دراسة محمد العربي هروشي ـ رواية «المصري» للمغربي محمد أنقار تجمّل «استثنائية» المكان

يعد العمل الأدبي الأخير، للكاتب محمد أنقار استثنائياً. فاستثنائيته الأولى، تأتي من كونه، عمل روائي بكر، بعد كل ما كتبه من عمل سردي قصصي، طوال أكثر من ثلاثة عقود على صفحات الجرائد والمجلات والاصدارات القصصية. أما استثنائيته الثانية فتتجلى في فعل الكتابة/المحاولة، في جنس أدبي لم يكن له فيه تراكم. فهي أي المحاولة أشبه ما تكون خلقا من عدم. وبحسب مضمون الرواية ذاتها، معاناة العجز عن الخلق، أي عن كتابة الرواية كما حصل مع الساحلي أحد أبرز شخوص هذا العمل الروائي. فما حدود توفيق الأديب محمد أنقار في روايته «المصري التطواني» بامتياز في خلق عالم تتقاطعه الأمكنة والذهنيات وعبق التاريخ وملح الكتابة وغوايتها؟
نشرت الرواية في مصر عن دار الهلال الشهيرة ويكفي هذا. سمة مميزة لهذا الأثر الأدبي، في سياق الكتابة الروائية العربية على نحو عام، والمغربية على نحو خاص.
تقع الرواية في 184 صفحة من القطع المتوسط، زينت دفتاها لوحة للفنان أحمد شوقي، وهي عبارة عن صورة من العمق المصري تشي به طريقة لباس المارة في حي من الأحياء المصرية الشعبية.
فضاء الرواية مقسم إلى قسمين، تحكي سيرة مدينة مختلفة عبر تواريخ قطاعية تمتح من ذاكرات أحيائها الشعبية. فبالنسبة للقسم الأول «العصر» توخى أنقار حصر الإطار الزماني الذي ارتهن فيه للكتابة هذا العمل وهو سبعة أيام، ثم على الرواية أن تستوي على عروشها، لكن الطريف في هذا القسم ليس عنوانه «العصر» الذي يحيل على تداعيات متوقعة بوصفه بنية زمنية لها جماليتها، فالعصر بداية الغروب والذهاب بالزمن إلى سحره الرومانسي، بيد أن العصر في رواية «المصري «يأبى أنقار إلا أن يجعل منه زمنا مرا لاقترانه بتوقيت دفن الموتى عند التطوانيين، إنه زمن الموت بامتياز.
أما في القسم الثاني من الرواية، وهو مثير. يعتبر أحمد الساحلي أحد أهم أبطال هذا العمل، بيد أنه في تقديري ثمة بطل أهم منه والذي سأدير الحديث حوله لاحقا وأعني به مكونات المكان/الفضاء، مركزا على المفارقة التالية: لقد أراد أحمد الساحلي كتابة الرواية على طريقة معشوقه الروائي المصري نجيب محفوظ، فحذا حذوه في جمعه للمادة الأساسية من معلومات عن الأماكن والأحياء التطوانية الموجودة في عمقها التاريخي، إذ المبتغى هو تخليد تطوان تخليدا محفوظا لقاهرته في أعماله الروائية الرائعة. إلا أن رغبة أحمد الساحلي كان وراءها ما كان وراء شهرزاد في حكاية ألف ليلة وليلة. إذ كانت محاصرة بين حدين: حد السرد وحد الموت. الفارق كان على شهرزاد أن تحكي أو تموت، بينما كان على أحمد الساحلي أن يكتب قبل أن يدركه الموت الضاغط المتساوق مع الإحالة على التقاعد، والذي كان أمارة على دنو أجله ألم يقل هو ذاته «وكان ذلك آية إلهية أوحى إلى صوتها بأن دوري ليس ببعيد، فبعد شهرين سأتقاعد، العمر بيد الله، بيد أن قرائن الدنيا تجعل ساعة الوداع محتملة في كل شيء». إذن شهران فيهما الخلاص، فهل سيكون الساحلي في مستوى التحدي، لن نقدم الإجابة فسرعان ما وجده أمام التقاعد ليبدأ العد العكسي، في سبعة أيام رسمت مستقيما حافتاه كتابة وموت.
