إبراهيم رمزي - عذرية.. أم برود جنسي؟

قبل كل شيء، لنقرأ النصوص الثلاثة الموالية، وكلها ل » إمام العذريين » جميل بن معمر العذري، المشهور بجميل بثينة.

(1) معصومان.. وجس النبض..

سعت أمَة لبثينة بها إلى أبيها وأخيها وقالت لهما: إن جميلا عندها الليلة، فأتياها مشتملين على سيفيهما، فرأياه جالسا حَجْرةً [ناحية] منها يحدثها ويشكو إليها بثَّه. ثم قال لها: يا بثينة، أرأيت ودي إياك وشغفي بك، ألا تجزينه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين. فقالت له: يا جميل، أهذا تبغي؟! والله لقد كنت عندي بعيدا منه، ولئن عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي أبدا. فضحك، وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه، ولو علمت أنك تجيبينني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري، ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي، ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد. أو ما سمعت قولي:

وإني لأرضى من بثينة بالذي = لو أبصره الواشي لقَرَّتْ بَلابلُهْ
بلا، وبأن لا أستطيع، وبالمنى = وبالأمل المرجوِّ قد خاب آمِله
وبالنظرة العجلى، وبالحوْل تنقضي = أواخرُه لا نلتقي وأوائله

قال [الراوي] فقال أبوها لأخيها: قم بنا، فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها، فانصرفا وتركاهما. (الأغاني ج: 8/ 111)

(2) [وصف جسدي للمرأة/ الحبيبة]

غَرّاء مِبْسامٌ كأنّ حديثها = دُرٌّ تَحَدَّرَ نظْمُه منثور
محطوطة المتنيْن مضمرة الحشا = ريّا الروادفِ خَلْقُها مَمْكور

[ محطوطة المتنين: ممدوتهما ] (الأغاني ج:8/ 158)

(3) [ضجعة العذريين… ]

فقامت [بثينة] إلى جميل فأدخلته الخباء معها، وتحدثا طويلا، ثم اضطجع واضطجعت إلى جنبه، فذهب النوم بهما حتى أصبحا، وجاءها غلام زوجها بصبوح من اللبن بعث به إليها، فرآها نائمة مع جميل، فمضى لوجهه حتى خبّر سيده… فلما تبينت بثينة الصبح قد أضاء، والناس منتشرين، ارتاعت، وقالت: يا جميل ! نفسَك نفسَك…فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت النَّضَد [متاع البيت] وقالت: إنما أسألك ذلك خوفا من الفضيحة لا خوفا عليك، ففعل ذلك، ونامت كما كانت، واضطجعت أم الجسير إلى جانبها… فجاء نبيه [اسم زوجها] إلى أخيها وأبيها فأخذ بأيديهما وعرفهما الخبر، وجاؤوا بأجمعهم إلى بثينة وهي نائمة، فكشفوا عنها الثوب، فإذا أم الجسير إلى جانبها نائمة، فخجل زوجها وسب عبده، وقالت ليلى لأخيها وأبيها: قبحكما الله، أفي كل يوم تفضحان فتاتكما ويلقاكما هذا الأعور [= زوجها] فيها بكل قبيح… وأقام جميل عند بثينة حتى أجنه الليل ثم ودعها وانصرف. (الأغاني ج:8/ 122)

+++++

يحفل تاريخ الشعر العربي بالكثير من القصص عمن يسمون بالشعراء » العذريين » وما خلفوه من شعر » عذري « . وتمنيت لو سموا بالشعراء » الشاذين » وسمي شعرهم ب » الشذوذ الغزلي « .

مبدئيا أرى أن الآية القرآنية في شقها » وأنهم يقولون ما لا يفعلون « تنطبق بانسجام كبير على هذه الفئة من الشعراء.

القصص تتشابه إلى حد كبير، شاعر وامرأة يتبادلان » حبا » يستمر مدى حياتهما. المرأة تتزوج رجلا آخر، والشاعر قد يتزوج، وقد يبقى طليقا ينتقل كالنحلة من زهرة لزهرة… فأي علاقة هذه تؤلف بين شاعر وامرأة؟… في مقابل الحب المتبادل وبتواز مع ذلك كل واحد منهما يعيش حياة أخرى مع طرف آخر. فما الذي يؤمّله الشاعر من امرأة يدعي أنه يحبها وتدعي أنها تحبه ولكنها ترتبط برجل آخر؟ فهي كما قال والد جميل بثينة: « ذات بعل يخلو بها وينكحها، وأنت عنها بمعزل، ثم تقوم من تحته إليك، فتغرك بخداعها وتريك الصفاء، والمودة،… » (الأغاني. ج:8/ 137)

