دعوة الحق - مظاهر الحضارة البربرية

لما قلت الدراسات باللغة العربية حول موضوع تاريخي هام كموضوع «البرابرة وحضارتهم» أحببت أن أقدم للقراء الأعزاء نظرة خاطفة عن بعض مظاهر الحضارة البربرية مع العلم أنني لم أوف الموضوع حقه، راجيا أن يون هذا البحث بمثابة افتتاح لدراسات مستفيضة حول هذا الموضوع التاريخي الهام.

أصل البربر: لقد اعتاد المؤرخون أن يشرحوا معنى كلمة بربر فقالوا أنها مشتقة من كلمة Barbarus أي الشخص الثائر المتصف بصفات الهمجية، وقد سبق للرومانيين أن اطلقوا عليهم اسم Barbares بينما كان البرابرة يطلقون على أنفسهم كلمة«أمازيغن» جمع «أمازي»أي شريف (Noble) وإذا بحثنا عن معنى كلمة «لمتة» –على سبيل الاستطراد- تلك القبيلة التي شاركت المرابطين في غزو المغرب نجد معناها «شريف»).

وقد قسم ابن خلدون البرابرة الى قسمين رئيسسين:
1) البرابرة البتر: أي المحرومون من الأبناء أو المصابون بداء العقم أو الحاملون البرانس البترا (أي بدون قب) وأهم فروعهم فخد «زناتة» ذلك الإسم المشتق من الكلمة البربرية «اجناتن»، وقد تأثر الزناتيون بالعرب فعاشوا تحت الخيام، وربوا الجمال، وركبوا الخيل مستعملين الدروع الجلدية، والسرج المرتفع، والركاب العالي، كما انتشروا في المغرب الكبير ثم انتقلوا الى إسبانيا، وقد اقتبس الإسبانيون عنهم عاداتهم الحربية، وإليهم ينتسب بنو مرين.
2) البرابرة البرانس: فقد قيل أن كلمة برانس مشقة من كلمة «برنوس» أي (السلهام) وأهم فروعهم «مصمودة» الذين كانوا يقطنون بالأطلس الكبير والمتوسط، وإليهم تنتسب الدولة الموحدية – و «صنهاجة» وقد اشتقق اسمهم من الكلمة البربرية «ازناكن» وأهم فروع صنهاجة «لمتة وكزولة ولمتونة وجدالة» وإليهم تنتسب الدولة المرابطية ومن فروع صنهاجة كذلك الطوارق الصحراويون. وصنهاجة الجزائر (القبائل) التي ساعدت الفاطميين على تأسيس دولتهم بالمغرب الأدنى – كما سيأتي ذكره- و «كتامة» التي انتقلت مع الفاطميين الى مصر و«أوربة» التي كانت تسكن جبال الأوراس تحت قيادة كسيلة، ثم نزحت إلى المغرب وساعدت الدولة الإدريسية على نشر رسالتها به. والخلاصة أن الزناتيين كانوا يمثلون البتر والصنهاجة البرانس، والخلاف بين الزناتيين والصناهجة الذي تحدث عنه المؤرخون كثيرا ليس هو في الحقيقة إلا خلاف بين البرانس والبتر في سياسة الحكم وفي طرق الكسب وحتى في الوضع الاجتماعي حيث أن البرانس كانوا بربرا مستقرين يعيشون على الزراعة بينما كان البتر رحالا يعيشون على الرعي.
والبرابرة أسيويون لا أفارقة، هاجروا من ربوع الشام حيث جمعتهم مع أبناء عمهم الكنعانيين بعد الفتح الإسلامي مثلهم السامية وتقاليدهم الحرة». وذكر Dr Le Blan في كتابه Histoire ey Historiens de l’Algérie (1931) بأن البربر مزيج من شعوب أوربية وأسيوية، وقد حصل هذا المزيج في عصور مختلفة.
وذكر علماء انتربلوجيون (Antropologistes) أن البربر لم يعدوا السكان الأولين للشمال الإفريقي بل سبقهم نوع بشري آخر إلى سكنى هذه البقعة من الأرض منذ ما يقـــــرب من 000. 500 سنة حسب ما تشهد به العظام التي عثر عليها. ويمتد النفوذ البربري ما بين صحراء «سيوا» في الحدود الليبية المصرية الى المحيط الاطلنطقي ثم الى جنوب «نجيريا».
ويبلغ عدد البرابرة ما يقرب من عشرين مليونا يمثلون « 2% » من سكان تونس « 3% » من سكان الجزائر و « 45% » من سكان المغرب.
وتوجد الكثافة البربرية في الجنوب التونسي وفي جبال «الكابلي» أي القبائل بالجزائر، وفي الأطلس المغربي والريف وسوس- إلا أن من الملاحظ أنه لم يوجد في إفريقيا اليوم ما يسمى بالجنس البربري نظرا لاختلاط الدم البربري بالدم العربي على ممر العصور، ولم يبق إلا االناطقون باللهجات البربرية مع وجود عناصر أخرى لا تتكلم إلا بالعربية.

