قصة ايروتيكية أرثر ميلر - الحضور

[SIZE=6]أرثر ميلر
الحضور [/SIZE]


يستيقظ في السادسة إلا الربع والشمس تنطبع على وجهه، وجه لا يزال متقلصاً لِما تلقاه من انتقاد لعدم كفايته للنساء. ينسل من فراشه في صندل وسروال يصل حتى ركبتيه موجهاً لمحة سريعة إلى ذراعها العاري. هو المتعطش لضباب الصباح يخطو إلى برودة معتدلة ليسير نحو طريق الشاطئ فيما يلفه سديم يدوم. بل إن امتناناً يغمره لأشعة الشمس الضعيفة، للمسة دافئة لا تعقيد فيها ترسلها إلى ظهره. وبينما ينام صف المنازل المواجه للشاطئ وتستقر سياراته الناعسة بحذاء الطريق ويند عن صندله صوت كما الحفيف، يبحث هو عن الطريق العام المؤدي إلى الشاطئ وأخيراً يجده إلى جانب آخر المنازل بالصف. يتوقف أعلى الطريق قبل انحداره ليبصر أول لمحة من المحيط الفضي، موطن مياه مبجَلة ترجع إلى ماض بعيد في طفولته حين أحبته وأخافته بفورانها ورغوتها، بيضاء في القمة وسوداء في القاع، بكائنات حية في أعماقها المقدسة. أوشك ذات مرة على الغرق، في السادسة أو السابعة. يخطو الآن خطوة أخرى هابطاً ألواحاً خشبية متقلقلة ذات لون رمادي شاحب، ومن خلال عشب طويل كالرماح يجاوره، يصطدم بصره فجأة بجسد أبيض، رجل في قميص قطني أسود يطل عليه من فوق رأسه وهو ينيك. توقف ليشاهد. ببطء إلى الأمام وإلى الخلف، جسد شاب مشدود لوحته الشمس، على ركبتيه في تحكم لا تعوزه الصلابة، إلا أن المرأة الرابضة توارت تقريباً خلف رابية من الرمل والعشب. وبدون قرار من جانبه وجد نفسه يرجع صاعداً السبيل ليتوقف بجانب الطريق وقد خالجه شيء من السُخف. لا يوجد طريق آخر يفضي إلى الشاطئ، سوف يضطر إلى الانتظار. تمشى في صندله الواسع بحذاء منازل الشاطئ دون أن يندهش حقاً أن هيجاناً لم يدغدغه. ربما لأن شيئاً صامتاً مضبوطاً, وعليه ناء, يخامر هذا الغرام أو عله ما يشعر به من كبت. أياً كان، ما خلّف في نفسه سوى شعور بتقييد حريته، شعور ينبع من الكياسة ليس إلا. لكن سرعان ما حل محله استياء لمنعه من دخول الشاطئ؛ يا لها من فكرة، أن يفعلاها على مسافة عشر أقدام من الطريق العام! ولكن من ناحية أخرى ما كان لهما أن يتوقعا مرور أحد في هذه الساعة. ومع ذلك لا بد أن قلة من الناس تمر وقتذاك. فرَغا بالقطع، يعود إلى الطريق ليهبط منه مجدداً. يتمكن من إصدار كحة تحذيرية متأكداً هذه المرة أن كلاً منهما مستلق ولا شك بجانب الآخر، علهما يتغطيان ببطانية. يتوقف فوق الكثيب ليمد بصره إلى الرجل أسفله وهو لا يزال ينيك إنما أسرع قليلاً الآن، متطلباً ومهيمناً لا مراء في ذلك، قد يظن المرء أنه الإله بان ينيك الأرض نفسها. وعلى مرأى منه يتراءى الآن قليل من شيء كما الخوف، ثمة شيء مقدس في مثل تلك القوة، التبادل البدائي للهيمنة والخضوع. كان الرجل يندفع الآن قوياً صامتاً في ضربات أسرع وأطول وأكثر تحكماً. استدار وقد رانت على عقله الحيرة. رجع إلى الطريق قبل أن تتناهى إلى أذنيه صرخة وشيكة راوده الخوف منها الآن. لا رغبة له في شهود هديرها المقدس تقديساً لا يعدم العبثية، وكأنه في مشاهدتها قد يضفي عليها فحشاً أو أن بها تحدياً ما يفضل تجنبه.

تمشية أخرى، أطول هذه المرة. قطَع صف المنازل بالكامل تقريباً وصولاً حتى منزل ينزل هو وزوجته ضيفين عند أهله. آب في النهاية في محاولة أخيرة لدخول الشاطئ. اعتلى الكثيب ثم نزل منه. حلت سماء الأطلسي الزرقاء الصافية محل الضباب. وبجانب السبيل اضطجعت هيئة الرجل مدفوناً كما اليرقانة داخل كيس نوم بني ضارب إلى الصفرة الباهتة، أما المرأة فقد غابت عن الأنظار. تموج المحيط رائقاً، في سلام مع نفسه، وراح الزَبد المقوس يجرف منحدَراً معتدلاً من رمال بيج مضغوطة. خلَت المياه العذراء من البشر لكنه أبصر الآن، بعيداً إلى يمينه، امرأة في سروال قصير أسود وقميص قطني أبيض، تقف حتى كاحليها على حافة الأمواج المتقهقرة، تميل بجسدها مقحِمة يدين مفتوحتين في رغوة تجيش بلا هوادة. لم يسعه من على هذا البعد تبين شكلها عدا فخذين ممتلئين جميلين بيد أن شعرها لاح واقفاً في فتل متيبسة أشبه بالأسلاك. راقبها وهي تحدج البحر بعينيها، رآها وهي تتسلق المنحدَر منتقلة إلى الرمال الناعمة. التقطته بناظريها لكنها لم تثبت تحديقتها عليه. رجعت بقدمين ثقيلتين إلى كثيبهما وفرشت بطانية لتقعد بجوار الرجل المحجوب الراقد على جنبه مثني الرجلين. فصلت بينهما مسافة قدم أو اثنتين. التفتت لتلقي نظرة على شكل مثله مثل الخادرة يستقر جنبها ثم استرد البحر طرفيها. جففت يديها بالبطانية وبدت وكأنها تطلق تنهيدة تمددت بعدها رافعة ركبتيها. انقَضت عدة لحظات ثم استدارت على جنبها ليُدبر ظهرها كيس النوم.

سار صوب طرف البحر ففطن إلى أن ما بدر منه من هسهسة المص والدفع هو مصدر أصوات كان يسمعها طيلة الوقت. ومن غير أن يضمر خطة معينة، مضى يتسكع على طول حرف المياه مبتعداً عن الزوجين. استولت عليه الإثارة لمجرد تأمله أغوار المحيط؛ لا شيء في الحياة في مثل فيضها بالأحاسيس، في مثل حكمتها وإسعادها المضلِل بما يند عنها من ضربات مهدئة وما يحشده مزاجها القاتل من كراهية. جوع الصباح؛ عاد أدراجه نحو السبيل المؤدي إلى الشارع لكنه توقف بعد بضع خطوات لمرأى الاثنين يتمددان هناك على مسافة عدة مئات من الأقدام، قوقعة الخادرة والمرأة مثنية الرِجلين توليها ظهرها. قعد على الرمال وعيناه تحملقان. تساءل في قرارة نفسه لماذا تصور أن شعوراً بالهجران والتعاسة ينتابها الآن ولا ريب. لماذا تصور أن الرجل قد لا يكون فحلاً لم تعد راغبة في أية صلة به؟ علها طاردته ثم اصطادته وهي الآن ترقد هناك منتصرة، تستريح قبل غزوتها التالية. أخرسان شأنهما شأن قردين، تفكَّر. اثنان منهما في قفص، يحل عليهما الصمت والتخمة. وهناك الشمس. إن أمواج البحر لهي الدوران السريع للأرض وقد انكشف للعيان. جلست الشابة فيما لبث الرجل هامداً في كفنه بعد أن فعل ما يمكن فعله بسخريته السابقة من الموت. كانت تحملق إلى البحر في حين لا يزال امتداد الشاطئ مقفراً كل الإقفار. لا بد أنهما قضيا الليلة هناك. علها نيكتهما الثانية. استدارت الآن ببطء ومدت بصرها إليه عبر الضوء. غض تحديقته بما يشي بالاحترام؛ فقد مسه لسبب ما الذنب لِما يعلمه عنها ثم صمم على مقابلة عينيها الشاخصتين بمثلهما. نهضت على قدميها في هدوء وتقدمت نحوه. وفيما كانت تدنو منه، طالع استدارة وركيها وعنفوان ثدييها. اتصفت بقصر القامة. اقتربت منه فأدرك أن شعرها المتجعد المتقبض مجرد وهم تسبب فيه بطريقة ما السديم وضياء الشمس؛ الحق أنها نعمت بشعر بني كثيف مقصوص حتى قفاها ووجنتين ممتلئتين وعينين بنيتين غامقتين. امتدت ناصية شعرها على شكل V وتحلت بقرطين برتقاليين من المرجان في حجم نصف دولار. ثمة ضمادة حول إبهامها الأيسر؛ ربما أنفقت وقتاً طويلاً على الشاطئ بزجاجاته المكسورة وخشبه المليء بالشظايا. كفت عن السير لتقف أمامه حيث جلس متربعاً.

"هل معك ساعة؟"
"لا، لكنها حوالي ستة ونصف."
"شكراً."
وجّهت لمحة تحفل بالتردد إلى البحر من خلفه. "هل عندك منزل هنا؟"
"لا، أزور ناساً في العطلة الأسبوعية."

"آه." هزت رأسها بعمق عدة مرات شأن الفيلسوف لكنه – سواء يحاول ادعاء الأهمية أم لا – طفق يشعر بأنها شملته في رؤيتها للموجودات، أياً كانت تلك الرؤية. بدت وكأنها تقبلت جلوسه هناك باعتبارها مسألة محتومة، الشخص الوحيد على الشاطئ بالإضافة إليها هي وحبيبها. وقفت مرتاحة ضاغطة طرف مفصول من الضمادة على جلدها. ثم انصرفت عن إبهامها إليه وأمالت رأساً منخفضاً لتسدد إليه عيناً فاحصة مستوعبة. اتسع ثغرها عن ابتسامة ناعمة متراخية كما لو كانت تتوقع إقراراً ما يصدر عنه. شعر بالاحمرار يتصاعد إلى وجنتيه. ارتفعت منها تنهيدة تنم عن الاطمئنان ورنت من جديد إلى المياه فيما أسبغ عليها ذقنها المرفوع قدراً من النبل. أدرك سخافة تفكيره أما وقد صارت هي الآن المسؤولة عن الشاطئ.

لقد طرأ شيء. اكتشف دون استيعاب وفي شيء من الخوف والتعاسة أنه قد أوجد رابطاً، أنه ليس بمفرده، فعقد العزم ألا ينطق بحرف آخر ما لم ينطق به لهدف. كان قد مارس الغرام على هذا الشاطئ منذ ثلاثين عاماً خلت. قامت عند ذاك منازل أقل. ربما فعلها فوق العشب على نفس الكثيب وإن استحضر أن الكثيب الذي فعلها فوقه لاح أكثر ارتفاعاً. وافتها المنية الآن، كانت بحلول ذلك الوقت هيكلاً عظمياً, حسبما ظن. غير أنهما لم يفعلا ما فعلاه في صمت مطبق كما خيم عليهما الظلام، فقد استدعى سبيل القمر وهو يلمع فوق المياه مثل الطريق فيما امتد نوره نحو شعرها الأسود.

ألن تتكلم؟ حاول أن يُظهر انشغالاً إلا أن الخوف امتزج بمشاعره وهو يرتقي إليها بطرفه. رمى عينيه نحو الكيس فوجده ملازماً لمكانه وكأن شريكها غادر إلى عالم آخر. بيد أن علامات النعاس لم تبد عليها. علها لا تزال تنبض. عبَرت الأفكار حاجز جبينها وعينيها المنخفضتين. ومن زاوية رؤيته لاحت رجلاها الراسختان كعمودين ينهضان من الرمال.

"أنتَ رأيتنا."
انقطعت أنفاسه لكنه تشبث بحقه. "لم أكن أعرف أنكما هناك. ..."
"عارفة، أنا رأيتك."
"بجد؟ لم أركِ. كنتِ مختفية وراء العشب."
"ومع ذلك استطعتُ أن أراكَ. هل بدونا رائعين؟"
"في منتهى الروعة."

استدارت لتلقي نظرة سريعة في اتجاه الكيس ثم هزت رأسها وكأن عجباً لحق بها من شيء ما. تركت نفسها تهبط على الرمال معاودة النظر من فوق كتفها لتتيقن على ما يبدو أنه لم يتحرك بعد. جذبت كاحلها أسفل فخذها لتقعد مستقيمة الظهر في مواجهته تقريباً، في وضعية أشبه بنصف زهرة اللوتس. تراءت طلعتها الآن شرقية الملامح إلى حد كبير، بوجنتين ممتلئتين تضغطان على عينيها لترسلا تحديقة ضيقة. "رجعتَ مرة، أليس كذلك؟"

"مم، ظننتكما انتهيتما."
"لم أتمكن بالفعل من رؤيتك لكني شعرت بوجودك هناك."
"ماذا تعنين؟"
"لبعض الناس حضور."

جلست صامتة وأخذت تتفرس فيه. بدت وكأنها في انتظار حدوث شيء متفق عليه سلفاً. لم يرغب في أن ينبس بشيء أو يقْدم على شيء قد يتسبب في إحراجه أو إبعاده عنها. تحول بناظريه إلى البحر هنيهة متظاهراً بالاسترخاء بلا ضرورة لهما إلى التحدث لأن سكينة أي سكينة حوتهما في صمتهما المشترك. لكنها نهضت على مفاصل طالها الزيت لتخوض في المياه عدة ياردات. تورد وجهه لِما ساوره من مبادئ خجل من فقدانه إياها ثم قرر أن يتبعها. سار وراءها في المياه رغم تذكره وجود مطواة جميلة في جيبه – هدية عيد ميلاد زوجته – سوف تتلفها المياه المالحة. انسلت تحت موجة ناعمة. كان الماء بارداً برودة تنفر السُباح لكنه ترك نفسه في غماره ليعوم بجوارها. استقاما في المياه وأقدامهما لا تنفك تضربها على حين واجه كل منهما الآخر. طفت بنعومة مقتربة منه لتضع يداً على كتفه. شد خصرها ثم شعر برجليها تنفتحان لتلتفا حول جسده. ارتطمت موجة برأسيهما فتعالى سعالهما وضحكهما. أمسكت وركيه وجذبته نحوها لتُقبله بشفتين باردتين ثم تسللت سابحة بعيداً لتخرج من المياه إلى الشاطئ مكملة طريقها صوب حبيب لم يزل ساكناً.



بزغ من المياه وارتد انتباهه إلى جيبه فسحب المطواة ليفتح أنصالها الأربعة. مسحها بأصابعه الندية ونفخ فيها ليُذهب الرطوبة عن أجزائها المتداخلة ثم اتخذ مجلسه على الرمال. لم تكن معه منشفة إلا أن الشمس بدأت تبعث بأشعتها الدافئة. أصيب بالدوار لِما داخَل رئتيه من هواء منعش فرمى رأسه إلى الخلف وأرخى جفنيه ليستوعب كل شيء في استرخاء. لا بد أن ثمة شيئاً ينبغي عليه عمله. التفت رانياً عبر الشاطئ ليجدها تحملق إليه من مجلسها على البطانية. علِقت عيناه بعينيها كطرفيّ خيط طويل من الحرير. الآن سوف يفقدها. عاودت وركيه أوجاع مألوفة. تمطى ورقد على ظهره مستدعياً ما أحرزه من انتصار ضئيل للمسه جسدها وبطريقة ما روحها ثم أغلق عينيه. المدهش أن أصابع النوم طفقت تزحف إلى ما وراء عينيه المغلقتين؛ أحياناً ما تتركه السباحة في البحر في مثل استرخاء حالته بعد الجنس، فأحس أن بمقدوره أن ينعس الآن لو ود. بدأ مشهد حلم يتكون في مخيلته إلا أن الشمس كانت تسخن سريعاً وسوف تحرق جلده، لذا جلس ونهض على قدميه. أرسل لمحة ثانية عبر الشاطئ نحو كثيبها الواقي فألمت القشعريرة بقلبه. لقد ذهبا. طارت الصدمة إلى معدته مهددة بالتقيؤ. كيف لهذا أن يحدث بمثل تلك السرعة؟ كانا سيضطران إلى طي بطانيتها وكيس نوم الرجل وتعبئة بضعة أشياء أخرى راقدة حولهما. حث الخطى إلى الكثيب حيث كانا غير أنه لم يجد مخلوقاً، وقد كانت الرمال هنا متقلقلة بما يحول دون الاحتفاظ بآثار الأقدام. تضخم ورم من الخوف داخل صدره وأداره في جميع الاتجاهات لكنه لم يلْف سوى البحر والشاطئ الشاغر. هرول إلى السبيل المُعبد بالألواح الخشبية على أمل الوصول إلى الشارع قبل اختفائهما. أمسكت قدماه حين وقع بصره على قميص قطني أبيض معلق على أسنة العشب الذي يشبه الرماح. خفَض يديه ليلتقطه فاستشعر في القطن دفئاً جسدياً طفيفاً للغاية أم أن حبيبين سابقين نسياه هنا ولم تدفئه سوى حرارة الشمس؟ حل به الخوف من أن يكون قد خطا فوق حافة الكبح نحو الضياع المطلق. بيد أن روحه فاضت في نفس تلك اللحظة الحالكة ببهجة متناهية لم تعد متصلة بأي شيء. علا السبيل المؤدي إلى الشارع ثم ظهر في الطريق المتجه نحو المنزل مستقره. تفكر في غرابة عدم اكتراثه إذا ما كانا هنا بالفعل أم لا لو أن ما شاهده بث في نفسه سعادة أيما سعادة؟


_________________
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى