علي حمد الفارسي - تزيفتان تودوروف وقراءةٌ "بنيويةٌ" في قصص ألف ليلة وليلة

تودوروف هو أحد أعلام النظرية البنيوية سابقًا، كاتب بلغاري الأصل درّس في السوربون، الجامعة الفرنسية العريقة وفي جامعات أوروبية أخرى، وقد انشغل تودوروف في الفترة الأخيرة بدراسة الآخر غير الأوروبي كالعربي المسلم والهندي والشرقي عمومًا.
لقد قرأ تودوروف قصص ألف ليلة وليلة في كتابه مفهوم الأدب قراءةً بنيويّةً ـ والبنيوية كما نعلم تنطلق من مبادئ علمية ورياضية في قراءة النصوص ـ لكي يبين النظام الذي تقوم عليه هذه القصص وبحث عن البنية المركزية فيها التي ينبني عليها سائر النص، وقد توصل إلى نموذج يحكم قصص الموروث الشعبي بشكل عام وألف ليلة وليلة بشكل خاص، فمن خلال هذه المقارنة بين هذا الموروث وقصص التحليل النفسي للشخصية وتتبع سير القصة خرج بعدة قوانين تحكم ألف ليلة وليلة.
إنّ البنية الرئيسية في بناء ألف ليلة وليلة تتمثل في المعادلة التالية: (البشر = القصص)، فكل شخصية (إنسان) = قصة، وبما أنّ الشخصية عند تودوروف هي الإنسان، ألا تكون الشخصية إذًا غير الإنسان في الروايات أو القصص ؟! فالجن مثلاً ألا يعدون من الشخوص التي لها دور بارز في تسيير أحداث ألف ليلة وليلة؟ نعم، ولكنه قد يقصد بالشخصية الإنسان فحسب، لأن بدخوله تتكون قصة جديدة أما الشخوص غير البشرية فهي لا تحدث قصةً جديدةً بل تشارك فيها ولا تكون المعادل الموضوعي للقصة المحتملة كما هو حال الشخصية (البشرية) وقد يقصد المؤلف بالشخصية غير الشخوص، فقصرها على الإنسان أما الشخوص فتكون لغيره.
فالشخصية هي القصة المحتملة إنها قصة حياة الشخصية فكل شخصية جديدة تعني عقدة جديدة فنحن في مملكة البشر = القصص، فجدلية الشخصية = القصة هي التي تصنع بناء القصة.
أما السمات النمطية الأخرى التي تكمل بناء القصة في ألف ليلة وليلة، فهي: الفعل يقتضي نفسه ولا يقتضيه غيره في ألف ليلة وليلة، بهذه الجملة نفى تودوروف الفكرة التي خرج بها من أسئلة هنري جميس، وهي أنّ الشخصية دائمًا المحدد للفعل، فكل القصص هي وصف للطباع، فالفعل ليس في خدمة الشخصية دائمًا في نظر تودوروف (ولكنه قال بالسببية المباشرة في ألف ليلة وليلة وهي: ظهور سمة شخصية يؤدي إلى إثارة فعل من الأفعال مباشرةً فالفعل هنا خاضع للسمة الشخصية) نعم، ولكن الفعل غير خاضع للشخصية بسببين: إنّ الفعل يحرم الشخصية من خدمته عن طريق ثبات العلاقة معها واللزوم بها، فيمنعها من صفة الدوام من هنا فقد أصبحت السمة الشخصية حالةً ظرفيةً مؤقتةً. كما أنّ السبب الأثر أيضًا يمنع خضوع الفعل للشخصية لأنّ الشخصية تسبب الفعل والفعل يؤثر عليها، فالتأثير بينهما متبادل وعكسي فلا الفعل يخضع للشخصية ولا الشخصية تخضع للفعل.
والسمة الثانية هي أن تكون الجملة في ألف ليلة وليلة بهذا الشكل (ك يُرى) فهي من الأدب الإسنادي فالتركيز دائمًا يكون على المسند، فيكون شكل الجملة بموجب هذا ليس (ك يرى ل) كما في قصص التحليل النفسي ولكن (ك يرى) ففي حكايا السندباد البحري يختفي المسند إليه، وذلك لأنّ القصة غير شخصية (مبنية للمجهول).
والسمة الثالثة و(ك شجاع = ك يتحدى الغول) مباشرةً بدون فاصل، تتميز ألف ليلة وليلة عن غيرها "بالسببية المباشرة" وهي أن ظهور سمة شخصية يؤدي إلى إثارة فعل مباشرةً (فقاسم جشع إذن سيذهب بحثًا عن المال) وأما السببية الموسطة والتي نجدها في قصص الرحلات مثلاً فهي لا تثير فعلاً مباشرةً بل من خلال النص فنشعر أن (ك شجاع) من خلال أفعال معينة منتشرة في النص مثلاً (محمد يسافر في الليل، محمد يركب البحر، محمد يهاجم)، من مثل هذه الأفعال نشعر بشجاعة محمد دون التصريح بها.

ويؤدي ظهور السببية المباشرة في ألف ليلة وليلة إلى أن تكون المسافة بين السمة الشخصية والفعل الذي يثيره ضئيلةً ومنحسرة جدًّا (فسندباد يحب السفر= مباشرة سندباد يسافر)، فهذه العلاقة الثابتة بين السمة والفعل تحرم السمة من صفة اللزوم فتصبح مجرد حالة تمر بها الشخصية وتنتهي فورًا بانتهاء الفعل إما إذا قلنا السندباد يحب السفر وسكتنا فإنّ هذه الصفة اكتسبت اللزوم والدوام ولكن عندما تبعها فعل جعلها ظرفية سريعة مؤقتة، وهذه العلاقة (الضمنية) التي نستشفها من القصة تمثل هوية ألف ليلة وليلة حيث نجدها منتشرة في أرجاء القصة من هنا لا يكون الفعل في خدمة إبراز الشخصية بقدر ما يسلب الشخصية سمتها الدائمة.
والسمة الرابعة هي علاقة السمة الشخصية والفعل هي) السبب- الأثر)، نقصد من ذلك أنّ السمة الشخصية ليست سببًا للفعل ولأثره فحسب بل هي الاثنان معًا دون أن يكون أحدهما سابقًا على الآخر فالسمة الشخصية سبب للفعل في (ك يقتل زوجته ـ لأنه طاغية) فإذا كانت العلاقة بهذا الشكل حيث تحيلنا السمة إلى الفعل والفعل إلى السمة في آن واحد، فإن الأصل الأولي للعبارة الذي نشأت منه منتفٍ فلا يكون أحدهما سابقًا على الآخر فليس السبب ما سمي القبل الأصلي لأنه ليس سوى عنصر من عناصر مزدوجة "السبب ـ الأثر" دون أن يكون أحدهما سابقًا.
والسمة الخامسة هي التضمين: "القصة تتضمن نفسها". بمعنى أن يؤدي ظهور شخصية جديدة في ألف ليلة وليلة إلى انقطاع القصة السابقة، لتبدأ أخرى تُتلى علينا وتشرح "أنا هنا الآن" الشخصية الجديدة من هنا تشتمل القصة الأولى على الثانية وتتضمنها وهذا ما يسمى بالتضمين وهذا التضمين يبدأ من القصة الأولى وحتى آخر قصة في ألف ليلة وليلة، والهدف من التضمين هو: تقديم البرهان والدليل، مثلاً (في قصة الصياد والجن) فالصياد يتخذ من قصة دوبان عذرًا يسوغ فيه قلة عطفه على الجن. وقد يكون التعاقب الزمني هو أن يأتي زمن القصة الثانية بعد وداخل زمن القصة الأولى هو سبب التضمين، كما في قصة "الأختان الغيورتان من أختهما الصغرى". وتصل طريقة التضمين إلى غايتها مع التضمين الذاتي وذلك عندما تجد القصة المتضمنة نفسها وقد تضمنت ذاتها وذلك عندما تتضمنها قصص أخرى قد جاءت منها، فعلى سبيل المثال: إذا جاءت قصة كبيرة تحكي عن شجاعة رجل ما وتفرعت عنها قصص صغيرة إلى أن جاءت قصة صغيرة روت مضمون القصة الكبيرة عن طريق شخوص وأحداث مختلفة ولكن شرحتها بنفس الفكرة ونفس مسار الأحداث ونفس العقدة.
فالمعنى الداخلي للتضمين هو أنّ القصة المتضمنة إنما هي قصة لقصة في حين تحكي القصةُ قصةً أخرى، فإن الأولى تشرح مضمونها الخفي وتفكر في نفس الوقت في شرح نفسها في هذه الصورة، فالقصة المتضمنة صورة لهذه القصة الكبيرة المجردة التي لا تكون فيها كل القصص الأخرى سوى أجزاء صغيرة وهي أيضًا وفي آن واحد صورة للقصة المتضمنة التي تسبقها مباشرةً.
والسمة السادس هي: فعل "روى" = "عاش"، و"غياب القصة" = "الموت"، فعل روى في ألف ليلة وليلة = النجاة، وشهرزاد تحكي لكي تعيش والقصة = الحياة، وغياب القصة = الموت كما أنّ الكتاب الذي لا يروي قصة يقتل، وما الإنسان سوى قصة وما أن تفقد القصة ضرورتها حتى يموت، والقصة الناقصة كذلك = الموت أيضًا.
والرغبة في سماع القصة يقتل فإذا كانت الثرثرة تقتل في الثقافة فإن الثرثرة تنجي من الموت في ألف ليلة وليلة لأنها مملكة القصص = البشر، فكل إنسان = قصة، وانتهاء الإنسان = انتهاء القصة، وإذا كانت الثرثرة تنجي من الموت، فإن الفضول يؤدي إليه، فألف ليلة وليلة هي جدلية "القصة أو الموت".
والسمة السابعة هي: القصة المتمَّمة + القصة المتمِّمة = ألف ليلة وليلة، إنّ القصة المتممة ليست أكثر أصالةً من القصة المتممة ولا العكس فكل واحدة تحيل على الأخرى كما أن القصة تسبق الحكمة أو تتبعها أو هي الاثنان معًا أما الهدف من التتمة فهو البرهان والإقناع وهو الهدف نفسه في التضمين، كما أن التّتمات السابقة تتحول إلى سرد بسيط أو حكمة موجهة لاستخدام الشخصيات في التتمات اللاحقة.
فقصص ألف ليلة وليلة عندما نقاربها بمقاربة سردية لابد أن ننظر إليها من "خارج سياق الزمن" لأن الإحالة فيها عبارة عن نسق يتحرك بكثرة في هذه القصص، فالفعل يحيلنا إلى السمة الشخصية كما أن السمة الشخصية تحلينا إلى الفعل والقصة المتضمنة تحلينا إلى القصة المتضمنة والقصة المتضمنة تحيلنا إلى القصة المتممة، وفعل "سيحكى" يحلينا على "حكي" و"حكي" على سيحكى والحكمة على القصة والقصة على الحكمة فتكون الإحالة على شكل (دائرة) لا يعرف متى يبدأ الوقت فيها ومتى ينتهي، من هنا إذا لم يعرف الوقت فيها لم يعرف الأصل والأولي الثابت من الجمل والأفعال، فغير مجدٍ أن يبحث المرء عن أصلها ضمن سياق الزمن.
بعد ذلك حاول تودوروف المقارنة بين ألف ليلة وليلة وقصص الموروث الشعبي ورمزنا لها بالرمز (أ)، وقصص التحليل النفسي للسمة الشخصية عند هنري جميس، وقصص الرحلات العاطفية ل"سيترن" ورمزنا لها بالرمز (ب)، وسعى من خلال هذه المقارنة إلى الكشف عن مميزات كل تقليد أدبي على حدة، وفي نفس الوقت محاولة اكتشاف الفارق بينهما:
(أ)
ـ التحليل الداخلي للسمات الشخصية غائب.
ـ تتميز بالسببية المباشرة.
ـ الفعل يقتضي نفسه، ولا يقتضيه غيره.
ـ إذا كانت لدينا جملة (ك يرى ل) فالتركيز على "ل".
ـ التركيز على المسند فهي من الأدب الإسنادي.
ـ المسافة بين الفعل والسمة الشخصية ضيئلة.
ـ علاقة السمة والفعل عبارة عن (السبب-الأثر).
ـ التحليل السببي للقصة لا يحلينا إلى أصل أولي ثابت.
ـ الفعل "روى" هو الذي ينمي السرد.
(ب)
ـ القصة تخضع للتحليل النفسي للشخصية.
ـ تتميز بالسببية الموسطة.
ـ الفعل في خدمة "إبراز" الشخصية، فهو تعبير عنها.
ـ أما هنا فالاهمية ل "ك".
ـ التركيز على الطرفين، عدا قصص الرحلات فالتركيز على المسند أيضًا.
ـ مسافة تأثيرية واسعة.
ـ علاقة السمة والفعل يمكن أن نعبر عنها بعلاقة (تعبير عن الشخصية).
ـ التحليل السببي يحلينا إلى أصل أولي وثابت.
ـ السمة الشخصية هي التي تنمي السرد.
يجب لتحديد ظاهرة وجود التحليل النفسي أو عدمه في ألف ليلة وليلة أن ننطلق من بعض صور مسيرة القصة، وذلك عندما تخضع هذه إلى التسلسل السببي حينئذ نستطيع تمثيل كل لحظة من لحظات القصة على شكل جملة بسيطة تدخل في علاقة "تعاقبية" تسجلها العلامة (+) أو "استتباعية" تسجلها العلامة(ـ) مع الجمل السابقة أو اللاحقة.
ـ علاقة تعاقبية = تركيبية مثل: السندباد رجل مسافر.
ـ علاقة استتباعية = سببية، مثل: قاسم جشع فذهب يبحث عن المال.
فعندما نقوم بتقسيم جمل ألف ليلة وليلة بهذا الشكل تتضح لنا: العلاقات التي تكثر في القصة، من هنا نستطيع تحديد تأثير السمة الشخصية على الفعل أو العكس.
ـ "وإذا كانت أكثر عددًا فسيكون للأول قيمة ذاتية أكبر"، ويقصد بذلك السمة الشخصية إذا أثارت أفعالاً كثيرة فذلك يعود إلى قيمتها الذاتية، حسب السياق والنص فإذا كانت القصة تتحدث عن الشجاعة وحضرت سمة شخصية على سبيل المثال: (السكينة) فإنّها لا تثير أفعالاً كثيرة في هذا النص بقدر ما تثير صفة الشجاعة من الأفعال في هذا النص، فقاسم شجاع في نص الشجاعة يثير أفعالاً مثل: يواجه الوحش، ويحارب الأشرار، ويبارز بالسيف، ويرمي بالرمح وغيرها.
ـ "إنّ الخصوصية الجوهرية لكل قصة تكمن في إرساء بدهية التضمين"، فبنية القصة عبارة عن قصة متضمنة لقصة أو قصة تحتوي قصة، ومن خلال عملية التضمين تشرح القصة المُتضمَّنة القصة المُتضمِّنة وتشرح نفسها في نفس الوقت، فعندما توضح القصة التي تحتوي النص والتي وقع عليها الاحتواء، فإنّها توضح جزءًا منها حتى توضح بقية القصص الأجزاء الباقية من هنا يترسخ في أذهاننا أن ألف ليلة وليلة عبارة: عن تضمين جزء في جزء.
ـ القصة: المتمم والمتمم: إذا اعتبرنا القصة أنّ ليست وعاءً يحتوي قصة أخرى بل هي قصة تحتوي نفسها، فإنّ خاصيةً غريبةً ستتجلى ذلك لأن كل قصة تبدو وكأنها تمتلك شيئًا تتممه أو فائضًا أو ملحقًا، يبقى خارج الشكل المغلق الذي ينتجه تطور العقدة، من هنا فإنّ هذا الشيء المتمم والخاص بالقصة يعتبر أيضًا شيئًا ناقصًا في الوقت نفسه، فالزيادة نقص أيضًا ولكي نسد هذا النقص الذي أحدثته التتمة فوجود قصة أخرى يعتبر ضروريًّا.
 
أعلى