مصطفى نصر - ألف ليلة وليلة والأمثال الشعبية وعدم اهتمام المصريين والعرب بهما..

لم يهتم المصريون والعرب بالأمثال الشعبية – كما لم يهتموا بحكايات ألف ليلة وذلك من نظرة التعالي نحو هذه الفنون فهي لم تجذب مثقفو هذه العصورالذين كانوا عاكفين على الثقافة الدينية الجادة والاهتمام بالشعر والنثر الفني لأنهما ينبعان من طبقة ارستقراطية في الأدب بينما ألف ليلة وليلة هو مجرد كتاب شعبي تمثلت فيه طوائف الشعب وطبقاته وتراءت من خلاله ميوله ونزعاته، وتكلمت فيه أساليبه ولهجاته؛ فهو كالشعب. وكل شيء للشعب قد لقى من جفوة الخاصة وترفع العلية أذيً طويلا، أغفله الأدب فلم يتحدث عنه، واحتقره الأدباء فلم يبحثوا فيه.( أحمد حسن الزيات ص 42 كتاب في أصول الأدب الجزء الأول))
لقد ترفع أدب الخاصة عن أدب الشعب، فانفرد الأول برفعته، وانتظم الأدب الشعبي سائر النفوس، فأخذ بمجاميع قلوب الخاصة والعامة على السواء.( أدب الشعب – حيرم الغمراوي – كتب للجميع )
فألف ليلة وليلة عبارة عن ديوان يجمع حكايات الشعب المتداولة في البيوت والمقاهي وعند العمل في الحقل أو أماكن التجارة. وهذه الحكايات كانت تُحكى في القرى والأحياء الشعبية في المدن، فأصل الحكاية المستمد منها حكاية " علي بابا والأربعين حرامي "؛ كانت النسوة تحكيها لأطفالها في القرى والأحياء الشعبية. وهي عن فلاح لم يجد قوتا لعياله، فذهب لأخيه الغني جدا؛ يطلب منه أن يعطيه كيلتين من القمح لاطعام عياله، وسيردهما إليه عند موسم الحصاد، لكنه رفض، فلم يجد الفلاح الفقير سوي أن يبيع عِجلته رغم حاجته الشديدة إليها، فسحبها وذهب بها إلى السوق، والظاهر أن السوق كان بعيدا عن القرية، فقد أحس بالتعب من قبل أن يصله؛ فربط عِجلته في شجرة، ونام بجوارها، واستيقظ من نومه، فإذ به تحت الأرض بين ناس يراهم لأول مرة، فأخذوا عِجلته وذبحوها وصنعوا منها وليمة فاخرة ودعوه ليأكل معهم، فأكل في شهية فقد كان جائعا جدا، وأقاموا حلقة ذكر، وطلبوا منه أن ينشد، ولم يكن يحفظ شيئا من الإنشاد، لكنه عبر عن حاله وقال:
- ماذا أفعل وقد أخذوا العِجلة مني؟!
فرددوا قوله في سعادة وانتشاء، وبعد أن انتهى الذكر، ملأوا جلد عِجلته بجنيهات ذهبية. وطلبوا منه أن يغمض عينيه، فوجد نفسه في المكان الذي نام فيه.
وعندما ذهب إلى زوجته، لم تجد " كيلة " لتعرف بها قدر الجنيهات التى أتى بها، فذهبت إلى شقيق زوجها تستلف منه الكيلة، لكن زوجته وضعت بها قطعة عجين لتعرف ما الذي سيكيلونه، فوجدت في آخر الكيلة جنيه ذهب.
فذهب أخوه إليه وسأله عن سر هذا المال الذي جاءه فجأة، فحكى له الرجل الطيب ما حدث بالضبط.
فأخذ أخوه جاموسة ضخمة، وتظاهر بالنوم تحت ظل الشجرة، فوجد نفسه تحت الأرض وحوله الناس الغرباء، فذبحوا جاموسته ودعوه إلى الوليمة، لكنه أكل بدون شهية، وعندما أنشد في الذكر كان صوته قبيحا ومملا، فحشوا جلد جاموسته بقشر بصل.
وحكى لي عمي: إن عمته في الصعيد كانت تحكي لهم حكاية " قِسم " التي كتبها عبد الفتاح مصطفي وأذيعت في الراديو واشتهرت باسم "السلطانية "، وهي مستوحاة من القصة الشعبية التي حكيتها الآن.
بل يجمع كتاب ألف ليلة وليلة أيضا مقتبسات من كتب أخرى مشهورة، وقد شاهدتُ مسلسلا تلفزيونيا في شهر رمضان عن ألف ليلة وليلة كتبه أحمد بهجت، ودهشت مما أرى وأسمع، فـيوسف شعبان كان معلما للأطفال. وهو جالس في دكانه سمع أحد المارة ينشد ويغني:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ردي عليّ فؤادي أينما كانا
فقال معلم الأطفال لنفسه: لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا مثلها ما كان الشعراء يتغزلون فيها هكذا. فتعلق قلبه بحبها. لكن بعد يومين عَبَرَ ذلك الرجل وهو ينشد هذا البيت:
لقد ذهب الحِمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلم إنها ماتت فحزن عليها ومضى له ثلاثة أيام وهو في العزاء.
دهشتُ لذلك فقد قرأت طبعتين من ألف ليلة وليلة لم أجد فيهما هذه الحكاية، إنما قرأتُها في كتاب للجاحظ عن نوادر معلمي الأطفال. حيث زار الجاحظ معلم أطفال في دكانه، وتحدث معه، فوجده عالماً بالقرآن وفقيها في النحو وشاعرا أديبا، فقال له:
- كنت نويت أن أكتب كتابا عن نوادر معلمي الأطفال، لكنني وجدتك عالما فقيها عاقلا، فامتنعت عن كتابة هذا الكتاب.
ومر الجاحظ بعد ثلاثة أيام فوجد دكان معلم الأطفال مغلقا، فسأل جيرانه عنه، فقالوا:
- عنده ميت.
فزاره في البيت، فوجده حزينا باكيا، فسأله عن التي ماتت له، هل هي أمه، فقال لا، هل هي أخته فقال لا. إلى أن قال إنها حبيبته، وعرف الجاحظ إنه لم يرها ولا يعرفها، إنما أحبها لمجرد سماعه لرجل ينشد شعرا وهو يمر من أمام الدكان، فقرر الجاحظ أن يبدأ الكتابة عن نوادر معلمي الأطفال، ويبدأ بهذا الرجل الأحمق العجيب.
وفي عام 1996 اقتنيت نسخة الذخائر التي تصدر عن هيئة قصور الثقافة، ثمانية أجزاء، تحوي حكايات بعضها لم أجده في الطبعتين السابقتين، فقد وجدت فيها الحكاية التي حولها أحمد بهجت إلى مسلسل تليفزيوني. وحكايات أخرى سبق أن قرأتها في كتب أخرى، لا داعي لذكرها الآن.
ومزية الأمثال الشعبية إنها تنبع من كل طبقات الشعب، غير الشعر والنثر الفني اللذان لا ينتسبان إلا للطبقة الارستقراطية في الأدب. فالعجائز في البيوت تؤلف الأمثال، وطبقة الفلاحين تنبع منها أمثال عميقة، معبرة، وكذلك طبقات الصناع والتجار وغيرهم. ونظرة التعالي لكل ما هو فقير؛ جعلت طبقة المثقفين تبتعد بل وتعادي ألف ليلة وليلة والأمثال الشعبية، خاصة لما بهما من ألفاظ مسفة قد لا تتفق مع ضوابط السلوك والآداب، بل وعادت طبقة المثقفين أيضا القصص التي تحكي عن الشعب، أو تدور في الأحياء الشعبية الفقيرة. فقد رفضت الجهات الرسمية في مصرعام 1939 أن يُطلق على فيلم، اسم " الحارة " من إخراج كمال سليم، حتى استبدلوه باسم " العزيمة "، وكان اسم " الحارة " الأنسب فنيا، فالأحداث تدور في حارة شعبية، كما أن الفيلم ينتصر لابن الحارة الفقير، ابن حلاق بسيط، يحصل على دبلوم عالي ويتفوق على أبناء البشوات.
وطال زمن تجاهلنا لألف ليلة وليلة والأمثال الشعبية – وقام الأجانب بالاهتمام بهما وتسليط الأضواء عليهما – فحولوا قصص ألف ليلة وليلة إلى أفلام سينمائية كبيرة وعديدة وشاهدتُ – وأنا صغير - فيلما أمريكيا باسم " علي بابا "، بطولة توني كيرتس، وأفلام أخرى جعلتني متشوقا أكثر لقراءة الكتاب– بل إن فن القصة الحديث في العالم، نبع من حكايات ألف ليلة وليلة. عندما استوحى الكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو بعض حكايات ألف ليلة وليلة إلى قصص حديثة، يحكيها المجتمعون خلال عشرة أيام في رائعته ديكاميرون.
