضاها بتلمسان مستعدا لرحلته إلى المغرب واللحاق ببلاط المنصور بتلهف وشوق:
"نسال الله أن يزعجنا عاجلا إلى حضرته المقدسة الطاهرة من أدناس الجور والحيف ..."
والكتاب يشتمل على قسمين:
- مايتعلق بحياة المنصور ودولته ومآثره ومؤسساته
- ما يتعلق بالعلماء والشعراء الذين إتصل بهم وعددهم 34.
وقد أراد المقري بقسمه الأول من الكتاب أن يسير على سنن شاعر الدولة أبي فارس عبد العزيز الفشتالي الذي ألف كتاب: "مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفاء" ومؤرخ الدولة أبي العباس ابن القاضي الذي الف كتاب: "المنتقى المقصور على مآثر الخليفة أبي العباس المنصور" وكاتب الدولة ابن عيسى الذي ألف كتاب: "الممدود والمقصور".
والنسخة التي عثر عليها من الكتاب ليس فيها من هذا القسم إلا جزء يسير يتعلق بمآثر المنصور وحفلاته ومؤلفاته وأشياخه ... ومع ذلك فما بقي لنا من هذا القسم يحتوي على معلومات قيمة نادرة عن ذلك العصر الذهبي ... كتبها شاهد عيان .. ويلاحظ الأستاذ المصحح أن المقري لم يعد النظر في كتابه مرة ثانية بسبب موت الملك الذي ألف له الكتاب فظل في "مسودته" مشروع كتاب .. لا كتابا في صيغته النهائية. حتى رحل المؤلف عن المغرب وتركه فيما ترك من كتب وأوراق، إلى أن استقر في الخزانة الملكية.

أما القسم الثاني من الكتاب فهو بيت القصيد كما يقولون فقد ترجم فيه المقري لأربعة وثلاثين من أعلام عصره الذين لقيهم واستفاد من علمهم وأدبهم وروى أخبارهم وأشعارهم وآثارهم ..
وهؤلاء قسمان:
منهم المشهورون كأبي العباس ابن القاضي. والشيخ أحمد بابا السوداني. والشيخ القصار والشاعر عبد العزيز الفشتالي. وأبو القاسم الوزير الغساني ...
ومنهم المغمورون والمجهولون الذين لم يبق لنا من أخبارهم وآثارهم إلا النزر الذي لا يكفي للحكم على علمهم أو أدبهم. كالشاعر محمد بن علي الوجدي "الغمات" وعبد الرحمن العلج والحسن المسفيوي، وأحمد الآيسي وغيرهم ...
وكان عمل المقري بالنسبة لهؤلاء وأولئك عملا مفيدا حيث وسع معلوماتنا عن الطائفة الأولى وروى لنا مجموعة شعرية هي لحد الآن أوفى ما نملك من آثىرهم في ميدان التأليف.
أما الطائفة الثانية فقد نشرها من مرقدها بعد أن أخنى عليها الإهمال والنسيان وهذا عنصر الأهمية والفائدة في هذا الكتاب بالنسبة للتاريخ العلمي والأدبي لدولة السعديين بالمغرب.
وفي الكتاب بالإضافة إلى ذلك نظرات المقري الخاصة في الحياة المغربية في ذلك العصر وما فيها من عادات في الافراح والمآثم وحياة الجد والهزل مما يكون مادة للدراسة والبحث عن ذلك العصر ...
لكن يجب أن نلاحظ هنا أن كتاب روضة الآس ليس "فهرسة" لأبي العباس المقري ولهذا لا نستغرب إذا رأيناه يغفل كثيرا من أعلام فاس في هذه الحقبة وفيهم أشياخه الذين ذكروا في ترجمته وهم من الشهرة بحيث لا يمكن غغفالهم ...
وكما نلاحظ أن الكتاب وصلنا مبتور الأول والآخر في مدة وجيزة ولم يعد مؤلفه النظر فيه مرة ثانية فلهذا نحن أمام كتاب لم يتم ... وأمام فائدة لا شك في أهميتها النسبية ...
ولو وصلنا الكتاب بعد أن عمل فيه المقري عملا جديدا حين إستيطانه بفاس ... لكنا إذ ذاك أمام معلومات بالغة درجة عالية في الأهمية ...
ولكن رغم هذا كله فالكتاب أثر فريد من آثار أبي العباس المقري جدير بالدراسة والبحث ...
أما طبع الكتاب وإخراجه إلى عالم النور بعد طول هذا الرقاد فإن ذلك حسنة من الحسنات ومبرة من المبرات نشكرها ونباركها ونرجو لها ما بعدها ...


دعوة الحق
ع/72

1.jpg
 
أعلى