دراسة محمد الديهاجي - شعرية العدد وممكنات السرد في "سبع عيون" للمغربي محمد الشرادي

على الرُّغم من أن رواية «سبع عيون»، هي أول عمل روائي للكاتب المغربي محمد الشرادي، إلا أنها تبشّرُ بصوت روائي واعد، متمكن من آليات الكتابة الروائية بطريقة تشي بوعي فني وجمالي متقدم. الرواية، في الأصل، كانت مجرد قصة قصيرة ارتأى صاحبُها أن يحولها إلى محكي روائي، لما توَفَّر لديه زخم حدثي لم يستطع تفجيره في القصة الأصل. وعلى الرُّغم من كون الرواية باكورة هذا الكاتــــــب فقد جاءت كشجـــــرة فـــــارعة ومتشعبة الفروع لقدرته على التخــــيُّل والبناء السردي، هـــو الذي ـ حســــب ما أسرّ لي مرارا وقد اكتشــــفت هذا فيه – يقرأ الرواية، العربية وغير العربية، على اختلاف صــنوفها، بنهم كبير، انطلاقا من استراتيجيه قرائية ذكية وشديدة الملاحظة والالتقاط.
يفتتح الكاتب روايته باستهلال يكشف من خلاله، بشكل بانورامي، عن الخلفية التي تؤطر أحداث الرواية، حيث يطرح بشكل فني ماكر مرجعيته في الكتابة. مرجعية تستمد ديناميتها من الواقعية السحرية، أو ما قد أسميه استنادا إلى باشلار، بالواقعية الحالومية. في هذا الاستهلال ـ دائما ـ يعقد الكاتب والسارد معا ميثاقا سوف يتنصل منه الأخير بسبب سلطة السرد من جهة، ومن جهة أخرى بسبب رغبته الملحة في الانفلات من رقابة الكاتب وإساره. الكاتب باعتباره مرجعية أو إحالة واقعانية لها سلطة معاكسة تماما لسلطة السارد. الأولى ترتهن بالتاريخي والماصدق، أما الثانية فتحلق في سموات التخييل. الأولى تكرار ومعاودة، أما الثانية فهي ابتكار واختلاق وابتداع.
إن قارئ هذه الرواية سوف يلاحظ بسرعة، أنها لا تنطلق من مرجعية كتابية حدوسية أو عفوية، بل هي كتابة عرفانية مبدعة بالأساس، أي باعتبارها صناعة فنية خالصة. وتتجلى عرفانيتها أساسا في وعي الكاتب بقواعد السرد واختياراته الجمالية، وكذلك وعيه بالفلسفة المعاصرة التي اتخذها منطلقا له. ولعل في تضمين الرواية لبعض أقوال نيتشه وفلسفته، إشارة فاضحة لذلك، علما بأن الرواية تشي باطلاع الكاتب الكبير على الثقافة العربية الإسلامية، العالمة والشعبية على حد سواء. ويبقى التضمين كتقنية سردية، من أهم الآليات، في هذا العمل، التي فضحت بشكل صارخ هذا الاطلاع، وهذا الوعي. فالرواية هي تضمين فني محكم لقصة يوسف عليه السلام، خصوصا عندما حاول فك لغز عدد سبعة (سبع سنبلات)، ومن ثم يمكن القول إن رواية «سبع عيون»، كاختيار جمالي، تتأسس على شعرية العدد، وتحديدا عدد سبعة (سبع نسوة) وما يحمله من دلالات في ثقافتنا العربية الإسلامية ومنها المغربية. نقرأ ما يلي في إحدى صفحات هذه الرواية: «سبع نسوة سبع سمينات يحطن بسريريها. عانقتها إحداهن وسلمتها ورقة خضراء رُسمت عليها سبع أعين. ثم توجهت إلى صديقاتها وأخبرتهن أن السفر إلى سبع عيون شاق وطويل، وعليهن الانصراف في الحال إذا كن يحرصن على الوصول في رابعة النهار. قفزت هند من سريرها مذعورة، ثم خرجت، والقلق يؤجـــــج في عقلها الأسئلة.. بعد الرجوع من عملها الذي تعيش من راتبه الشهــــري في رغد واضح، قررت أن تؤدي صلاة الاستخارة، لعلها تهتدي إلى السر الكامن في هذا التواجد الكثيف للعدد سبعة في حياتها هذه الأيام، وإلى سر ذلك المكان – سبع عيون – ولماذا اختلفت أحجام تلك العيون؟ الأولى كبيرة.. الثانية أصغر.. الثالثة تقل حجما عن الثانية والعيون المتبقية هي الأصغر لكنها أكثر جحوظا».
وكذلك، من بين الاختـــيارات الجمالية التي تعكس وعي الكاتب بآليات وطرائق السرد في هذه الرواية، نجــد توظيـــفه الذكي للســـــرد الذاتي داخل السرد الموضوعي، ذلك أن الحكاية الأصل، تضمنت مجموعة من المذكرات اليومية، في توليف سير ذاتي ماكر. إن التفاعل ما بين الرواية والسيرة الذاتية، كثيرا ما يفضي إلى نصوص إبداعية خلاقة، نصوص لا تطمئن للحدود بين الأجناس الأدبية أو لأشكالها وصنوفها الفرعية حتى. وهو ما تحقق في رواية «سبع عيون».
أما التمثيل السردي فيكشف، طيلة الرواية، عن التاريخ الرمزي للشخصيات الرئيسية باعتباره الخلفية التي وجهتها من جهة، مثلما استحكم في مسار الأحداث (المحكي) من جهة أخرى. سبعُ نسوة سمينات، كل واحدة تحبل بمسار حدثي- عددي يوجه سلوكها ويستجلي أبعادها الداخلية السلوكية والغريزية؛ ومن ثم فإن مصائر الشخصيات مرتبطة في هذه الرواية بالعدد (سبعة وخمسة) وعطفا على ذلك مرتبطة بالتعدد: تعدد في العناصر السردية المكونة للحكاية، تعدد في صيغ وأساليب السرد، وتعدد في مواقف الشخصيات.

.

55.jpg
 
أعلى