أليس الشاعر العذري رجلا شاذا؟، يرضيه أن تكون حبيبته تحت رجل آخر » ينكحها.. ثم تقوم من تحته إليه.. » ليوهمنا أنه يقنع ب: » النظرة والبسمة والكلمة الحلوة …. » من التي يعتبرها » الحبيبة الوفية الطاهرة الملاك… » [النص الأول]

+++++

ورغم أن الحكاية الأولى تقول إن جميلا طلب جزاء يتمثل في « ما يكون بين المحبين »، وبما أن العلاقة الجنسية لا ترد في قاموس هؤلاء الشعراء، فلنتساءل عن:

أ كيف وصف الشعراء « العذريون » حبيباتهم؟. ولن نتيه في العثور على الجواب الذي يوضح تجسيد صورة الحبيبة من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، مرورا بمناطق الحساسية الأنثوية، من خدود، وعيون، وشفاه، ونهود، وأرداف، وعكن، وخصر، وأفخاذ، وسيقان،…ونعومة، ولين،…، أليسوا شعراء يقولون ما لا يفعلون؟ أليس المعيار الذي يميز به « العذريون » عن غيرهم من الشعراء يبقى وهميا غذته الأسطورة والخيال، ومن ثم يجوز لنا أن ننعت كل الشعراء الذين قدموا أوصافا جسدية للمرأة بالعذريين..

ب ثم ماذا يفعل الشاعر إذا تحركت غريزته الجنسية؟. نجد الجواب عند جميل بثينة في قوله: » ثم قال لها: يا بثينة، أرأيت ودي إياك وشغفي بك، ألا تجزينه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين ». ورغم أن سؤال جميل كما تحاول الحكاية أن تبرهن عليه كان مجرد اختبار لبثينة، فإنه بيقى أيضا جسا للنبض، فربما حلت لحظة « ضعف » بالحبيبة وعاملت شاعرها كما تعامل زوجها. ولكنها مصرة على « التلاعب » بعواطف الشاعر، فلا هي تصده بحزم أو قسوة وجفاء، بل تظهر تمنعها في غنج ودلال مُطمِع أكثر فأكثر، فيعتقد المسكين أن في الأمر تأجيلا، فيعيش على ذلك الأمل إلى أن يحاول مرة أخرى، ولن تفضي به إلى نتيجة أحسن من سابقتها،… وقد نستغرب ونقول إن جميلا واتته أكثر من فرصة لينتقل من الكلام إلى الفعل [النص الثالث] » فقامت [بثينة] إلى جميل فأدخلته الخباء معها، وتحدثا طويلا، ثم اضطجع واضطجعت إلى جنبه، فذهب النوم بهما حتى أصبحا. وجاءها غلام زوجها بصبوح من اللبن بعث به إليها. فرآها نائمة مع جميل… »

ولكن الشذوذ الذي يلاحق هذه العلاقات يبرز من جديد.. ويفرض الكثير من الأسئلة: أليس هناك انجذاب للحواس: هل العيون مفقوأة؟ وهل الآذان صماء؟ وهل الأنفاس والزفرات صقيعية مكتومة؟ وهل الأنوف مزكومة معطلة؟.. أما سرت في العروق حرارة محمومة، ولا في الأطراف رعشات متوثبة…؟

أم إن أصحابنا كالقطع الثلجية البريئة من العواطف البشرية؟؟؟؟.. ولنا أن نشك حتى في ذلك « الحديث الطويل الذي أخذ قسطا من ليلهما »، فلعله أكثر برودة من أحاديث الخصوم يلتقون مكرهين حول مائدة التفاوض.

ولو كان غير ذلك لأجج في النفوس لهيبها وحلّق بهما إلى الرحاب الوردية التي ستحرمها من الإغفاء، بله النوم.

وما دامت الروايات المحكية عن هذه الفئة من الشعراء تجافي المنطق العادي والطبيعة البشرية العادية، فالشذوذ الملاحق لهذه العلاقة قد يدفعنا إلى افتراضات لمحاولة استشفاف كنه هذه » العلاقة « . وستكون حتى أكثر الافتراضات شططا ذات موقع في التحليل.

