دراسة محمد اليعقابي - بين الجابري وطرابيشي :1- نظرية العقل

اليعقابي.jpg

ألف طرابيشي 5 كتب للرد على الجابري. أربعة منها تحمل عنوانا مشتركا هو "نقد نقد العقل العربي"، وتحته عناوين فرعية وهي: "نظرية العقل" في 375 صفحة (يتصدره إهداء للصحفي المغربي الراحل محمد الباهي)؛ "إشكاليات العقل العربي" في 319 صفحة؛ "وحدة العقل العربي الإسلامي" في 408 صفحة؛ "العقل المستقيل في الإسلام؟" في 424 صفحة. وأخيرا: "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، النشأة المستأنفة" في 636 صفحة؛ والذي وإن كان لا يحمل العنوان المشترك لأنه لا يرد مباشرة على الجابري إلا أنه يدخل ضمن مشروع أوسع يقصد إعادة قراءة شاملة للفكر العربي الإسلامي. ويختتم الكتاب بهامش كتب فيه طرابيشي: "فيما كانت مسودات هذا الكتاب قيد التصحيح في المطبعة جاءت الأخبار بنعي الجابري يوم 3/5/2010. وبذلك يكون هذا النبأ المحزن قد وضع نهاية إضافية لما أسميته في الكلمة التي كتبتها في رثائه: "ربع قرن من حوار بلا حوار".

2162 صفحة ثمرة قراءة لأكثر من ألف مرجع على مدى ربع قرن، حسب تصريح طرابيشي، تشهد لجهد لا نظير له في الفكر العربي. زد على هذا تعقيبه على مواقف الجابري في بعض كتبه الأخرى ومنها"مذبحة التراث" و "هرطقات" 1 و 2.

وما يفسر ضخامة هذا الرد هو كونه لم يكتف بالإشارة إلى مكامن الخلل في قراءة الجابري (من حيث الأمانة للنصوص وتأويلها)، بل أعاد قراءة التراث العربي الإسلامي ليقدم صورة أكثر وفاء للمراجع. حتى أن القارئ "ينسى" في غالب الأحيان أن الشرارة التي اشعلت المشروع هي كتب الجابري. زيادة على كونه يضع الثقافة العربية الإسلامية في سياقها التاريخي العام، ولم يختزل ما سبقها في تراث يوناني إيجابي وآخر فارسي وغنوصي سلبي.

يقول طرابيشي أنه كان من المعجبين بمشروع الجابري الذي يعرفه شخصيا لأنه كان زميلا له في الدراسة في جامعة دمشق. لكن سرعان ما بدأ الشك يداخله عندما شرع في الرجوع إلى المصادر الأصلية التي ادعى الجابري أنه اعتمدها. والبداية كان محورها إخوان الصفاء الذين صنفهم الجابري ضمن التيارات المعادية للمنطق؛ وقد استغرب طرابيشي هذا التصنيف، خاصة وأن كل قراءاته السابقة حولهم كانت تصنفهم ضمن العقلانيين وأنصار المنطق. وعندما بدأ في تدقيق استشهادات الجابري بالرجوع إلى مؤلفاتهم، اكتشف أنه تجنى عليهم. وأن شواهده على لا عقلانيتهم المزعومة عبارة عن مقتطفات مفصولة عن سياقها العام حتى يتسنى له تقويلها عكس المنظور العام الذي وردت فيه.

ولهذا جاءت مقدمة "نظرية العقل" (الطبعة 4) قاسية في حق الجابري، إذ يقول طاربيشي:" ومن ثم اندفعت أتحرى عن شواهد الجابري وأتحقق منها واحدا واحدا، سواء أكانت عربية أو أجنبية، فانفتح عندئذ أمامي باب أكبر للذهول: فليس بين مئات شواهد الجابري في "تكوين العقل العربي" سوى قلة قليلة ما أصابها تحريف أو تزييف أو توظيف بعكس منطوقها. ومن ثم ارتددت نحو "تكوين العقل العربي" أقرأه بعين جديدة وبمحاسبة نقدية صارمة. وعندئذ اكتشفت أن الزيف – ولا أتردد في استعمال هذه الكلمة-يكمن في الإشكاليات نفسها، وليس فقط في تعزيزاتها وحيثياتها من الشواهد" (ص 9) "والحال أن كل نقد يكتفي بمناقشة الإشكالات يبقى أسيرا لها. فالمطلوب، قبل دحض النتائج، تفكيك الإشكالات نفسها. فأسئلة الجابري، لا أجوبته، هي الملغومة." (ص 7) والأخطر في نظر طرابيشي هو "أن الجابري، بالقوة التي يتبدى عليها خطابه وبالشهرة التي نالها وبإحكام الاشكاليات التي اعتقل فيها العقل والتراث العربيين، قد بات يشكل ما أسماه غاستون باشلار عقبة ابستمولوجية." (ص 8)

وبناء على هذا التشخيص اتخذت ردود طرابيشي وجهين، وجه يهدف إلى إعادة قراءة مراجع الجابري للتأكد من إخلاص القراءة للمرجع؛ وبما أنه غالبا ما يكتشف التحوير الذي تدخله الإشكالية الجابرية على النصوص فإنه يقوم بتقديم التأويل المطابق للمراجع.

وأود في هذا المقال أن أقدم للقارئ خلاصة لكتب طرابيشي الخمسة، ابتداء ب"نظرية العقل".

يشتمل كتاب "نظرية العقل" على خمسة فصول: خصص الأول لنظرية العقل وبالضبط إلى تعريف العقل المكوِن (بكسر الواو، والذي يقوم على "المبادئ الكلية الضرورية") والعقل المكوَن (بفتح الواو: وهو "منظومة المبادئ المقررة والمصاغة التي لا تتغير إلا ببطء شديد بحيث يمكن اعتبارها، من منظور الأفراد وظروف الحياة، بمثابة حقائق أبدية") بالرجوع للمصدر الأصلي وهو آندري لالاند، في حين يبدو أن الجابري اكتفي بالنقل عن القاموس الفلسفي لبول فولكيي (ما قد يفسر اللبس في التعريف) مدعيا أنه قرأ لالاند في الأصل. أما جوهر المشكلة فيكمن في كون الجابري أساء توظيف المفهومين، فعوض استعمال العقل المكوٍن لمساءلة العقل المكوَن العربي الإسلامي ككل موحد "برد مختلف تجليات هذا العقل في مجالات الفقه وعلم الكلام والتصوف والفلسفة إلى البنية العضوية التي تصدر عنها، فإنه سيعمد إلى تشطير هذا العقل تشطيرا ثلاثيا وقطعيا إلى عقل بياني وعرفاني وبرهاني" (ص 19-20)، ثم يدخل "طرفا في الحرب وبانتصاره لطرف ضد الأخر، ما جعل من نقده للعقل العربي الإسلامي جزءا من هذا العقل واستطالة له"..."وعندما يخوض شطر من العقل المكوَن حربا ضد شطر آخر منه، فإن هذه الحرب، أيا كانت حدتها وضراوتها، لا يمكن أن ترقى إلى أعلى من مستوى السجال. فهي تبقى حربا أيديولوجية، ولا ترقى أبدا إلى مستوى النقد الابستيمولوجي". (ص 24)

في الفصل الثاني ينتقد طرابيشي التوظيف المركزي الاثني لنظرية العقل التي تمنح للعرب واليونان وأوروبا امتيازا على باقي الشعوب بصفتها هي وحدها التي عرفت "التفكير النظري العقلاني بالشكل الذي سمح بقيام معرفة علمية أو فلسفية أو تشريعية منفصلة عن الأسطورة والخرافة ومتحررة إلى حد كبير من الرؤية "الاحيائية" .إذ يدعي الجابري أن هذه الحضارات الثلاثة "هي وحدها التي أنتجت ليس فقط العلم، بل أيضا نظريات في العلم، إنها وحدها – في حدود علمنا - التي مارست ليس فقط التفكير بالعقل، بل أيضا التفكير في العقل" (ص 26 في "نظرية العقل"... و17-18 في "تكوين العقل العربي")"