حضارة البربر البدائية:
كانت للبربر في أول الأمر حضارة بدائية مرتكزة على الزراعة والرعي ولم تتطور حضارتهم الا بعد امتزاجهم بالفنيقيين والرومان. لقد كانوا يسكنون في المغاور والكهوف والأكواخ المبنية من الطوب ويتغدون بالكسكس والالبان واللحوم ويلبسون جلود الحيوانات والجبات الصوفية ويتسلحون بالفؤوس الحجرية والحراب.
ولما قدم الفنيقيون إلى المغرب اندمجوا مع البربرة بواسطة المراكز التجارية التي أسسوها عبر السواحل . وانتقلت علاقتهم الاقتصادة بالبربر إلى علاقات إجتماعية. فكما أخذ الفنيقيون عن البربر عبادة آلهتهم «تانيت» كذلك أخذ البربر عن الفنيقيون هندسة بناء المنازل واستعمال الفسيفساء وعبادة الكبش وأكل الكسكس وعادة الختان ولغتهم القومية.
ولما احتل الرومان المراكز الفنيقية بالمغرب كانت «موريطانيا» أي القسم الغربي من المغرب الكبير تحت قيادة القائد البربري «بوكوس». وبعد أن تم للرومان ما أرادوا بدأ البربر يتعاملون مع الرومان، فيبيعون إليهم الأقمشة والأواني الطينية والمصابيح الزيتية. وأثناء ذلك تأثر البربر بحضارة الرومان فاقتبسوا منهم بناء الدور (الدار المغربية هي صورة طبق الأصل للدار الرومانية) وبناء االحمامات واستعمال المحراث وكذلك الرسوم الموجودة في فسيفسائهم، حيث إن رسوم الزربية المغربية هي صورة لرسم الفسيفساء الروماني.
وتمتاز المرحلة التاريخية التي تفصل المرحلة الفنيقية عن المرحلة الرومانية بأنها مرحلة بربرية وطنية تمتعت بنوع من الاستقلال الداخلي تحت ظل حضارة يانعة حيث «إن المدن والضياع، والمراعي كانت منتشرة من طرابلس الى طنجة» وقد تظهر هذه الطبقة الوطنية ظاهرة للعيان بالخصوص في مدينة «لوكوس» التاريخية حيث توجد الطبقات الخمس.

