إبراهيم فرغلي - الإيروتيكا في مجتمع يحتقر الجسد

إبراهيم فرغلي
الإيروتيكا في مجتمع يحتقر الجسد


من بين الادعاءات النقدية التي أتابعها بفضول، مبتئسا من محاولات تمرير الأكاذيب النقدية التي تروَّج عادة في مناخ الانحطاط الثقافي والفكري، الذي ننعم به منذ سنوات، مقولتان دعائيتان هما "الانفجار الروائي" و"كتابة الجسد"، ولأن المقولة الأولي ليست موضوعا لما أهتم به هنا فسوف انتقل مباشرة للأكذوبة الثانية. كتابة الجسد واحدا من المصطلحات التي شاعت مع الضجة الإعلامية التي صاحبت تناول أعمال بعض الكتاب المصطلح علي تسميتهم بجيل التسعينات، والتي تم تناولها بالكثير من الدعائية ودون قراءة نقدية حقيقية. وبالرغم من أن مصطلح كهذا قد يوحي لمن يقرأه أو يسمعه أنه بصدد ظاهرة من الكتابات المحتفية ببحث تأمل علاقة الفرد المعاصر بجسده، ودلالات هذه العلاقة في علاقة الفرد بالسلطة مثلا، أو بالتعبير عن ظاهرة كتابة إيروتيكية تمثل تيارا جديدا في الكتابة بكل ما يحيل إليه ذلك من مضامين جمالية واجتماعية وأدبية، أو ربما بحث ثورة كتابية تري في حرية الجسد او الثورة الجنسية ثورة موازية وتجد امتداداتها في الكتابة.
غير أنني لا أظن أن هناك تيارا أدبيا من هذا النوع، بطبيعة الحال، في الأدب المصري كله، وأظن أن المحاولات المتعسفة التي حاولت قراءة أغلب تجارب التسعينات انطلاقا من الربط المجاني بين تجارب الكتابة التسعينية التي تعبر عن آفاق ذاتية وربط الذاتية بالجسد قد اطلق هذا الكليشيه الوهمي. بل وعلي العكس فإنني أعتقد أن كتابات جيل التسعينات في غالبيتها العظمي هي كتابات بيوريتانية أخلاقية طهرانية، تنأي عن الجسد وعن الإيروتيكي بامتياز، وباستثناء تجربة هناء عطية في مجموعتيها القصصيتين "شرفات قريبة"، و"هي وخادمتها" التي تناولت فيهما إحالات بالغة الحساسية حول الجسد الأنثوي تعبيرا عن ذاتيته، وفي بعض قصص مي التلمساني خصوصا في مجموعتها "خيانات ذهنية"، وفي جمل والتفاتات متناثرة في نصوص نورا أمين، وربما أعمال أخري لا تمثل تيارا او ظاهرة، فإنني لا أستطيع أن أتذكر نصا مؤثرا يتناول الجسد بالشكل الذي يمكن الخروج منه بدلالات خاصة في موضوع كتابة الجسد.
لست مهتما هنا علي أي حال برصد موضوع كتابة الجسد نقديا، لكنني أود التأكيد فقط علي أن الجسد في مصر قد ظلم ظلما بينا في المجتمع تماما كما في الكتابة، وأن الكتابة عن الجسد ربما تحتاج إلي الكثير من الدرس والتأمل وهو ما اشعر به من خلال العديد من التداعيات التي كانت ولا تزال تناوشني خلال مرحلة أوشكت فيها من الانتهاء من مجموعة قصص إيروتيكية تحاول أن تحتفي بالجسد بوضعه في اختبارات وجودية مختلفة.
حين قفز الجندي الملتاث في الهواء ليسقط بحذائه العسكري مرتطما بجسد الفتاة، مثني وثلاث ورباع، التي نعرفها اليوم باسم "ست الكل" والتي عرت ذكورية المؤسسة العسكرية والمجتمع المصري كله، ونعم "كلّه" مع سبق الإصرار، كاد قلبي أن يتوقف من فرط العنف الذي كان الجندي الملتاث؛ غِلّاً ومقتا وعنفا، يوجهه للجسد الأنثوي المتكوم علي الأرض بلا حول أو قوة ليتلقي طعنات الركلات المذعورة باستسلام.
وسوف ستظل هذه اللقطة نموذجا للعار الذي كلل مؤسسة السلطة العسكرية الحاكمة في مصر في المرحلة الانتقالية خلال الثورة، وللأبد، لكنها ستكون في الوقت نفسه أيقونة من أيقونات الحماس الآني والمستقبلي لاستعادة إنسانية هذا المجتمع التي أهدرت بجهد منظم علي مدي عقود.
هذه اللقطة تعبر، في الوقت ذاته وبامتياز، عن مدي احتقار المجتمع المصري كله للجسد البشري، وتتضافر مع مجموعة أخري من الصور التي لا تبدأ عند الجندي التافه الذي تفاخر بالتبول علي المتظاهرين، ولا تنتهي عند ظواهر المخصيين معنويا ممن تحرشوا بالمتظاهرات في اكثر من مرة خلال العديد من الاعتصامات والتظاهرات ، خصوصا تلك المعنية بالتعبير عن رفض النساء في مصر لظاهرة التحرش الجنسي.
في عام 1919 خرجت المصريات الثائرات مع إخوانهم من الشباب والرجال مطالبات بعودة الزعيم المنفي سعد زغلول، ممسكات بعلم مصر، وصارخات بشعارات الحرية والثورة ضد المستعمر، أغلبهن ارتدين الزي التقليدي، الشائع آنذاك، ممثلا في العباءات والبراقع، وكثيرات منهن كن سافرات خصوصا طالبات المدراس زهؤلاء الثائرات واجهن بنادق العسكر ببسالة، ولم يخمد ذلك من حماسهن للثورة، بل تقدمن في المواجهة وتعرضن للإصابات، واستشهدت منهن الكثيرات، لكننا لم نسمع او نقرأ عن تحرش الثوار بهن من جهة، ولا تعرضهن للتحرش من قبل جنود الاحتلال او سواهم.
وفي عام 2012، اي بعد ما يناهز القرن، وبعد أن اصبحت أزياء الرجال والسيدات متماثلة (البنطلون والقميص او التي شيرت) تعبيرا عن رفض المجتمع للتمييز بين الجنسين، تُفاجئنا ظاهرة التحرش الجنسي الممنهج والمنظم من قبل البلطجية والمندسين تجاه حرائر مصر وسيداتها، والذي يباركه فصيل من تيارات الإسلام السياسي مثل الإخوان المسلمين وسواهم من خلال تساؤلهم عن اسباب نزول السيدات للتظاهر بدلا من الإدانة غير المشروطة للتحرش بوصفه امتهان لبنات مصر وسيداتها وامتهان لكرامة المصريين جميعا، تعبيرا عن المنهج الذكوري الذي لا يزال يحكم الذهنية السلطوية والشعبوية في مصر علي السواء.
في تأمل الصورتين يمكن أن نري كيف تحول المجتمع من مجتمع متصالح مع ذاته، متقبل لوجود المرأة بين صفوف المواطنين، في ثورته علي المستعمر، رغم أن نزول المرأة للشارع أصلا في ذلك الوقت، ولدي العديد من الفئات يعد ضربا من الخيال، إلي مجتمع مريض باحتقار الذات، يوجه احتقاره لذاته في انتهاك السيدات، وفي محاولة تحويل القهر الواقع عليه إلي جسد المرأة، كأنه يحاول نقل القهر من مستواه الذي يخص العنصر البشري بكل طوائفه إلي حلقة الجنس، بإسقاط ما يتعرض له من انتهاك إلي الجسد الأنثوي.
في مجموعته القصصية البديعة "الموت يضحك" يرسم المبدع محمد المخزنجي صورة إنسانية بالغة الحساسية لتصوير هذا التناقض في كراهية الجسد في قصة "أمام بوابات القمح" حين ينشغل الراوي وعدد من الفتيان بالفتاة "زمزم" التي تسقي العمال، وتداعب خيال الفتيان بجمالها، وتشغلهم بكونها الفتاة التي تقبل علي العمال العطشي ولا تلتفت إليهم فيقررون من فرط انشغالهم بها وحسرتهم ويأسهم في الوقت نفسه من تمنعها عليهم ان يقتلوها، وهكذا يتربصون بها وهم ممسكين بسكاكينهم ويتأهبون بعنف أجسادهم، لكنهم يباغتون في ذروة انفعالهم الهمجي والعنيف عند أولي احتكاكاتهم بالجسد الغض الفتي، بالتشوش وتباين مشاعرهم وانقلابها ، بين لحظة واخري، إلي حال من النشوة والهيام فترتخي قبضاتهم علي السكاكين، وتتقلب ارواحهم من ذروة الكراهية إلي النقيض.
وحين أتأمل هذا التناقض من جهة، وطابع العدوانية الذي يمثل ظاهرة التحرش لا يمكنني ان أري فيها سوي حلقة من حلقات العدوانية التي يوجهها الفرد لذاته، عبر ترسيخ لثقافة احتقار الجسد، وكراهيته، كتعبير لاواعي عن احتقار الذات.
اذا استثنينا الجيل الجديد من الشباب والفتيات ممن يظهرون لونا من ألوان الاهتمام بالجسد علي مستوي الحفاظ علي الرشاقة والرياضة، والعناية بالزينة، وهم استثناء بين الثمانين مليونا، فإن الصورة العامة للجسد المصري هي صورة لمجتمع يمتلك أجسادا مترهلة ممتلئة بالشحوم وبالتثنيات والتغضنات التي تتسبب فيها عادات التغذية السيئة، إما بسبب الفقر أو الجهل أو كلاهما معا.
أجساد مرتخية، كأنها تعبر عن حال من الاستسلام التام لمصيرها، وللسلطة التي تمارس عليها أبشع ألوان القهر والتجويع والتغييب العقلي، ورفض كامل لأي محاولة لنقد الذات، أو تأملها حتي في المرايا، وتماه مع الصورة العامة التي يشكلها هذا الجسد المريض المبتلي بأمراض مزمنة عدة، من السكر وضغط الدم إلي التهاب الكبد وامراض القلب.
أجساد تعبر عن أزمة حقيقية لمجتمع يتخلي عن أي مسؤلية تجاه جسده بوصفه وعاء الروح ومستودع النفس، ولا يري نفسه في الصور التي تقدمها الشاشات لنجمات السينما ونجومها رموز الرشاقة والعناية بالبدن، فمقابل أحمد السقا ومصطفي شعبان وأحمد عز، مثلا، كنماذج لنجوم الرشاقة والصحة والأجساد المعتني بها، هناك أيضا صلاح عبدالله وأحمد رزق مثلا، وهما نجمان لا شك أن الكثير من المصريين يرون فيهما تجسيدا لهم علي المستوي الجسدي. وبالتالي فلا يؤرقهم كثيرا أن يروا صور النجوم المثاليين.
ففي المظهر الرياضي الرشيق للأنثي أو الرجل تأكيد علي ارداة الذات، وعلي الفعل، وعلي ضبط الجسد، والسيطرة عليه، وبالتالي السيطرة علي الذات في مواجهتها وفي مواجهة المجتمع والسلطة، بينما ما يميل إليه الفرد هو النقيض: اللاإرادة، الاستسلام للقدر والمصير، شكلا ومضمونا.
ومع انتشار ظاهرة التحجب الشكلي التي لا ترتبط بأية مظاهر للتدين، يبدو أن المجتمع المصري قرر أن يعبر عن كراهيته لجسده بطمس هذا الجسد وإخفاء ملامحه وتشوهاته عبر الحجاب والنقاب والاسدال وسوي ذلك من مظاهر الحجب الجسدي، وبهذا يمكنه أن يمتنع نهائيا عن نقد ذاته أمام جسد مخفي بلا وجود.
في الفترة التي سبقت سقوط مبارك حين كنا جميعا، من يقف في الميدان وخارجه، ننتظر بفارغ الصبر لحظة السقوط التي كانت رغم اليقين في اقترابها بعيدة ونائية، كتبت أنه "كما تكونوا يولي عليكم"، محاولا ان اطرق الرؤوس والعقول وأقول لا تسقطوا الخطايا كلها علي الرجل الآثم وهو آثم فعلا، وتأملوا خطاياكم في الوقت نفسه، وجاءني تعليق من صديقة ثورية شعبوية قدمت لي عبره نقدا يقول بأننا لا يمكن أن نكون بهذه البشاعة.
هالتني الصورة التي تتخيلها أو تتوهمها فتاة من فئة تعبر عن المعارضة وتمثل صوتا ثوريا بامتياز، إذ تحاول أن ترسم لنفسها ولجموع الشعب المصري صورة مثالية مزيفة عن ذاتها وعن هذا الشعب الذي يتجلي اليوم مدي التفاوتات الكبيرة في وعيه وإدراكه وانتماءاته وفي سلبياته أيضا، وبينها حال المازوخية التي تقبل بعودة رمز من رموز النظام المخلوع بدعوي رفضها للإسلاميين أو بدعوي الاستقرار وما شابه. بل وتتجلي سلبيات ثواره أنفسهم، بل ومثقفيه، في تشرذمهم واختلافاتهم التي لا تنتهي، وتجعل من ائتلاف شباب الثورة فروعا يعبر كل منها عن قرار فردي لا يلتزم به الآخرون!
هل نحن بهذه البشاعة؟ الحقيقة أننا لا نتأمل ذواتنا فعلا لكي نجيب علي السؤال، أو حتي لندرك أننا حين نردد مثل هذه المقولة نتماهي مع خطاب السلطة الفاسدة الذي يردد كلاشيهات عن الريادة وعن الإصلاح ليزيف لنفسه أوهامه التي يغذي بها مبررات استمراره في التحكم في مقادير العباد، ويزيف لأتباعه صورا ساذجة يحاول بها أن يخفي الصورة الحقيقية، حقيقة أنه قاد المجتمع المصري بامتياز إلي هاوية الرجعية والتخلف.
حين عرّت فتاة شابة نفسها ونشرت صورتها العارية علي مدونتها قامت قائمة الجميع، أدانت الفتاة وجردتها من قوائم
الحشمة التي يدعي المجتمع المصري ملكيتها بامتياز، مستعميا نفسه عن تناقضاته الفاحشة والفاجرة في كثير من الأحيان، كما نزعت اسمها من قوائم التدين والأخلاق الرفيعة التي يزعم المجتمع امتلاكها ايضا بامتياز. ونزعوا اسمها من قوائم الثورة إذ ألقي بها الثوار خارج الميدان ! بل حتي المثقفين أصابتهم صشدمة، ولم يعرفوا كيف يتعاملون مع الموقف. هل يضعون الفتاة في منطقة الإدانة، أم يضعون، هم بأنفسهم، سقفا أوحدودا لحريتها، ليباغتوا بوجودهم في نفس الخندق الذي يقف فيه من يضعون الحدود لنا كل يوم لكي نري أو لا نري أو نقرأ أو لا نقرأ ما يتصورون انه الواجب والحق ونقيضه الحرام والضلال.
وهكذا يدور المجتمع في دائرة مرضه المزمنة، البحث الدؤوب عن مكامن ضعف الآخرين وسلبياتهم وانتقادها بعنف يلوذ به الفرد فرارا من انتقاده لذاته، أو توهم المثالية فطالما يشير إلي سلبيات الآخرين فهو ضمنيا يقول بأنه لا يمتلك مثل تلك السلبيات وانه ينتمي إلي فريق المتطهرين وأهل الصواب.
في مجتمع كهذا يكون من الطبيعي جدا خلو قاعات الفنون ومتاحف الدولة من الفن العاري، كما يكون طبيعيا أن تكون المؤسسة المسؤلة عن تخريج الفنانين الأكادميين تفتقد رسميا لمنهج رسم الموديل العاري الذي يعد اساسا من اسس التدريب علي التشريح كجزء تقليدي في كل مدارس ومناهج الفن التشكيلي في العالم. كما يكون بديهيا أن يتنصل حتي كبار الفنانين من أعمالهم العارية إن وجدت، كما فعل مثلا فنان كبير بقامة الفنان الراحل بيكار، والذي اشتهر في مرحلة من حياته، مثل أغلب فناني جيله بلوحات عارية، تنصل منها في حوار أجريته معه بمناسبة تحقيق اجريته عن منع الموديل العاري في كلية الفنون قبل سنوات من رحيله.
وبالتالي أيضا ليست لدينا دراسات محترمة تتتبع جماليات الجسد المصري والعربي إجمالا، وتتلمس طبيعة التغيرات التي طرأت علي مقاييس ذلك الجسد جماليا وبحث طبيعة التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أثرت علي الفرد حتي يمر بهذه التحولات الجسدية.
وحتي حين أصدرت الشاعرة اللبنانية جمانة حداد مجلة "جسد" كأول مجلة من نوعها تحتفي بالجسد وثقافته، لم تجد سوي الثقافة الغربية لتنتهل منها، فبدت المجلة في أعدادها الأولي وكأنها تعبر عن جسد آخر، جسد متحرر غير معوق بالممنوع والتابوهات ما جعل السؤال ملحا :"أي جسد هذا الذي تعبر عنه المجلة؟" وأين هذا الجسد الحر الجميل المتعالي عن التابوهات من الجسد المراق دمه، والمنكل به والمنتهك في اقسام الشرطة والسجون؟ والمذبوح غيلا وغدرا من أجهزة المخابرات والأمن السرية في ارجاء الوطن العربي، والمقموع من الحركات التطهرية التي تمارس السلطة الدينية علي البشر باسم الآلهة؟ وأين هذا الجسد المتنعم من أجساد منعتها انعدام الحقوق الأساسية مثل توافر المياه والفقر من النظافة حتي ولن اقول من وسائل التزين والتجميل؟
في النهاية جمانة تعبر عن جزء من ثقافة المجتمع اللبناني، أما مصر التي اهتم برصد الظاهرة فيها هنا الآن وهنا فليس بها حتي "جسد" ولا يحزنون.
علي تويتر تقول فتاة امريكية من بين آلاف الحسابات التي أتابعها علي الشبكة الاجتماعية الشهيرة، أنها تمارس الرياضة ليس من أجل الصحة، بل من أجل أن تشعر بأنها مثيرة حين تقف عارية أمام المرايا. الفتاة تقول ذلك وهي تمتلك حسابا باسمها الحقيقي، وهذه الجملة علي بساطتها تتحمل بدلالات تشير إلي شفافية المجتمع الذي تنتمي إليه، وعن قدرة هذا المجتمع ورغبته في تحمل مسؤلية الفرد فيه تجاه نفسه اولا وإزاء مجتمعه أيضا، فما الداعي لاختيار القبح الجسدي ودعمه باسم الدين والحشمة وتجاهله بالهروب من المرايا إلي عتمة الحجب والستائر؟
في المقابل طبعا ليس من المتصور إمكانية أن نري نري فتاة عربية تفعل ذلك إلا فيما ندر، وإن فعلت فباسم وشخصية وهميتين، وهنا سوف تنتقل من مجرد مكاشفة الذات إلي نوع من الهيستريا في التعبير عن الشهوات والتعبيرات الماجنة، ولا يمكنها ربما حتي أن تتعرض للانتقاد، طالما أنها تخفي هويتها، وإن فعلت فسوف يكون مصيرها مثل مصير علياء المهدي في أفضل الأحوال.
في مجتمع كهذا لا يبالي بالقبح بل ويتستر عليه لن يكون من المفاجيء ان نري اعتياده علي القبح في كل شيء، في الطرقات وفي الأبنية التي اسودت من فرط ما اغتبرت، وفي الوجوه التي لا تقرب الماء إلا لماما، وفي أكوام الزبالة التي لا تلفت انتباه أحد ولا تحرك ضميره، وكما أن الجسد وعاء الروح فإن الواقع المادي القبيح الذي نعيش فيه هو وعاء أجسادنا ومسلكنا.
إن مجتمعا يفوح فيه القبح علي هذا النحو هو مجتمع غابت منه المرايا بامتياز، بينما تكسر وتشرخ ما وجد منها عن عمد، ولا سبيل لإحياء جماله إلا باستعادة كل فرد فيه لقدراته علي نقد ذاته، وتقبل جسده كإناء لروحه، واستعادة الروح الفردية التي تري في جسدها جزءا من إرادتها الحرة، وفي استعادة ثقافتنا لتراثها الخصب في رعاية الجسد والوعي بمركزيته في مواجهة العالم وفهمه، هذا التراث الذي فصل كل جزء من أجزاء الجسد في بيان جماليات جسد المرأة والرجل، وأخيرا وليس آخرا لا سبيل لإحياء جمالالمجتمع وأفراده سوي في توازي ثورة فنية وأدبية، مع الثورة الشعبية التي أعادت لنا الروح، لكي تعيد للجسد العربي مكانته التي امتهنت لعقود.
- تقول فتاة أمريكية علي تويتر..امارس الرياضة ليس للحفاظ علي صحتي بل لكي ابدو مثيرة حين أقف عارية أمام المرآه.


نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 06 - 2012


.


إبراهيم فرغلي
الإيروتيكا في مجتمع يحتقر الجسد


من بين الادعاءات النقدية التي أتابعها بفضول، مبتئسا من محاولات تمرير الأكاذيب النقدية التي تروَّج عادة في مناخ الانحطاط الثقافي والفكري، الذي ننعم به منذ سنوات، مقولتان دعائيتان هما "الانفجار الروائي" و"كتابة الجسد"، ولأن المقولة الأولي ليست موضوعا لما أهتم به هنا فسوف انتقل مباشرة للأكذوبة الثانية. كتابة الجسد واحدا من المصطلحات التي شاعت مع الضجة الإعلامية التي صاحبت تناول أعمال بعض الكتاب المصطلح علي تسميتهم بجيل التسعينات، والتي تم تناولها بالكثير من الدعائية ودون قراءة نقدية حقيقية. وبالرغم من أن مصطلح كهذا قد يوحي لمن يقرأه أو يسمعه أنه بصدد ظاهرة من الكتابات المحتفية ببحث تأمل علاقة الفرد المعاصر بجسده، ودلالات هذه العلاقة في علاقة الفرد بالسلطة مثلا، أو بالتعبير عن ظاهرة كتابة إيروتيكية تمثل تيارا جديدا في الكتابة بكل ما يحيل إليه ذلك من مضامين جمالية واجتماعية وأدبية، أو ربما بحث ثورة كتابية تري في حرية الجسد او الثورة الجنسية ثورة موازية وتجد امتداداتها في الكتابة.
غير أنني لا أظن أن هناك تيارا أدبيا من هذا النوع، بطبيعة الحال، في الأدب المصري كله، وأظن أن المحاولات المتعسفة التي حاولت قراءة أغلب تجارب التسعينات انطلاقا من الربط المجاني بين تجارب الكتابة التسعينية التي تعبر عن آفاق ذاتية وربط الذاتية بالجسد قد اطلق هذا الكليشيه الوهمي. بل وعلي العكس فإنني أعتقد أن كتابات جيل التسعينات في غالبيتها العظمي هي كتابات بيوريتانية أخلاقية طهرانية، تنأي عن الجسد وعن الإيروتيكي بامتياز، وباستثناء تجربة هناء عطية في مجموعتيها القصصيتين "شرفات قريبة"، و"هي وخادمتها" التي تناولت فيهما إحالات بالغة الحساسية حول الجسد الأنثوي تعبيرا عن ذاتيته، وفي بعض قصص مي التلمساني خصوصا في مجموعتها "خيانات ذهنية"، وفي جمل والتفاتات متناثرة في نصوص نورا أمين، وربما أعمال أخري لا تمثل تيارا او ظاهرة، فإنني لا أستطيع أن أتذكر نصا مؤثرا يتناول الجسد بالشكل الذي يمكن الخروج منه بدلالات خاصة في موضوع كتابة الجسد.
لست مهتما هنا علي أي حال برصد موضوع كتابة الجسد نقديا، لكنني أود التأكيد فقط علي أن الجسد في مصر قد ظلم ظلما بينا في المجتمع تماما كما في الكتابة، وأن الكتابة عن الجسد ربما تحتاج إلي الكثير من الدرس والتأمل وهو ما اشعر به من خلال العديد من التداعيات التي كانت ولا تزال تناوشني خلال مرحلة أوشكت فيها من الانتهاء من مجموعة قصص إيروتيكية تحاول أن تحتفي بالجسد بوضعه في اختبارات وجودية مختلفة.
حين قفز الجندي الملتاث في الهواء ليسقط بحذائه العسكري مرتطما بجسد الفتاة، مثني وثلاث ورباع، التي نعرفها اليوم باسم "ست الكل" والتي عرت ذكورية المؤسسة العسكرية والمجتمع المصري كله، ونعم "كلّه" مع سبق الإصرار، كاد قلبي أن يتوقف من فرط العنف الذي كان الجندي الملتاث؛ غِلّاً ومقتا وعنفا، يوجهه للجسد الأنثوي المتكوم علي الأرض بلا حول أو قوة ليتلقي طعنات الركلات المذعورة باستسلام.
وسوف ستظل هذه اللقطة نموذجا للعار الذي كلل مؤسسة السلطة العسكرية الحاكمة في مصر في المرحلة الانتقالية خلال الثورة، وللأبد، لكنها ستكون في الوقت نفسه أيقونة من أيقونات الحماس الآني والمستقبلي لاستعادة إنسانية هذا المجتمع التي أهدرت بجهد منظم علي مدي عقود.
هذه اللقطة تعبر، في الوقت ذاته وبامتياز، عن مدي احتقار المجتمع المصري كله للجسد البشري، وتتضافر مع مجموعة أخري من الصور التي لا تبدأ عند الجندي التافه الذي تفاخر بالتبول علي المتظاهرين، ولا تنتهي عند ظواهر المخصيين معنويا ممن تحرشوا بالمتظاهرات في اكثر من مرة خلال العديد من الاعتصامات والتظاهرات ، خصوصا تلك المعنية بالتعبير عن رفض النساء في مصر لظاهرة التحرش الجنسي.
في عام 1919 خرجت المصريات الثائرات مع إخوانهم من الشباب والرجال مطالبات بعودة الزعيم المنفي سعد زغلول، ممسكات بعلم مصر، وصارخات بشعارات الحرية والثورة ضد المستعمر، أغلبهن ارتدين الزي التقليدي، الشائع آنذاك، ممثلا في العباءات والبراقع، وكثيرات منهن كن سافرات خصوصا طالبات المدراس زهؤلاء الثائرات واجهن بنادق العسكر ببسالة، ولم يخمد ذلك من حماسهن للثورة، بل تقدمن في المواجهة وتعرضن للإصابات، واستشهدت منهن الكثيرات، لكننا لم نسمع او نقرأ عن تحرش الثوار بهن من جهة، ولا تعرضهن للتحرش من قبل جنود الاحتلال او سواهم.
وفي عام 2012، اي بعد ما يناهز القرن، وبعد أن اصبحت أزياء الرجال والسيدات متماثلة (البنطلون والقميص او التي شيرت) تعبيرا عن رفض المجتمع للتمييز بين الجنسين، تُفاجئنا ظاهرة التحرش الجنسي الممنهج والمنظم من قبل البلطجية والمندسين تجاه حرائر مصر وسيداتها، والذي يباركه فصيل من تيارات الإسلام السياسي مثل الإخوان المسلمين وسواهم من خلال تساؤلهم عن اسباب نزول السيدات للتظاهر بدلا من الإدانة غير المشروطة للتحرش بوصفه امتهان لبنات مصر وسيداتها وامتهان لكرامة المصريين جميعا، تعبيرا عن المنهج الذكوري الذي لا يزال يحكم الذهنية السلطوية والشعبوية في مصر علي السواء.
في تأمل الصورتين يمكن أن نري كيف تحول المجتمع من مجتمع متصالح مع ذاته، متقبل لوجود المرأة بين صفوف المواطنين، في ثورته علي المستعمر، رغم أن نزول المرأة للشارع أصلا في ذلك الوقت، ولدي العديد من الفئات يعد ضربا من الخيال، إلي مجتمع مريض باحتقار الذات، يوجه احتقاره لذاته في انتهاك السيدات، وفي محاولة تحويل القهر الواقع عليه إلي جسد المرأة، كأنه يحاول نقل القهر من مستواه الذي يخص العنصر البشري بكل طوائفه إلي حلقة الجنس، بإسقاط ما يتعرض له من انتهاك إلي الجسد الأنثوي.
في مجموعته القصصية البديعة "الموت يضحك" يرسم المبدع محمد المخزنجي صورة إنسانية بالغة الحساسية لتصوير هذا التناقض في كراهية الجسد في قصة "أمام بوابات القمح" حين ينشغل الراوي وعدد من الفتيان بالفتاة "زمزم" التي تسقي العمال، وتداعب خيال الفتيان بجمالها، وتشغلهم بكونها الفتاة التي تقبل علي العمال العطشي ولا تلتفت إليهم فيقررون من فرط انشغالهم بها وحسرتهم ويأسهم في الوقت نفسه من تمنعها عليهم ان يقتلوها، وهكذا يتربصون بها وهم ممسكين بسكاكينهم ويتأهبون بعنف أجسادهم، لكنهم يباغتون في ذروة انفعالهم الهمجي والعنيف عند أولي احتكاكاتهم بالجسد الغض الفتي، بالتشوش وتباين مشاعرهم وانقلابها ، بين لحظة واخري، إلي حال من النشوة والهيام فترتخي قبضاتهم علي السكاكين، وتتقلب ارواحهم من ذروة الكراهية إلي النقيض.
وحين أتأمل هذا التناقض من جهة، وطابع العدوانية الذي يمثل ظاهرة التحرش لا يمكنني ان أري فيها سوي حلقة من حلقات العدوانية التي يوجهها الفرد لذاته، عبر ترسيخ لثقافة احتقار الجسد، وكراهيته، كتعبير لاواعي عن احتقار الذات.
اذا استثنينا الجيل الجديد من الشباب والفتيات ممن يظهرون لونا من ألوان الاهتمام بالجسد علي مستوي الحفاظ علي الرشاقة والرياضة، والعناية بالزينة، وهم استثناء بين الثمانين مليونا، فإن الصورة العامة للجسد المصري هي صورة لمجتمع يمتلك أجسادا مترهلة ممتلئة بالشحوم وبالتثنيات والتغضنات التي تتسبب فيها عادات التغذية السيئة، إما بسبب الفقر أو الجهل أو كلاهما معا.
أجساد مرتخية، كأنها تعبر عن حال من الاستسلام التام لمصيرها، وللسلطة التي تمارس عليها أبشع ألوان القهر والتجويع والتغييب العقلي، ورفض كامل لأي محاولة لنقد الذات، أو تأملها حتي في المرايا، وتماه مع الصورة العامة التي يشكلها هذا الجسد المريض المبتلي بأمراض مزمنة عدة، من السكر وضغط الدم إلي التهاب الكبد وامراض القلب.
أجساد تعبر عن أزمة حقيقية لمجتمع يتخلي عن أي مسؤلية تجاه جسده بوصفه وعاء الروح ومستودع النفس، ولا يري نفسه في الصور التي تقدمها الشاشات لنجمات السينما ونجومها رموز الرشاقة والعناية بالبدن، فمقابل أحمد السقا ومصطفي شعبان وأحمد عز، مثلا، كنماذج لنجوم الرشاقة والصحة والأجساد المعتني بها، هناك أيضا صلاح عبدالله وأحمد رزق مثلا، وهما نجمان لا شك أن الكثير من المصريين يرون فيهما تجسيدا لهم علي المستوي الجسدي. وبالتالي فلا يؤرقهم كثيرا أن يروا صور النجوم المثاليين.
ففي المظهر الرياضي الرشيق للأنثي أو الرجل تأكيد علي ارداة الذات، وعلي الفعل، وعلي ضبط الجسد، والسيطرة عليه، وبالتالي السيطرة علي الذات في مواجهتها وفي مواجهة المجتمع والسلطة، بينما ما يميل إليه الفرد هو النقيض: اللاإرادة، الاستسلام للقدر والمصير، شكلا ومضمونا.
ومع انتشار ظاهرة التحجب الشكلي التي لا ترتبط بأية مظاهر للتدين، يبدو أن المجتمع المصري قرر أن يعبر عن كراهيته لجسده بطمس هذا الجسد وإخفاء ملامحه وتشوهاته عبر الحجاب والنقاب والاسدال وسوي ذلك من مظاهر الحجب الجسدي، وبهذا يمكنه أن يمتنع نهائيا عن نقد ذاته أمام جسد مخفي بلا وجود.
في الفترة التي سبقت سقوط مبارك حين كنا جميعا، من يقف في الميدان وخارجه، ننتظر بفارغ الصبر لحظة السقوط التي كانت رغم اليقين في اقترابها بعيدة ونائية، كتبت أنه "كما تكونوا يولي عليكم"، محاولا ان اطرق الرؤوس والعقول وأقول لا تسقطوا الخطايا كلها علي الرجل الآثم وهو آثم فعلا، وتأملوا خطاياكم في الوقت نفسه، وجاءني تعليق من صديقة ثورية شعبوية قدمت لي عبره نقدا يقول بأننا لا يمكن أن نكون بهذه البشاعة.
هالتني الصورة التي تتخيلها أو تتوهمها فتاة من فئة تعبر عن المعارضة وتمثل صوتا ثوريا بامتياز، إذ تحاول أن ترسم لنفسها ولجموع الشعب المصري صورة مثالية مزيفة عن ذاتها وعن هذا الشعب الذي يتجلي اليوم مدي التفاوتات الكبيرة في وعيه وإدراكه وانتماءاته وفي سلبياته أيضا، وبينها حال المازوخية التي تقبل بعودة رمز من رموز النظام المخلوع بدعوي رفضها للإسلاميين أو بدعوي الاستقرار وما شابه. بل وتتجلي سلبيات ثواره أنفسهم، بل ومثقفيه، في تشرذمهم واختلافاتهم التي لا تنتهي، وتجعل من ائتلاف شباب الثورة فروعا يعبر كل منها عن قرار فردي لا يلتزم به الآخرون!
هل نحن بهذه البشاعة؟ الحقيقة أننا لا نتأمل ذواتنا فعلا لكي نجيب علي السؤال، أو حتي لندرك أننا حين نردد مثل هذه المقولة نتماهي مع خطاب السلطة الفاسدة الذي يردد كلاشيهات عن الريادة وعن الإصلاح ليزيف لنفسه أوهامه التي يغذي بها مبررات استمراره في التحكم في مقادير العباد، ويزيف لأتباعه صورا ساذجة يحاول بها أن يخفي الصورة الحقيقية، حقيقة أنه قاد المجتمع المصري بامتياز إلي هاوية الرجعية والتخلف.
حين عرّت فتاة شابة نفسها ونشرت صورتها العارية علي مدونتها قامت قائمة الجميع، أدانت الفتاة وجردتها من قوائم
الحشمة التي يدعي المجتمع المصري ملكيتها بامتياز، مستعميا نفسه عن تناقضاته الفاحشة والفاجرة في كثير من الأحيان، كما نزعت اسمها من قوائم التدين والأخلاق الرفيعة التي يزعم المجتمع امتلاكها ايضا بامتياز. ونزعوا اسمها من قوائم الثورة إذ ألقي بها الثوار خارج الميدان ! بل حتي المثقفين أصابتهم صشدمة، ولم يعرفوا كيف يتعاملون مع الموقف. هل يضعون الفتاة في منطقة الإدانة، أم يضعون، هم بأنفسهم، سقفا أوحدودا لحريتها، ليباغتوا بوجودهم في نفس الخندق الذي يقف فيه من يضعون الحدود لنا كل يوم لكي نري أو لا نري أو نقرأ أو لا نقرأ ما يتصورون انه الواجب والحق ونقيضه الحرام والضلال.
وهكذا يدور المجتمع في دائرة مرضه المزمنة، البحث الدؤوب عن مكامن ضعف الآخرين وسلبياتهم وانتقادها بعنف يلوذ به الفرد فرارا من انتقاده لذاته، أو توهم المثالية فطالما يشير إلي سلبيات الآخرين فهو ضمنيا يقول بأنه لا يمتلك مثل تلك السلبيات وانه ينتمي إلي فريق المتطهرين وأهل الصواب.
في مجتمع كهذا يكون من الطبيعي جدا خلو قاعات الفنون ومتاحف الدولة من الفن العاري، كما يكون طبيعيا أن تكون المؤسسة المسؤلة عن تخريج الفنانين الأكادميين تفتقد رسميا لمنهج رسم الموديل العاري الذي يعد اساسا من اسس التدريب علي التشريح كجزء تقليدي في كل مدارس ومناهج الفن التشكيلي في العالم. كما يكون بديهيا أن يتنصل حتي كبار الفنانين من أعمالهم العارية إن وجدت، كما فعل مثلا فنان كبير بقامة الفنان الراحل بيكار، والذي اشتهر في مرحلة من حياته، مثل أغلب فناني جيله بلوحات عارية، تنصل منها في حوار أجريته معه بمناسبة تحقيق اجريته عن منع الموديل العاري في كلية الفنون قبل سنوات من رحيله.
وبالتالي أيضا ليست لدينا دراسات محترمة تتتبع جماليات الجسد المصري والعربي إجمالا، وتتلمس طبيعة التغيرات التي طرأت علي مقاييس ذلك الجسد جماليا وبحث طبيعة التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أثرت علي الفرد حتي يمر بهذه التحولات الجسدية.
وحتي حين أصدرت الشاعرة اللبنانية جمانة حداد مجلة "جسد" كأول مجلة من نوعها تحتفي بالجسد وثقافته، لم تجد سوي الثقافة الغربية لتنتهل منها، فبدت المجلة في أعدادها الأولي وكأنها تعبر عن جسد آخر، جسد متحرر غير معوق بالممنوع والتابوهات ما جعل السؤال ملحا :"أي جسد هذا الذي تعبر عنه المجلة؟" وأين هذا الجسد الحر الجميل المتعالي عن التابوهات من الجسد المراق دمه، والمنكل به والمنتهك في اقسام الشرطة والسجون؟ والمذبوح غيلا وغدرا من أجهزة المخابرات والأمن السرية في ارجاء الوطن العربي، والمقموع من الحركات التطهرية التي تمارس السلطة الدينية علي البشر باسم الآلهة؟ وأين هذا الجسد المتنعم من أجساد منعتها انعدام الحقوق الأساسية مثل توافر المياه والفقر من النظافة حتي ولن اقول من وسائل التزين والتجميل؟
في النهاية جمانة تعبر عن جزء من ثقافة المجتمع اللبناني، أما مصر التي اهتم برصد الظاهرة فيها هنا الآن وهنا فليس بها حتي "جسد" ولا يحزنون.
علي تويتر تقول فتاة امريكية من بين آلاف الحسابات التي أتابعها علي الشبكة الاجتماعية الشهيرة، أنها تمارس الرياضة ليس من أجل الصحة، بل من أجل أن تشعر بأنها مثيرة حين تقف عارية أمام المرايا. الفتاة تقول ذلك وهي تمتلك حسابا باسمها الحقيقي، وهذه الجملة علي بساطتها تتحمل بدلالات تشير إلي شفافية المجتمع الذي تنتمي إليه، وعن قدرة هذا المجتمع ورغبته في تحمل مسؤلية الفرد فيه تجاه نفسه اولا وإزاء مجتمعه أيضا، فما الداعي لاختيار القبح الجسدي ودعمه باسم الدين والحشمة وتجاهله بالهروب من المرايا إلي عتمة الحجب والستائر؟
في المقابل طبعا ليس من المتصور إمكانية أن نري نري فتاة عربية تفعل ذلك إلا فيما ندر، وإن فعلت فباسم وشخصية وهميتين، وهنا سوف تنتقل من مجرد مكاشفة الذات إلي نوع من الهيستريا في التعبير عن الشهوات والتعبيرات الماجنة، ولا يمكنها ربما حتي أن تتعرض للانتقاد، طالما أنها تخفي هويتها، وإن فعلت فسوف يكون مصيرها مثل مصير علياء المهدي في أفضل الأحوال.
في مجتمع كهذا لا يبالي بالقبح بل ويتستر عليه لن يكون من المفاجيء ان نري اعتياده علي القبح في كل شيء، في الطرقات وفي الأبنية التي اسودت من فرط ما اغتبرت، وفي الوجوه التي لا تقرب الماء إلا لماما، وفي أكوام الزبالة التي لا تلفت انتباه أحد ولا تحرك ضميره، وكما أن الجسد وعاء الروح فإن الواقع المادي القبيح الذي نعيش فيه هو وعاء أجسادنا ومسلكنا.
إن مجتمعا يفوح فيه القبح علي هذا النحو هو مجتمع غابت منه المرايا بامتياز، بينما تكسر وتشرخ ما وجد منها عن عمد، ولا سبيل لإحياء جماله إلا باستعادة كل فرد فيه لقدراته علي نقد ذاته، وتقبل جسده كإناء لروحه، واستعادة الروح الفردية التي تري في جسدها جزءا من إرادتها الحرة، وفي استعادة ثقافتنا لتراثها الخصب في رعاية الجسد والوعي بمركزيته في مواجهة العالم وفهمه، هذا التراث الذي فصل كل جزء من أجزاء الجسد في بيان جماليات جسد المرأة والرجل، وأخيرا وليس آخرا لا سبيل لإحياء جمالالمجتمع وأفراده سوي في توازي ثورة فنية وأدبية، مع الثورة الشعبية التي أعادت لنا الروح، لكي تعيد للجسد العربي مكانته التي امتهنت لعقود.
- تقول فتاة أمريكية علي تويتر..امارس الرياضة ليس للحفاظ علي صحتي بل لكي ابدو مثيرة حين أقف عارية أمام المرآه.


نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 06 - 2012

إبراهيم فرغلي
الإيروتيكا في مجتمع يحتقر الجسد


من بين الادعاءات النقدية التي أتابعها بفضول، مبتئسا من محاولات تمرير الأكاذيب النقدية التي تروَّج عادة في مناخ الانحطاط الثقافي والفكري، الذي ننعم به منذ سنوات، مقولتان دعائيتان هما "الانفجار الروائي" و"كتابة الجسد"، ولأن المقولة الأولي ليست موضوعا لما أهتم به هنا فسوف انتقل مباشرة للأكذوبة الثانية. كتابة الجسد واحدا من المصطلحات التي شاعت مع الضجة الإعلامية التي صاحبت تناول أعمال بعض الكتاب المصطلح علي تسميتهم بجيل التسعينات، والتي تم تناولها بالكثير من الدعائية ودون قراءة نقدية حقيقية. وبالرغم من أن مصطلح كهذا قد يوحي لمن يقرأه أو يسمعه أنه بصدد ظاهرة من الكتابات المحتفية ببحث تأمل علاقة الفرد المعاصر بجسده، ودلالات هذه العلاقة في علاقة الفرد بالسلطة مثلا، أو بالتعبير عن ظاهرة كتابة إيروتيكية تمثل تيارا جديدا في الكتابة بكل ما يحيل إليه ذلك من مضامين جمالية واجتماعية وأدبية، أو ربما بحث ثورة كتابية تري في حرية الجسد او الثورة الجنسية ثورة موازية وتجد امتداداتها في الكتابة.
غير أنني لا أظن أن هناك تيارا أدبيا من هذا النوع، بطبيعة الحال، في الأدب المصري كله، وأظن أن المحاولات المتعسفة التي حاولت قراءة أغلب تجارب التسعينات انطلاقا من الربط المجاني بين تجارب الكتابة التسعينية التي تعبر عن آفاق ذاتية وربط الذاتية بالجسد قد اطلق هذا الكليشيه الوهمي. بل وعلي العكس فإنني أعتقد أن كتابات جيل التسعينات في غالبيتها العظمي هي كتابات بيوريتانية أخلاقية طهرانية، تنأي عن الجسد وعن الإيروتيكي بامتياز، وباستثناء تجربة هناء عطية في مجموعتيها القصصيتين "شرفات قريبة"، و"هي وخادمتها" التي تناولت فيهما إحالات بالغة الحساسية حول الجسد الأنثوي تعبيرا عن ذاتيته، وفي بعض قصص مي التلمساني خصوصا في مجموعتها "خيانات ذهنية"، وفي جمل والتفاتات متناثرة في نصوص نورا أمين، وربما أعمال أخري لا تمثل تيارا او ظاهرة، فإنني لا أستطيع أن أتذكر نصا مؤثرا يتناول الجسد بالشكل الذي يمكن الخروج منه بدلالات خاصة في موضوع كتابة الجسد.
لست مهتما هنا علي أي حال برصد موضوع كتابة الجسد نقديا، لكنني أود التأكيد فقط علي أن الجسد في مصر قد ظلم ظلما بينا في المجتمع تماما كما في الكتابة، وأن الكتابة عن الجسد ربما تحتاج إلي الكثير من الدرس والتأمل وهو ما اشعر به من خلال العديد من التداعيات التي كانت ولا تزال تناوشني خلال مرحلة أوشكت فيها من الانتهاء من مجموعة قصص إيروتيكية تحاول أن تحتفي بالجسد بوضعه في اختبارات وجودية مختلفة.
حين قفز الجندي الملتاث في الهواء ليسقط بحذائه العسكري مرتطما بجسد الفتاة، مثني وثلاث ورباع، التي نعرفها اليوم باسم "ست الكل" والتي عرت ذكورية المؤسسة العسكرية والمجتمع المصري كله، ونعم "كلّه" مع سبق الإصرار، كاد قلبي أن يتوقف من فرط العنف الذي كان الجندي الملتاث؛ غِلّاً ومقتا وعنفا، يوجهه للجسد الأنثوي المتكوم علي الأرض بلا حول أو قوة ليتلقي طعنات الركلات المذعورة باستسلام.
وسوف ستظل هذه اللقطة نموذجا للعار الذي كلل مؤسسة السلطة العسكرية الحاكمة في مصر في المرحلة الانتقالية خلال الثورة، وللأبد، لكنها ستكون في الوقت نفسه أيقونة من أيقونات الحماس الآني والمستقبلي لاستعادة إنسانية هذا المجتمع التي أهدرت بجهد منظم علي مدي عقود.
هذه اللقطة تعبر، في الوقت ذاته وبامتياز، عن مدي احتقار المجتمع المصري كله للجسد البشري، وتتضافر مع مجموعة أخري من الصور التي لا تبدأ عند الجندي التافه الذي تفاخر بالتبول علي المتظاهرين، ولا تنتهي عند ظواهر المخصيين معنويا ممن تحرشوا بالمتظاهرات في اكثر من مرة خلال العديد من الاعتصامات والتظاهرات ، خصوصا تلك المعنية بالتعبير عن رفض النساء في مصر لظاهرة التحرش الجنسي.
في عام 1919 خرجت المصريات الثائرات مع إخوانهم من الشباب والرجال مطالبات بعودة الزعيم المنفي سعد زغلول، ممسكات بعلم مصر، وصارخات بشعارات الحرية والثورة ضد المستعمر، أغلبهن ارتدين الزي التقليدي، الشائع آنذاك، ممثلا في العباءات والبراقع، وكثيرات منهن كن سافرات خصوصا طالبات المدراس زهؤلاء الثائرات واجهن بنادق العسكر ببسالة، ولم يخمد ذلك من حماسهن للثورة، بل تقدمن في المواجهة وتعرضن للإصابات، واستشهدت منهن الكثيرات، لكننا لم نسمع او نقرأ عن تحرش الثوار بهن من جهة، ولا تعرضهن للتحرش من قبل جنود الاحتلال او سواهم.
وفي عام 2012، اي بعد ما يناهز القرن، وبعد أن اصبحت أزياء الرجال والسيدات متماثلة (البنطلون والقميص او التي شيرت) تعبيرا عن رفض المجتمع للتمييز بين الجنسين، تُفاجئنا ظاهرة التحرش الجنسي الممنهج والمنظم من قبل البلطجية والمندسين تجاه حرائر مصر وسيداتها، والذي يباركه فصيل من تيارات الإسلام السياسي مثل الإخوان المسلمين وسواهم من خلال تساؤلهم عن اسباب نزول السيدات للتظاهر بدلا من الإدانة غير المشروطة للتحرش بوصفه امتهان لبنات مصر وسيداتها وامتهان لكرامة المصريين جميعا، تعبيرا عن المنهج الذكوري الذي لا يزال يحكم الذهنية السلطوية والشعبوية في مصر علي السواء.
في تأمل الصورتين يمكن أن نري كيف تحول المجتمع من مجتمع متصالح مع ذاته، متقبل لوجود المرأة بين صفوف المواطنين، في ثورته علي المستعمر، رغم أن نزول المرأة للشارع أصلا في ذلك الوقت، ولدي العديد من الفئات يعد ضربا من الخيال، إلي مجتمع مريض باحتقار الذات، يوجه احتقاره لذاته في انتهاك السيدات، وفي محاولة تحويل القهر الواقع عليه إلي جسد المرأة، كأنه يحاول نقل القهر من مستواه الذي يخص العنصر البشري بكل طوائفه إلي حلقة الجنس، بإسقاط ما يتعرض له من انتهاك إلي الجسد الأنثوي.
في مجموعته القصصية البديعة "الموت يضحك" يرسم المبدع محمد المخزنجي صورة إنسانية بالغة الحساسية لتصوير هذا التناقض في كراهية الجسد في قصة "أمام بوابات القمح" حين ينشغل الراوي وعدد من الفتيان بالفتاة "زمزم" التي تسقي العمال، وتداعب خيال الفتيان بجمالها، وتشغلهم بكونها الفتاة التي تقبل علي العمال العطشي ولا تلتفت إليهم فيقررون من فرط انشغالهم بها وحسرتهم ويأسهم في الوقت نفسه من تمنعها عليهم ان يقتلوها، وهكذا يتربصون بها وهم ممسكين بسكاكينهم ويتأهبون بعنف أجسادهم، لكنهم يباغتون في ذروة انفعالهم الهمجي والعنيف عند أولي احتكاكاتهم بالجسد الغض الفتي، بالتشوش وتباين مشاعرهم وانقلابها ، بين لحظة واخري، إلي حال من النشوة والهيام فترتخي قبضاتهم علي السكاكين، وتتقلب ارواحهم من ذروة الكراهية إلي النقيض.
وحين أتأمل هذا التناقض من جهة، وطابع العدوانية الذي يمثل ظاهرة التحرش لا يمكنني ان أري فيها سوي حلقة من حلقات العدوانية التي يوجهها الفرد لذاته، عبر ترسيخ لثقافة احتقار الجسد، وكراهيته، كتعبير لاواعي عن احتقار الذات.
اذا استثنينا الجيل الجديد من الشباب والفتيات ممن يظهرون لونا من ألوان الاهتمام بالجسد علي مستوي الحفاظ علي الرشاقة والرياضة، والعناية بالزينة، وهم استثناء بين الثمانين مليونا، فإن الصورة العامة للجسد المصري هي صورة لمجتمع يمتلك أجسادا مترهلة ممتلئة بالشحوم وبالتثنيات والتغضنات التي تتسبب فيها عادات التغذية السيئة، إما بسبب الفقر أو الجهل أو كلاهما معا.
أجساد مرتخية، كأنها تعبر عن حال من الاستسلام التام لمصيرها، وللسلطة التي تمارس عليها أبشع ألوان القهر والتجويع والتغييب العقلي، ورفض كامل لأي محاولة لنقد الذات، أو تأملها حتي في المرايا، وتماه مع الصورة العامة التي يشكلها هذا الجسد المريض المبتلي بأمراض مزمنة عدة، من السكر وضغط الدم إلي التهاب الكبد وامراض القلب.
أجساد تعبر عن أزمة حقيقية لمجتمع يتخلي عن أي مسؤلية تجاه جسده بوصفه وعاء الروح ومستودع النفس، ولا يري نفسه في الصور التي تقدمها الشاشات لنجمات السينما ونجومها رموز الرشاقة والعناية بالبدن، فمقابل أحمد السقا ومصطفي شعبان وأحمد عز، مثلا، كنماذج لنجوم الرشاقة والصحة والأجساد المعتني بها، هناك أيضا صلاح عبدالله وأحمد رزق مثلا، وهما نجمان لا شك أن الكثير من المصريين يرون فيهما تجسيدا لهم علي المستوي الجسدي. وبالتالي فلا يؤرقهم كثيرا أن يروا صور النجوم المثاليين.
ففي المظهر الرياضي الرشيق للأنثي أو الرجل تأكيد علي ارداة الذات، وعلي الفعل، وعلي ضبط الجسد، والسيطرة عليه، وبالتالي السيطرة علي الذات في مواجهتها وفي مواجهة المجتمع والسلطة، بينما ما يميل إليه الفرد هو النقيض: اللاإرادة، الاستسلام للقدر والمصير، شكلا ومضمونا.
ومع انتشار ظاهرة التحجب الشكلي التي لا ترتبط بأية مظاهر للتدين، يبدو أن المجتمع المصري قرر أن يعبر عن كراهيته لجسده بطمس هذا الجسد وإخفاء ملامحه وتشوهاته عبر الحجاب والنقاب والاسدال وسوي ذلك من مظاهر الحجب الجسدي، وبهذا يمكنه أن يمتنع نهائيا عن نقد ذاته أمام جسد مخفي بلا وجود.
في الفترة التي سبقت سقوط مبارك حين كنا جميعا، من يقف في الميدان وخارجه، ننتظر بفارغ الصبر لحظة السقوط التي كانت رغم اليقين في اقترابها بعيدة ونائية، كتبت أنه "كما تكونوا يولي عليكم"، محاولا ان اطرق الرؤوس والعقول وأقول لا تسقطوا الخطايا كلها علي الرجل الآثم وهو آثم فعلا، وتأملوا خطاياكم في الوقت نفسه، وجاءني تعليق من صديقة ثورية شعبوية قدمت لي عبره نقدا يقول بأننا لا يمكن أن نكون بهذه البشاعة.
هالتني الصورة التي تتخيلها أو تتوهمها فتاة من فئة تعبر عن المعارضة وتمثل صوتا ثوريا بامتياز، إذ تحاول أن ترسم لنفسها ولجموع الشعب المصري صورة مثالية مزيفة عن ذاتها وعن هذا الشعب الذي يتجلي اليوم مدي التفاوتات الكبيرة في وعيه وإدراكه وانتماءاته وفي سلبياته أيضا، وبينها حال المازوخية التي تقبل بعودة رمز من رموز النظام المخلوع بدعوي رفضها للإسلاميين أو بدعوي الاستقرار وما شابه. بل وتتجلي سلبيات ثواره أنفسهم، بل ومثقفيه، في تشرذمهم واختلافاتهم التي لا تنتهي، وتجعل من ائتلاف شباب الثورة فروعا يعبر كل منها عن قرار فردي لا يلتزم به الآخرون!
هل نحن بهذه البشاعة؟ الحقيقة أننا لا نتأمل ذواتنا فعلا لكي نجيب علي السؤال، أو حتي لندرك أننا حين نردد مثل هذه المقولة نتماهي مع خطاب السلطة الفاسدة الذي يردد كلاشيهات عن الريادة وعن الإصلاح ليزيف لنفسه أوهامه التي يغذي بها مبررات استمراره في التحكم في مقادير العباد، ويزيف لأتباعه صورا ساذجة يحاول بها أن يخفي الصورة الحقيقية، حقيقة أنه قاد المجتمع المصري بامتياز إلي هاوية الرجعية والتخلف.
حين عرّت فتاة شابة نفسها ونشرت صورتها العارية علي مدونتها قامت قائمة الجميع، أدانت الفتاة وجردتها من قوائم
الحشمة التي يدعي المجتمع المصري ملكيتها بامتياز، مستعميا نفسه عن تناقضاته الفاحشة والفاجرة في كثير من الأحيان، كما نزعت اسمها من قوائم التدين والأخلاق الرفيعة التي يزعم المجتمع امتلاكها ايضا بامتياز. ونزعوا اسمها من قوائم الثورة إذ ألقي بها الثوار خارج الميدان ! بل حتي المثقفين أصابتهم صشدمة، ولم يعرفوا كيف يتعاملون مع الموقف. هل يضعون الفتاة في منطقة الإدانة، أم يضعون، هم بأنفسهم، سقفا أوحدودا لحريتها، ليباغتوا بوجودهم في نفس الخندق الذي يقف فيه من يضعون الحدود لنا كل يوم لكي نري أو لا نري أو نقرأ أو لا نقرأ ما يتصورون انه الواجب والحق ونقيضه الحرام والضلال.
وهكذا يدور المجتمع في دائرة مرضه المزمنة، البحث الدؤوب عن مكامن ضعف الآخرين وسلبياتهم وانتقادها بعنف يلوذ به الفرد فرارا من انتقاده لذاته، أو توهم المثالية فطالما يشير إلي سلبيات الآخرين فهو ضمنيا يقول بأنه لا يمتلك مثل تلك السلبيات وانه ينتمي إلي فريق المتطهرين وأهل الصواب.
في مجتمع كهذا يكون من الطبيعي جدا خلو قاعات الفنون ومتاحف الدولة من الفن العاري، كما يكون طبيعيا أن تكون المؤسسة المسؤلة عن تخريج الفنانين الأكادميين تفتقد رسميا لمنهج رسم الموديل العاري الذي يعد اساسا من اسس التدريب علي التشريح كجزء تقليدي في كل مدارس ومناهج الفن التشكيلي في العالم. كما يكون بديهيا أن يتنصل حتي كبار الفنانين من أعمالهم العارية إن وجدت، كما فعل مثلا فنان كبير بقامة الفنان الراحل بيكار، والذي اشتهر في مرحلة من حياته، مثل أغلب فناني جيله بلوحات عارية، تنصل منها في حوار أجريته معه بمناسبة تحقيق اجريته عن منع الموديل العاري في كلية الفنون قبل سنوات من رحيله.
وبالتالي أيضا ليست لدينا دراسات محترمة تتتبع جماليات الجسد المصري والعربي إجمالا، وتتلمس طبيعة التغيرات التي طرأت علي مقاييس ذلك الجسد جماليا وبحث طبيعة التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أثرت علي الفرد حتي يمر بهذه التحولات الجسدية.
وحتي حين أصدرت الشاعرة اللبنانية جمانة حداد مجلة "جسد" كأول مجلة من نوعها تحتفي بالجسد وثقافته، لم تجد سوي الثقافة الغربية لتنتهل منها، فبدت المجلة في أعدادها الأولي وكأنها تعبر عن جسد آخر، جسد متحرر غير معوق بالممنوع والتابوهات ما جعل السؤال ملحا :"أي جسد هذا الذي تعبر عنه المجلة؟" وأين هذا الجسد الحر الجميل المتعالي عن التابوهات من الجسد المراق دمه، والمنكل به والمنتهك في اقسام الشرطة والسجون؟ والمذبوح غيلا وغدرا من أجهزة المخابرات والأمن السرية في ارجاء الوطن العربي، والمقموع من الحركات التطهرية التي تمارس السلطة الدينية علي البشر باسم الآلهة؟ وأين هذا الجسد المتنعم من أجساد منعتها انعدام الحقوق الأساسية مثل توافر المياه والفقر من النظافة حتي ولن اقول من وسائل التزين والتجميل؟
في النهاية جمانة تعبر عن جزء من ثقافة المجتمع اللبناني، أما مصر التي اهتم برصد الظاهرة فيها هنا الآن وهنا فليس بها حتي "جسد" ولا يحزنون.
علي تويتر تقول فتاة امريكية من بين آلاف الحسابات التي أتابعها علي الشبكة الاجتماعية الشهيرة، أنها تمارس الرياضة ليس من أجل الصحة، بل من أجل أن تشعر بأنها مثيرة حين تقف عارية أمام المرايا. الفتاة تقول ذلك وهي تمتلك حسابا باسمها الحقيقي، وهذه الجملة علي بساطتها تتحمل بدلالات تشير إلي شفافية المجتمع الذي تنتمي إليه، وعن قدرة هذا المجتمع ورغبته في تحمل مسؤلية الفرد فيه تجاه نفسه اولا وإزاء مجتمعه أيضا، فما الداعي لاختيار القبح الجسدي ودعمه باسم الدين والحشمة وتجاهله بالهروب من المرايا إلي عتمة الحجب والستائر؟
في المقابل طبعا ليس من المتصور إمكانية أن نري نري فتاة عربية تفعل ذلك إلا فيما ندر، وإن فعلت فباسم وشخصية وهميتين، وهنا سوف تنتقل من مجرد مكاشفة الذات إلي نوع من الهيستريا في التعبير عن الشهوات والتعبيرات الماجنة، ولا يمكنها ربما حتي أن تتعرض للانتقاد، طالما أنها تخفي هويتها، وإن فعلت فسوف يكون مصيرها مثل مصير علياء المهدي في أفضل الأحوال.
في مجتمع كهذا لا يبالي بالقبح بل ويتستر عليه لن يكون من المفاجيء ان نري اعتياده علي القبح في كل شيء، في الطرقات وفي الأبنية التي اسودت من فرط ما اغتبرت، وفي الوجوه التي لا تقرب الماء إلا لماما، وفي أكوام الزبالة التي لا تلفت انتباه أحد ولا تحرك ضميره، وكما أن الجسد وعاء الروح فإن الواقع المادي القبيح الذي نعيش فيه هو وعاء أجسادنا ومسلكنا.
إن مجتمعا يفوح فيه القبح علي هذا النحو هو مجتمع غابت منه المرايا بامتياز، بينما تكسر وتشرخ ما وجد منها عن عمد، ولا سبيل لإحياء جماله إلا باستعادة كل فرد فيه لقدراته علي نقد ذاته، وتقبل جسده كإناء لروحه، واستعادة الروح الفردية التي تري في جسدها جزءا من إرادتها الحرة، وفي استعادة ثقافتنا لتراثها الخصب في رعاية الجسد والوعي بمركزيته في مواجهة العالم وفهمه، هذا التراث الذي فصل كل جزء من أجزاء الجسد في بيان جماليات جسد المرأة والرجل، وأخيرا وليس آخرا لا سبيل لإحياء جمالالمجتمع وأفراده سوي في توازي ثورة فنية وأدبية، مع الثورة الشعبية التي أعادت لنا الروح، لكي تعيد للجسد العربي مكانته التي امتهنت لعقود.
- تقول فتاة أمريكية علي تويتر..امارس الرياضة ليس للحفاظ علي صحتي بل لكي ابدو مثيرة حين أقف عارية أمام المرآه.


* أخبار الأدب - 22 - 06 - 2012


صورة مفقودة

Woman-writing
 
أعلى