ولدحض هذا الرأي يعرض طرابيشي خلاصات باحثين أظهروا إسهامات الصين والهند والفرس وحضارات ما بين النهرين والفينيقيين ومصر في تاريخ العلوم والفكر عموما. وأن بين هذه الحضارات واليونان استمرارية وتبادل وليس قطيعة. كما بين أن الفكر اليوناني نفسه لم يكن خاليا من الخرافة والأساطير. وفي أحد الهوامش يقول طرابيشي: " ليت الجابري توقف قليلا بالمقابل عند المدرسة "الاستشراقية" العربية الإسلامية. فلا البيروني ولا ابن النديم ولا صاعد الأندلسي ولا غيرهم من "المستشرقين" ومؤرخي "الأمم" في التاريخ العربي الإسلامي ظلموا "العقل الهندي" بمثل ما ظلمه الجابري في متابعته اللامشروطة لتحيزات النزعة الاستشراقية الأوروبية العائدة تاريخيا وابستيا إلى الفرن التاسع عشر. أفلا نجد مؤرخا مبكرا مثل اليعقوبي المتوفي عام 284 ه يقول بالحرف الواحد: "الهند أصحاب حكمة ونظر، وهم يفوقون الناس في كل حكمة، فقولهم في النجوم أصح الأقاويل، وكتابهم فيه "السندهند" الذي منه اشتق كل علم من علوم مما تكلم فيه اليونانيون والفرس وغيرهم، وقولهم في الطب المقدم... ولهم في المنطق والفلسفة كتب كثيرة في أصول العلم، منها كتاب طوفا في علم حدود المنطق، وكتاب ما تفاوت فيه فلاسفة الهند والروم، ولهم كتب كثيرة يطول ذكرها ويبعد عرضها" (مقتبس من "تاريخ اليعقوبي") (هامش ص 101-102)

ويخص الفصل الثالث ل "هجاء العقل العربي بالضدية مع العقل اليوناني". وفيه يبين كيف أن الجابري بعد أن وضع العقل العربي بين العقلين اليوناني والأوروبي قام ب "تسليط النار عليه من الطرفين" (ص 119). والحال أن المركزية الاثنية الأوروبية تعيد إنتاج نفسها بقلم الجابري الذي يتبنى، بدون محاكمة تاريخية أو نقدية، أسطورتها الأولى والأخطر بإطلاق، والقائلة باستمرارية غربية، تاريخية وجغرافية، بين "العقلين" اليوناني القديم والأوروبي الحديث. (ص 120) وبعد أن استبعد الشرق كله من دائرة العقل، حصر هذا العقل في حيز جغرافي يعمد باسم "الغرب" (ص 120)

وهنا يبدأ طرابيشي عرض عملية "تغريب اليونان" (كما سماها بيير روسي، وهو اختصاصي في المباحث المتوسطية) بواسطة مصادرة expropriation بترت التراث اليوناني عن جدوره المتوسطية ورحلته إلى أروبا الغربية وامتداداتها الأطلسية. (ص 121). والجابري عندما يضع العقل العربي في موقع الضدية الماهوية مع العقلين اليوناني والأوروبي الحديث، وعنما يوحد العقلين تحت اسم "العقل الغربي"، وبالمضادة مع العقل العربي، فإنما يكرس عملية المصادرة اللامشروعة والتغريب القسري للتراث اليوناني الذي يبدو وكأن الصراع على ملكيته يشكل بندا رئيسيا في مشروع الحداثة الغربية لبناء هويتها على أساس من العمق الحصاري. (ص 122) وفي الهامش يلاحظ كيف "يميل بعض مؤرخي الحضارة الغربيين –يؤيدهم في ذلك بعض ضيقي الأفق من مؤرخي الحضارة العربية الإسلامية – إلى اعتبار الإسلام بحد ذاته عامل القطع الأكبر مع التراث اليوناني. ونحن لا ننكر أن الحضارة العربية الإسلامية أقامت مع التراث اليوناني، بحكم عاملي الدين واللغة معا، حواجزا، ولكنها مدت جسورا. فأكبر عملية ترجمة شهدها التاريخ قط، قبل مولد الحداثة الغربية، كانت تلك التي أنجزتها الحضارة العربية الإسلامية لإعادة استدماج التراث اليوناني. والواقع أنه لم تحدث قطيعة "إسلامية" مع هذا التراث إلا مع دخول العالم الإسلامي نفسه في طور "انحطاط"" (هامش ص 122)