وعشنا قرونا طويلة نحتقر فيها كل ما هو منتسب للشعب، فحتى الحكايات التي تروي لابد أن يكون أبطالها ملوكا وأمراء، وتعالت النخبة على كتابة القصة التي تعني بالشعب، فحين استحال السير والتر سكوت قصاصا كبيرا؛ خجل من عمله وكتب يقول: لم أنسب رواية ويفرلي إلى نفسي، فلست على ثقة من أنه يليق بمن كان مثلي من رجال القانون أن يكتب القصص، فقد كانت القصص تعد في أيامه فرعا منبوذا من فروع دوحة الشعراء، كان يمثل الابن البغيض في الأسرة الأدبية (ويفرلي (بالإنجليزية: Waverley) هي رواية تاريخية نشرت عام 1814 بقلم السير والتر سكوت (1771-1832). نشرت باسم مجهول في عام 1814 كمشروع سكوت الأول في الخيال النثري، غالبا ما ينظر إليها بأنها أول رواية تاريخية في الأدب الغربي. اشتهرت الرواية لدرجة أن روايات سكوت اللاحقة تم الإعلان لها بأنها "بقلم كاتب ويفرلي")
وعندما كتب الدكتور محمد حسين هيكل روايته زينب، خجل أن ينسبها لنفسه حتى لا يحتقره معاصروه، فكتب عليها تأليف فلاح مصري، ففن القصة في ذلك الوقت لم يكن يناسب إلا فلاح مصري، محتقر من السادة الحكام والذين كان معظمهم ينتسب لأصول تركية. هكذا هي القصة، نشأت منبوذة ومحتقرة، فقد خجل العرب منها، وجعلوها لثرثرة النساء، ولم يعطوا لكتاب ألف ليلة ولا الأمثال الشعبية الأهمية التي يستحقاها..
أما عن الأمثال الشعبية فهي شديدة الأهمية، فيكفي إنك تستطيع أن تكتشف بسهولة طبيعة الشعب وذكاءه عن طريقها، فهي تمثل فلسفة الجماهير؛ رغم هذا كله، أصحابها لم يلقوا اهتماما، لأنهم لا يمثلون ثقلا ثقافيا، كما أنهم كانوا يعيشون دوما مشاكلهم اليومية وليس لديهم وقت للاهتمام بما أبدعوه. ولم تساعدهم إمكاناتهم على تسجيلها. فالذين ابتدعوا الأمثال كان معظمهم لا يجيدون القراءة والكتابة، وأتت عبقريتهم من معاشرتهم للآخرين، وللتأمل في الحياة.
ثم مرت السنوات وأحس الغرب بأهمية الف ليلة وليلة وأمثالنا الشعبية وفن القصة القصيرة ومكانتها، لكن، نحن العرب – كعادتنا – تأخرنا كثيرا حتى أحسسنا بهذا الشعور. فقد جمع الأجانب الأمثال الشعبية ودونوها وترجموها للغاتهم. وكثير من الأمثال الشعبية لم أعرفها إلا عن طريق الأجانب الذين جمعوها من القرى والنجوع، من شدة إيمانهم بها.
ويقول الأستاذ أحمد حسن الزيات أيضا: فلما حقق العصر الحديث تغلُّبت الديمقراطية وسيادة الشعوب، واستتبع ذلك عناية الرومانتيكيين في الغرب بحياة السوقة والدهماء، عنايتهم بحياة الملوك والنبلاء؛ أخذ أدباؤنا يعطفون على أدب السواد، وسمعوا في رجفة الدهش إلى قول الأوربيين إن في أدبنا الموروث كنزا دفيناً. (في أصول الأدب الجزء الأول – أحمد حسن الزيات.)
وآية هذا الأدب الشعبي إنه خُلق ليعيش، ولديه القوة على الحياة لأنه جزء منها، فهو ينتقل من جيل لجيل، تحمله القلوب أو توحي به (أدب الشعب – حيرم الغمراوي – كتب للجميع)
 
أعلى