أنجيل الشاعر - أزمة الجنس.. في المتخيّل الاجتماعي

أزمة الجنس ليست وليدة الحاضر في المجتمعات عموماً، وفي المجتمعات المنغلقة دينياً واجتماعياً على وجه الخصوص، فهي لم تزل ثاويةً في المتخيّل الاجتماعي على مرّ التاريخ، لتؤثر في جميع مجالات الحياة اليومية، كما أنّها أثّرت في المجال الثقافي، حتى بات الكتّابُ والمبدعون يتحاشون الإبحار في الموضوع الجنسي، الذي يعتبره المتلقي موضوعاً إباحياً يوصف بالفَلَتان الأخلاقي، وعدم التناغم مع العادات والتقاليد المتعارف عليها اجتماعياً، وقد عززتْ هذه الأزمة الشرائع الدينية التي جعلتْ من الحديث في الجنس محرماً وغير مشروع، وقد بات الاختلاط بين الرجل والمرأة يشكل مخاوفَ جنسية كبيرة تندرج تحت مسمى المحرَّمات التي تلعب دوراً كبيراً في الحياة الاجتماعية.

مِن البديهيّ أنْ تنتج عن هذا التحريم وهذه المخاوف علاقةٌ متوترة بين الرجل والمرأة، سواء في العمل أو في الأماكن العامة التي يرتادها الجميع (رجالاً ونساء)، من المجمعات التجارية، ومواقف الحافلات، وفي الحافلات ذاتها؛ إذ تكثر الملامسات القسرية بين أجساد الرجال بالنساء، والرجال بالرجال أيضاً، قد تتحول بعضها إلى تحرش جنسي مقصود، دوافعه متجذرة في الأعماق لإرضاء رغبات مكبوتة، حرمها الدّين وعابها المجتمع، كما أنّ كثيراً من الألفاظ في اللغة العامية في بعض البيئات العربية لها إيحاءات جنسية أو تحمَّل إيحاءات جنسية، عن طريق الكنايات الشائعة، التي يستعملها الرجال و النساء مع تعبيرات جسدية لافتة، وكذلك بعض التعابير الجسدية، كنظرة الرجل في عيني المرأة أو التفحص المشوب برغبة جنسية في جسدها، مما يعد عيباً واعتداء في المجتمعات المتقدمة.

فإذا بحثنا عن جذر الأزمة الجنسية في المتخيّل الاجتماعي، نجدها في المجتمعات ذات الأفق المحدود والمنغلقة على نفسها، هي مشكلتها الأساسية، وبات هذا المتخيّل في المنظومة الاجتماعية يفرز تشوهاً كبيراً في العلاقات بين الرجل والمرأة، ومن ثمّ بين الإنسان والعالم؛ إذ تخضع هذه العلاقات إلى أيديولوجية دينية واجتماعية متعصبة ومتزمتة بعقيدتها الطهرانية. يتساءل آلان بييز:"عندما يجتاز الرجل المرأة في شارع مزدحم فهو عادة ما يستدير نحوها، أما المرأة فعادة ما تستدير بعيداً عنه. ترى هل غريزتها تدفعها إلى ذلك لكي تحمي أنوثتها؟ هل هي ردة فعل غريزتها الأنثوية؟ أم هي تعلمت ذلك في اللاوعي بعد أن رأت الأخريات يفعلن ذلك"؟، علينا أن نركز على حالتين من هذا القول، الحالة الأولى، مفهوم اللاّوعي - وحسب تفسير فرويد - من منطلق أنّ تلك الأفكار والمشاعر تتكوّن ممّا لا يمكن إدراكه في حالة الوعي، كالتصوّرات والرغبات المكبوتة بسبب أنها مرفوضة وغير مقبولة من منظور الوعي (الاجتماعيّ) أو الأخلاقيّ، الأمر الذي يجعل تلك العناصر المرفوضة والمكبوتة تحتفظ بنوع غريب من الطّاقة، وهنا يجب فهم اللاّوعي كظاهرةٍ ديناميكيّة بشكلٍ أساسيّ؛ أي إنّ اللاّوعي يسعى بشكلٍ دائم إلى تمرير التصوّرات التي لا يمكنُها الوصول إلى الوعي أو بدايته، ما لم تتحوّل خاصّةً إلى أحلام، وبهذا فإنّها تتّخذ شكلَ صفةٍ أو مظهر مقبول أخلاقيّاً (واجتماعيّاً)، والحالة الثانية، أنّ المرأة اكتسبت مخاوفها من الرجل الذي اكتسبها بدوره من الموروث الثقافي للمجتمعات، ليصبح أي تلامس جسدي بين امرأة ورجل ذا إيحاء جنسي ليس إلاّ، "إذا اجتمع رجل وامرأة فالشيطان ثالثهما"، ليس الشيطان هنا إلاّ محرض على الفعل الجنسي بينهما، هذه الأيديولوجيا هي التي تخلق من الفرد - الإنسان، فرداً مكبلاً ومقيّداً بمحرمات دينية وأعراف اجتماعية، وتجعله غير قادر على التمتع بحريته الشخصية التي هي حق من حقوقه الطبيعية.

كثيرة هي الأحداث الواقعية تثبت تلك الترسبات في الذهنية المتدينة، في هذا العصر المتّسم بالردة الدينية والنكوص الفكري والعنف الجسدي والنفسي، فعند زيارة الرئيس الإيراني لمتحف باريس طلب من إدارة المتحف تغطية التماثيل التي تعرض أجساد النساء عارية، كتمثال عشتار آلهة الجمال والخصب، ومقابلة المفتي اللبناني في هذا العام للمرشحة الفرنسية لوبين التي طلب منها أن تضع غطاء الرأس، من ثم ألغي اللقاء لعدم تلبية الطلب، كل تلك الأحداث لا تنمّ إلا عن إيحاءات جنسية متجذرة في اللاوعي البشري نتيجة للكبت في المجتمعات المشحونة بالتخلف، والقصور المعرفي في الوعي المجتمعي والديني، وقصور في الوعي التاريخي للحياة الإنسانية.
يذكرنا فؤاد زكريا بالنظرة الدينية الدونية للمرأة بقوله: "... النظرة الدونية للمرأة تبدو في الظاهر لو كانت دعوة إلى الستر والفضيلة، لكنها في أعماقها وباطنها لا تُرى إلاّ موضوعاً لشهوة الرجل، والامتداد الطبيعي لها هو ما نراه عند الكثير من معتنقي التيارات الإسلامية الحالية، من تحريم السلام باليد بين الرجل والمرأة، وكأن السلام ليس سلوكاً اجتماعياً له وظيفته في تسيير التعامل بين البشر"، لا أغامر في القول إنّ هذا النوع من الاختزال للجسد عند الرجل والمرأة هو تعنيف اجتماعي لكلا الطرفين، فيغدو جسد المرأة موضوعاً لشهوة الرجل، ويغدو الرجل ذا غريزة وحشية لا تنطبق عليه الصفات الإنسانية. المنظومة الاجتماعية والدينية والمناهج التعليمية، هي التي كرست في داخل الرجل ذكورته الغريزية التي باتت تخيف المرأة وتجعلها تبتعد بجسدها متجاهلة أنوثتها المطموسة في العادات والمحرمات التي تحتقر الطبيعة البشرية.
إذا تساءلنا: ما السبب الكامن وراء تلك العادات والمحرمات، هل هي فوبيا الدين والمجتمع من العودة إلى الحالة ما قبل الاجتماعية، أم أنّ الهوية الدينية والقبلية التي تحمل في طياتها أزمة الجنس والتعصب والتطرف في التفكير، أصبحت هي الغالبة على الهوية الإنسانية المجردة من أي محمول على الإطلاق؟
 
أعلى