جان نعوم طنوس - الهُويَّة غير المكتمِلَة.. قراءةٌ في شَهَادةٍ تخلب الألباب في الإبداع والدِّين والسّ

أستطيع القول إن أدونيس ضرب من المفاجأة في الأدب العربي الحديث، شعرًا ونثرًا. فهذا الرجل، الذي يعيش بلا وطن وبلا عقيدة وبلا أسرة، إن صحَّ التعبير، يتخلَّى عن كلِّ فكرة جاهزة ومسبَّقة، فيحيا في طفولة دائمة وفي جِدَّة مذهلة. إنه لا يطلب "الأمان"، الذي يعقِّم الفكر والقلب، بل ينشد القلق والمجازفة، معيدًا النظر في التصوُّرات جميعها. من هنا هذه النشوة العظيمة التي تجتاحه عندما يخاصر الريح ويعاقر المجهول.

ثمة حكمة قديمة تنادي بألا يتبع المرءُ القوانين المفروضة من الخارج، لأنها مجرد قواعد اصطلاحية ليست مبنية على الحبِّ بقدر ما هي مؤسَّسة على الإكراه، وأحيانًا على الاستبداد. لذلك ينحصر همُّ الشاعر في خلق عالم جديد أكثر إنسانية، شرط أن يكون الإنسان أيضًا خالقًا لنفسه، أو كما يقول ابن عربي:

نكحتُ نفسي بنفسي = فكنتُ بعلي وعرسـي

فليس عجيبًا أن تموت "الأنا" ego في هذه العملية، فتنبجس "الذات" Soi – وهي أوسع مدى وأكثر ألفة مع الكائنات.

صدر لأدونيس كتابٌ جديد عنوانه الهوية غير المكتملة[*]، هو عبارة عن مجموعة تأملات عميقة في الإبداع والدين والسياسة والجنس. في الجزء الأول من الكتاب، في موضوع الله، يعترف شاعر التحولات بأن صوفيَّته تخلو من المحتوى الديني. فاللامرئي في المعنى الديني قيل مرة واحدة وإلى الأبد؛ في حين أن اللامرئي في صوفية أدونيس الإنسانية يتكلم دائمًا، وعلى نحو لانهائي. ولذلك يبلغ الشاعر حالة الوجْد التي تصله بجوهر الكون ويصبح واحدًا مع الله، أو ما يمكن تسميته، على غرار الصوفية، بالاتحاد ووحدة الوجود. أما عندما يصبح الله متجمدًا في صيغ معيَّنة، كما هي الحال في المؤسَّسة الدينية، فإن العنف يتفجر وتحدث الحروب بين الأديان – وتلك مصيبة البشرية، قديمًا وحديثًا.

وأغلب الظن، كما يتراءى لي، أن أدونيس يعني بكلمة "الله" قوة الخلق اللانهائية: فليس في الجبَّة غير الإنسان نفسه! فهي صوفية بلا إله. وهو وَجْد لذيذ يحصل عندما يتوحد المرء مع الطاقة الكلية الكامنة فيه، مصدر الإبداع والسعادة. وقد أشار بعض المحلِّلين، ككارل يونغ، إلى أنها طاقة تتصل بالعقل الباطن، وسمَّاها جبران "الذات الكبرى" في مقابل "الأنا" أو "الذات الصغرى".

وعن الأوضاع العربية، يقول الشاعر إن ما يساوره دائمًا هو تقويض مفهوم الأبوة البطريركية في المجتمع، ولاسيما السياسية منها. فإن حاول التخلص من وحدانية الإله، عليه التخلص أيضًا من وحدانية الأب. فكل شيء يدور حول الرئيس/الأب: فلو انتصر الشعب يكون الرئيس هو الذي انتصر، ولو وقعت الهزيمة ليس الرئيس مسئولاً عنها! ويقرر أن هذا المجتمع لم يعرف الديموقراطية طوال تاريخه.

لكن الغريب أن أدونيس يعدُّ مصر المجتمعَ الأفضل قياسًا إلى البلاد العربية، لأنها تحتفظ بهامش من الحرية. أما لبنان فهو الطائفية بعينها مجسَّدة: ديموقراطيَّته مخادعة من أجل اقتسام الجبن، وحداثته ظاهرية، والدولة فيه دينية. وهذا الكلام صحيح من نحو آخر؛ وليس هاهنا مجال التفصيل في ذلك. لكننا نسأل الشاعر المبدع: أليس النظام في مصر نظامًا طائفيًّا؟ أليست "حداثة" هذا البلد هي الأخرى حداثة ظاهرية؟ ألا يمكن لنا القول إن ثمة فئات كبيرة في لبنان حيَّدت الدين في معنى ما من المعاني؟ وما رأيه في التحرر الجنسي الذي حقَّقتْه الفتاة اللبنانية التي وفَّقتْ بين أدونيس، إله اللذة والحب، ويسوع، إله الروح والتسامي؟[†]

إن لبنان ملتقى الأضداد: فهو كبير صغير، ضعيف قوي، هش صلب؛ ولا يجوز النظر إليه من زاوية واحدة. وأنا أعتقد – وقد أكون مخطئًا في اعتقادي – أن لبنان هو أقل البلاد العربية طائفية، على الرغم من الفظاعات التي ارتُكِبَتْ. وتلك مسألة تحتاج إلى استفاضة لشرحها. والواقع الراهن ربما يشير إلى ذلك. وقد تأتيك المفاجآت في المستقبل، بما يحيِّر المفكر المتصلِّب.

وعن الأدب، يرى أدونيس أن تيارًا أدبيًّا جديدًا ظهر، يضم أعمالاً أدبية أشبه بـ"تقارير عن الحياة اليومية". أما الشعر "الثوري" – الذي طالما مجَّده اليساريون – فهو شكل زائف للشعر. لذلك يدعو إلى إسقاط الأقنعة وتدمير كلِّ كذب بغية تجاوُزه. وهو يهدف، في تجربته الفكرية والشعرية، إلى أن يسكب داخل العقل خمرة القلب، وأن يحقق الاقتران بين الجسد والروح؛ إذ هو لا يؤمن بإمكان الفصل بين العقل والقلب. وهذا صحيح مبدئيًّا، لكنه غير صحيح عمليًّا: فثمة دراسات كثيرة تناولت فلاسفة وأدباء كثيرين أشارت إلى مثل هذا الفصل، ناهيكم عن تحليلات نفسية ارتكزت على مفهوم الكبت، وعلى التمييز الدقيق بين الأنا والذات، بين الواعية والخافية. وقد يُتَّهم شعرُ أدونيس في بعض مواضعه بأنه "بارد" (وإن يكن برودًا عجيبًا!)، الأمر الذي قد يشي بعملية الفصل هذه.

وعن أصوله الأولى، في الجزء الثاني، تقرأ العجب العجاب! فهو يعترف بأنه قرأ كلَّ ما كتبه فرويد، ملاحظًا أن ما كتبه عالَم آخر مختلف عن عالَمنا. ثم إنه لم يعانِ في حياته شيئًا من تلك العُصابات النفسية التي تكلَّم عليها مؤسِّس التحليل النفسي. وهنا نتساءل: هل قرأ أدونيس حقًّا ما يتعلق بالنرجسية التي تنطبق عليه؟ هل قرأ ما يتصل بمركَّب أوديپ الذي يعاني منه مجتمعُنا المتشدد؟ – لا فرق بين المركب الأوديپي العائلي وبين المركب الأوديپي السياسي. هل قرأ في إمعان ما يتعلق بالسادية والمازوخية لدى فرويد وسواه؟ وكيف ننظر إلى شاعر خلاق يعلن لنا أن سقوط برجَي نيويورك، بفعل الإرهاب المعروف، أمر يستثير "الحواس الجمالية"؟! أليست هذه سادية كبرى؟! أتُراه يبدِّل رأيه لو أن في البرجين أفراد أسرته وبعض أهله ومحبِّيه؟! ثمة تساؤلات كثيرة لا يمكن التطرق إليها في هذه العجالة.[‡]

وعن علاقته الأولى بالطبيعة، يقول أدونيس إنه كان عنصرًا من عناصرها كلِّها، مثل سحابة أو شجرة. وهذه العلاقة "الانصهارية" تحتاج إلى تحليل خاص ودراسة مستفيضة. والمدهش أنه كان يقيم علاقة جنسية مع الأرض، وكان يبلغ ذروة النشوة؛ بل إنه عاش الوصال الجنسي في الهواء الطلق، وجرَّب ممارسة الجنس مع الطبيعة، فكان يتخيل جسدًا أنثويًّا مكونًا من العشب وكَدَر الأرض. وهنا نتساءل: على مَن يضحك أدونيس؟! وهل القارئ المثقف من السذاجة بحيث يفوته مبدأ "التعويض"؟ فإن لم يستطع شاعرنا الوصال مع فتاة في ظلِّ مجتمع متشدد، فلا بأس من نكاح الطبيعة! ثم ما هي هذه الانطوائية والنرجسية التي تجعل المرءَ يعاف الإنسانَ ويُقبِلُ على معاشرة الطبيعة؟! ألا نجد في هذا كلِّه صدى للمركَّب الأوديپي؟ أليست الأرض هي الأم الكبرى، كما يقول؟ ألا يعني هذا أن ثمة هوامات جنسية تتعلق بالأم البشرية، لكنها تنزاح وتحلُّ مكانَها "الأم الكبرى" أو الطبيعة؟

أعلن أدونيس أنه يحب أن يكون وحيدًا وحرًّا؛ ولذلك تركزت الطاقةُ في نفسه بفعل الانطواء. وطبيعي أن تمتد خارجًا، لا مع البشر الذين يتأفف منهم الشاعر وينزعج من وجودهم، بل مع الطبيعة التي صارت أنثى، لا على طريقة ابن الرومي المجازية، بل على نحو حقيقي وملموس. ولعل هذا الأمر نجده جليًّا في الكتاب، حيث ترى أدونيس يتواصل مع الطبيعة كأنها بديل حي من الكائن الإنساني.

وعن الحب والجنس، يؤمن أدونيس بتلاقي الأضداد: اللذة والألم، البكاء والفرح، ويعتقد أن لذة الوصال مأسوية دومًا: فرائحة الموت تنبعث من كلِّ فعل حب، وشبح الموت يتراءى فيه. ومع أن ثمة أفعالاً إبداعية تنطوي على الأضداد، فإن الإصرار على مزج الحياة بالموت في الفعل الجنسي يشير إلى مازوخية خفية، وربما دلَّ على نِكروفيلية (عشق الموتى)، خفية هي الأخرى، أمعن في دراستها بعض العلماء الاختصاصيين. أجل، قد تُسمَّى الراحة بعد الوصال الجنسي بـ"الموت الأصغر"؛ لكن ذلك مجرد تشبيه. في حين أن مزج المتناقضات أمر غريب في بابه.[§]

وربما كان الفاشيون على هذا النمط، إذا قارنَّا بين دراسات كثيرة كُتِبَتْ في تحليل شخصية هتلر وبين هذا الرأي. ألم يستشعر الدكتاتور الألماني لذةً جنسية في مَشاهد التدمير كما استشعر أدونيس لذةً جمالية في مشاهدة برجَي نيويورك المهدَّمين؟ ألم يجد في الموت لذةً وفي اللذة موتًا على نحو خفي؟ ثم إن هذا الرأي ليس جديدًا: فالرومانسيون بعامة أكدوا هذه المقولة، مثل نوفاليس وبودلير وسواهما، وحتى الكثير من الصوفيين في الحضارات كافة. إن ازدواجية المشاعر مسألة مألوفة في التحليل النفسي؛ وربما كانت موجَّهة في الأساس نحو الأم. لذلك تكثر في شعر أدونيس عباراتٌ مثل "دخلت في حوضك" وما إليها. إنه مهووس بفكرة العودة إلى رحم الأم؛ وليس أدل على ذلك من قوله في كتاب الهوية غير المكتملة:

وأنا سأقول بأن الإحساس بالوجود لدى الرجل أيضًا هو أن يكون محتوى ومغطًّى بفرج المرأة؛ ودون ذلك لا يشعر بأنه موجود فعلاً.

ما قاله أدونيس في هذا الكتاب شهادة حيَّة تخلب الألباب. غير أن مقال شانتال شوَّاف القصير (الجزء الثالث) لا يعوَّل عليه، لأنه صدى لأفكار الشاعر ولا ينطوي على شيء خاص. والحق أني لا أشك في عبقرية أدونيس، شعرًا ونثرًا.

بيد أني لاحظت، رغم سحر العرض والأسلوب، أن بعض الأفكار ليس جديدًا، لأنك تراها لدى كبار الشعراء والفلاسفة والمفكرين والعلماء – مع أن الشاعر صَهَرَها في ذاته وأضفى عليها صوتَه الفريد ونكهتَه المميزة.

وفي اختصار، إن هذا الكتاب فيه الكثير من الأفكار الجذرية. ولعله يلقي ضوءًا على تجربة أدونيس التي لا مراء في أنها من أهم التجارب الخلاقة في القرن العشرين وما تلاه، إن لم تكن أهمها إطلاقًا.

غُرْفَةٌ شُرُفَاتٌ ظَلامْ
وَبَقَاَيا جِرَاحٍ
جَسَدٌ يَتَكَسَّرُ
نَوْمٌ بَيْنَ تِيهٍ وَتِيهٍ
دَمُنَا دائِرٌ فِي حِوارٍ
وَالمَتَاهُ الكَلامْ.
(من "رقيمة" غلاف الكتاب لأدونيس)

*** *** ***

عن النهار، الجمعة 19 آب 2005


[*] أدونيس، الهوية غير المكتملة: الإبداع، الدين، السياسة، والجنس، بالتعاون مع شانتال شواف، صدر عن دار "بدايات" (جبلة، 2005)، بتعريب حسن عودة، 94 ص.

[†] جلي، هنا، أن "التحرر الجنسي"، في حدِّ ذاته، لا يشترط البتة السموَّ بالجنس الذي يقصده أدونيس حين يقول في الكتاب نفسه (ص 82): "ما بين الله والشيطان ثمة خيط. وما بين الملاك والشيطان ثمة خيط رفيع جدًّا جدًّا. ولكن ما بين الوصال الجنسي الذي أتحدث عنه وبين الجنسية البهيمية الشائعة ثمة هوة يتعذر اجتيازها، ويتعذر سبرها." (المحرِّر)

[‡] مَن يتعرف إلى أدونيس عن قرب يدرك أن الرجل أبعد ما يكون عن هذا الاتهام المتسرع بالسادية! أغلب الظن أن تقويم أدونيس "الجمالي" لمشهد تحطيم برجَي مركز التجارة العالمي يندرج فيما يسمِّيه بعض المفكرين بـ"المروِّع" numinosum، الذي يتجاوز نطاق الإحساس الجمالي العادي الشائع إلى الشعور بسطوة حضور صاعق. إن مشاعر أدونيس حياله تتقاطع من هذا القبيل مع مشاعر الفيزيائي ج.ر. أوپنهايمر حينما شهد أول تفجير ذرِّي تجريبي في صحراء أريزونا، فتذكر آية البهغفدغيتا: "لو أن ضياء ألف شمس تفجرتْ معًا سَطَعَ في السماء لما دنا من بهاء الربِّ القوي." (المحرِّر)

[§] تسرُّع آخر من السيد جان طنوس، ناتج عن إغراقه في التفسير الفرويدي الذي يقصِّر عن تأويل ظاهرة "الجمع بين الأضداد" coincidentia oppositorum في النفس، لأنه لا يتناول ظواهر الحياة النفسية إلا من وجهها المَرَضي، ولأنه لا يعترف أصلاً بالخبرة الصوفية التي هي، في نظره، نوع من الذهان. من هنا لا مجال مطلقًا للمقارنة بين اللذة المازوخية المَرَضية وبين اختبار موت الأنا، فعلاً لا مجازًا، في غيبوبة الحبِّ المؤنسَن الراقي. (المحرِّر)
 
أعلى