دعوة الحق - الأدب النسوي في المغرب (الأندلس)

-1-

قبل البدء :

قال أحد شيوخ المنعزلة لبعض الطلاب : خذ من وقتك ساعة نشاطك وفراغ بالك.
أجل، الإنسان ينبغي أن يأخذ من وقته ساعة نشاطه وفراغ باله، وراحة نفسه، فمنذ أيام عديدة وأنا عازم على الكتابة في موضوع "الأدب النسوي في الأندلس" غير أن الظروف كانت تقف حائلا بيني وبين تنفيذ بغيتي المنشودة، ولقطتي المفقودة.
وحانت الفرصة... وأزف موعد الكتابة، وطفقت أبحث وأنقب وأستنطق داجيات المصادر –فوجدت أن مثل هذا الموضوع يستحق الالتفات كل الالتفات، ووجدت أيضا أنه لم تتناوله يراع الكتاب تناولا يتوفر على البحث المنظم، تضيء سرجه ما غمض من الحقائق التي يعوزها التمحيص والتدقيق.
ومضيت في أمري قدما، ولكن ما لبثت أن صدمت عندما وقفت على حقيقة، هي أن أصحاب الأخبار أهملوا كثيرا من النصوص الشعرية التي صدرت عن الشواعر الأندلسيات، الأمر الذي يجعل الباحث يقع في دوامة من الحيرة والقلق، وأضف إلى هذا –على العموم- أن الأدب الأندلسي لم يحظ بالاهتمام الكافي من طرف الباحثين مع أنه تراث إنساني، وعصارة نبوغ، وزبدة فكر وقاد نقل إلى الآداب الأروبية نفحاته وأريجه، وأشاع أصداءه المتساوقة في كل أنحاء، فعجز أي تراث آخر على أن يشأ شأوه، ويبلغ مبلغه.
ولقد كنت أود أن أنهج في بحثي هذا منهج أستاذنا الدكتور نجيب محمد البهبيتي في كتابه : "تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري" ولكن ذلك غير ميسر ما دامت النصوص الشعرية قد ضاعت مع ما ضاع، من التراث العربي الأندلسي، أو أهملت مع ما أهمل من معطيات الفكر الأندلسي، فعدلت أخيرا عن هذا المنهج الذي يعتمد في تقسيم البحث الأدبي على المضامين الشعرية، ولذا وجدتني ألحب مسلكا آخر يمكن أن تكون له فائدة مرضية لا غبار عليها.
وبدأت أول ما بدأت بتوطئة هي في لحمتها ومداها، تلقي نظرة عجلى خاطفة عن مدى مشاركة المرأة العربية في شتى الميادين العلمية والأدبية وغيرها مما يميط لنا اللئام عن كافة النشاطات التي قامت بها المرأة العربية، ويلقي في روعنا أنها كائن حي استطاع أن يفرض وجوده على الكون، ثم تحدثت عن المرأة العربية الشاعرة، وعن نشأة الشعر الأندلسي وتطوره والخصائص التي تميز بها، وذلك تفرضه علينا الضرورة الملحة الحتمية للبحث العلمي وبخاصة وأنه مرتبط بالموضوع ارتباط الجواب بالشرط على حد تعبير أصحابنا النحويين، ثم تحدثت عن الأدب الأندلسي في ميزان الحقيقة، وبعد ذلك عن انطلاقة النهضة النسوية.
ثم ماذا... ماذا بقي بعد هذا ؟
قسمت الأدب النسوي حسب العصور السياسية وتطوراتها لأن التغيرات العميقة في الحياة الأدبية رهينة ولاشك بهذه التطورات، فالأدب يؤثر فيها ويتأثر بها. ومهما يكن من شيء فالتقسيم كما يلي :
1) عصر الإمارة.
2) عصر الخلافة.
3) عصر ملوك الطوائف.
4) عصر المرابطين.
5) عصر الموحدين.
أخيرا، أود من صميم وجداني أن يلاقي هذا البحث التشجيع والرضى، وأن يكون على الأقل مشعلا على الطريق يكشح من حوله الضباب، ويدفعه إلى تحري المزيد مما عجزت عن الوصول إليه، وإلى الإقبال على هذا المنجم الفكر لاستخراج كنوزه ودرره، ولعلي أكون قد أديت قسطا من الواجب نحو ما تندت به القريحة العربية المطواع عامة والقريحة الأندلسية النسوية خاصة، والإنسان فوق طاقته لا يلام، والله الملهم للصواب، وعليه قصد السبيل.

مدخل إلى الموضوع :
إذا صح عند النحاة أن المبتدأ لابد له من خبر حتى تكونن للجملة حرارتها وللسياق التعبيري روعته وفائدته، وإذا صح أيضا عند الأصوليين أن العلة تدور مع معلولها وجودا وعدما، فقد صح منذ انبثاق فجر البشرية أن المرأة النصف المكمل للرجل، وآية ذلك أنها معقد آمالها، ومطلع صبحه، وبصيص نوره في غلس الظلام، وغفوة الليل البهيم، ووتر من أوتار قيثارته، ولحن من ألحان سنفونيته.. وبالجملة، فهي حياته بكل انتفاضاتها وترنيماتها، ووجوده بكل خفقاته ورعشاته.
فقصتها في واقع الأمر قصة حافلة بالأحداث.. قصة تزهو على كل القصص التي احتفظ لنا بها التاريخ بين دفتي سفره، قصتها لها من الروعة ما يبعث على العجب، وبالتالي على الإعجاب بما كان لها في مجريات الحياة من أعمال سامقة دلت دلالة قاطعة على أنها كائن ذو قوة هائلة وبأس شديد يستطيع أن يخوض معترك الحياة، ويقتحم كل الميادين التي يصول ويجول فيها أخوها الرجل، هذه الأعمال دلت دلالة تقطع دابر الشك على أن المرأة لا تقل أهمية وشأنا عن الرجل ولذلك كانت ولا تزال منبع القوة الذي يستمد منه الرجل عناصر العبقرية الفذة وميولات النبوغ المتفوق، ومن أجل ذلك قيل : أن وراء كل عظيم امرأة.
أجل، إن وراء كل عظيم امرأة، تنفحه الإرادة العارمة على مواجهة ما يعترضه من عقبات كأداء تستنزل عصي الدمع الذي ما يلبث أن تمتد إليه أنامل المرأة فتجففه، لتحفز الهمم، وتنهض العزائم.
وما لنا نلمح ونجتزئ بالإشارة عن التصريح، والأمثلة قريبة منا ترويها لنا كتب السير مفتخرة بها أيما افتخار، معتزة بروعتها أيما اعتزاز.
ألم ترو لنا ما اضطلعت به المرأة عامة والمرأة العربية خاصة في كل منحى من مناحي الحيـــــاة ؟.
ألم تحك عن خديجة بنت خويلة رضي الله عنها وكيف آزرت رسول الإنسانية عليه الصلاة والسلام، وكيف هدأت من روعه عندما الروح الأمين فقالت له عبارتها التي انطلقت نغمات حنان وعطف :
"كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك تحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر".
إن المرأة كيفما كان الأمر كانت تتبوأ الذروة بغض النظر عما كان يحيط بها في بعض المجتمعات من إهانات وامتهانات، فبقدر ما أهينت بقدر ما قدمت ومجدت إذ كان من سنن اليونان وديدانهم أيام سقراط وغيره من الفلاسفة أن يقف الرجل ناكس الذقن، خاشعا للمرأة الحامل التي قد تكون حاملة في رحمها عظيما أو نابغة أو إلها على اعتقادهم.
وإذا نحن أسعفنا الرغبة في سرد ما قام به الجنس اللطيف من جلائل الأعمال لما نهض المقام بذلك، وحسبنا أن نقول : إن المرأة في البيئة الجاهلية وغير البيئة الجاهلية كانت مثار عاطفة الرجل، ومدار وجدانه، وسر حياته ومكمن سره، وأنون غضبه، وقطب شجاعة، على الرغم من أن بعض العرب آنئذ كانوا يئدون فلذات أكبادهم. بيد أن العادة الوأدية لم تكن عامة منتشرة في كل مكان، بل إن الكثرة الكاثرة لم تئد بدليل بقاء النساء اللواتي أنجبن الأفذاذ الميامين فسهرن على تربيتهم ورعايتهم وبرز إلى مسرح الوجود عباقرة يؤتلون المجد ويمدون الحياة بنورات القوة وإشعاعات الأيد، ولذا يرفع الشاعر عقيرته صائحا مبينا ما كان يراه في بيته :
رأيت رجالا يكرهون بناتهم = وهن البواكي والجيوب النواصح(1)

ويقول آخر :
رأيت أناسا يكرهون بناتهم = وفيهن لا تكذب نساء صوالح
وفيهن والأيام تعثر بالفتى = نوادب لا يمللنه ونوائح(2)
ويؤثر أن بعض سادات بني تميم كانوا ينزلون باللائمة على من يئد ابنته، وقد اشتهر بإنقاذ البنات من الخسف والظلم جد الفرزدق الشاعر المشهور صعصعة بن ناجية الذي سمي "محيي المؤودات" ولذلك يفتخر الفرزدق بهذه المأثرة في قوله :
أبي أحد الغيثين صعصعة الذي = متى تخلق الجوزاء والدلو يمطر
أجار بنات الوائدين ومن يجر= على الفقر يعلم أنه غير مخفر(3)
على حين لا تحيا البنات، وإذ هم = عكوفا على الأصنام حول المدور(4)

إذن، فقد كانت المرأة محط الأنظار، وموضع الاحترام عند العرب، وقد شاركت الرجل في الحرب، وشاطرته عذابه في المعارك مشاطرة لا غبار عليها، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى.
وإن ينس التاريخ من الحوادث حادثة فلن ينسى يوم (تلاق اللمم)، ذلك اليوم الذي انتصفت فيه بكر من تغلب والذي كانت فيه المرأة عود الثقاب إذ أضرمت الحمية في النفوس، بعد أن بلغت القلوب الحناجر، وعقد المصاب الألسنة، وأخذ شبح الخوف يتولى على الجوانح فتراجعت بكر متقهقرة لولا أن برزت في ميدان الوغى فتاتان بكريتان وحسرتا خماريهما واندستا بين الصوف والجموع وطفقتا تذكيان جذوات الشجاعة والإقدام وهما يصيحان :
وغى، وغى، وغى، وغى = حر الحرار والتظى
وملئت منه الربحا = يا حبذا المحلقون في الضحى
ثم أقبلت من خلفهما كرمة بنت ضلع أم مالك بن زيد فارس بكر فشرعت تدمدم بأبيات تحيل الرعديد شجاعا وتجعله جمرة متقدة :
نحن بنات طارق = نمشي على النمارق
مشي القطى البارق = المسك في المفارق
والدر في المخانق = أن تقبلوا نعانق
أو تدبرو نفارق = فراق غير وافق
كرس المولى طالق = والعار منه لاحق
وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى كانت تغلب بين آهة وجريح، وأنه مكلوم، وشريد ممزق.
وفي معركة "أحد" سقط لواء قريش ولم يزل هكذا يرمز إلى الفشل والاندحار حتى جاءت عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته والتجأوا بها، وفي هذا يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
(فلولا لواء الحارثية أصبحوا = يباعون في الأسواق بيع الجلائب)(5)
ولم تكن العربية تقصر على ذلك فقط، فقد تعدته إلى حلائب أخرى، ذلك لأنها كانت على قدم المساواة مع الرجل في الوقت الذي كان جميع القدماء المشرعين ينظرون إلى المرأة نظرة الازدراء ومن ذلك على سبيل المثال : قوانين "الهندوس" وتعتبر كل الشرائع الهندوسية والإغريقية والرومانية المرأة من أرومة الإماء أو الصبيان، ترى في الرجل الهها الذي لا ينبغي أن يعصى أمره، وعلى النقيض نجد العرب يمجدون المرأة ويعطونها مكانتها اللائقة بها، وليس أدل على ذلك من قولهم المأثور : "إن النساء شقائق الأقوام"(6). والمقصود من هذا المثل العربي النساء والرجال سواسية فلا فضل للرجل على المرأة.
وقد شذبت الحياة العربية نفسية المرأة فأحالتها شاعرة قديرة تتلاعب بالمعاني كما تملي عليها طبيعتها، وتتلاعب بالألفاظ كما توحي إليها طبيعتها الخصبة. وجعلتها خطيبة مفوهة تتصرف في الأسلوب الخطابي تصرفا ينبئ عن قدرتها الخطابية، ومن هؤلاء الشواعر : إمامة المدادية وهي صحابية صرفها الدين عن قول الشعر، والحارثية بن زيد بن بدر الغزائي شاعرة مبدعة عرف شعرها بالحمامة والافتخار، وصفية بنت مسافر بن أبي عمرو بن أمية حضرت موقعة "بدر" ورثت أهل القليب، وعاتكة بن زيد بن عمرو بن نفيل وغيرهن كثير، وحسبنا أن أبا نواس الشاعر العباسي الكبير قال : (ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى) وأن أبا تمام روي عنه أنه قال : (أم أنظم شعرا حتى حفظت سبعة عشر ديوانا للنساء خاصة).
ومن الخطيبات عكرشة بنت الأطرش بن راحة صاحبة الخطبة الشهيرة في يوم صفين تستثير فيها الحماس ضد معاوية، وأم الخير بنت جريش، والزرقاء ابنة عدي الهمذانية.
وذلك في ميداني الشعر والخطابة، أما في ميادين أخرى فلم تكن المرأة قاصرة فيها، فقد ضربت بسهم وافر في كل الفنون، ولذلك فإن هناك سيدات كثيرات اشتهرن بفتحهن أبوابهن على مصاريعها لأهل العلم والثقافة، فكانت منازلهن عبارة عن منتديات لرواية الشعر والأدب والأخبار والمناقشة في كل القضايا العلمية والأدبية، ومن بينهن سكينة بنت الحسين، وعمرة الجمحية، وهي من علية بني جمح، وخرقاء وعمرة امرأة أبي دهبل الشاعر، وعائشة بنت طلحة.
وكيفما كانت الحال فإن المرأة العربية لم تأل جهدا في تثقيف نفسها والمشاركة في شتى ضروب العلم، وقد ترجم العلامة ابن حجر في الإصابة ل 1543 امرأة فيهن العالمات والمحدثات والفقيهات، وكذا الإمام النووي في "تهذيب الأسماء" والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" والسيوطي في كتابه "نزهة الجلساء في أشعار النساء" وليس أدل على ذلك من أن ابن عساكر تتلمذ على جم غفير منهن وكذلك ابن الأثير والحافظ الذهبي، وحسبك بهؤلاء شهيدا.
هذا ولولا الجنس اللطيف لما زخر الأدب العربي بخوالد القصائد، وروائع العمل الفني الذي يعج بجيشان عاطفي ويمتاز بالحس الإنساني العميق، وتتكوم في قوقعته فورات بشرية محترقة، ومرجع ذلك إلى أن العربي هام بالمرأة وقصد القصائد فيها، ففزع هجرها، ووقف يبكي ويستبكي، ويندب حظه العاثر، ولذلك ذاق من أجلها الأمرين، ليتسنى له أن يكون بجانبها، يحدثها وتحدثه، ويرنو إليها وترنو إليه، وبإيجاز فإنها كانت بالنسبة له منبع الإلهام الشر، وشرفة نور يرفرف منها خياله حيث يجد أجواء اللامنتهى يصوغ في رحابه ما حلا له من روائع الفن، وساحر الكلام يروي النفس تماما كالديمة تروي أديم الثرى فتنبه عيون النور من الكرى إلى الحياة المحذوذية المحلولاة.
تلك نظرة... نظرة عجلى، خاطفة عما قامت به المرأة العربية وما كان لها من شأن، وأي شأن، في بناء صرح العلم والأدب، ولولا خوفنا من الإطالة لأتينا على كل ما يمت من قريب أو بعيد إلى موضوع المرأة في التاريخ، ويكفينا من القلادة ما أحاط بالعنق.


فهي الشهادة لي بأني كامل...
دخل أبو العلاء المعري يوما على الشريف المرتضى، فجرى ذكر أبي الطيب المتنبي، فتنقصه الشريف، وذكر معايبه، فقال أبو العلاء :
لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قصيدته التي مطلعها :
لك يا منازل في القلوب منازل = أقفرت أنت، وهن منك أواهل
لكفاه فضلا وشرفا.
فغضب الشريف، وأمر بسحب المعري وإخراجه، ثم قال لجلسائه :
"تدرون أي شيء أراد هذا الأعمى بذكر هذه القصيدة، وللمتنبي أجود منها، ولم يذكره، !".
قالوا : "لا ...".
إنما أراد أن يذمني بقوله منها :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص = فهي الشهادة لي بأني كامل



(1) المؤتلق والمختلق للأمدي 164 – الجيوب النواصح : القلوب المخلصة.
(2) الاغاني 10/156 ساسي.
(3) مخفر معناه ناقض للعهد.
(4) الأغاني 19/2-4 ساسي.
(5) سيرة ابن هشام 3 / 25 – 26.
(6) مجمع الأمثال 1 / ص 20 والأقوام جمع قوم والمراد به الرجال...


دعوة الحق
العددان 78 و79


1.jpg
 
أعلى