اللهجات البربرية:
تنقسم اللهجات البربرية الى ثلاثة أقسام حسب ما ذكره: Boussquet في كتابه Les Berbères :
1) اللهجة الزناتية (تاريفيت) التي يتكلم بها الريفيون المغاربة وسكان بعض النواحي الأطلسية والبرابرة الليبيون والتونسيون والجزائريون ما عدا سكان جبال القبائل (Les Kabiles).
2) اللهجة الصنهاجية (تامزيغت) يتكلم بها رجال القبائل وسكان الأطلس المتوسط وشرقي الاطلس الكبير وشرقي الاطلس المتوسط وناحية اذملوية وكذا الطوارق بالصحراء.
3) اللهجة المصمودية (تاشلحيت) بتحدث بها سكان الأطلس الكبير الغربي وكذلك أهل سوس الخ..
وقد تفرعت عن هذه اللهجات الرئيسية لهجات أخرى ذكر Basset في كتابه Langue Berbère انها بلغت 1200 لهجة. هذا ولقد كان البرابرة قبل قدومهم إلى المغرب يتكلمون لغة سامية وحامية في نفس الوقت قريبة من العربية وقاموا باختراع حروفهم المعروفة «تفيناغ» على يد ملكهم »مسينيسا» والتي ما زالت مستعملة اليوم بالصحراء عند «الطوارق». وكما ذكر الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله في كتابه «مظاهر الحضارة المغربية» فإن اللهجات اللبربرية المستعملة في المغرب ربما استمد البربر بعضها من السكان الأفارقة الذين اتصلوا بهم في طريقهم الى ليبيا.
ولما انتشرت اللغة العربية في المغرب احتكت باللهجات البربرية فاندمجت في هذه اللهجات كلمات عربية عريقة لا تكاد تستعمل الآن كما ورد ذلك في كتاب «مظاهر الحضارة المغربية» وذلكمثل كلمة «اكزيم» ومعناها الفأس الذي كان يسمى بالعربية «القلزم» كما يرجع أصل لفظة «ازرو» البربرية الى كلمة «اصر« العربية ومعناها الحجر. وقد انتقلت عبارات بنصها من البربرية إلى العربية مع شيء من التحريف كقولهم «ماتريت» أي ماذا تريد؟ وقد استغنى البربر عن حروفهم وعوضوها بحروف عربية لأن العربية أصبحت لغة دينهم، فمن الكتب التي وضعت بالبربرية وكتبت باللغة العربية يوجد «كتاب الامام محمد بن تومرت».
«وخلاصة القول أن البرابرة نقلوا من العربية الى جميع لهجاتهم كل ما يتصل بالدين والسياسة والآداب والمجاملات والضيافات ...» وكما أن اللغة البربرية قد تأثرت بالعربية فإنها أيضا قد تأثرت باللغة اللاتينية. «فمن الألفاظ اللاتينية الدخيلة مثلا: اسنوس – الجحش (من Assinus الحمار) – اورثي – الحديقة (من Hortus – الحديقة) ...« الخ.
إلا أن هذه اللهجات البربية المختلفة في المكغرب كالسوسية والزناتية والزيانية لم تكن «الرابطة اللغوية» بين جميع افراد الوطن المغربي فيجب أن توحد لغة المغاربة بالعمل على نشر العربية بالتخوم وفي قمم الجبال مع المحافظة على هذه اللهجات البربرية كتراث قومي يعتز به كل مغربي وجعلها بمثابة لغة ثانية تدرس بالمدارس الثانوية وبكليات الآداب والعلوم الاجتماعية.

البربر والفتح الاسلامي:
لما تولى معاوية حكم المسلمين أرسل أبا المهاجر لفتح المغرب الأقصى. فعرف هذا الأخير كيف يقنع البرابرة أن من مصلحتهم أن يكونوا في جانب العرب، فأسلم زعيم البربر «كسيلة» مع جماعة من قومه وتعاون الجميع على فتح تلمسان والاستيلاء على المدن الساحلية. غير أن هذه السياسة الحكيمة لأبي المهاجر لم يتبعها خلفه عقبة بن نافع الذي عامل البربر بعنف ففر «كسيلة» من جراء ذلك وجهز جيشا لمحاربة عقبة فدارت الدائرة على عقبة وقتل بمكان لا زال يحمل اسمه قرب (بسكرة) وذلك أثناء موقعة «تاهودة» التي دارت رحاها في جنوب قسطنطينة، ودخل «كسيلة» القيروان وظل مستبدا بالحكم في الشمال الإفريقي مدة خمس سنوات. ولما تولى الخلافة عبد الملك بن مروان أرسل زهير بن قيس البلوي لاسترداد القيروان سنة 66هـ فتم ما أراد، غير أن قوة بزينطة جاءت لنجدة «كسيلة» أوقعت به وبجيشه، وحوالي سنة 689م قتل كسيلة في إحدى المعارك. ثمولى الخليفة حسان بن النعمان الغساني واليا على المغرب فاستعان بالبربر ضد البزنطيين، غير انه سرعان ما دهمته امرأة بربرية، وهي الكاهنة اليهودية التي لقبها المستشرق الفرنسي Monteille ب «جان دراك المغرب». فتراجع حسان الى برقة تاركا الحكم المطل «للكاهنة مدة عشر سنوات. ثم بعد ذلك أعاد حسان الكرة، وفي هذه المرة قتلت القائدة البربرية بمكان قرب فاس يدعى «بير الكاهنة» أوكما قيل قرب قابس شرق تونس سنة 82ه ولما دان المغرب لحسان عرب الدواوين البزنطية ووزع أراضي البزنطيين على الفلاحة، وبنى بتونس قاعدة بحرية.
وهكذا، فكما انتصر زهير على «البرانس« بقيادة «كسيلة» انتصر حسان على «البتر« بقيادة الكاهنة.
ولما عين موسى بن نصير عاملا على المغرب –ماعدا مدينة سبتة التي كانت خاضعة لحاكم قوطي - فدى كثيرا من الأسارى البربر بالمال وعين الكثير منهم في مراكز عسكرية هامة.
ومن أجل تثقيف البربر في الأحكام الإسلامية أرسل عمر بن عبد العزيز سنة 100ه عشرة من الفقهاء لهذا الغرض.
إلا أن الإسلام لم ترسخ قدمه بين البربر إلا بعد أن أصبح مرتبطا بتولي دول البربر الحكم في بلادهم. وكيفما كان الأمر فإن العنصر البربري لعب دورا هاما في نشرالرسالة الإسلامية لا في المغرب فحسب بل حتى في الربوع الأوربية حيث أن ابن نصير نظم جيشا جرارا من البرابرة وجعل على رأسه القائد البربري طارق بن زياد وأرسله لفتح إسبانيا فتم هذا الفتح العظيم. وفي عهد هشام بن عبدالملك نظم الفاتح عبدالرحمن الغافقي جيشا من البرابرة والعرب، وأراد فتح قسطنطينة من الغرب فتقدم في فتح بلاد «الغال» (فرنسا) ووصلت ساريته الى «صانص« ولكن كان ما كان مما لست أذكره عن قصة «بواتيي»وشارل «المطرقة».
وعلى كل فقد استغرق الفتح الإسلامي للمغرب العربي ما يقرب من ثمانين سنة فإن دل ذلك على شيء فانما يدل على مناعة الأرض المغربية من جهة وعلى شجاعة البرابرة وشدة بأسهم من جهة أخرى.

البربر والخوارج:
قاومالبربر الحكم العربي، وذلك لما عزم عبد الله المرادي تخميس البربر خارقا بذلك مبدأ المساواة بين العرب والبربر حيث اعتبر البربر فيئا للمسلمين. فثار البربر ضد حاكمهم تحت قيادة «ميسرة المدغري» – وفقا لشعار مذهب الخوارج. ذلك أن هذا المذهب لقي عند البرابرة نجاحا كبيرا لأنه يناسب وضعهم السياسي والاجتماعي – كما يقول أستاذنا الدكتور احمد مختار العبادي – فاعتنقوه كوسيلة لتحقيق أهدافهم: ففي تافيلالت اقاموا الدولة المدرارية الزناتية التي اتخذت سجلماسة كعاصمة لها (757م) كما أسسوا دولة الرستميين بمساعدة الخارجي الفارسي عبد الرحمان بن رستم في «تاهرت» من عمالة وهران (787م/160ه). ولكن لما جاء الفاطميون الشيعة قضوا على هذه الدويلات الخارجية البربرية ففر الخوارج واستقروا بسدراته قرب «وركلة» بناحية المزاب التي أسسوا فيها ما يقرب من سبع مدن.

البربر والشيعة:
إزاء هؤلاء البربر الخوارج كان هناك برابرة شيعة: فلم يستطع الفاطميون أن يؤسسوا دولتهم بالشمال الإفريقي إلا بمؤازرة البرابرة الصنهاة الشيعيين. وبعد أن انتقلت الخلافة الفاطمية الى مصر بقي الصنهاجيون يدافعون عن الدعوة الفاطمي الشيعية ويحاربون الزناتيين كدعاة للمذهب الخارجي وكممثلين للسيطرة الأموية بإفريقيا.
ولكن سرعان ما أعلن الزيريون (Les Zirides) - نسبة الى زيري بن مناد الصنهاجي- استقلالهم عن النفوذ الفاطمي وكونوا دولة زيرية جديدة بتونس وشرق الجزائر مؤسسين مدينة«ءاشير» كما أسس الحمداويون دولة الجزائر فأرسل إليهم الفاطميون –كرد فعل لعصيانهم- بني هلال وبني سليم ليخرجوا بلادهم ويهلكوا الزرع والذرع فتشتتوا في المغرب الكبير كالجراد – كما قال ابن خلدون – وقاموا بتخريب البلاد لكي يسودوا فيها.

تعريب البربر:
وكيفما كان الأمر فإنه كان لهاتين القبيلتين بني هلال وبني سليم أثر فعال في تعريب البربر تعريبا شاملا وكذلك لبني معقل الذين وردوا الى المغرب في عهد السعديين، الا أن المرابطين والموحدين قاوموا هؤلاء الاعراب المخربين حيث انتصر عليهم موحد المغرب الكبير الأول عبد المومن الموحدي قرب سطيف (Sétif) في سنة 1152م. كما قضى على شوكتهم المرينيون بالقطر التونسي.
فكما ابتدأ تعريب البربر على يد الأندلسيين والقروانيين الذين تقاطرواعلى المغرب بعد تأسيس مدينة فاس في عهد الأدارسة استمر على يد هؤلاء الأعراب ثم أيضا على يد الأندلسيين الذين نزحوا الى المغرب بعد غروب «غرناطة».

الدول البربرية:
لم تستقر الأوضاع في الجزيرة الإفريقية كما كان يسميها العرب إلا بعد أن حكم البربر أنفسهم بأنفسهم كما سبقت الإشارة الى ذلك وهذه الدول البربرية هي:
الدولة المرابطية: هي من قبيلة لمتونة الصنهاجية خرجت تدعو من رباطها الى الدين الإسلامي الصحيح محاربة كل أنواع البدع والضلالة. ولم يعرف لحد الساعة أين كان يوجد هذا الرباط هل في السنغال أم في نيجريا أم في موريطانيا. وقد تأسست على يد عبد الله بن ياسين. وقد نبغ من بين احضان هذه الدولة ابنها البار يوسف بن تاشفين مؤسس مدينة مراكش والمنتصر على الإسبان في موقعة الزلافة الشهيرة.
الدولة الموحدية: وما إن ظهرت بوادر انهيار الدولة المرابطية حتى خلفتها الدولة الموحدية التي دعت الى التوحيد في كل شيء تأثر بآراء المعتزلة أهل العدل والتوحيد. هي من قبيلة مصمودة البربرية ومؤسسها ابن تومرت. وقد نبغ منها البطل عبدالمومن الموحدي رائد الوحدة الإفريقية حيث حرر تلمسان وإفريقية (تونس) – والمنتصر على الاسبان في موقعة الأرك (Alarcosse). وبقي الموحدون في الحكم حتى قضى المرينيون على آخر أمير موحدي في معسكرهم «تينمل» وعند سقوط الدولة الموحدية تكونت ثلاث دول مستقلة في المغرب الكبير: الحفصيون في «تونس» (عاصمتهم) تونس وبنو عبد الواد أو بنو زيان أو يغمراسن في الجزائر (عاصمتهم تلمسان) والمرينيون في المغرب (عاصمتهم فاس).
الدولة المرينية: هي من قبيلة زناتة البربر وقد امتاز عصرها بنهضة ثقافية حيث بنت في كل مدينة من إفريقيا مدرسة لنشر الثقافة والأفكار الصوفية. كانت هذه المدارس بمثابة رد فعل للدعوة الموحدية التي كانت إلى مذهب الغزالي الذي حاربه المرابطون من قبل – ثم توالت على المغرب فيما بعد الدولة السعدية العربية كأختها الدولة الادريسية -أول دولة في المغرب المسلم-. وتمتاز الدولة السعدية بمحاربتها للنفوذ التركي والوقوف في وجهه. ثم أتت الدولة العلوية الزاحفة من الصحراء.

مقاومة البربر للاحتلال الأجنبي:
بقي البربر متسمين بعدائهم القوي لكل دخيل عنيد. حتى أن نابليون بونابرت كان عازما على غزو البربر ولكنه عدل عن ذلك. فقاوم البربر الجزائريون الاحتلال الفرنسي بقيادة الأمير عبد القادر الجزائري، وذق الفرنسيون الأمرين من جراء هذه المقاومة الشديدة مما لا داعي للتفصيل. وقاوم البرابرة التونسيون المحتل مقاوم سجلها التاريخ بمداد الفخر. وكان لبرابرة المغرب دور تاريخي هام في الكفاح ضد السيطرة الأجنبية «إيرومين» بكل ما أوتوا من قوة. وقد امتاز من بين قادة هذا الكفاح موحى وحمو الزياني حامي خنيفرة وعد وتناس قائد معركة أكادير. وموحى اسعيد، بطل تادلة، وعلي امهاوش محرر الأطلس، ومحمد ابن عبد الكريم الخطابي محرر الريف، وأخيرا الابطال «الكوم» الذين أوقفوا الزحف الألماني في عدد من الجهات وكانت لهم اليد الطولي في إعادة السلام الى العالم في الحرب الكونية الأخيرة. وقد تحالف بعض القادة البربريين الكبار كالكلاوي والمتكي والكندافي مع فرنسا. ولكن كيفما كان تحالفهم ومصيرهم فإنهم يمثلون تلك «النخوة البربرية» ولو كان ذلك على حساب البرابرة أنفسهم.

المجتمع البربري:
1) الديانة: لا يعرف المؤرخون كثيرا عن دين البرابرة القديم. وكل ما يعرف أنه عبارة عن مجموعة من الطقوس الدينية المختلفة يمارسها البربر لأجل نزول المطر مثلا وقد حاول بعضهم أن يحصي أنواع هذه الديانات فقال بان المسيحية كانت توجد في شمال المغرب، والوثنية بالجنوب والجبال واليهودية بالداخل (الدليل على وجودها الكاهنة اليهودية). ثم ظهرت ديانة أخرى وهي الديانة البرغواطية أسسها صالح ابن طريف وهي خليط من التعاليم المسيحية والإسلامية واليهودية إلى جانب العادات البربرية، كتب قراءنها باللهجة البربرية. وقد استأصل هذه الديانات الأمير ابن بكر عمر المرابطي. وبما أنها كانت منتشرة انتشارا سطحيا فقد استطاع العرب أن يجدبوا البرابرة الى الدين الإسلامي بسهولة.
وقد استطاع الأدارسة والمرابطون أن يقضوا على جميع العادات المختلفة التي لا ترتكز على أساس ونشروا الدين الإسلامي خالصا من كل شائبة وصار هذا الدين الرسمي للدولة المغربية بدون جدال... وما زال ... ! ولكن الحماية الفرنسية بنت سياستها على أساس فكرة أن البربر لم يعتنقوا الإسلام إلا ظاهريا، فأصدروا ما يسمى بالظهير البربري سنة 1930 وهذا الظهير يخرج البرابرة من دائرة القضاء الشرعي ويؤسس لهم محاكم عرفية لا تحكم إلا بالعرف والعادات القديمة في موضوع الأحوال الشخصية والعقار أما الأحكام الجنائية فكانت تحال على المحاكم الفرنسية.
وأصل هذا الظهير الذي كان قطب دائرة السياسة البربرية هو أن المقيم العام «لوسيان سان» كان محاطا بجماعة عرفت «بالكتلة البربرية» وكانت هذه الجماعة تدعوا الى فصل البربر عن حكومة المخزن بحجة أن هذه الحكومة لا تمثل سوى العرب من سكان المغرب، ولكن هدف الكتلة كان هو تجريد السلطة المخزنية من بعض سلطانها من جهة وإدماج البربر في البيئة الفرنسية من جهة أخرى مع إحياء اللغة البربرية عن طريق كتابتها بالأحرف اللاتينية. كما عينت الكتلة مبشرين مسيحيين كقضاة في «مجالس الجماعة» التي تحولت الى محاكم مدينة مما يدل على أن الهدف المنشود من وراء هذا الظهير هو تنصير البربر، وأسست مدارس بربرية كانت خلايا للسياسة الفرنسية. ومن هنا اصطدم الظهير البربري بمعارضة شديدة من قبائل البربر ذاتها فضلا عن رد الفعل من جانب كافة المغاربة ومن العالم الإسلامي أيضا حيث قامت مظاهرة في الرباط بحي بوقرون وأخرى بفاس حول الضريح الادريسي دعا أصحابها الله أن لا يفرق بينهم وبين إخوانهم البرابرة، كما طلب الأمير شكيب أرسلان من الدول الإسلامية مقاطعة فرنسا احتجاجا على سياستها «فرق تسد» المتبعة في المغرب، فكانت هذه المظاهرات فاتحة عهد الكفاح الذي دام ما يقرب من نصف قرن في سبيل تحرير البلاد وتوحيد الصفوف. ومع ذلك لم تكف فرنسا طوال عهد الحماية عن استغلال كل مناسبة لبعث «السياسة البربرية» من جديد كما حدث مثلا عند الأزمة المغربية في سنتي 1951 و 1953.
والخلاصة أن فرنسا لم تقم «بظهيرها البريري» هذا في الحقيقة الا بدور أساسي في ولادة «القومية المغربية» ولم تسع إلا في تعزيز الروابط بين المغاربة البربر والمغاربة العرب الذين يظلهم دين واحد مما يدل على فشل سياستها الذريع وأهم مظهر لهذا الفشل هوانقلاب ثانوية ازرو التي كانت بمثابة مركز «السياسة البرية الفرنسية» إلى مركز من نوع آخر لم يكن «السياسة البربرية» يحسبون له حسابه.
2) أسلوب الحكم – الجماعة: هو مجلس للأعيان (اخحطارين) ج اخحطار الذي يسير القبيلة أوالدوار سياسيا واقتصاديا ويبث في الدعاوي المقدمة اليه بمقتضى قوانين شفوية أو مكتوبة تسمى «الازرق» في المغرب «والكانوني» في الجزائر. كما يسميها بعض البرابرة بالمغرب «الكيض» أي الوثيقة المكتوبة على (الكاغيط). وقد يقوم بتنفيذ قرارات هذه «الجماعة» أشخاص يدعون «بأمازين». وفي حالة الحرب كانت «الجماعات» تسلم جميع سلطاتها الى شخص تتوفر فيه جميع شروط القيادة يدعى «بأمغار» أي الشيخ ويجمع على أمغارين». وقد يبقى على رأس قبيلته يتخذ الإجراءات الضرورية حتى تنتهي حالة الطوارئ فكانت القبيلة البربرية بمثابة جمهورية صغيرة، لها وحدتها السياسية والاقتصادية أيضا.
3) نظام العائلة البربرية:
تتركب الأسرة البربرية من الأب والأم والأبناء وكذلك من أعضاء أجنبيين يدعون «امحوارس» جمع «امحارس» يسكنون تحت كفالة الأسرة بإذن من «الجماعة». يرأس الأسرة الأب أو الجد وهو الذي يمثل العائلة في «الجماعة» ويسمح للأبناء أن يستقلوا عن آبائهم إذا ما تزوجوا، أما الفتيات فإنهن لم يتزوجن إلا داخل الدوار الذي ينتسبن إليه. وعندما يموت رئيس الأسرة تنتقل سلطة الأسرة الى الابن الأكبر أو إلى الجد أو إلى العم.
لا يوجد عند الأسرة ملك فردي بل الملك هو جماعي يملكه جميع أفراد الأسرة، وتقسم أرباح الملك على جميع أعضاء الأسرة بكيفية عادلة وعندما يموت أب الأسرة يرث الذكور ويمتنعون عن توريث أمهم وأخواتهم حتى لا يستفيد الأجانب عن القبيلة من متاع الأسرة.
وقد تنسب مجموعة من الأسر الى دوار معين أي إلى «تكمي» الذي يكون وحدة سياسية واقتصادية وتسيره «الجماعة». ومجموعة من «تكمي» تؤلف ما يدعى «باخس» ويجمع على «اخسان» وهي مجموعة القبيلة أوتاقبيلت».

