علي إبراهيم كردي - أدب الـرِّحــل فـي المغرب والأندلس

تشغل الرِّحلة مكانة مهمّة في الثقافة العربيّة، فاهتّم بها العرب منذ القديم، وأكثروا من التأليف فيها، فتنوّعت بتنوّع أسبابها ومقاصدها العلميّة والدِّينيّة والسياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة.

فبعضها اهتمَّ أصحابها بوصف الأقاليم والبلدان وما حوت من الغرائب، وأخرى يهفو صاحبها إلى الحجّ وزيارة الأماكن المقدّسة، وثالثة هدف صاحبها لقاء العلماء والأخذ عنهم، ورابعة للسِّفارة وربط أواصر الصَّداقة، وخامسة للسّياحة والتِّجارة وغير ذلك.

وتحفل صفحات هذه الرِّحل على اختلاف أنواعها بالجليل من الفوائد التي تصوّر جوانب مهمّة من حياة الشُّعوب، وطباعها وعاداتها، وتقدّم لنا وثائق حيّة لما كانت عليه الحضارة العربية في مختلف عصورها.

وقد نُشِر عدد كثير من الرِّحل في العصر الحديث، ولا يزال قسم منها مخطوطاً أو في عداد المفقود.

واهتمّ الباحثون بأدب الرِّحل، وأفاضوا في الحديث عن مكانة أدب الرِّحلة وما ينطوي عليه من ذخائر، فكشفوا بدراساتهم وبحوثهم عن هذا الجانب المهمّ من جوانب الثقافة العربية.

غير أنّ كثيراً من هذه الدراسات اتّسمت بالعموميّة والاختصار، والخطأ في المعلومات أحياناً، والمزج بين رحل المشارقة والمغاربة، فرغبت في أن أخصص دراستي هذه لأدب الرحلة في المغرب الإسلامي الذي يضمّ دول المغرب العربي والأندلس، وذلك لازدهار هذا الضرب من الأدب في تلك البلاد، ووفرة الرِّحل وتنوّعها وأهميتها في الكشف عن الحياة العلميّة والاجتماعية والاقتصادية في البلدان التي مرّ بها أصحاب تلك الرِّحل.

وقد كان الهدف الذي جعلته نصب عيني من هذه الدراسة أن أرسم صورة واضحة لنشأة هذا الضرب من الأدب، وتطوره واتجاهاته، واقتضى ذلك منّي أن أسير مع هذه الرِّحل وفق التسلسل الزَّمني لتدوينها.

وكان لابد من التمهيد لهذه الدراسة بالكلام على اهتمام العرب بالرحلة وبدايات التدوين فيها، واستعراض أهم الرِّحل المدوّنة في المغرب الإسلامي، وتحدّثت عن أهم دوافع الرِّحل وبواعثها، وطرائق تدوينها، ثم أردفت ذلك بالحديث عن عوامل ازدهارها.

وكان الفصل الأوّل من هذا البحث عن أعلام الرَّحَالين في المغرب الإسلامي، ذكرت فيه ثمانية من أصحاب الرِّحل المغاربة هم: أبو بكر بن العربي ت (543هـ/1148م)، وأبو حامد الغرناطي ت (565هـ/1169م)، وابن جبير ت (614هـ/1217م)، والتّجاني ت بعد (717هـ/1317م)، وابن رُشيد ت (721هـ/1321م)، والتُّجيبي ت (730هـ/1329م)، وابن بطوطة ت (779هـ/1377م)، والقلصادي ت (891هـ/1486م)، فقمت بالتعريف بكل واحد منهم، ثم تكلّمت على رحلته، وأردفت ذلك بنصوص مختارة منها.

أما الفصل الثاني فخصصته للتعريف برحلة العبدري، وهي رحلة حجازية مهمّة لم تنل حظّها من الشهرة التي نالتها غيرها من الرِّحل كرحلة ابن جبير، ورحلة ابن بطوطة، فرأيت أن أبسط الحديث عنها، فترجمت لصاحبها، وناقشت تسميتها، وبيّنت سببها ومدّتها، وتكلّمت على منهج العبدريّ ومصادره في تأليفها، وعرضت أسلوبه الفنّي في الكتابة من خلالها وبيّنت أهم خصائصه؛ ثم خصصت مبحثاً لعرض آراء العبدري النقدية المتنوّعة، ثم عرضت مضامين الرحلة الجغرافية والاجتماعية والأدبية.

وجعلت الفصل الثالث للكلام على الرِّحل المنظومة شعراً، وهو ضرب طريف لم يلق حظّه من البحث، فأوردت رحلتين: الأولى لابن الفكون القسنطيني وصف فيها رحلته من قسنطينة إلى مراكش، والثانية للعبدريّ نظم فيها رحلته من المغرب إلى الحجاز.

وإني في هذا البحث لم استقص كل الرِّحل في المغرب الإسلامي بل اخترت بعضاً منها ظنّاً مني أنها تفي بالغرض، وقديماً قالوا: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق، وعسى أن تعطي هذه الدراسة صورة عن هذا الأدب، وأن تكون حافزاً للمهتمّين على إقامة مزيد من الدراسات الجادة التي تسهم في وضع أدب الرحلة في مكانه الصحيح في تاريخ العلوم عند العرب.



الدكتور علي إبراهيم كردي
أدب الـرِّحــل فـي المغرب والأندلس




55.jpg
 
أعلى