+++++

كلما قرأت حكاية من نوع النص الأول، إلا وخطرت ببالي لفظة « السذاجة ». سذاجة الحكي، وسذاجة الحدث. كما تنهال التساؤلات: أين هي الغيرة؟ أين هي الحمية؟ أين العيون التي تتقدد شررا دفاعا عن الشرف؟ وأين..وأين..؟

ما أكثر الأوهام التي تصور عزة الرجل العربي وأنفته وشممه وغيرته وحمايته للشرف. تقول الحكاية: فقال أبوها [والد بثينة] لأخيها: قم بنا، فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل [أي جميل] من لقائها، فانصرفا وتركاهما. »

الأب – هنا – يتخذ قراره – بكل بساطة – ويبلغه لابنه في صورة الأمر. قرار يبيح لجميل أن يقابل فتاتهم « دون قيد أو شرط »، ودون اعتبار للتقاليد. وقد يقال: إن هذه حالة » شاذة « لا يقاس عليها ولا تسري على جميع الرجال بذلك المجتمع. وبذلك ينضاف » شذوذ » إلى » شذوذ « .

ولم لم يبق هذا القرار ساري المفعول أبدا؟ لم رُفع أمر جميل للسلطان؟ ولم أُهدر دم جميل؟… لنقرأ ما ورد في الأغاني ج:8/131: » إن السلطان أهدر دم جميل لرهط بثينة إن وجدوه وقد غشي دورهم، فحذِرهم مدة، ثم وجدوه عندها، فأعذروا إليه، وتوعدوه، وكرهوا أن ينشب بينهم وبين قومه حرب في دمه، وكان قومه أعز من قومها، فأعادوا شكواه إلى السلطان، فطلبه طلبا شديدا، فهرب إلى اليمن فأقام بها مدة ».

والد جميل هو الآخر حذره – باعتماد الصورة الجنسية لإثارة نخوة ابنه – إذ نجد في الأغاني: » يا بني، حتى متى أنت عَمِهٌ في ضلالك، لا تأنف من أن تتعلق بذات بعل يخلو بها وينكحها، وأنت عنها بمعزل، ثم تقوم من تحته إليك، فتغرك بخداعها وتريك الصفاء، والمودة، وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها… فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة. إن هذا لذُلٌّ وضَيْم.. فأنشدك الله إلا كففت وتأملت أمرك.. « (ج:8/ 137)

إذا كان الشعراء العذريون، وجميل – في مقدمتهم – بدون نخوة أو كرامة، ويستعذب الذل والضيم ويحمل نعت: العذري. فهل هذه » العذرية » المزعومة، وقْف على الرجال؟ لِم لَم يطلق على صاحبته: بثينة العذرية؟ سؤال لم يطرح قبل الآن، لتمحيص السلوك، لا لإثبات النسب لبني عذرة.

لنركز على الكلمات التالية في النص الثالث: فأدخلته…، ثم اضطجع واضطجعت… فرآها نائمة مع جميل،… خوفا من الفضيحة لا خوفا عليك،… وأقام… حتى أجنه الليل ثم ودعها وانصرف.

أهذه هي » النظرة العجلى.. ومن الحول إلى الحول » كما ذكر في النص الأول؟ هل كانت بثينة في نظره أشبه بالمعْلمة « المقدسة » التي يأتي إليها كل عام » متمسحا بأركانها »، يجدد لها خضوعه وذله، ويتلقى منها صكوك الرضا والتعميد.. فقط.. ثم: وداعا، وإلى فرصة مقبلة.

نبحث في النص الأول عن عبارة تجسد بعضا من سلوك بثينة، فنجد: » سعت أمَة لبثينة بها إلى أبيها وأخيها وقالت لهما: إن جميلا عندها الليلة،… « وبخلاف أم الجسر المتواطئة في النص الثالث، فإن الأمة والعبد هنا حاقدان على سيدتهما التي استغفَلتهما كالآخرين، غيوران من نجاحها في استقبال جميل – سرا – ثم إن « بثينة العذرية » خائفة. وممّ؟ هل من فضيحة » ما يكون بين المتحابين ».؟ ومع ذلك فهو خوف لم ينسها المقدرة على احتواء الوضع ومجابهة الآخرين بكل وقاحة.

+++++

ننتقل إلى نصوص أخرى واردة في الأغاني:

(4)[ تعرية امرأة.. غصبا]

بطلا النص هما: جواس بن قطبة العذري، وجميل بن معمر العذري اللذين كانا يتهاجيان ويتفاضلان في قول الشعر.

([ قال يهود تيماء لجميل بن معمر:] ولا تذكرنَّ… أباك في فخر، فإنه كان يسوق معنا الغنم يتيماء، وعليه شملة لا تواري استه. ونفَّروا[ نصروا] عليه جوّاسا،… ونشب الشر بين جميل وجواس، وكانت تحته أم الجُسيْر أخت بثينة التي يذكرها جميل في شعره إذ يقول:

يا خليلي إن أم جسير = حين يدنو الضجيع من عَلَلِهْ
روضةٌ ذات حنوةٍ وخزامى = جاد فيها الربيع من سَبلِهْ

فغضب لجميل نفر من قومه يقال لهم بنوسفيان، فجاؤوا إلى جواس وهو في بيته، فضربوه، وعروا امرأته أم الجسير في تلك الليلة. فقال جميل:

ما عرَّ جواس استُها إذ يسبُّهم = بصَقْرَيْ بني سفيان قيسٍ وعاصم
هما جردا أم الجسير وأوقعا = أمرَّ وأدهى من وقيعة سالم

يعني سالم بن دارة). (الأغاني ج:22/ 155)

[ عل، عللا: شرب ثانية أو تباعا، والمراد هنا هو الشرب من رضاب أم الجسير/ الحنوة:الريحان / السبل: المطر / عر: عاب وساء.]

ويمكننا أن نسجل الملاحظات التالية:

* « غضبوا له »؟ أبسبب المنافسة على الأولية في الشعر؟. تلك علة واهية لا تبرر فعلهم: » تعرية زوجة وضرب زوجها ».

* فعلهم نال رضى جميل، رغم أن المرأة هي أخت حبيبته التي ملأ الأرض تغنيا بها…فأين العذرية في القول والسلوك؟

* وبثينة ألها نخوة وغيرة على أختها؟ هل أرضاها شعر جميل في أختها، وما صرمته؟ هل كافأته عليه بإيوائه تحت خيمتها؟

* أين هذا مما يحكى عن غضب جميل بن معمر حينما هجاه جوّاس بن قُطبَة، وعرض بأخت له:

إلى فخذيها العَبْلَتَيْنِ وكانتا = بعهدي لَفَّاويْنِ أُردِفَتا ثقْلاً

[ عبلت الفخذان: غلظتا وضخمتا وابيضتا ]. [الأغاني ج:8/ 143)

لنقارن ما في النص السابق بالنص الموالي:

(5)[العبث بالكشف عن است امرأة…والحرب]

ثم كان اليوم الثاني من أيام الفجار الأولى. وكان السبب في ذلك أن شبابا من قريش وبني كنانة كانوا ذوي غرام. فرأوا امرأة من بني عامر، جميلة، وسيمة، وهي جالسة بسوق عكاظ في درع، وهي فُضُلٌ، عليها برقع لها، وقد اكتنفها شباب من العرب، وهي تحدثهم.

فجاء الشباب من بني كنانة وقريش، فأطافوا بها، وسألوها أن تسفر، فأبت. فقام أحدهم فجلس خلفها، وحل طرف ردائها، وشدّه إلى فوق حُجْزَتِها بشوكة – وهي لا تعلم – فلما قامت انكشف درعها عن دبرها، فضحكوا وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهك وجُدْتِ بالنظر إلى دبرك. فنادت: يا آل عامر. فثاوا وحملوا السلاح. وحملته كنانة، واقتتلوا قتالا شديدا. ووقعت بينهم دماء. فتوسط حرب بن أمية، واحتمل دماء القوم، وأرضى بني عامر من مثُلَة صاحِبتهم. [الأغاني ج:22/ 60]

[ امرأة فُضُلٌ: مختالة، تُفْضل من ذيل ثوبها./اكتنفها: أحاط بها./الحجزة: موضع التكة من السراويل، أو موضع الإزار من الوسط./ المثلة: العقوبة والتنكيل.ج: مثلات.]

فأي صنف يمثل جميل؟ صنف الشباب العابث اللاهي الخاضع للذل والضيم؟ أم صنف أصحاب الأنفة والحمية؟ وبالتالي: ما هي مواصفات الشاعر العذري قولا وسلوكا؟

ونعود إلى « بثينة العذرية » التي كانت خائفة – ربما – من فضيحة » ما يكون بين المتحابين ». والتي لم تجد حرجا في استقبال جميل بخيمتها، في غفلة من الزوج والأهل والأمَة، وكل الحي… « بثينة العذرية » هذه تفوقت بامتياز على صاحبة الأحوص.

(6)[ تعلمه سبيل الخيانة]

قال الأحوص:

قالت، وقلت: تَحَرَّجِي وصِلِي = حبْلَ امريءٍ بوصالكم صبُّ
وَاصِلْ إذًا بَعْلي. فقلت لها: = الغدر شيء ليس من ضربي
ثنتان لا أدنو لوصلهما = عِرْسُ الخليل وجارةُ الجَنْبِ
أما الخليل فلستُ فاجعَهُ = والجار أوصاني به ربي

[الأغاني ج:4/261]

لا يسع المرء إلا أن يقف مندهشا أمام هذه الأبيات: الأحوص يطلب الوصال من امرأة. فمن تكون هذه المرأة؟ الشاعر لا يعرِّفنا بها. ولكنها لا تعدو إحدى اثنتين: مجهولة بالنسبة له، أو يعرفها من قبل.

لنفترض أنه يعرفها من قبل، معرفة عامة، باعتبارها(عرس خليل أو جارة جنب أو جارة حي..أو أي نوع من الجوار). سنقول إن الأحوص ساذج إلى أبعد حد في محاولته اقناعنا بعفته، لأنه سيكون كاذبا في أحد الموقفين:

الموقف الأول ويتمثل في تخيله واختلاقه لامرأة مجهولة بالنسبة إليه يود التقرب منها (زير نساء)، كي يخلص من المشهد (الوضيع) إلى التباهي بعفة مصطنعة تتناقض أساسا مع طلب الوصال من امرأة. (اللهم إلا أن تكون شبيهة بقصة جميل بن معمر وبثينة؟؟؟؟).

الموقف الثاني والذي يفترض فيه أن الأحوص مثالي صادق العفة (الغدر ليس من طبعي الخليل لا أفجعه الجار أوصاني به ربي)، ولكن هذه العفة خانته في لحظة دعوته المرأة إلى ركوب الحرج كي تصله وينعم بوصالها (سواء كان يعرفها من قبل أو لا يعرفها). لحظة غابت عنه فيها القيم المثالية والدينية والأخلاقيات…

لنفترض أخيرا أن الشاعر كانت له نية سليمة في التقرب من المرأة بحيث كان يطلبها للزواج باعتباره الإنسان الذي يحمل لواء العفة، فهل رأيتم من يخطب زوجة المستقبل بعبارة: » تحرجي وصلي حبل امريء بوصالكم صب « . الصبابة للوصال لا لها، والحرج الذي يدعوها إلى ركوبه لا يمكن أن يمليه عفٌّ ينوي الزواج.

شيء واحد نراه يمثل الحقيقة الصادقة في الأبيات هو رد المرأة عليه، فهي تعلمه المكيدة التي يمكن أن تجمع بينهما في خيانة الزوج وخداعه، وبعد ذلك لا قيمة لدعوى الأحوص سواء كان زير نساء أو عفيفا.

وحتى جميل ضرب عرض الحائط بهذه « النصيحة » واعتمد وصفةً بثينيّةً – نسبة إلى بثينة – تلغي الزوج من حسابها، وتختصر « المسافة » إلى فراشٍ تضطجع عليه – بدون تحرج – « بثينة العذرية » و جميل العذري.

(7) [ حكم قيمة على شاعر » عذري« ]

(اجتمع بالمدينة راوية جرير، وراوية كثير، وراوية جميل، وراوية نصيب، وراوية الأحوص. فافتخر كل واحد منهم بصاحبه، وقال: صاحبي أشعر. فحكّموا سكينة بنت الحسين… ثم قالت لراوية كثير: أليس صاحبك الذي يقول:

يقر بعيني ما يقر بعينها = وأحسن شيء ما به العين قرت

فليس شيء أقر لعينها من النكاح، أفيحب صاحبك أن يُنكَح؟) [الأغاني ج:16/173]

فما الذي كان يقر بعين جميل؟ وما الذي كان يقر بعين بثينة؟ وما الذي كان يقر بأعين باقي الشعراء « العذريين » أو » العذريين الشذاذ »؟.

خاتمة

في النقد والتأريخ الأدبي عدد من التصنيفات التي اكتست مسوحا قدسية، تستدعي منا اعتماد رؤى أكثر جرأة لمراجعة الأنماط الجاهزة التي نحقن بها جيلا بعد جيل، ونتلقاها بتسليم يعطل عقولنا عن إعادة تشريحها.


.






صورة مفقودة
 
أعلى