دراسة ملفوف صالح الدين - بيبليوغرافيا القصة الجزائرية القصيرة ( النشأة و التطور)

تمهيد :
للقصة العربية عموما أصـول فـي أيـام العـرب الجاهليـة و فـي أشـكال القـص القرآنـي ، و أسـلوب المقامـات منذ فجر النهضة العربية ، لكن نشأتها بشكلها الفني المتطور ارتبطت بالمنتصف الثاني من القـرن العشـرين ، بعـد احتكـاك بنتاجـات فكريـة و أدبيـة فـي الغـرب ، و قـد اختلفـت فتـرات التـأثر بـين أقطـار الـوطن العربـي ، فكـان لمصر قصب السبق في ذلك بشكل بارز ، حين كان لجهود محمود تيمور و عبد القادر المـازني و طـه حسـين و غيـرهم دور و اضـح فـي الريـادة . و إذا كـان هـذا حـال القصـة العربيـة عمومـا ، فمـا هـو حـال القصـة الجزائريـة
خصوصا ؟ و ما موقعها في الآداب العربية ؟ و ما مراحل تطورها حديثا ؟ .
يهدف هذا البحث البيبليوغرافي إلى كشف النقاب عن الإرهاصات الجزائرية الأولى للقصة القصيرة ، التي ما فتئت توصف بالمتعثرة لارتباطها بالحكاية و المقامة و المقالة القصصية ، قبل أن ترسم لنفسـها طريقـا للفنيـة و النضوج حدثا و شخصية و لغة و أسلوبا .
و هـذا البحـث بقـدر مـا هـو تتبـع للبـدايات القصصـية الجزائريـة الأولـى ، بقـدر مـا هـو رصـد للمنحـى الفنـي التصاعدي الذي شهده هذا الجنس الأدبي ، علـى يـد كتاب يشـهد لهـم القاصـي قبـل الـداني بمجهـوداتهم المبذولـة في سبيل إشراك اسم الجزائر في بوتقة الكتابات العربية المرموقة و حتى العالمية .

1 - نشأة القصة الجزائرية القصيرة :


إن الحديث عن القصة الجزائرية القصيرة هو في حد ذاته ضرب من المجازفة ، ذلك لأن معظـم البـاحثين الـذين خاضـوا فيهـا لـم يتفقـوا علـى رأي واحـد يـؤرخ لبـداياتها . فهـا هـو الـدكتور عمـر بـن قينـة يعتبـر سـنة 1908 المعلـم البـارز لظهـور هـذا الفـن 1 ، و هـا هـو الـدكتور عبـد الملـك مرتـاض يرجعهـا إلـى سـنة 1925 حـين أخـرج محمـد السـعيد الزاهـري قصـة « فرانسـوا و الرشـيد» 2 و هـاهي عايــدة أديــب باميــة تـؤثر سـنة 1926 كإيـذان لمـيلاد هـذا الفـن فـي الجزائـر 3 ، أمـا الـدكتور عبـد االله الركيبـي فقـد عـالج بـدايات هـذا اللـون النثـري - بكثيـر مـن الـتحفظ - فـي مرحلـة زمنيـة مفتوحـة لا تنتهـي بسـنة معينـة كمـا أنهـا لا تبتـدئ بسـنة معينـة ، و هـذا هـو الـوارد فـي
كتابـه ( القصـة القصـيرة فـي الأدب الجزائـري المعاصـر ) . و لأننـا فـي هـذا البحـث لسـنا بصـدد تغليـب رأي علـى الآخــر ، ارتأينــا أن نجمــع بــين كــل هــذه الآراء و غيرهــا ، دون إصــدار حكــم صــارم يــؤرخ لبــدايات هــذا الفــن فــي الجزائر .
لقد وسمت بدايات القصة الجزائرية القصيرة بالمتعثرة ، لارتباطها بالحكايـة و المقامـة و المقالـة القصصـية ، فعبــرت بــذلك عــن قصــورها الفنــي ، و عــدم مقــدرة أصــحابها علــى امــتلاك آليــات الكتابــة التــي تجعــل مــن هــذه المحاولات محكمة و ناضجة ، و في مقدمة هذه المحاولات قصة « المنـاظرة بـين العلـم و الجهـل » المكتوبـة سـنة 1908 بقلم محمد بن عبد الرحمن الديسي . إن منطوق عنوان هذه القصة يدل على الجدل الـذي تصـور الكاتـب حدوثـه بـين العلــم و الجهـل ، فهيـأ لـذلك شخصـيتين قصصـيتين ، إحـداهما تنطـق بلسـان العلـم و الأخـرى بلسـان الجهـل ، و ألحـق بهمـا شخصـية ثالثـة تنطـق بلسـان العـدل و تكـون حكمـا فـي هـذا الجـدال . و قـد جـاءت عناصـر
هـذه المنـاظرة مزيجـا بـين شـكل الحكايـة و المقالـة القصصـية الاجتماعيـة ، و المقامـة الأدبيـة ، مـع بـروز واضـح لسمات هذه الأخيرة على حساب الأشكال الأخرى .
بعد الحرب العالمية الأولى ، أصبحت الصحافة الوطنية بوجهها الإصلاحي قبلة للكلمة - شعرا و نثرا - حـين فتحـت أبوابهـا للإنتـاج الأدبـي ، مخصصـة لــذلك أركانـا ثابتـة أو دوريـة بعنـاوين مختلفـة ، مثـل : المقــال الأدبـي ، معـرض آراء و أفكـار ، القصـص الأدبـي . فانطلقـت فيهـا المقالـة القصصـية إلـى جانـب الحكايـة العامـة و الحكاية الأدبية و المقالة الصحفية و الدينية و سواها .
فـي سـنة 1925 نشـرت جريـدة الجزائـر قصـة مثيـرة تحـت عنـوان « فرانسـوا و الرشـيد » لمحمــد الســعيد الزاهـري ، و قـد أثـارت هـذه القصـة إعجابـا شـديدا و ضـجة أدبيـة كبـرى ، لموضـوعها الجـريء الـذي يعـالج قضـية المسـاواة السياسـية فـي الجزائـر بـين الجزائـريين و الفرنسـيين ، ممـا أودى بحيـاة الجريـدة بعـد تعطيلهـا مـن السـلطات
الاسـتعمارية ، و لـم يمـض علـى حياتهـا شـهر واحـد . لـم يـثن هـذا العمـل المشـين مـن عزيمـة الزاهـري ، فـأمعن فـي كتابة المجموعات القصصية و نشرها في بعض المجلات القاهرية كالرسالة للزيات و الفتح لمحب الـدين الخطيـب، و لعل أجمل هذه المجموعة و أقربهـا إلـى الفنيـة « عائشـة » «و الكتـاب الممـزق » «و إنـي أرى فـي المنـام »1933 ، هذه الأخيرة التي تصور بعض مظاهر الشعوذة التي كان شيوخ الطرق الصوفية أو بعض الأشـرار مـنهم يتسلحون بها للإيقاع بضحاياهم .
فـي ســنة 1926 كتــب علــي بكــر الســلامي قصــة « دمعــة علـى البؤســاء » ، حيــث هــاجم الطــرقيين و اتهمهم باستغلال الشعب لمآربهم الذاتية ، و قد اعتبرهم أشرارا شياطين ، و شيوخا مزيفين ، و بهذا الصنيع اقترب عمله هذا من لهجة الإصلاحيين المنتقدة لرؤساء المنظمات الدينية لا سيما المرابطين منهم . 4 .
يعتبر محمد العابد الجلالي من المبكرين في كتابة هذا النوع الأدبي ، و من المصرين على القفـز بـه إلـى مسـتوى فنـي مقبـول . و قـد كتـب مجموعـات قصصـية نشـرها فـي مجلـة الشـهاب الباديسـية طـوال سـنوات 1935 ،1936 ، 1937 ، باسـم مسـتعار هـو رشـيد ، و هـذا دليـل - فـي المقـام الأول - علـى تـأثير الزاهـري فـي الكتـاب الجزائريين الذين حاولوا معالجة الفن القصصي قبل الحرب العالمية الثانية . 5
كتـب محمـد العابـد الجلالـي سـبع محـاولات فـي مجلـة الشـهاب ، يمكـن اعتبـار أربـع منهـا ذات صـلة وثيقـة بالفن القصصي و هي: « السعادة البتراء » ماي 1935 و «الصائد فـي الفـخ » جـوان 1935 و« أعنـي علـى الهــدم أعنــك علــى البنــاء » جويليــة 1935 و «علــى صــوت البــدال » جــانفي 1937 . أمــا المحــاولات المتبقيــة الأخــرى: « تمــوز » أوت 1935 و« فــي القطــار » جــانفي 1936 و « بعــد الملاقــاة » فيفــري 1936 ، فهــي أدخل في باب الحكاية ، لأنها عدمت كثيرا من المقومات الفنية كالحبكة التـي كانـت منعدمـة فـي معظـم الأحـوال ، أو لأن شخصياتها جاءت شاحبة ، هزيلة ، فاترة التحرك .
سنكتفي من جملة المحاولات الناجحة بالحـديث عـن المحاولـة الثانيـة « الصـائد فـي الفـخ » ، التـي تصـور وقوع الشاب محمود الصياد في فخ حب الراعية الجميلة فاطمة ، و هو يهـم باقتنـاص طريدتـه فـي الغابـة ، لينتهـي هــذا الحــب بــالزواج . و نلاحــظ أن الجلالــي - بصــنيعه هــذا - قــد عــالج لأول مــرة فــي تــاريخ الفــن القصصــي الجزائـري ، عاطفـة الحـب ، معالجـة صـريحة ، ذلـك لأن المحـاولات السـابقة لـم تكـن تجـرؤ علـى تنـاول العاطفـة و إعطائها هذا الحظ الكبير من التأثير في تصرف الشخصيات ، فالحـب فـي الصـائد فـي الفـخ ، يـتحكم فـي تصـرف الفتاة فاطمة فيدفعها إلى الحركة و السؤال ، و يشتد أمره على الفتى محمود و كأنه واحد من الفتيان الـذين ألفنـاهم في الآداب العربية القديمة التي تتحدث عن وقوعهم صرعى من فعل الحب و الغرام .
من المحاولات القصصية التي يمكن الإشارة إليها ، و التي تنـدرج تحـت بـدايات القصـة الجزائريـة القصـيرة ، محاولة كتبها قاص مغمور يدعى ابن عيسى عبد القادر ، تحت عنوان « بين مؤودين ». 6 و يـدور موضـوع هذه المحاولة حـول فظـاعة الـوأد ، هـذه العـادة الشـنيعة التـي كانـت قائمـة فـي المجتمـع العربـي أيـام الجاهليـة . أمـا موضوع هذه القصة القصيرة فكان يتصل أساسا بالتذكير و الوعظ و الإرشاد .
نسـتخلص ممـا سـبق أن الفـن القصصـي فـي الجزائـر قـد ظهـر - علـى اسـتحياء - سـنة 1908 علـى يـد محمـد بـن عبـد الـرحمن الديسـي مـن خـلال قصـته « المنـاظرة بـين العلـم و الجهـل » ، و هـي محاولـة لا يمكـن تشبيهها إلا بحال الصبي الذي بدأ يـتعلم المشـي فـي أول أيامـه ، فيخطـو حينـا و يسـقط حينـا آخـر . و فـي صـيف 1925 ، اســتطاع هــذا الصــبي أن يقــف علــى قدميــه دون ترهــل أو فقــدان للتــوازن مــن خــلال قصــة « فرانســوا و الرشيد » لمحمد السعيد الزاهري ، هذا الأخير الذي تمكن بفضل خياله الخصب ، و قلمه البليغ ، أن يعطـي لهـذا الجنس الأدبي نوعا من البعد الفني على قدر مـا قـد يكـون فيـه مـن البسـاطة و السـذاجة ، و هـذا مـا أهلـه لاحـتلال ريادة هذا الفن في الجزائر . ثم جاءت محاولات محمد العابد الجلالي ، التي لم تكن إلا خطـوات ثابتـة فـي سـبيل السير الصحيح بهذا الجنس الأدبي إلى شاطئ الفنية ، حين حاول الخروج عن المسار الذي رسمه الزاهري للقصة، بإدخال عنصر الحب و الحركة عليه .
و مهما يكن من أمر ، فإن هذه البداية الأولى في نشأة القصة الجزائرية القصيرة قـد انطلقـت طموحـة إلـى تأصيل فن قصصي واعد بالجدة و القوة و الأناقة و الحيوية و الفنية ، خصوصا بعد مطلـع الخمسـينيات ، و هـذا مـا لا يخفـى علـى عاقـل يتصـفح النمـاذج اللاحقـة للفتـرة السـالفة الـذكر ، فـي كتابـات تناقلتهـا الصـحف المحليـة و العربيـة ، فـي الـداخل و الخـارج ، و علـى هـذا الأسـاس مـن المجحـف حقـا إنكـار مـا كـان لظهـور هـذه المبـادرات الأولى من آثـار إيجابيـة و طيبـة علـى حيـاة الفـن القصصـي فيمـا بعـد الحـرب العالميـة الثانيـة ، و هـذا مـا سـنحاول تأكيده في الشق الثاني من هذا البحث .

2 - تطور القصة الجزائرية القصيرة :


بانتهـاء الحـرب العالميـة الثانيـة ، و انتشـار الصـحافة فـي الجزائـر مـن جديـد بعـد الحظـر الـذي ضـرب عليها ردحا من الزمن من الاحتلال الغاشم - ظهر جيل جديد من الكتاب ، عالجوا الفن القصصي بنوع من الفهـم و التوفيق معا ، مع اتخاذ موقـف حـازم مـن ظلـم الإدارة الاسـتعمارية و التقاليـد الباليـة السـائدة ، وهـو موقـف ملـيء بالتشـاؤم و الحنـق ، زاده تأكيـدا الفسـاد الأخلاقـي و الاجتمـاعي ، و حـوادث 08 مـاي 1945 ، هـذه الأخيـرة التـي كرست النية الشريرة و السيئة لدى إدارة الاحتلال الفرنسي .
لقـد عـالج القصاصـون الجزائريـون كثيـرا مـن الموضـوعات بعـد الحـرب العالميـة الثانيـة ، لعـل أهمهـا علـى الإطلاق ما يأتي :

-أ موضوعات أخلاقية :


فـي سـنة 1949 نشـرت مجلـة صـوت المسـجد قصـتين اثنتـين تحـت عنـوان « زليخـة و العفـة تتـذمران مـن الحمامات البحرية الماجنة» 7 و« العظمة في أكواخ الفقراء» 8 ، لكاتب مجهول لم يذكر اسمه الصريح ، و إنمـا رمـز إليـه بــالمحبوب . و منطـوق عنـوان القصـتين يـوحي بالمـدلول المقصـود ، و هـو الحـث علـى الأخـلاق و محاربة الانحلال بطريقة و عظية خطابية . و على الرغم من أن الكاتـب يقـيم موضـوع قصـته هـذه علـى الحـب، فإن الهدف الحقيقي كان يتمثل في طلب الفضيلة و دفع الرذيلة ، مع ترغيب الحجاب إلى النساء المسلمات .

ب - موضوعات اجتماعية :


من القصص الاجتماعية المنشورة على صفحات الجرائد و المجلات الجزائرية قصتا « شـرط الـزواج »9 «و اللقطة » 10 ، لكاتب مجهول، بيـد أن الأقـلام النقديـة تـرجح كفـة الكاتـب أحمـد رضـا حوحـو بوصـفه محـرر الجريدة ( الشعلة ) التي نشرت فيها القصتين . 11
مـن رواد القصـة الاجتماعيـة الجزائريـة القصـيرة أحمـد بـن عاشـور ، و مـن ذلـك قصـة بعنـوان : «عـانس تشـكو » ، نشـرت فـي العـدد 129 مـن البصـائر الثانيـة الموافـق : ل 28 أوت 1950 و موضـوع القصـة لـم يكـن مألوفـا آنـذاك ، يصـور معانـاة عـانس بسـبب حـرص والـديها المفـرط علـى زواجهـا السـعيد ، فبـين رفـض والـدها الفلاح كل المختطبين الراغبين فيها ، على أمل العثور لها علـى زوج موسـر ، و بحـث الأم عـن زوج ذي أم طيبـة، تبقى إرادة الفتاة معلقة آملة في فتى تميل إليه نفسها .
و فـي 17 ديسـمبر 1951 ، تكفلـت البصـائر الثانيـة بنشـر أقصوصـة لأحمـد بـن عاشـور تحمـل عنـوان «زواج عصري » ، و هي أقصوصة ذات موضوع عنيف ، جراء حوادثه التي تصور صـراعا حـادا يـدور بـين الأب الذي أزمع على تزويج ابنته من شاب محترم يختاره هو ، و البنت التي كانت قـد اختـارت عشـيقا لهـا تبادلـه الحـب و الغرام في الشوارع و الطرقات و الحدائق العامة .
لأحمد بن عاشور أقصوصة اجتماعية أخرى اختار لها عنوان « تضـحية » المنشـورة فـي البصـائر الثانيـة - كذلك - بتاريخ 6 فيفري 1952 (العـدد 216) . و قـد عـرض صـاحبها فيهـا عنصـرين اجتمـاعيين ، أولهمـا: الإقبال على السحر و الفزع إليـه فـي أحـوال اليـأس الشـديد و فقـدان الثقـة ، و ثانيهمـا : التضـحية بالعـادات و التقاليد الوطنيـة و الاجتماعيـة فـي سـبيل نيـل لـذة أو الحصـول علـى غايـة معينـة ، فنجـد الشـاب يوسـف ينسـلخ مـن كل ما كان فيه من تقاليد من حيـث اللبـاس و الحـديث و السـلوك العـام ، كـل ذلـك بسـبب عاطفـة الحـب الشـديدة وكسب ود من أحب على الرغم من عدم مبادلتها له تلك المشاعر و العواطف .
كان كتاب القصة القصيرة يتجاوبون مع مآسي مجـتمعهم ، و كـان الفقـر واحـدا مـن اهتمامـاتهم الرئيسـية، الذي عزوه بصورة عامة إلى الاحتلال الأجنبي لأراضيهم و لسياسته التمييزية . و قد ظهرت قصص تكشف عناوينها عن الوضع السائد في الجزائر من مثل: «من تاريخ بؤسائنا » و« من صـور البـؤس » و« المحرومون في الأرض الطيبة » . 12
من الأقلام النسوية القليلة التي عالجت هذه الحالة الاجتماعية المزرية نذكر الكاتبة زهـور ونيسـي ، التـي انتقـدت هـذه الأوضـاع فـي قصـتها « الأمنيـة » 13 ، حـين نقـرأ أن فتـى ماسـحا للأحذيـة يعبـر عـن أمنيتـه فـي أن يمتلك حذاءا جديدا ، مثل الحذاء الذي يلبسه أحد الفتيان الأوربيين و الذي كان يمسحه .

ج - موضوعات إصلاحية وطنية :


إن أولى الانتقادات الموجهة إلى سلطات الاحتلال كانت بسبب تدخلها في الشـؤون الإسـلامية الجزائريـة ، بتعيـين أئمــة متــواطئين معهـا و عــزل آخــرين رافضــين لهـا ، و كــان أئمــة الاســتعمار مجـرد ألعوبــة فــي يــد الإدارة الفرنسية ، و قد عبر الكتاب الجزائريون عن ذلك في مواضع كثيرة ، نذكر منهـا المحادثـة التـي أجراهـا أحمـد رضـا حوحو مع حماره عن الدين ، أو وصف أحمد بن عاشور لأولئك الأئمة بالممثلين أو السحرة و المشعوذين . 14
و لم يكن للحكومة الفرنسية أئمتها فحسـب ، بـل كـان لهـا أيضـا حجاجهـا الـذين يـؤدون مناسـك الحـج علـى نفقتهـا ، و قـد جـاء الهجـوم علـيهم مـن أكثـر مـن مصـدر ، فهـذا أحمـد بــن عاشـور مـثلا ينتقـدهم فـي اثنتـين مـن قصصـه: « مـن حـديث الحجـاج فـي الـدكاكين » 15 و «حجـاج فـي مقهـى » 16 . ففـي القصـة الأولـى يسـعى الكاتـب إلـى تبيـان نوايـا الحجـاج السـيئة ، و تسـخيرهم الحـج لأهـداف غيـر دينيـة ، ككسـب اللقـب أو التبـاهي بعـدد مرات الحج التي قاموا بها . أما القصة الثانيـة ، فينتقـد فيهـا الـذين أدوا مناسـك الحـج و لـم يعطـوا مـثلا صـالحا فـي الحياة .
و قد اشتملت سياسة الإصلاحيين أيضا استنكارا لموقف الطرقيين الذين ابتزوا أموال الشعب باسم الدين ، و هذا ما يجسده النموذج القصصي لمحمد شريف الحسيني المعنون بـ:« عروس تزف إلى قبرهـا » 17 ، حـين يعرض حالة شيخ منافق من خلال حكاية تشبه مسرحية طرطوف ( tartuffe ) لموليير .
و نجــد محمـــد الصــالح رمضـــان يعــالج موضــوعا إصــلاحيا وطنيــا ، اســتوحاه فيمــا يبــدو مــن المقــالات الإصـلاحية التـي كانـت تكتـب فـي البصـائر و اختـار لهـا عنـوان « القافلـة » . 18 و قـد طـرق موضـوعه بطريقـة رمزيـة طريفـة ظـل محافظـا علـى رمزيتهـا إلـى أن جـاوز نصـف الأقصوصـة ، و لـو اسـتطاع الحفـاظ علـى رمزيتهـا
حتى النهاية ، لكانت بحق ، أول محاولة ناجحة في كتابـة هـذه الموضـوعات فـي الفـن القصصـي فـي الجزائـر. و قد رمز الكاتب بهذه القافلة إلى أفراد الشعب الجزائري و بالأدلة الذين يقودونها إلى الزعماء الوطنيين .
كنـا قـد أشـرنا إلـى أقصوصـة محمـد شـريف الحسـيني ، التـي عـالج فيهـا حالـة شـيخ منـافق همـه الأول و الأخيــر ابتــزاز الأشــخاص و الإيقــاع بهــم ، بيــد أن أحســن مــن عــالج هــذا الموضــوع هــو أحمــد رضــا حوحــو فــي مجموعتـه القصصـية « نمـاذج بشـرية » 19 ، بتسـليط الضـوء علـى ألـوان مختلفـة مـن حيـاة عاشـها أفـراد اختلفـت مشاربهم و تباينت مصائرهم شـرفا و وضـاعة . و لعـل أهـم هـذه النمـاذج ، ذاك النمـوذج المجسـد فـي أقصوصـة «الشيخ زروق » ، الشيخ المشرف على عقده الستين ، تروج عنـه شـائعات كثيـرة أهمهـا التشـكيك فـي تدينـه ، بسـبب تصرفاته الخبيثة ، و مثالها إبرامه لصفقة شريرة يساعد فيها رجلا على حرمان شقيقته من الميراث و يطلـب مقابـل ذلك مبلغ خمسمائة فرنك .
قبل أن نطوي صفحة الموضوعات القصصية الإصلاحية الوطنية ، تجدر الإشارة إلى محاولات أحمد بن عاشور فـي هـذا الجانـب ، و هـذا مـا يتجلـى فـي قصصـه التاليـة: « لصـوص جبنـاء » «و تسـتاهل » و « فـي يوم إيقاف الحرب » «و لا أفارق الجزائـر ». و كلهـا قصـص تمثـل الاسـتمرارية الواضـحة للشـكل القصصـي فـي ميدان الإصلاح و الوطنية 20 .
لن نبرح هذا الموضوع دون التعريج على محاولات أبو العيد دودو القصصية ، التـي ضـمتها مجموعتـه «بحيرة الزيتـون » 21 ، و علـى رأسـها أقصوصـة « الفجـر الجديـد ». و هـي محاولـة يـدور موضـوعها حـول الثـورة التحريرية ، و قرار الالتحاق بها الذي أنجزه الزوجان عباس و خضراء .

-د موضوعات نفسية :


ممن عـالج هـذا الجانـب أبـو القاسـم سـعد االله فـي قصـة لـه بعنـوان « سـعفة خضـراء » 22. و مثـل هـذا الموضوع لم يكن مألوفا في الأدب القصصي الجزائري قبل ذلك . و يدور موضـوع قصـته حـول فتـى أنهـى دراسـته فوجد نفسه مضطرا للعودة إلى قريته ( قمار ) لغير ما هدف واضح ، أيكون مدرسا في مسجد القرية الجامع ؟ أم أن السـلطة الاسـتعمارية سـتحظره مـن ذلـك ؟ أيتـزوج نرجسـا الفتـاة ذات الخمـس عشـرة سـنة ، تلـك الصـبية الطاهرة ، النقية الساحرة ، كما تريد له أمه ؟ أم يركن إلى الوحدة و العزوبية ؟
لقد استطاع أبو القاسم سعد االله أن يدخل في هـذه القصـة عـدة عناصـر فـي موضـوعها ، و جعلهـا تشـتبك فيما بينها و تتصارع ، مثل : الثقافة ، القلق ، الشعوذة ، العادات و التقاليد ، العواطف و الميول ، بالإضافة إلـى مـا فيهـا مـن تبـاين فـي مواقـف الآبـاء و الأبنـاء ، و اخـتلافهم فـي النظـرة إلـى الحيـاة ، لا سـيما فـي موضوع الزواج .
لم يعدم أبو القاسم سعد االله - في قصته هـذه - أثنـاء كـل ذلـك ، وصـفا لتلـك الطبيعـة الصـحراوية الهادئـة بقيظها القائظ ، و شمسها المحرقـة ، و رمالهـا القاحلـة الصـفراء ، ثـم بنخيلهـا المخضـر ، و بعـض تلالهـا الوادعـة الجاثمة .

ھ - موضوعات عاطفية :


يبــدو مــن غيــر المتصــور أنــه فــي مرحلــة مبكــرة مــن تــاريخ الجزائــر - أي أواخــر الأربعينيــات و بدايــة الخمسـينيات - و بالنسـبة لقـراء كـانوا مـا يزالـون محـافظين ، و فـي بيئـة كـان الحـب فيهـا محظـورا و محرمـا ، أن تتناول القصة الجزائرية القصـيرة موضـوع الحـب ، فحتـى بالنسـبة للـروائيين الجزائـريين الـذين كتبـوا بالفرنسـية ، كـان الخوض في هذا المضمار ضـربا مـن التعـدي علـى الحـدود . و علـى أيـة حـال ، لـم يكـن الاهتمـام بموضـوع الحـب واسعا ، بل كان قاصرا على كتاب قلائل ، من أشهرهم أحمد رضا حوحو ، حين صب عناية شـديدة علـى مشـاكل الحب و ما ينجر عنها من عنت و عناء للآباء و الأبناء معا ، و من خيرة الأمثلة على ذلـك قصصـه المعروفـة : « صـاحبة الـوحي » «و فتـاة أحلامـي » «و خولـة » .... و غيرهـا مـن القصـص التـي ضـمتها هـذه المجموعـة 23 .
تحكي قصة « صاحبة الوحي » كيف أن شاعرا قد وقع في غرام فتاة كان يعتبرها مثاليـة ، فاكتشـف ذات يوم أنها ليست الملاك الذي اعتقده ، و إنما هي إنسانة كسائر البشر « ... و اكتشف ... أنهـا بشـر لهـا رذائلـه و لها أوضاره ، لها ضعفه و لها شهواته ... » . 24
هنـاك قصــة أخـرى لحوحــو تشــبه صـاحبة الــوحي ، حتـى كأنهــا جــزء منهـا أو اســتمرار لهـا هــي « القبلــة المشـؤومة » ، فقـد أحـب صـديق مكـي - مـن أصـدقاء الكاتـب - فتـاة جميلـة بعـد أن أغرتـه بهـا ، و بعـد وصـال و لقاءات ، و بعد أن يقبلها لأول مرة ، تتزوج فجأة من رجل آخر ، لتتركه يعاني من تباريح الهوى ما يعاني .
إن أحسـن نمـوذج فـي رأي النقـاد للقصـة القصـيرة ، فيمـا يتعلـق بالموضـوعات العاطفيـة إنمـا هـو «خولة».و هي قصة فنية استطاع أحمد رضا حوحو أن يثب بها إلى قمة الفن القصصي في الجزائر خلال هذه الفترة ، بسبب تعقيد الموضوع ، و تركيبه و تشبيكه ، مع عقدة لم تحـل إلا بقتـل خطيـب خولـة ، ذلـك الفتـى الثـري ، المستهتر الشقي ، الذي لم تكن خولة تميل إليه ، و لم يقم بقتله في ليل بهيم سـوى عشـيقها الـذي كانـت تهـواه و هو سعد .

الخاتمة :
بعــد هــذه الجولــة الســريعة التــي قادتنــا فــي دروب القصــة الجزائريــة القصــيرة ، هــا نحــن الآن نصــل إلــى محطتنا الأخيرة و المتمثلة في خاتمة هذا البحث ، التـي نحـاول مـن خلالهـا حوصـلة أهـم النتـائج المتوصـل إليهـا ، و أهمها على الإطلاق ما يلي :
1 - لـم يفصـل نقـاد الجزائـر فصـلا نهائيـا فـي بـدايات القصـة الجزائريـة القصـيرة ، التـي تراوحـت مـا بـين 1908 ،1925 ، 1926 ، مع تحفظ نقاد آخرين في إعطاء تاريخ محدد ، تماما مثلما فعل الـدكتور عبـد االله الركيبـي فـي مؤلفه ( القصة القصيرة في الأدب الجزائري المعاصر ) .
2 - أغلب الذين عالجوا تطور القصـة الجزائريـة القصـيرة ، أهملـوا بعضـا منهـا ، لسـبب أو لآخـر ، فعمـر بـن قينـة الـذي أشـار إلـى قصـة « المنـاظرة بـين العلـم و الجهـل » لصـاحبها محمـد بـن عبـد الـرحمن الديسـي ، لا يشـير إلـى قصة « فرانسوا و الرشيد » للزاهري ، و العكس هو الـذي حصـل مـع الـدكتور عبـد المالـك مرتـاض . و إذا كانـت عايدة أديب بامية قد أشارت إلى أن بدايات الفن القصصي في الجزائر كانت سنة 1925 ، و هذا هو الـوارد فـي كتابها ( تطور الأدب القصصـي الجزائـري 1925 – 1967)، فإنهـا لـم تـذكر قصـة « فرانسـوا و الرشـيد » ، و آثـرت قصـة « دمعـة علـى البؤسـاء » لكاتبهـا علـي بكـر السـلامي - التـي تكفلـت الشـهاب بنشـرها فـي جـزئين فـي
عددين 18 و 28 أكتوبر 1926 - لتكون أول قصة جزائرية قصيرة .
3 - محاولة القصاصين الجزائريين معالجة أهم الموضـوعات التـي كانـت تسـتهوي ألبـابهم و تعبـر عـن واقـع شـعبهم و مصيره السياسي ، لا سيما في الفترة الاستعمارية ، و بذلك تكون هذه الكتابات القصصية مرآة صـادقة للمجتمـع الجزائري آنذاك .
4 - لم نجد في جملـة المصـادر و المراجـع المعتمـدة التـي تحـدثت عـن الموضـوع النفسـي ، إشـارة إلـى كتابـة نفسـية غيــر كتابــة أبــو القاســم ســعد االله التــي اختــار لهــا عنــوان « ســعفة خضــراء » ، فكانــت هــذه الأخيــرة - بحــق - النموذج الفريد في هذا الموضوع .
5 - لقد اتخذت القصة الجزائرية القصيرة منحى فني تصاعدي ، حتى و إن لم يبلغ هذا الفن الأدبي منزلة رفيعة ، و هذا ما يؤكده التطور التدريجي من فترة لأخرى و من موضوع لآخر .
6 - هــذه البيبليوغرافيــا ليســت التصــنيف النهــائي للقصــة الجزائريــة القصــيرة ، بــدليل عــدم امتــدادها إلــى مــا بعــد الاستقلال ، و اكتفينا فيها بالأعمال التي كتبت قبله .

الإحالات
1 - انظـــر . عمـــر بـــن قينـــة . فـــي الأدب الجزائـــري الحـــديث ( تأريخـــا و أنواعـــا و قضـــايا و أعلامـــا ) . ديـــوان المطبوعـــات الجامعية . الجزائر . 1995 . ص 165 .
2 - انظــر . عبــد الملــك مرتــاض . فنــون النثــر الأدبــي فــي الجزائــر ( 1931 – 1954) . ديــوان المطبوعــات الجامعيــة . الجزائر . 1983 . ص 163 .
- 4 ،3 انظـر . عايـدة أديـب باميـة . تطـور الأدب القصصـي الجزائـري ( 1925 – 1967) . ديـوان المطبوعـات الجامعيـة
. الجزائر . 1982 . ص 306 .
5 - انظر . عبد الملك مرتاض . فنون النثر الأدبي في الجزائر . ص 167 .
6 - نشــرت هــذه القصــة فــي البصــائر . ع 157 الموافــق : ل 17 مــارس 1939 ، و قــد راجــع الــدكتور عبــد الملــك مرتــاض العددين 158 و 159 ، و لم يعثر فيهما على بقية المحاولة على الرغم من أنه كتب في ع 157 عبارة ( يتبع ) .
7 - مجلة صوت المسجد . العدد . 9 ماي 1949 .
8 - مجلة صوت المسجد . العدد . 13 ديسمبر 1949 .
9 - جريدة الشعلة . العدد . 27 قسنطينة . 1950 .
10 - جريدة الشعلة . العدد . 30 قسنطينة . جويلية 1950 .
11 - انظر . عبد الملك مرتاض . فنون النثر الأدبي في الجزائر . ص 181 .
12ـ البصائر . 24 ديسمبر 1954 .
13- البصائر . 11 مارس 1955 . ص 3 .
14 - انظر . عايدة أديب بامية . تطور الأدب القصصي الجزائري . ص 310 .
15 - البصائر . سبتمبر 1950 .
16- لبصائر . 21 جانفي 1952 .
17- البصائر . 5 فيفري 1954 .
18 - مجلة الحياة . جويلية 1954 .
19 - نشرت المجموعة في سلسلة كتاب البعث في تونس سنة 1955 .
20 - قامـت مجلـة آمـال التابعـة لـوزارة الإعـلام و الثقافـة الجزائريـة ، بنشـر معظـم محـاولات أحمـد بـن عاشـور فـي عـدد ملحـق مستقل ، في نوفمبر 1971 ، و ورد الملحق في مئة و ستين صفحة ، ضمت ثلاثين محاولة للأديب .
21 - نشرها الكاتب في مجلـة الفكـر التونسـية سـنة 1957 ، و أعيـد إصـدارها عـن مطـابع جريـدة الشـعب بعـد الاسـتقلال ، فـي الجزائر ، من دون تاريخ .
22 - نشرت هذه القصة في جريدة البصائر الثانية في أعدادها التالية : 272 الموافق ل : 21 ماي 1954 ، 273 الموافق ل: 28 ماي 1954 ، 274 الموافق ل : 11 جوان 1954 .
23 - العنـاوين الآنفـة الـذكر كلهـا قصـص مـن مجموعـة عنوانهـا « صـاحبة الـوحي » ، صـدرت الطبعـة الأولـى عـن المطبعـة الجزائرية ( قسنطينة ) سنة 1954 ، و أعادت المؤسسة الوطنية للكتاب طبعها مرة ثانية في الجزائر سنة 1988 .
24 - أحمد رضا حوحو . صاحبة الوحي . ص . 17



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
الأثر- مجلة الآداب واللغات - جامعة قاصدي مرباح ورقلة - العدد السابع- ماي- 2008
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى