مقابلة المهدي نقوس.. لا يمكن للشخص أن يكتب دون مخزون ثقافي - الجزء الأول

* الجزء الول

في حقب تمتد من الستينيات وحتى التسعينيات، كانت القصة القصيرة تخلق "الأضواء" و"النجومية". كان كتاب القصة القصيرة نجوماً بالفعل.
هذا الجنس الأدبي هو الذي خلق هالة لكتاب مثل عبدالجبار السحيمي، وإبراهيم بوعلو، وإدريس الخوري، ومحمد شكري، ومحمد زفزاف، ومبارك الدريبي، ومحمد الهرادي. كان الروائيون يضعون جانباً أعمالهم الروائية ليكتبون "القصة القصيرة"، وقتها كانت علامة التميز والتفرد والانتشار.
الآن لا شيء سوى "الكساد".
من يكتب قصة قصيرة، يكتب في أغلب الوقت لنفسه كما يقول المهتمون.
لا أحد يبحث عن "مجموعة قصصية" على أرفف الكتب في المكتبات. إذ الكتاب نفسه يعاني.
ما بين واحد إلى اثنين في المائة فقط في المغرب يقرؤون، كما أشار التقرير الصادم الذي نشرته المندوبية السامية للتخطيط، كم يا ترى نصيب القصة القصيرة من هذه النسبة المخجلة؟ القصاصون هم ضمير المجتمع. كيف أصبح المجتمع بدون ضمير؟ سؤال موجع، لكن في السؤال نفسه تكمن الإجابة. في هذا الملف نحاول أن نجد إجابة عن سبب "اندثار" القصة القصيرة.

> ماذا يعني "قصاص بالنسبة لك.. هل تجد تعريفا جامعا؟
< بداية لابد من التساؤل عن حاجة الإنسان للقصص، ولأن الكلام كان سابقا للكتابة، ولأن هناك رغبة فطرية متأصلة في أعماق الإنسان للبوح والتعبير عن تجاربه، ولأن وضع الإنسان قد يتزامن مع واقعه، فقد يتزامن أيضا مع وعيه الطبقي الخاضع بالضرورة لخصوصيات أنماط الإنتاج التي يفرضها التطور التاريخي الحتمي، فقد برزت إرهاصات للحكي دشنتها الحفريات البدائية، وصولا إلى ثورة الكتابة كما هي عليه، وإن وجدت رسومات وكتابات الكهوف التي تعبر عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية لتلك الشعوب، رسومات وخطاطات تقول أشياء عديدة، مكنتنا من فك شفرة حياة الأسلاف، واستقراء حيثيات عيشهم، والنصوص الدينية، دون أن ننسى القرآن، تحفل بالعديد من أحسن القصص، وكتاب الليالي، وكليلة ودمنة، والمقامات، ورسالة الغفران، وقد ذكر الجاحظ في ما كتب عن جمهرة القصاصين في الأدب العربي القديم، من الذين نشطوا في البصرة وبغداد في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، فيما بين ابن عون قبل هذا، وهو من رجالات النصف الأول من القرن الثاني، كيف كان مسجد البصرة يغص بحلقات القصاص.
وقد لا توجد تصنيفات وتعريفات محددة لكلمة قصاص، كما لا يوجد هناك كاتب جيد وآخر رديء، الكل يدلي بدلوه في معين الكتابة، لأن الكتابة هي لغة القاص بحد تعبير دي سوسور، والمعاني مطروحة على الطريق كما يقول عمرو بن بحر. واللغة كيان اجتماعي. وعملية الكتابة مجازفة وموهبة، إما أن تؤدي بصاحبها إلى ذرى المجد والشهرة، أو تهوي به إلى الحضيض. لا مجال للصدفة في تكوين القاص. والقاص السيئ نكتشفه من أول سطر. والكتابة الرديئة كالرائحة الكريهة في بدن الكائن لا يشمها صاحبها. والإنسان بحسب س. فرويد (يكاد لا ينفر من روائحه الخاصة). تحضرني بهذا المقام قولة لماهر شفيق فريد ضمن العدد 2 - المجلد الثاني لعام 1982 من مجلة فصول: "الأدباء من قديم قبيلة شكسة نكدة، تولع بالملاحاة والخصومة واللدد، وتفشو فيها أدواء النرجسية والسادية والمازوكية، وقد تتجاور في الصدر الواحد، وكثيرا ما تكون الغلبة فيها لهوى النفس على محبة الحق".

> عندما نقول "القصة القصيرة" ما هو الانطباع الذي تتركه هاتان الكلمتان؟
< "الرواية تفوز بالنقاط. أما القصة القصيرة فتفوز بالضربة القاضية.."، بهذا الكلام الجميل ينتصر خوليو كورتاثار لجنس القصة القصيرة، التي يشكل السعي وراء مطلق الجمال والمتعة واللذة غايتها المثلى، في الوقت الذي تسعى فيه الفلسفة للبحث عن الحقيقة المطلقة، وهذا التقاطع والفصام الأزلي بين الفلسفة والأدب، أدى بالكتابة القصصية إلى مزج تفاصيل الحياة المعاشة بمشاعر إنسانية رقيقة وشفيفة، كنوع من فنون الحكي تقع أحداثه في زمن محدد ومضغوط، وتسعى بشعرية لغتها، وكثافة صورها، وجمالية أساليبها، للتعبير عن حالة من الحالات، ومواقف من المواقف الشخصية والإنسانية.
وبناء على هذا، فإنه لا يمكن للشخص أن يكتب من دون التوفر على مخزون ثقافي كاف، كما لا يوجد مجتمع بدون نصوص قصصية تؤرخ له. الكتابة القصصية تحتاج للترتيب المنطقي للأحداث، قصد إعادة ترتيب المجتمع، لكن بطريقة سحرية تتحول عبرها اللغة إلى كيان. زمن الشعر هو زمن الثورة، فيما تشكل القصة زمن بناء المجتمع، لأننا إزاء محاكاة لما نشاهد أو نقرأ. أكثرية القصاصين لا يتجاوزون هذا الطور، بينما تحتاج الكتابة القصصية غالبا إلى كثير اشتغال عبر استحضار ترسانة من خيال وتكثيف وصور شعرية، وخصائص فنية وجمالية، يجب أن نتعلمها من كبار القصاصين العالميين.
(ما أرانا نقول إلا رجيعا / ومعادا من قولنا مكرورا) كعب بن زهير.

> كيف هو حال السرد في المغرب من وجهة نظرك؟ ‬
< السرد المغربي بخير وبحالة جيدة، وإن كان المغرب حديث عهد بهذه الفنون، إذ لم تظهر القصة القصيرة بالمغرب إلا في حدود النصف الثاني من القرن العشرين، ويرجع الفضل في هذه الحالة للأصوات الرائعة والصادقة التي يمثلها جمهرة من المناضلين العصاميين الحقيقيين في مجال الفكر، الذي أثثوا المشهد الإبداعي ورفدوه بأجمل وأبدع السرود التي تضاهي في بهائها وقوتها وجماليتها ما ينشر في الشرق العربي، واستطاعوا انتزاع الاعتراف بالمغرب كبلد مبدع منفتح على العديد من الحضارات والثقافات، ونشطت بموجب هذا التطور حركة النشر، وصدرت العديد من المجموعات القصصية. في وقت لم تكد تتجاوز فيه الإصدارات القصصية أصابع اليد الواحدة.

> مرت القصة بعدة مراحل من القصة الطويلة إلى القصيرة ثم الأقصوصة، وأخيرا الومضة القصصية، كيف ترى هذا الأمر؟
< عرفت القصة العربية في تعريفها الأكاديمي الراهن في بدايات القرن العشرين، وشهدت عدة تحولات نوعية على يد عدة أجيال ابتداء من محاولات جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، ومصطفى لطفي المنفلوطي، واليازجي، وأحمد فارس الشدياق وإن كان يميل للأسلوب المقامي، ومن بعدهم جاء جيل إبراهيم عبد القادر المازني، وعباس محمود العقاد، وجودة السحار، ويحيى حقي، وطه حسين، ومارون عبود، ومحمود تيمور، ثم المساهمات الجادة على يد يوسف الشاروني، وإحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ، ومحمود البدوي، ويوسف إدريس، ويوسف السباعي، ثم جاء جيل الكبار ليفجروا ثورة في الكتابة القصصية منهم إدوار الخراط، وجمال الغيطاني، وأحمد هاشم الشريف، وعبد الحكيم قاسم، ويحيى الطاهر عبد الله، وسهيل إدريس، وحنا مينا، وزكريا ثامر، وهاني الراهب، ومحمد حافظ رجب الذي قال: "نحن جيل بلا أساتذة"، هذا الجيل العصامي الجميل الذي دشن لحساسية جديدة وراقية في القصة القصيرة العربية، ساهمت منابر مجلات "الهلال"، و"القصة"، و"الأديب"، و"الآداب"، و"العربي"، و"الكاتب المصري"، و"غاليري 68"، ومواقف وغيرها من الدوريات في إعلاء صوتها.
فيما يخص المغرب، عرفت القصة القصيرة نشوءها عبر بدايات خجولة ومحتشمة، واستوت على يد عبد المجيد بن جلون، وعبد الكريم غلاب، ومحمد السطاتي، ومحمد إبراهيم بوعلو، وخناثة بنونة، ومحمد زفزاف، ومحمد شكري، ومحمد عز الدين التازي، ومبارك ربيع، ورفيقة الطبيعة (زينب فهمي) التي سكتت في زمن مبكر، وأحمد الصفريوي باللغة الفرنسية. وبرأيي المتواضع، فقد حافظت القصة القصيرة منذ نشأتها على مقوماتها الفنية، على يد كوكبة كبيرة من القصاصين والقاصات من مختلف الحساسيات والمدارس والتيارات الذين استطاعوا نحت مسار قصصي مغربي بمواصفات كونية، له ملامحه المغربية الصرفة، بينما نشاهد هذا الصرح الإبداعي الجميل يتراجع ويتهاوى أمام الغزو الكاسح "للققجيين" ومناصري القصة الومضة أو القصة الشذرة وما بينهما كأسهل الحلول للشهرة، وقد عملت هذه التخريجات الهجينة المعتمدة على تقنيات التقطيع واللصق، وكتابة "الإس إم إس" أساسا، على تخريب البناء المعماري للقصة القصيرة كفن سام ونبيل يحافظ على كيان اللغة وسؤددها وجمالياتها، وتشويه اللغة وتفريغها من جمالياتها عبر اللجوء للنكتة واللغز وغير ذلك من الأساليب الأخرى، دون الإغفال بأن القصة القصيرة جدا والومضة تحتاجان إلى تكثيف ومواصفات خاصة، قد لا يفقهها العديد ممن يستسهلون هذا الصنف الإبداعي، والذين لا يمتلكون قدرا ثقافيا كافيا يؤهلهم للكتابة، فيما نجد بأن هذه الصنوف من الكتابة قد ظهرت على يد مبدعين حقيقيين بأميركا اللاتينية وأوربا كشكل من أشكال التجريب، وأداة تعبيرية مناسبة لراهن اجتماعي متشعب التعقيد، بحد تعبير أنخيل ملدوندو أستيفيد من بويرتوريكو في مقاله "جدارة القصة القصيرة جداً". ولم تظهر على الشكل البائس الذي تنكتب عليه حاليا على يد بعض الكتبة في بلادنا العربية.

حوار خالد أبجيك
الخميس, 18 ديسمبر 2014

------------------
المهدي نقوس
من مواليد قرية سيدي أحمد باليوسفية عام 1953. قاص وشاعر. عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فرع اليوسفية. له العديد من المقالات منشورة في صحف ومجالات عربية ووطنية. شارك بعدة ملتقيات أدبية في مختلف مدن المغرب.
صدرت له مجموعتان قصصيتان الأولى بعنوان "صنائع من نوبة عراق العجب"، والثانية موسومة بـ"...إلخ"، في انتظار نشر عدة أعمال أخرى بين شعر وقصة ومقالات نقدية.
 
أعلى