ويحذر طرابيشي من إسقاطات المركزية الغربية الحديثة على العصور القديمة، بما فيه التقسيم الجغرافي: "غرب"، "شرق". ويفضل الكلام، في ما يتعلق بالعالم القديم، عن "دائرة حضارية ذات اتصالية جغرافية واضحة تتطابق إلى حد كبير مع ما نسميه اليوم بالحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وتشمل اليونان الكبرى والصغرى وآسيا الصغرى وسوريا وما بين النهرين ووادي النيل والقسم الشرقي من شمال افريقيا". ويطلق طرابيشي على هذه الدائرة الحضارية اسم "الدائرة الآرسامية" (آرية سامية). (ص122/123)

وعرفت هذه المنطقة ظاهرة ازدواجية لغوية، إذ "أضحت اليونانية، في صيغتها الكونية Koiné المشتركة، هي لغة الكتابة والثقافة العالمة لا في أثينا وحدها، بل كذلك في الإسكندرية وانطاكية وفرغامس ودمشق والرها ونصبين وحران وجنديسابور وعشرات من المدن الأخرى..." (ص 123)

ويخصص طرابيشي صفحات للحديث عن تعدد الأصول الجغرافية والاثنية لكثير من صناع التراث اليوناني، فهذا التراث الذي يسمى يونانيا ليس من صنع اليونان وحدهم. كما يتطرق لكثير من المصطلحات التي لا يمكن فهمها بدقة إلا بردها لأصولها السامية، مثل: Sophose ومصدرها الشافي، historia أسطورة،noos النفس، Chaos خواء، logos لغة، Eros إيروس، cosmos كسم. (وفي أماكن أخرى من مؤلفاته: chronos قرن... وأيضا أسماء أعلام مثل: Kadmos القادم، Europa من الغروب ...)

ويرى طرابيشي أن "المصادرة الأخطر بإطلاق هي تلك التي جرت في مضمار الفلسفة. فبحجة أن العقلية السامية تجهل الملكة النظرية جرى بتر الفلسفة المكتوبة باليونانية عن جذورها المتوسطية الشرقية، وتم تعميدها فلسفة غربية، وصارت تحتل موقعها بهذه الصفة وبهذه التسمية لا في تواريخ الفلسفة العامة فحسب، بل حتى في تواريخ الفلسفة الغربية الحاملة لهذا العنوان بالذات". ويقدم إميل برييه "خير مثال على كيفية اشتغال المركزية الأوروبية وطريقتها في مصادرة الفلسفة اليونانية وتغريبها". (ص 168)