فهل السبعة أيام هاته زمن كتابة أم زمن حكي، فتوطيد النفس والإعداد لها هو الجو المهيمن على هذا القسم الثاني من الرواية التي تتقاطعها، من دون ريب، عدة توازيات:
التوازي الأول: الرغبة في كتابة رواية بموازاة كتابة غيرية أنموذجا يحتذى، «المصري» بموازاة «القاهرة» لمحفوظ. والتوازي الثاني : وهو مفارق بشكل لافت، يتعلق الأمر بكتابة قصة فشل أحمد الساحلي في كتابة رواية جعلت من تجربة الفشل هاته نجاحا باهرا على مستوى تفرد هذا العمل الروائي الذي منحه الأستاذ القدير والأكاديمي محمد أنقار الكثير من الجهد النظري والتنظيري، وهو الخبير بخبايا الكتابة السردية في المغرب المعاصر من دون مبالغة.التوازي الثالث، يتجلى من خلال الأسلوب الذي تناول به أنقار تطوان من خلال الاحتفاء بتفاصيل الأمكنة، من أحياء ودروب وأقواس ومواقع وبعض الشخصيات كالمعلم كرشة في «زقاق المدق» وصورة فرج إبراهيم في ثلة من الحرافيش وصورة عاشور الناجي وزلمته من صعاليكه.
أما بالنسبة للتوازي الأول فقد كتب الناقد البنيوي المصري صلاح فضل في عدد10 فبراير/شباط 2004 من جريدة «الحياة «مقالا نقديا عنونه «رواية الولع المغربي بأدب نجيب محفوظ « وشخوصه وبغض النظر عن تلك النزعة المصرية المتمركزة التي هيمنت على التقييم النقدي لرواية «المصري» وجل الأعمال السردية المغاربية، وعلى الرغم من تكرار الكلام حول لعبة الأصل والنسخة أو الصوت والصدى في ما بين المشرق العربي ومغربه، لا يمكن لأي عين فاحصة إلا أن تقف على الطابع التأصيلي والتأثيلي للإبداع المغاربي، لاسيما أسلوب أنقار في الواقعية فهي ليست كتابة توثيقية تسجيلية وإنما هي نوع من الواقعية الجمالية مشوبة بالدهشة جراء التصعيد في شعرية الخطاب السردي، شيء ما قريب مما ينجزه كتاب أمريكا اللاتينية وعلى رأسهم ماركيز، اليوسا أو فوينتس خصوصا هذا الأخير في عمله «الرقص مع العميان»، حيث الاحتفاء بوصف الأمكنة في شعرية باذخة تذهب في اتجاه أنسنة المكان.
يضاف إلى ذلك خبرة وتمرس الكاتب أنقار بتوسله بالحيلة والتصور النظريين للعمل السردي المتكئ على ثقافة أصيلة رصينة ومتنوعة بشهادة النقاد المصريين أنفسهم يكفي أن الرجل أحد مؤسسي مفهوم «الصورة الروائية».
إن «المصري» بوصفها رواية الرواية أي ميتا /أدب، انطلاقا من الوعي الحرفي بالصنعة الأدبية في قالب مسرود تجعلنا نستحضر تلك الملاحظة اللماحة للناقد الفرنسي رولان بارث أوردها نصا كما يلي: «لم يكن الأدب أبدا يفكر في نفسه (…) بحيث يكون في آن واحد موضوعا روائيا وموضوعا مرئيا.. كان يتكلم من دون أن يكلمهم، يكلم نفسه، وبعد ذلك (…) بدأ الأدب يعي كيانه المزدوج، كونه موضوعا ورؤية لهذا الموضوع، خطابا وخطابا لهذا الخطاب».
ورواية «المصري» تندرج ضمن هذا الصنف المشار إليه باعتبار درجة الوعي الذي كتبت به، ولا نحتاج إلى تكرار باع الروائي أنقار في هذا المضمار، لذلك جاءت رواية «المصري» في صيغتها الشمولية مفكرة في مؤلفها حدا دفعني إلى طرح هذا التساؤل المحير، ما مدى حظ التجربة العربية في الرواية من هذه العلاقة؟
أعني إذا كان خطابا واصفا أي خطابا على خطاب بين نشاطين مختلفين، أدبي ونقدي، فكيف يمكن للنص الروائي أن يكون، في الآن ذاته، لغة/موضوعا أي خطابا أدبيا قابلا ومرصودا للنقد، وميتا لغة أي خطابا واصفا يشتغل على الخطاب الأول يعني على نفسه؟ وربما غيرت صيغة التساؤل على هذا النحو: هل يمكن للرواية أن تزاول اشتغالها النصي تفكيرا في الروائي/الرومانيسك نقدا أو تنظيرا لإواليات العالم الروائي؟
في قراءتي المتواضعة للمتن الروائي العربي والمغربي لا أجد إلا قلة من الروائيين الذين تطرقوا في أعمالهم الإبداعية إلى مناطق العتمة وتجرأوا على قص تجربة إبداعهم بكل تداعياتها السيكولوجية والجمالية، كما يذهب إلى ذلك أيضا الناقد المصري صلاح فضل، ولعلي في هذا السياق أذكر ثلاث تجارب إلى جانب «المصري» وهي رواية «يحدث الآن في مصر» ليوسف القعيد و«وردة للوقت المغربي» لأحمد المديني ثم «رحيل البحر» للصديق الروائي محمد عز الدين التازي.
لقد تقاسمت هذه الأعمال الثلاثة خاصية الانكفاء على الذات أو التصوير الذاتي وقد يعتبر هذا دليلا على اختناق الرواية، كما اعتقد ميشال ريمون في كتابه «أزمة الرواية» وبالتالي فإن الرواية تبعا لهذا المنظور تضحى منقطعة عن الواقع بيد أني، وعلى النقيض من ذلك، فـ«المصري» ومثيلاتها تتسامى على الواقع المجاوز للغة وهذه إحدى أبرز سمات الحداثة النصية التي تنتمي إليها هذه الأعمال: فعلى الرغم من ارتباطها بالواقع إلا أنها تفارقه لتنكفئ على ذاتها متأملة ذاتها أي متجهة صوب كينونتها وإلى عناصرها وعلائقها مع نفسها، مع أصلها ومع أخواتها من نصوص روائية لكنها تخالفها نظريا وجماليا. والواقع فإن التفكير النقدي والنظري له ثلاث لحظات لخطاب يزاول فيه نشاطه على الرواية: قبل فعل الكتابة، وفي أثنائه وبعده. فبالنسبة للحظة الأولى، أي التفكير قبل الكتابة ستقود إلى دوغمائية تهدد النص في معماره، إذ تتحول الكتابة إلى فحص واختبار لنظريات جاهزة يقوم بها المؤلف مع سبق الإصرار والترصد،، وإذا تم ذلك بعده، فتلك مهمة موكولة إلى النقاد والدارسين لإنتاج قراءات متولدة في أنساق تحليلية وتأويلية.
أما إذا تم التفكير النقدي والنظري في أثناء الكتابة وموازاة لها فتلك أخصب لحظة بحيث يصبح التأمل في الإبداع وعبره نقدا تؤول بموجبه الكتابة فعل القراءة و»المصري» نجحت، في تقديري، بدرجة لافتة مما سأدلل عليه بما يلي: من الوسائل الفنية الكثيرة التي بواسطتها تتوسل لحظة التفكير هذه الموازية للحظة الكتابة وداخلها، إرباك القارئ بتدخل مؤلفها المستمر في الفضاء النصي ليفضح اللعبة السردية أو ليكشف عن تصوره الخاص للكتابة الروائية أو ليجادل النقاد أو ليستشير القارئ في المسار الذي ستتخذه الأحداث الروائية، وقد تندس بين شخصيات الرواية شخصية كاتب روائي يتحدث عن نصوص كتبها أو يحلم بكتابتها، أو يعاني بسبب عجزه عن كتابتها كما هو الحال مع أنقار في «المصري».

٭ كاتب مغربي
 
أعلى