المرأة البربرية:
تمتاز المرأة البربرية بالصرامة والجمال الاخاذ والعفة والرجولة، تتحمل المتاعب بصدر رحب فتعين زوجها على جميع ما تتطلبه الحياة من أعمال فتعمل معه في الحقل نهارا وتقوم بشؤون بيتها ليلا.
وقد تشارك المرأة البربرية أحيانا في « مداولات الجماعة» وتكون من وراء الرجل في حالة حرب تشجعه وتمده بالمؤونة والسلاح وتضمد جراحه.
والمرأة البربرية لا تستعمل الحجاب ولكنها تتحاضى الملاقاة مع الرجال وخصوصا الأجانب عن القبيلة. وقد تقام أسواق خاصة بالنساء كما الحال في بعض النواحي الريفية.

الفنون البربرية:
1) الفن المعماري: يوجد في الأطلس ما يسمى «بتغرمت» أي الدار المحصنة وهي دار مربعة مكونة من طابقين وتقوم في أركانها الأربعة ابراج تستعمل من أجل الدفاع وكمخازن للمؤن أيضا. كما يوجد ما يسمى «بايغرم» أي المخازن المحصنة تبنى في مواقع استراتيجية عالية وتستخدم أيضا كمسودعات للمؤن وكقلع يلجأ إليها في حالة خطر.
وهناك نوع آخر من الموسوعات يدعى «اكادير» جمع «اكدرين» وهو عبارة عن هري كبير وقد تقاوم حوله ابراج ويحتوي في بعض الأحيان على مسجد ودار «للجماعة» وغرف للحراسة وصهريج لحفظ الماء كما جاء في كتاب «الفن المغربي» للأستاذ بن عبدالله.
2) الصناعات التقليدية البربرية: نبغ البرابرة في كثير من الصناعات فتنسج النساء البربريات الاطلسيات زرابي مبثوتة، ويهتم بعض سكان الأطلس المتوسط بطرزالسروج، ويضع نجارو قبائل (زمور الشلح) جميع الأواني الخشبية وتقوم الريفيات بنقش الأواني الخزفية. هذا ويعتبر البربريات المغربيات كلهن ماهرات في فن غزل الصوف كما تمتاز البربريات التونسيات والجزائريات بصناعة الأواني الفخارية وتزويقها.

3) الأدب البربري:
أ- النثر: ازدهر النثر البربري ازدهارا وخصوصا في قعر سوس، وقد تناول بالخصوص المواضيع الدينية، وقد برز في هذا الفن موسى وعلي، كما تناول قصصا هي عبارة عن مآسي كانت لا تحكى إلا ليلا، وأخرى كانت عبارة عن «كمديات» لا تحكى إلا نهارا.
ب- الشعر: أما الشعر البربري فهو كلام موزون غير مقفى، وتسمى القصيدة الشعرية «بثايفارث». وإذا نبغ شاعر ينتقل من قبيلة إلى أخرى – حسب ما ذكره الأستاذ محمد شفيق- ويسمى امذياز (ج) «أمديازن» ويصحبه في ترداد شعره عازف على الكمان وضارب على الدف وينفخ هو في المزمار وهذا النوع من الشعراء يمدح أو يصف من أجل التكسب. وهناك شعراء آخرون ينشدون قصائد سياسية ودينية حبا في قول الشعر ويسمون «انشاذين» يعزفون على الكمان. أوعلى الكنبري وقد استغنوا عن «الردادين» «بالشيخات» أي الرقصات.
وقد بقيت بعض هذه الاشعار محفوظة في صدر جماعات من «الموسيقيين» الذين يجوبون بلاد البربر طولا وعرضا لغنائها في مناسبات عدة كالزفاف والختان والجنازة والحرب وفي موسم العمل.
4) الرقص البربري: إن الرقص البربري يعد من أهم الفنون المغربية، فهو تاريخ يرتبط بأحاسيس البرابرة ومشاعرهم، وجزء من مجدهم العريق.
وأهم الرقصات الفلكلورية الممتعة بقوتها التعبيرية رقصة الحرب المعبر عنها «بتاسكيوين« يرقصها أفراد من قبيلة كوندافة بالأطلس الكبير ورقصة الشلوح التي يرقصها أصحابها وهو عازفون على «الكنبري» وضاربون على «التعرجة» يرأسهم «الرايس» وينتمون هؤلاء الى مراكش ونواحيها.
وهناك رقصة أحواش وهي عبارة عن «الأوبرا البربرية» الرائعة ترقصها نساء من ورززات وناحية خنيفرة منشدات ومصفقات بأيديهن بينما يعزف لهن الرجال على الدف وهم قاعدون في شكل داشرة ويسير الجميع «امساد»، أما أهل الريف فهم يرقصون رقصة حربية وهي رقصة البندقية، ومن الرقصات البربرية أيضا «حيدوس»، ورقصة «الدكة» يرقصها أهل «امزميز» ويقوم بهذه الرقصة الرجال ضاربين بالأكف ويقومون بحركات خفيفة وسريعة حتى يتخيل للناظرين أنهم أصيبوا برعدة أو ألصق بجسدهم تيار كهربائي. وأجمل هذه الرقصات رقصة «الكدرة» وهي رقصة كوليمين «وهي ليست فقط رقصة ترقصها امرأة بربرية تحرك اصابعها بسرعة حسب دقات يضربها رجل على الدف ولكن هي «قصة صراع» تتجلى في الأصابع التي تتحرك ببطء ثم تعلو نغمات الدف سريعة قوية تنتابها شتى المشاعر ثم تسقط اليد بارتخاء قبل أن يسقط جسم الراقصة ثم تسقط ضربات الدف هي الأخرى» فتمتاز هذه الرقصة البربرية بالتعبير الكامل عن تدرج الأشياء من البداية الى الفناء وبالطابع الفني الرائع.
هذه الرقصات وغيرها كثير، تعتبر فنا بربريا ينبع من صميم البرابرة، وسيظل مرتبطا بهم ومعبرا عن مشاعرهم وحافظا لتطورهم وماضيهم في ظلال حاضرهم الحافل بالمجد.




دعوة الحق
العدد80

55.jpg
 
أعلى