وفي الفصل الرابع يتطرق ل"تطور مفهوم العقل في الحداثة الأوروبية". وفي بدايته يقول طرابيشي: "والحال إن وحدة الهوية بين العقلين اليوناني والغربي هي المصادرة الابستمولوجية الكبرى التي يبني عليها الجابري مشروعه في "نقد" العقل العربي بالضدية معهما. ووحدة الهوية هذه تفرض نفسها كنقطة انطلاق كما كنقطة وصول. فإذا فرضناها نقطة انطلاق قلنا أن العقل العربي لا بد أن يكون ضدا للعقل الغربي بقدر ما هو ضد للعقل اليوناني باعتبار وحدة الهوية بين العقلين الأخيرين. وإذا فرضناها نقطة وصول قلنا: ما دام العقلان اليوناني والغربي واحدين في الهوية، فإن العقل العربي لا يكون ضدا لأولهما بدون أن يكون ضدا في الوقت نفسه، وبالقدر نفسه، لثانيهما" (ص 193)

ويلاحظ طرابيشي أنه إذ كان بالامكان المقارنة بين العقل اليوناني والعربي الاسلامي لأنهما ينتميان إلى "فضاء عقلي متشابه"، فإنه من الاجحاف مقارنته بالفكر الغربي الحديث والمعاصر الذي تجاوزهما معا بفضل الفتوحات العلمية التي قلبت رأسا على عقب تصور الانسان للكون.

لكن الأخطر هو كون محاكمة الجابري للعقل العربي الاسلامي تحكمها ثلاث مغالطات:

- فعندما يقول الجابري: "بقي الفكر الأوروبي الحديث، رغم كل ثوراته على "القديم"، متمسكا بفكرة "العقل الكوني" متصورا إياه على أنه القانون المطلق للعقل البشري" (تكوين العقل العربي ص 20)، فإنه يجهل أو يتجاهل أن فكرة "العقل الكوني" يعود إلى المدرسة الرواقية التي لم يكن أحد من ممثليها يونانيا، بل كانوا "شرقيين" أو "آسيويين" حسب تعبير عصرهم. (ص 220) والعقل الكوني الرواقي تصبغه صبغة دينية عميقة، وهو واقع حال القائلين به في الفلسفة الأوروبية الحديثة، ابتداء بمالبرانش وانتهاء بهيغل. (ص 223)

- المغالطة الثانية تكمن في كونه جعل من المطابقة بين العقل ونظام الطبيعة خاصية من خصائص الفكر اليوناني الغربي، في حين أنها من إنتاج الفكر العربي الاسلامي أصلا (ص224-226) . في حين أن الفكر الأوروبي الحديث لم ير النور إلا بتجاوزه لإشكالية المطابقة، بتغليبه لقطب العقل تارة ( ديكارت، بيركلي، كانط، هيغل) ولقطب الواقع تارة أخرى بيكون، لوك، هيوم، جيمس). (ص 228)

- أما المغالطة الثالثة فتكمن في "المطابقة الجزئية الموضوعة على لسان كورونو بين "العقل الذاتي" و"العقل الموضوعي" (220). وهنا أنبه القارئ إلى الخلل الحاصل في تحرير هذا الجزء من الفصل، إذ لا وجود للرقم 3 (الذي من المفروض أن نجده في الصفحة 250 التي يبدأ منها التطرق لكورنو) كما هو الشأن بالنسبة للمغالطة الأولى والثانية. والأمر لا يتعلق بقراءة الجابري لكورنو فحسب بل يشمل قراءته أيضا لألمو وباشلار، والابستمولوجيا المعاصرة بصفة عامة، ويتهمه بأنه أساء فهمها، وإلا لما ركز على عامل الاستمرارية بينها وبين المفاهيم المنطقية القديمة. (ص 250- 279)

في الفصل الخامس يتطرق إلى "العقل والعقلية". يقول طرابيشي أن الجابري يدعي بأنه يرفض مفهوم العقلية التي "تعني حالة ذهنية فطرية وطبيعية وقارة تحكم نظرة الفرد والجماعة كما تحكم العوامل البيولوجية الموروثة سلوكهما وتصرفاتهما" (ص 26 "تكوين العقل العربي")، إلا أن "القسط الأعظم من مديونية الجابري في نظرية العقل ونظرية الثقافة يعود حصرا إلى هيغل ورينان" اللذان يعدان من ممثلي المدرسة العرقية الثقافية الذين يؤثرون استعمال مفهوم "الروح" عوض "العقلية" لأنه أقدر على اختراق جدار الزمنية والتاريخية. (ص285 - 286)

والمقارنة التي يقيمها الجابري بين العقل اليوناني والعقل العربي تقيم بينهما تمايزا نوعيا، بل أنه يتحدث عن "روح عقلانية يونانية" تفترض بأن ثمة "طريقة يونانية للتفكير" تكرس اليونانيين شعبا أو عرقا من العقلانيين البرهانيين بقدر ما تكرس "المشرقية" المشرقيين عرفانيين لا عقلانيين. (ص 291)

ويعطي طرابيشي ثلاثة أمثلة على "هذه المزايدة على العقل اليوناني من خلال المناقصة على العقل "المشرقي"" (ص 293)

المثال الأول يتعلق باللغة، ونظرة الجابري إلى العلاقة بين اللغة والفكر التي بنى عليها فصل "الأعرابي صانع العالم العربي" (في "تكوين العقل العربي")، حيث يحاول البرهنة على أن هناك مفاهيم مرتبطة بالقوالب النحوية المنطقية للغة، مثل مفهوم الزمان. لكن طرابيشي يبين من خلال المقارنة الفعلية للغتين العربية واليونانية تهافت براهين الجابري. (ص 284-307)

والمثال الثاني يتعلق بالسياسة، وبابن خلدون تحديدا، إذ يقول الجابري: "إن ما يلفت النظر في الخطاب السياسي الخلدوني هو أنه خطاب تهيمن فيه المفاهيم الدالة على الاستبداد والعنف " (ص 161 "تكوين العقل العربي")، على عكس المفاهيم السائدة في الأدبيات السياسية اليونانية. وهنا يرد طرابيشي ردا مزدوجا، إذ يبين أن الجابري يخطئ في حق ابن خلدون (وكأنه نسي أطروحته حول «العصبية والدولة" والتي كان فيها أكثر موضوعية) بتغييبه لمفهوم العدل رغم حضوره المركزي فيه. وهو في المقابل يسقط في فخ أمثلة اليونان ويسقط على نظامها السياسي مفاهيم حديثة أبعد ما تكون عن التاريخ السياسي لليونان والمعنى الحقيقي للمصطلحات والمفاهيم كما كانت تفهم آنذاك (فالحرية كانت تعني فقط أن الشخص ليس عبدا، والمواطنة تعني الانتماء لإحدى قبائل أثينا وليس ما تعنيه اليوم). زيادة على أن العلاقات الداخلية والخارجية لليونان كانت تتميز بكثير من العنف. (ص 307-344)

أما المثال الثالث فيتعلق بما ادعاه الجابري بكون العقل في الثقافة الاغريقية الأوروبية يتحدد بثابتين: أ- اعتبار العلاقة بين العقل والطبيعة علاقة مباشرة؛ ب- الإيمان بقدرة العقل على تفسيرها والكشف عن أسرارها. وهما في الواقع يشكلان معا ثابتا بنيويا واحدا قوامه تمحور العلاقات في بنية هذا العقل حول محور قطباه: العقل والطبيعة (ص 344) . بينما ما يتميز به العقل العربي الإسلامي فهو كون العلاقات فيه تتمحور حول ثلاثة أقطاب: الله، الانسان، الطبيعة؛ من الممكن اختزالها في الله والانسان (ص345). ويرى طرابيشي أن المشكلة في هذا التقطيب تكمن في التماهي الذي تقيمه بين العقل اليوناني والأوروبي الحديث رغم الهوة التي تفصل بينهما، والتي لا تقل عن تلك التي تفصل هذا الأخير عن العقل العربي الإسلامي. كما يبين أن الله ليس غائبا في العقل اليوناني ولا في العقل الأوروبي الحديث، كما أن الطبيعة ليست غائبة في العقل العربي الإسلامي (344-375).
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى