دراسة إبراهيم حاج عبدي - "خلاف المقصود" باكورة أحمد عمر الروائية . مفارقات بلدة على تخوم الواقع والمخيلة

[size=5][font=Droid Arabic Naskh][color=rgb(25, 25, 25)]يسعى الكاتب السوري احمد عمر في باكورته الروائية "خلاف المقصود"، الصادرة عن دار "هيرو" بيروت ـ 2008، إلى البحث في أرشيف الذاكرة البعيدة، محاولاً ترتيب أوراق مبعثرة لبلدة منسية"نائية متاخمة للحدود التركية في الشمال السوري، تعيش في عزلة، وتصنع أسطورتها عبر شخصيات طريفة تضفي على المكان نوعاً من البهجة.

مسرح الأحداث، إذاً في رواية عمر وهي بلدة داموكا الصغيرة، التي لا يتوافر فيها أي نوع من التسلية سوى التسلية التي تقدمها دار السينما الوحيدة في البلدة. والسينما في عرف أهالي هذه البلدة تُختزل في الأفلام الهندية التي استقرت بإيقاعها وألوانها ونجومها وحكاياتها المؤثرة... في ذاكرة بطل الرواية - الطفل الصغير الذي كان مولعاً بتلك الشاشة السحرية القادرة على صنع عالم ملون، مواز للعالم الفقير والبائس الذي كان يعيش فيه. حين شب الطفل عن الطوق، وتلمس طريق الحياة في الجامعة والعمل، وخبرها بالأسفار والقراءات لم يستطع أن ينأى بنفسه عن عقد مقارنه بين تلك الأفلام الميلودرامية حيث الصدف والنهايات السعيدة، والمواقف الخارقة، وواقع لا يقل غرابة في تفاصيله عن حكاية فيلم هندي حافل بالطيش والعبث والانكسار والدعابة المرة. واقع يقترب من الفانتازيا ويضاهي السينما في غرابته وجنونه.

لا يحتاج القارئ إلى كثير عناء ليعرف أن بلدة داموكا ما هي إلا مدينة عامودا. تلك البلدة المهملة الواقعة على ضفاف الحياة، والتي يسكنها الأكراد في أقصى الشمال السوري. والمفارقة أن هذه البلدة، الغائبة عن الخرائط، حضرت بتفاصيلها وطقوسها وملامحها وعبثيتها في كتابات الكثير من الكتاب الأكراد السوريين، من أمثال الشاعر والروائي سليم بركات، وكذلك الشاعر محمد الحسيني.

ولعل الكتاب الأبرز في هذا السياق هو رواية"سوبارتو"للكاتب حليم يوسف الذي لم يترك شأناً من شؤون هذه البلدة إلا ودونها في هذه الرواية التي أثارت الكثير من ردود الأفعال. على غرار هذا العمل يحاول عمر أن يوثق لأحداث ووقائع شهدتها هذه البلدة. بطل الرواية مهووس بالفن السابع، وفي الوقت الذي كان يجهل أسماء عباقرة هذا الفن مثل برغمان، وبازوليني، وكازان، وكوبولا، وأيزنشتاين، وأورسون ويلز... فإنه كان ضليعاً في شؤون السينما الهندية. يستطيع أن يعدد أسماء الأبطال الهنود بلا تلكؤ، وفي وسعه أن ينشد أغاني هندية كاملة من دون أي خطأ، بل انه كان أحياناً ينتقد هذا المشهد وتلك اللقطة وفق معايير طفولته الغضة. ولأنه كان على دراية بخفايا هذه السينما تحديداً، فإنه كان يقنع ثلة من أصدقائه المشاكسين الذين يشاطرونه حب السينما الهندية، بإعادة إنتاج الأفلام بأيسر الطرق، وأكثرها بساطة في الحقول، القريبة من بلدتهم.

لدى الحديث عن هذه المحاولات السينمائية الساذجة والفاشلة، يتجه السرد نحو فضاء الكوميديا السوداء، ويكفي أن نعلم أن الكاميرا كانت عبارة عن"صفيحة حلاوة". أما آلة الهارمونيكا التي كانت تعزف ألحاناً في الأفلام الهندية، فقد تفتقت عبقرية السينمائيين الصغار عن إيجاد"معادل موضوعي"لها، تمثل في قطعة بسكويت مخططة وطويلة، سرعان ما كان يلتهمها العازف لدى الانتهاء من معزوفته في المشهد المطلوب. أما أبطال العمل فكانوا أصدقاء المدرسة: هذا دارا مندارا، وذاك شامي كابور، وذلك اميتاب باتشان... وكان هذا"الفريق السينمائي"يعاني وجود نساء للقيام بالأدوار النسائية، في بلدة تنظر إلى السينما بعين الريبة والشك، وكان البديل المتاح هو أن تسند الأدوار النسائية إلى الأصدقاء الأكثر وسامة، بحثاً عن"مسألة الإقناع في الفن"، وفق معايير النقد السينمائي، فلا يمكن أن يقوم أحد الأصدقاء بتجسيد دور النجمة الحسناء"شارميلا تاغور"، مثلاً، وهو يملك ملامح رجولية،"غليظة ومنفرة". ولئن أبدى الصديق الذي وقع عليه الاختيار اعتراضاً على قيامه بتجسيد دور نسائي، فإن الآخرين كانوا يجرون معه مفاوضات مضنية لإقناعه بأن"هذه سينما، وليست واقعاً". لكن ما يحاول عمر قوله في هذه الرواية هو أن وقائع الحياة ذاتها لا تبتعد كثيراً من أجواء تلك الأفلام الهندية.

فعنوان الرواية، مثلاً، مستمد من حادثة استثنائية وقعت للبطل، إذ اتهم لدى تقديم أوراقه في إحدى المؤسسات الرسمية، بأنه متورط في جريمة تدعى في لغة القانون"السطو المسلح". كان وَقْعُ هذه الجملة الاسمية غريباً على مسامع المتهم الذي لم يسبق له أن دخل مخفراً للشرطة. فتجربته، حتى هذه اللحظة، تقتصر على الولع بالأفلام الهندية من دون أن يدور في خلده انه سيوضع ذات يوم في قفص الاتهام، تماماً، كأولئك الأبطال الشريرين في تلك الأفلام، إذ كان وقوع هؤلاء في قبضة العدالة يشعره بالسعادة والرضا.

لم يكد يبدي استغرابه من هذه التهمة الغريبة حتى وجد نفسه مقيداً بالأغلال في غرفة التوقيف وسط مجرمين عتاة. بعد أيام من الاعتقال، ولدى مثوله أمام القاضي، تبين أن ثمة تشابهاً في الأسماء بينه وبين اللص الحقيقي، وإذ استفسر عن طريقة يتجنب بها الوقوع في مثل هذا المأزق مرة ثانية، قيل له إن عليه إصدار وثيقة تسمى في الأدبيات القانونية"خلاف المقصود"، وبدا أن استصدار مثل هذه الوثيقة دونها متاعب وأسئلة وحوارات عقيمة دكثيرة تكشف عن البيروقراطية.

لا يتوانى عمر، الذي اصدر مجموعات قصصية عدة منها:"قلب الدراق"،"مقصوف العمر"،"تشارلز بن ديكنز"، عن انتقاد الواقع الاجتماعي والسياسي في روايته، وإن في شكل مراوغ، إذ يضع انتقاده في إهاب الترميز خشية المساءلة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بشخصيات"خالدة مقدسة"، وباستثناء ذلك لا يتأخر في كشف جوانب الخلل في بعض مؤسسات الدولة، وما يقع في دهاليزها من فساد ورشى، وهو من باب السخرية يعقد مقارنة بين الإجراءات المتبعة هنا، ومثيلتها المتبعة في الدول الأوروبية ليزيد من جرعة الكوميديا...ويشير إلى الأحداث التي وقعت في مدينة القامشلي بين العرب والأكراد في ربيع عام 2004، وكيف تعاملت السلطات مع تلك الأحداث بقسوة أسفرت عن مقتل نحو أربعين كردياً، ولعل هذه الثيمة النقدية الجريئة بدأت تظهر، في السنوات الأخيرة، في كتابات الأدباء السوريين الذين يحاولون اقتحام"مواقع محرمة"لطالما بقيت بعيدة من أعين الكتاب والأدباء، ولهذا، ربما، لم يستطع عمر الحصول، حتى اللحظة، على موافقة وزارة الإعلام السورية.

وما يميز الرواية هو تلك السخرية اللاذعة المحببة التي تنتزع الضحك من الأعماق، ما يحيلنا إلى الفيلم التسجيلي"دفتر أحوال شوتكا"للمخرج الصربي الكسندر مانيش الذي يرصد، بدوره، تفاصيل الحياة في قرية في منطقة البلقان تضج بالمفارقات والمشاكسات والشغب.

هذه السخرية تتبدى، بدرجة أولى، في تلك العلاقة التي تربط بين أبناء مدينة داموكا ورجال الشرطة والمسؤولين الحكوميين القادمين من مدن بعيدة. هنا تقع مفارقات لغوية مضحكة، ذلك أن معظم سكان تلك البلدة هم من الأكراد الذين لا يتقنون العربية جيداً، وفي المقابل، فان رجال السلطة لا يتقنون لغة أهالي البلدة، فيجتهد كل طرف في التأويل، وخصوصاً الطرف الضعيف.

يقول الشرطي لأحصد المتهمين الذين لا يتقنون العربية: قُمْ صيغة الأمر من فعل قام تعني"الرمل"باللغة الكردية فيستغرب الكردي، المغلوب على أمره، من ورود كلمة رمل، بتلك النبرة الآمرة، على لسان الشرطي، في غرفة التوقيف في ساعة متأخرة من الليل.

لا يقوم السجين، طبعاً، لكنه يحار في كيفية تفسير الواقعة! يلتقط احمد عمر بعين الراوي الكثير من الوقائع والأحداث، ويقص علينا حكاية شخصيات كوميدية ساخرة، وهو يقاسم هذه الشخصيات حياة الخيبة، ويستسلم معها لأحلام عصية على التحقيق، وكي يكون أميناً لوقائع فيلم هندي، يختلق صدفاً ومناسبات كثيرة يلتقي خلالها، بعد نحو ثلاثة عقود، بأصدقاء الطفولة كما يحدث في الأفلام الهندية، فهذا الصديق حصل على اللجوء السياسي في بلد أوروبي، وآخر فاز بوظيفة حكومية، وثالث أصبح ثرياً على نحو غير متوقع، ورابع ألمت به ظروف صعبة... إنه يرسم تفاصيل حياة تتأرجح بين الخيال والواقع، محاولاً تقديم بانوراما روائية جذابة لبلدة تبحث عن ذاتها الضائعة، وتصنع أفراحها الصغيرة وسط واقع شحيح في كل شيء.[/color][/font][/size]
 
أعلى