عبد الكريم اليافي ـ الحبّ في التراث العربي الإسلامي

يطلعنا علم السكان الحديث أن مولوداً يولد كل ثانية تقريباً في العالم.

هذا المولود نشأ عن الحب بل عن الوصال في الحب. ولكن الوصال في الحب الذي نشأ عنه الحمل قد تقدم عليه ورافقه وتأخر عنه عدد كثير من أحوال الوصال الجاري في ظل الحب. ونستطيع أن نتخيل في كل لحظة من اللحظات الزمنية مدى الحب الواسع المنتشر في الأرض بين الناس.

وقد نتجاوز بالخيال النوع الإنساني فنتصور أحول الحيوان بأنواعه المختلفة من ثدييات وطيور وأسماك وبرمائيات وزواحف إذا اقتصرنا على الفقاريات فقط دون ذكر المفصليات والرخويات وغيرها فتتسع بنا آفاق الحب ونزوع الكائنات بعضها إلى بعض واعتناقها َزوجين زوجين داخل النوع أو الصنف.

وقد يتخطى الخيال بنا أكثر من ذلك فنفكر في أنواع النبات وفصائله وتكاثره المتعدد الأشكال.

كذلك قد نتفكر في علاقات الأجسام المادية بعضها ببعض بل في العناصر الدقيقة الفيزيائية التي تتألف زوجين زّوجين..

وعندئذٍ تتضح لنا فكرة الشاعر الإسلاميّ عبد الرحمن الجامي في مقدمة كتابه ليلى والمجنون حين شبه هذا العالم ببستان الحب وشبه القبة الزرقاء السماوية بنيلوفر هذا البستان. وكذلك نفهم كيف ذهب ابن سينا في رسالة صغيرة كتبها في العشق خلافاً لبعض المفكرين اليونان القدماء أمثال أمبدقلس الذي كان يرى البغض والكراهية ثاويين في أساس الكون والتجمع الإنساني فرأى الشيخ الرئيس سريان قوة العشق في جميع الكائنات من هويات عامة وبسائط حية وصور نباتية ونفوس حيوانية وأُناس ذكور وإناث.

ويتدرج مؤلف القانون والشفاء هكذا إلى ذكر عشق النفوس العليا التي ينعتها بالإلهية وينتهي إلى أن كل واحد من الموجودات يعشق الخير المطلق عشقاً غريزياً وأن الخير المطلق يتجلى لعاشقه إلا أن قبول الموجودات لتجليه واتصالها به على التفاوت وأن غاية القرب منه هو قبول لتجليه على الحقيقة أعني على أكمل ما في الإمكان.

كذلك يتضح لنا بعض أسرار الآية الكريمة:{سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون}.

لا بد لنا بعد هذا الاتساع من أن نعود فنضيق نطاق الموضوع ونبحث في الحب الإنساني وحده وفي بعض صفاته وأشكاله. ولذلك نعتمد تحليل أبي حامد الغزالي للمحبة في كتاب المحبة والشوق والإنس والرضا من سفره الواسع الكبير إحياء علوم الدين. فقد بيَّن أول الأمر أن المحبة مقترنة بالمعرفة والإدراك فلا يتصف جماد بالحب مثلاً. وتنقسم المدركات " إلى ما يوافق طبع المدرك ويلائمه ويلذه وإلى ما ينافيه وينافره ويؤلمه وإلى ما لا يؤثر منه بإيلام والذاذ. فكل ما في إدراكه لذة وراحة فهو محبوب عند المدرك، وما في إدراكه ألم فهو مبغوض عند المدرك، وما يخلو عن استعقاب ألم ولذة لا يوصف بكونه محبوباً ولا مكروهاً. فإن كل لذيذ محبوب عند الملتذ به. ومعنى كونه محبوباً أن في الطبع ميلاً إليه ومعنى كونه مبغوضاً أن في الطبع نفرة عنه. فالحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فإن تأكد ذلك الميل وقوي سمي عشقاً".

ثم يرى أبو حامد " أن الحب لما كان تابعاً للإدراك انقسم بحسب المدركات والحواس.

فلكل حاسة إدراك لنوع من المدركات، ولكل واحد منها لذة في بعض المدركات. وللطبع بسبب تلك اللذة ميل إليها فكانت محبوبات عند الطبع السليم. فلذة العين في الإبصار وإدراك المبصرات الجميلة والصور المليحة الحسنة المستلذة. ولذة الأذن في النغمات الطيبة الموزونة. ولذة الشم في الروائح الطيبة. ولذة الذوق في الطعوم. ولذة اللمس في اللين والنعومة".

ويقرر الغزالي تمهيداً لما يريد الانتهاء إليه أن المحبوب الأول عند كل حي نفسه وذاته أي أن في طبعه ميلاً إلى دوام وجوده. فدوام الوجود محبوب، وكذلك كمال الوجود لأن الناقص فاقد للكمال. ويترتب على هذا ميل الإنسان إلى من يحسن إليه ثم الميل إلى الشيء بذاته كحب الأشياء المتحلية بالحسن والجمال والكمال.

ثم يترقى مؤلف الإحياء فيقرر أن الجمال والحسن ليس مقصوراً على تناسب الخلقة والشكل وحسن اللون بل هو موجود في غير المحسوسات إذ يُقال هذا خلق حسن وهذا علم حسن وهذه سيرة حسنة وهذه أخلاق حسنة. وإنما الأخلاق الجميلة يراد بها العلم والعقل والعفة والشجاعة والتقوى والكرم والمروءة وسائر خلال الخير. وشيء من هذه الصفات لا يدرك بالحواس الخمس بل يدرك بنور البصيرة الباطنة. وكل هذه الخلال الجميلة محبوبة، والموصوف بها محبوب بالطبع عند من عرف صفاته. وكذلك ينضم إلى ما سبق من أسباب الحب ائتلاف النفوس وتناسبها.

ثم إن الجمال والحسن وسائر الصفات الجميلة الحسنى التي هي في أقصى درجات الكمال لا يتصور اجتماعها إلا في حق الله تعالى. فلا يستحق المحبة بالحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى.

وهكذا يتبين في هذا التحليل المتعمق والترتيب الصاعد ارتكاز الحضارة العربية الإسلامية على النظر المتفائل إلى الكون لأن الخير والجمال والكمال هي الأمور الموجهة لتصرف الناس وأعمالهم والمعيَّنة لغاياتهم وأهدافهم إذ هم جميعاً في غضون حيواتهم يتشوفون للقيم العليا التي هي من خصائص الكيان الإنساني ومن مسوغات رفعته وعليائه.

في كل ثانية يولد مولود ولكن في كل دقيقة يتوفى متوفى. إلى جانب الولادة تثوي الوفاة. إلى جانب الحب يسري الهلاك. فالحبُ والهلاك والحياة والموت صنوان متآخذة متداخلة هي كلها مختلطة في قوام الكون ونسغ تركيبه ولكن الناس تحامياً لفكرة الهلاك والموت يستأنسون بالحب والحياة ويجرون على سننهما وأحكامها. ولذلك نجد المؤلفين في تاريخ التراث العربي قد أكثروا من تناول أخبار الحب وكتبوا فيه الكتب الكثيرة سواء أقصروها عليه أم أدمجوها في مؤلفاتهم المتعددة.


بعض كتب التراث:

كتب التراث التي تبحث الحب الإنساني كثيرة ولا بأس أو نورد أسماء بعضها المشهور ليظهر اتساع هذا البحث ومكانته في الحضارة العربية الإسلامية. فمن أقدم هذه الكتب:

1-كتاب "الزهرة":
لمؤلفه محمد بن داود الأصفهاني المعروف بالظاهري المتوفى 296 أو 297هـ من أكابر علماء عصره وفقهائهم وأذكيائهم يقول في مقدمته:


" استودعته مائة باب ضمنت كل باب مئة بيت أذكر في خمسين باباً جهات الهوى وأحكامه وتصاريفه وأحواله وأذكر في الخمسين الثانية أفانين الشعر الباقية وأقتصر في ذلك على قليل من كثير وأقتنع من كل فن باليسير إذ كان ما نقصده أكثر من أن يتضمنه كتاب أو يعبر عن حقيقته خطاب". ثم يقول: " ومن لم يرجَ الكمال في الإكثار كان حقيقياً أن يقنع بالاختصار".

هذا وللمؤلف قصة مشهورة في الحب مذكورة في الكتب. وهو معاصر لابن الرومي، حكى أبو بكر بن أبي الدنيا أنه حضر مجلس محمد (في الفتيا) فجاءه رجل فدفع إليه رقعة فأخذها وتأملها طويلاً وظن تلامذته أنها مسألة فقلبها وكتب في ظهرها ودفعها فإذا الرجل علي بن العباس المعروف بابن الرومي الشاعر وإذا في الرقعة مكتوب:
يا بن داود يا فقيه العراق = افتنا في قواتل الأحداق
هل عليهن في الجروح قصاص = أم مباح لها دم العشاق


وإذا الجواب:
كيف يفتيكم قتيل صريع = بسهام الفراق والاشتياق
وقتيل التلاق أحسن حالاً = عند داود من قتيل الفراق


2- كتاب " طوق الحمامة في الألفة والألاَّف"
للإمام أبي محمد علي بن حزم الأندلسي المتوفى سنة 456 كان وزيراً للمستظهر بالله ثم للمعتد بالله - كتبه لمن استكتبه في هذا الموضوع فهو يقول في المقدمة: " كلفتني - أعزك الله - أن أصنف لك رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة لا متزيداً ولا مفنناً، لكن مورداً لما يحضرني على وجهه وبحسب وقوعه حيث انتهى حفظي وسعة باعي فيما أذكره فبادرت إلى مرغوبك ولولا الإيجاب لك لما تكلفته".


قسم كتابه على ثلاثين باباً في أصول الحب وفي أعراضه وصفاته المحمودة والمذمومة والآفات الداخلة عليه. وهو من أجود الكتب المفيدة في هذا المجال إذ يتصف بالبحث والتنقير واعتماد المشاهدة والملاحظة إلى الجوانب الأدبية والشعرية. ومن مثل صاحب كتابي " المحلَّى" و" الفِصَل" في جودة التأليف وسعة الاطلاع ودقة الكتابة ولقانة البديهة وحسن الذاكرة؟!

ولابن حزم رسالة صغيرة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل خصص فصلاً فيها لشرح أنواع المحبة طبعت عدة مرات ثم طبعت في مجموعة الروائع الإنسانية (السلسلة العربية) بإشراف الأونيسكو بعنوان كتاب الأخلاق والسير وترجمت إلى الفرنسية. وفي المكتبة الظاهرية مخطوطتان لها يرى مؤلفها أن " المحبة كلها جنس واحد. ورسمها أنها الرغبة في المحبوب وكراهة منافرته والرغبة في المقارضة منه بالمحبة. وإنما قدر الناس أنها تختلف من أجل اختلاف الأغراض فيها. وإنما اختلفت الأغراض من أجل اختلاف الأطماع وتزايدها وانحسامها. فتكون المحبة لله عز وجل وفيه وللاتفاق على بعض المطالب وللأب والابن والقرابة والصديق وللسلطان ولذات الفراش وللمحسن والمأمول وللمعشوق. فهذا كله جنس واحد اختلفت أنواعه كما وصفت لك على قدر الطمع فيما ينال فلذلك اختلفت وجوه المحبة".

3- كتاب " مصارع العشاق في شارع الأشواق":
للقاضي أبي المعالي عبد العزيز بن عبد الملك المتوفى سنة 494.


4- " مصارع العشاق":
للشيخ أبي محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج البغدادي المتوفى سنة 500 طبع في مطبعة الجوانب عام 1302هـ وهو متداول وقد عقده مؤلفه على اثنين وعشرين جزءاً كتب على وجه كل جزء ثلاثة أبيات من نظمه. وعلى وجه الجزء الأول هذه لأبيات:
هذا كتاب مصارع العشاق = صرعتهم أيدي نوى وفراق
تصنيف من لدغ الفراق فؤاده = وتطلَّب الراقي فعزّ الراقي
فإذا تصفحه اللبيب رثى لهم = أسرى الهوى أيسوا من الإطلاق


5- "منازل الأحباب ومنازه الألباب":
لشهاب الدين محمود بن سلمان بن فهد الحلبي ثم الدمشقي الحنبلي صاحب ديوان الإنشاء المتوفى بدمشق سنة 725.


6- "روضة المحبين ونزهة المشتاقين":
للشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 أوله: " الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيلاً، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليلاً" ثم يقول والضمير يرجع إلى المحبة ويستعملها بالمعنى الواسع الذي يشبه استعمال فرويد لها أو كارل غستاف يونغ مستجيباً للفقرات المزدوجة بالسجع.


"وصرَّفها أنواعاً وأقساماً بين بريته وفصلها تفصيلاً فجعل كل محبوب لمحبه نصيباً، مخطئاً كان أو مصيباً وجعله منعَّماً أو قتيلاً. فقسمها بين محب الرحمن ومحب الأوثان ومحب النيران ومحب الصلبان ومحب الأوطان ومحب الإخوان ومحب النسوان ومحب الصبيان ومحب الأثمان ومحب الإيمان ومحب الألحان ومحب القرآن، وفضل أهل محبته ومحبة كتابه ورسوله على سائر المحبين تفضيلاً. فبالمحبة وللمحبة وجدت الأرض والسموات وعليها فطرت المخلوقات ولها تحركت الأفلاك الدائرات، وبها وصلت الحركات إلى غاياتها واتصلت بداياتها بنهاياتها. وبها ظفرت النفوس بمطالبها. وحصلت على نيل مآربها وتخلَّصت من معاطبها".

وجعل ابن قيم الجوزية كتابه تسعة وعشرين باباً ذكر في الباب الأول أسماء المحبة ووجد أن العرب قد وضعت لها قريباً من ستين اسماً يذكرها المؤلف ثم يشرع في الباب الثاني في شرح اشتقاق تلك الألفاظ ويوضح في الباب الثالث نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض ثم يعالج في الأبواب الباقية جوانب المحبة وما يتعلق بها.

7- " الواضح المبين فيمن استشهد من المحبين":
لعلاء الدين مُغَلطاي بن قليج المتوفى سنة 792.


8- " ديوان الصبابة ":
لشهاب الدين أحمد بن أبي حجلة المغربي مولداً الدمشقي منشأ نزيل القاهرة المتوفى سنة 776. يستهله بقوله: " الحمد لله الذي جعل للعاشقين بأحكام الغرام رضا، وحبب إليهم الموت في حب من يهوونه فلا تكن يا فتى بالعذل معترضاً. فكم فيه من عاشق ومحب صادق:
رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا = فسام صبراً فأعيا نيله فقضى

ثم يقول: "أما بعد فإن كتابنا هذا كما قيل:
كتاب حوى أخبار من قتل الهوى = وسار بهم في الحب في كل مذهب
مقاطيعه مثل المواصيل لم تزل = تشبب فيه بالرباب وزينب
فهم ما هم، (تعرفهم بسيماهم)(1). قد تركهم الهوى (كهشيم المحتظر)(2)، وأصبحوا من علة الجوى على قسمين:{فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر}(3) فهم ما بين قتيل وشهيد، وشقي وسعيد، على اختلاف طبقاتهم وأشكالهم، وتباين مراتبهم وأحوالهم"


وهو يشير إلى اطلاعه على كتاب " منازل الأحباب ومنازه الألباب" وعلى كتاب " طوق الحمامة"، ويدعي تفضيل كتابه عليهما فيقول: " فربع كتابنا بذكر العامرية معمور، وهو بالنسبة إلى ما ألفه الشهاب محمود مشكور. ومن وقف عليه علم صحة هذا الكلام، وأنشد في تصديق هذه الدعوى (إذا قالت حذام..)(4) مؤلف طوق الحمامة بالنسبة إلى حجلته بحجل، وصاحب منازل الأحباب ممن (عرف المحل فبات دون المنزل)(5). ثم يردف: فإن قلت: (الفضل للمتقدم)(6) و(هل غادر الشعراء من متردم)(7) قلت: نعم! (.. في الخمر معنى ليس في العنب)(8)، وأحسن ما في الطاووس الذنب".

ومن الجدير بالذكر أن ابن أبي حجلة ولد في السنة التي توفي فيها الشهاب محمود صاحب كتاب " منازل الأحباب".

وفي ديوان الصبابة فقرات كثيرة تشبه ما ورد في كتاب " روضة المحبين". وكان القدماء كثيراً ما ينقل بعضهم من بعض.

9- "مشارع الأسواق إلى مصارع العشاق ومثير الغرام إلى دار السلام":
لأحمد بن إبراهيم المعروف بابن النحاس الدمشقي المتوفى سنة 814- أو 838 وهو في مجلد كبير حافل في معناه كما يقول مؤلف " الضوء اللامع " وقد اختصره مؤلفه.


10- "الفائق في المواعظ والرقائق":
للشيخ صدر الدين محمد بن محمد البارزي المتوفى سنة 857 التقطه على حد تعبير حاجي خليفة من كتاب مصارع العشاق في شارع الأشواق للقاضي أبي المعالي.


11- "أسواق الأشواق من مصارع العشاق":
لإبراهيم بن عمر بن حسن الرُبَاط البقاعي نزيل القاهرة ثم دمشق المتوفى سنة 885.


وقد عمد مؤلفه إلى كتاب ابن السراج فرتبه وهذبه وزاده من نوادر الأخبار وأدخل فيه جميع كتاب الحافظ مغلطاي المسمى الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين، وذكر جميع حكايات منازل الأحباب ومنازه الألباب لشيخه الشهاب فجاء في مقدمة وعشرة أبواب على حد وصف حاجي خليفة له.

12-"السلسل الرائق المنتخب من الفائق":
للشيخ إبراهيم بن يوسف المعروف بابن الحنبلي الحنفي المتوفى سنة 959 انتخبه مؤلفه كما أشار هو نفسه من كتاب "الفائق".


13-" تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق":
للشيخ داود الأنطاكي الضرير مؤلف التذكرة الطبية المتوفى سنة 1008. استهله بقوله:


"الحمد لله الذي أطلع في بروج اعتدال القدود شموس المحاسن والجمال وأهلٌ في منازل السعود بدور اللطائف والكمال، وزين أغصان القدود برمان النهود، ورياض الوجوه بنرجس اللحاظ وورد الخدود، وألف بين ما نظم في الثغور وقلائد النحور، وجعل تسريح الأبصار لذوي البصائر ولطافة الأفكار من أسباب الافتتان بتأمل الحسان، فنزَّلهم وإن اختلفت أغراضهم منزلة الأغراض لرشق قسي الحواجب بسهام الألحاظ" وقد اعتمد هذا المؤلف العلامة على كتاب " أسواق الأشواق" المأخوذ من كتاب " مصارع العشاق"، وكذلك جمع فيه " ديوان الصبابة". وهكذا يبدو بين طوائف كتب الآداب شجرات الأنساب بعضها يستفيد ويتغذى من بعض في شتى الأغراض والآراب.

هذا ونلاحظ أن هؤلاء المؤلفين من الشيوخ والفقهاء والعلماء. وكل هذه الكتب في الحب الإنساني يضاف إليها ما جاء من أخبار العشق والعشاق في كتب الأدب ولا سيما الموسوعية ككتاب الأغاني وجميع الروايات والسير الشعبية كألف ليلة وليلة وجميع دواوين الشعراء، ثم فوق ذلك كله كتب الحب الصوفي الكثيرة التي لا تكاد تحصى(9).


ملاذُ الحب ومآسيه وتحليل الألفاظ الدالة عليه:

الحضارة العربية الإسلامية متوازنة العناصر متعادلة الجوانب هي حضارة الوسط.

{وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}(2-143) والوسط هنا ليس معناه الفاتر بين طرفين ولكن معناه ذروة الجبل بين منحدرين، معناه مركز الدائرة الذي هو السر في وجودها. والناس في نظر تلك الحضارة مسؤولون عن عمارة الدنيا وعمارة الآخرة. عن عمارة الدنيا المؤدية إلى عمارة الآخرة. والطيبات فيها مباحة للناس في حدود الشرع. تشير مباهج الدنيا من بعيد إلى مباهج الآخرة الصافية.{قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق. قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة}(7-32).

فلا غور أن يحفز الدين الإسلامي على المحبة بمعناها الواسع وعلى الحب الخاص أي الحب في الزواج. ولهذا لهج الشعراء بالتنويه بالجمال وآثاره في القلوب والأحشاء وفاكهوا الفقهاء وتحرشوا بهم في هذا السبيل. وقد مر تحرش ابن الرومي بالفقيه الظاهري محمد بن داود. وينسب " تزيين الأسواق" إلى أبي نواس هذه الأبيات الفكهة وليس في ديوانه(10):

حدثنا الخفاف عن وائل = وخالد الحذاء عن جابر
ومسعر عن بعض أصحابه = يرفعه الشيخ إلى عامر
وابن جريج عن سعيد وعن = قتادة الماضي وعن غابر
قالوا جميعاً أيما طفلة = عُلِّقها ذو خلق طاهر
فواصلته ثم دامت له = على وصال الحافظ الذاكر
كانت لها الجنة مبذولة = تمرح في مرتعها الزاهر
وأي معشوق جفا عاشقاً = بعد وصال ناعم ناضر
ففي عذاب الله مثوى له = بعداً له من ظالم غادر


الجنة في الآخرة مبذولة للحبيبة الساذجة المسعفة المواصلة وهي مهددة عند جفائها بالجحيم. ولكن الشاعر يبحث وهو - كما يدعي – ذو الخلق الطاهر فيلتمس أن يشم روائح الجنة في الدنيا، وما ندري ما شأنه في الآخرة.

وقد نوه الشعراء بالحب الحسي والحب الروحي معاً، وأشادوا بالإخلاص فيها. حسب المرء أن يصافي حبيباً واحداً يحرص عليه كل الحرص ويتحامى فيه الحساد والعذال.

قد تشف الروايات والقصص الشعبية عن مطامح الناس وتصور ميولهم ومشاعرهم وصبواتهم. تطالع في الليلة الثانية عشرة بعد المائتين في رواية ألف ليلة وليلة هذه القطعة الجميلة:

زر من تحب ودع مقالة حاسد = ليس الحسود على الهوى بمساعد
لم يخلق الرحمن أحسن منظراً = من عاشقين على فراش واحد
متعانقين عليهما حلل الرضا = متوسدين بمعصم وبساعد
وإذا صفا لك من زمانك واحد = فاحرص عليه وعش بذاك الواحد


كما نطالع في الليلة نفسها هذه المداعبة بين حبيبين تختبئ الحبيبة ويبحث عنها حبيبها في كل مكان فلا يجدها. كأنما كانا يلعبان وهما يتضاحكان في ميعة الصبا وتمام الشباب:

قالت وقد فتشت عنها كل من = لاقيته من حاضر أو بادي
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه = ترني فقلت لها وأين فؤادي


وفي بحور الشعر العربي الواسعة تنويه بالحب ومباهجه كما فيه تنديد بشدائده ومصائبه ولعناته.


مما جاء فيه تنويهاً:

ولا خير في الدنيا بغير صبابة = ولا في نعيم ليس فيه حبيب

وأيضاً:

وما طالبت الدنيا بغير محبة = وأي نعيم لامرئ غير عاشق

وأيضاً:

وما ذاق طعم العيش من لم يكن له = حبيب إليه يطمئن ويسكن

ويخاطب العازب نفسه قائلاً:

اسكن إلى سكن تلذ بحبه = ذهب الزمان وأنت خال مفرد

إلى غير ذلك مما هو معروف ومتداول يملأ الكتب الأدبية.


أما التنديد بالحب فهو كثير أيضاً:

وما في الأرض أشقى من محب = وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل حين = مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي أن نأى شوقاً إليه = ويبكي إن دنا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التنائي = وتسخن عينه عند التلاقي



إن أهل العشق أذلاء، في الدنيا والآخرة:

مساكين أهل العشق حتى قبورهم = عليها تراب الذل بين المقابر

ذلك أن العشق عذاب في الدنيا يمنع صاحبه لذة الكرى، وهو يصرف صاحبه أيضاً عن الأعمال الصالحة:

العشق مشغلة عن كل صالحة = وسكرة العشق تنفي لذة الوسن

هذان الجانبان المتقابلان المتضادان للمحبة والعشق لا يكفي عرضهما دون تدقيق وتفصيل. واللغة العربية بثرائها وغناها وسعتها تعين بالألفاظ التي وضعتها لمعاني المحبة على هذا التفصيل والتدقيق. إن تلك الألفاظ العربية التي ليس لها مقابل في اللغات الأجنبية قريبة جداً من التحليل النفسي الذي نجده في علم النفس الحديث. بل إن هذا العلم إذا تقدم في مختلف ميادينه محتاج أن يقتبس من اللغة العربية مختلف مفرداتها الدقيقة التي سبقت إلى وضعها.

نلاحظ قبل كل شيء أن لفظ الحب مؤلف من حرفين الحاء ومخرجه أقصى الحلق والباء ومخرجه بين الشفتين. ولما كانت أسماء الأشياء كلها تخرج بين الحلق والشفتين لف الحب جميع الكائنات عند الدلالة عليها باللفظ وأتى عليها. ومن المناسب دائماً في اللغة العربية أن ننتبه إلى مخارج الحروف ودلالات ترتيبها فإن ذلك من أسرار هذه اللغة العظيمة.

لنتأمل الآن دون مغالاة بعض معاني تلك الألفاظ التي تدخل تحت لواء الحب ولنعتمد على كتاب روضة المحبين وما جاء فيه في بيان اشتقاق تلك الأسماء فنحن مدينون لمؤلفه الشيخ الفقيه في هذا البيان والإيضاح. ولكن مثل ذلك ورد في "ديوان الصبابة" أيضاً.

قالوا في المحبة التي هي أم هذه الأسماء إنها الميل الدائم بالقلب الهائم وإيثار المحبوب على جميع المصحوب، وموافقة الحبيب في المشهد والمغيب. وقيل أن تهَبَ كلك لمن أحببته فلا يبقى منك شيء. وقيل هي نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وقيل ذكر المحبوب على عدد الأنفاس وقيل عمى القلب عن رؤية غير المحبوب وصممه عن سماع العذل فيه. وفي الحديث حبك الشيء يعمي ويصم. وقيل ميلك إلى المحبوب بكليتك وإيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سراً وجهراً ثم علمك بتقصيرك في حبه.

والود خالص الحب وألطفه وأرقه وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة.

والخلة توحيد المحبة. فالخليل هو الذي توحد حبه لمحبوبه وهي رتبة لا تقبل المشاركة.

والرسيس الشيء الثابت فرسيس الحب ثباته ودوامه.

قال ذو الرمة:

إذا غير النأي المحبين لم يكد = رسيس الهوى من حب مية يبرح

وأما الهوى فهو ميل النفس إلى الشيء وقال اللغويون هوي يهوى هوى كعمي يعمى عمى وأما هوى بالفتح يهوي فهو السقوط ومصدره الهُويّ بالضم وقد يطلق الهوى على الحبيب فيقال هذا هوى فلان وفلانة هواه أي مهويته وحبيبته.

وأما الصبابة فهي رقة الشوق وحرارته. يقال رجل صب أي عاشق مشتاق:

تشكى المحبون الصبابة ليتني = تحملت ما يلقون من بينهم وحدي

وأما الشغف فمعناه بلوغ الحب شغاف القلب وهو جلدة دونه كالحجاب.

والشعف مثله أو هو إحراق القلب والأمراض.

وأما الوجد فهو الحب الذي يتبعه الحزن وهو يطلق على محبة معها فقدٌ، فقدٌ يوجب الحزن.

وأما الكلف فأصله من الكلفة التي هي المشقة ومنه تكلفت الأمر تجشمته.

وأما التتيم فهو التعبد من قولهم تيَّمه الحب إذا عبَّده وذللـه فهو متيم.

وأما العشق فهو أمرُّ هذه الأسماء وأخبثها كما يقول ابن قيم الجوزية. قيل هو مأخوذ من شجرة يقال لها عشقة تخضر ثم تدق ثم تصفر وهي تتعلق بما يليها من أشجار والعاشق اسم الفاعل والمعشوق اسم المفعول وكلاهما عشيق يطلق اللفظ على العاشق والمعشوق.

واختلف الناس هل يطلق هذا الاسم في حق الله تعالى؟ فقالت طائفة من الصوفية لا بأس بإطلاقه. وقال جمهور الناس لا يطلق ذلك في حقه سبحانه وذكروا سبب المنع على ثلاثة أقوال أحدها: عدم التوقيف بخلاف المحبة. الثاني: أن العشق إفراط المحبة ولا يمكن ذلك في حق الرب فإن الله لا يوصف بالإفراط في الشيء ولا يبلغ عبده ما يستحقه من حبه فضلاً أن يقال أفرط في حبه. الثالث: أنه مأخوذ من التغير كما يقال للشجرة المذكورة عشقة.

وأما الجوى فهو الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن.

وأما الدنف فهو المرض الملازم وقد دنف المريض بالكسر وأدنف إذا ثقل وأدنفه المرض يتعدى ولا يتعدى فهو مدنف ومدنَف. وكأنهم استعاروا هذا الاسم للحب اللازم تشبيهاً له به. ويقال رجل دنَف بفتح النون وامرأة دنف وقوم دنف يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. فإن قلت رجل دنِف بكسر النون قلت امرأة دنفة أُنثت وثنيت وجمعت.

وأما الشجو فهو حب يتبعه هم وحزن.

والشجى ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره، ورجل شج أي حزين وامرأة شجية على وزن فَعِلة. فأطلق هذا الاسم على الحب للزومه كالشجي الذي يعلق بالحلق وينشب فيه.

وأما الشوق فهو سفر القلب إلى المحبوب. وهو من أسماء الحب. قال في الصحاح: الشوق والاشتياق نزاع النفس إلى الشيء. يقال شاقني الشيء يشوقني فهو شائق وأنا مشوق وشوقني فتشوقت إذا هيج شوقك وجاء لفظ شيق بمعنى مشتاق لا بمعنى شائق.

قال الشريف الرضي:

وما تلوَّم جسمي عن لقائكم = إلا وقلبي إليكم شيِّق عجل

واختلف في الفرق بين الشوق والاشتياق أيهما أقوى فقالوا الشوق أقوى فإنه صفة لازمة والاشتياق فيه نوع افتعال كما يدل عليه بناؤه كالاكتساب ونحوه. وقالت فرقة الاشتياق أقوى لكثرة حروفه. وكل زيادة في المبنى زيادة في المعنى. وقالت جماعة الاشتياق يكون إلى غائب وأما الشوق فإنه يكون للحاضر والغائب.

واختلف أرباب الشوق هل يزول الشوق بالوصال أو يزيد؟ فقالت طائفة: يزول فإن الشوق سفر القلب إلى المحبوب فإذا وصل انتهى السفر. قالوا: ولأن الشوق إنما يكون لغائب فلا معنى له مع الحضور. ولهذا إنما يقال للغائب: أنا إليك مشتاق. وأما من لم يزل حاضراً مع المحب فلا يوصف بالشوق إليه. وقالت طائفة: بل يزيد بالقرب واللقاء واستدلوا بقول الشاعر:

وأعظم ما يكون الشوق يوماً = إذا دنت الخيام من الخيام

قالوا: ولأن الشوق هو حرقة المحبة والتهاب نارها في قلب المحب وذلك مما يزيده القرب والمواصلة. والصواب في رأي ابن قيم الجوزية أن الشوق الحادث عند اللقاء والمواصلة غير النوع الذي عند الغيبة عن المحب. قال ابن الرومي:

أُعانقها والنفس بعد مشوقة = إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاها كي تزول حرارتي = فيشتد ما ألقى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بي من الهوى = ليشفيه ما ترشف الشفتان
كأن فؤادي ليس يشفي غليله = سوى أن يُرى الروحان يمتزجان


شعر ابن الرومي يجنح إلى وحدة الحبيبين وقد عبر عنها شاعر آخر مجهول ببيتين تمثل بهما الحلاج:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا = نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته = وإذا أبصرته أبصرتنا


ولكن هل يستمر الحب في هذا الاتحاد الذي يقع في ذروة الوصال الناجح لو حصل؟ هيهات! ذلك أن توهج الشعور المتحد المحتدم لا يدوم إلا لمعة بارق ثم ينفصم الحبيبان في الحب الإنساني ويعود القلق والسعي مرة ثانية وسؤال المحب نفسه عن مشاعر المحبوب بعد أن تملكه فينة من الوقت. وقد قال العرب في هذا المعنى: " إذا صحّ الظفر وقعت الغير". ذلك أن المحبوب إنسان له وجود متميز وهو ذو حرية. النزوع إلى تملك هذه الحرية مشكلة كبيرة. لو تم لأصبح الحبيب شيئاً مادياً وغدا الحب عطفاً أو ازدراء فتغير معناه وخرج عن نطاق المحبة.

إن في الشوق والحب خدعة. كلما اقترب المحب من حبيبه نأى الحبيب على رغم الوصال وابتعد بهذه الحرية. وقد أطلق العرب على هذا النوع من الحب لفظ الخلابة.

وهو الحب الذي وصل إلى الخلب وهو الحجاب بين القلب والحشا. ولكن الخلابة أيضاً معناها الخداع لأن الحب يخدع ألباب أربابه. وفي المثل " إذا لم تغلب فأخلب"، أي إذا أعياك الأمر مغالبة فاطلبه مخادعة. والخَلِبة الخداعة والخلاب الخداع الكذاب. ومنه البرق الخلَّب الذي لا غيث فيه كأنه خادع. والخَلَّب أيضاً السحاب الذي لا مطر فيه. ويعلق ابن قيم على هذا اللفظ فيقول: والحب أحق ما يسمى بهذا الاسم لأنه يعمي ويصم ويخدع لب المحب وقلبه.

خداع الحب هذا هو الذي يولد الوساوس والهم والغم. ولذلك نسب العرب إلى الحب بلابل فقالوا بلابل الحب وبلابل الشوق وهي الهم ووسواس الصدر وليس ذلك بسهل.

إنما هو العذاب اللازب. ولذلك سمُّوا ما يلقاه المحب أيضاً تباريح الشوق وتباريح الحب وتباريح الجوى وهي الشدائد والدواهي.

وقد يشعر المحب بالندم يساور نفسه وبالحزن تحجب سحابته صفاء بصيرته. وهذا هو السدم فهو الحب الذي يتبعه ندم وحزن أو يشعر المحب كأنه في لج من الاضطراب والغفلة فهذه غمرات الحب التي تشبه غمرات الموت أي شدائده.

وكثيراً ما يتغير لون المحب إذا رأى محبوبه فجأة فيرتاع ويصفر لونه ويبهت.

وما هو إلاَّ أن أراها فجاءة = فأبهت حتى لا أكاد أجيب

وهذا هو الوهلَ وأصله الفزع والروع يُقال وهل يوهل وهو وهِلٌ ومستوهِل.

والشجن من أسماء الحب لأن الشجن الحاجة حيث كانت وحاجة المحب أشد شيء إلى محبوبه.

قال الراجز:

إني لك = فيما أبدي
لي شجنان = شجن بنجد
وشجن لي = ببلاد السند


وقد مرَّ قيام الحب على العوز وعلى الحاجة. ولكن للشجن معنى آخر وهو الحزن. والحب فيه الأمران الأمرّ أن فيه الحاجة وفيه الحزن جميعاً.

وغالباً ما يساور المحب الألم ويلسع فؤاده. وهذا هو اللاعج. ويقال هوى لاعج لحرقة الفؤاد من الحب.

والألم قد يجتمع معه المرض وهذا هو الوصب.

وأما الكمد واللذع والحرق والسهد والأرق واللهف والحنين والاستكانة واللوعة والفتون والخبل فهي جميعاً من أحكام الحب وآثاره.

وأما الداء المخامر فهو من أوصافه وسمي مخامراً لمخالطته القلب والروح.

وأما الغرام فهو الحب اللازم ومنه قولهم رجل مغرم من الغرم أو الدين والغرام أيضاً الشر الدائم والعذاب ومنه قوله تعالى:{إن عذابها كان غراماً}.

والهيام أشد العطش وهو أيضاً كالجنون من العشق يُقال هام على وجهه هيماً وهيماناً.

والتدليه ذهاب العقل من الهوى يقال دلهه الحب أي حيره.

والوله ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد ورجل واله وامرأة واله ووالهة.

والتعبد غاية الحب وغاية الذل يقال عبده الحب أي ذللـه وطريق معبد بالأقدام أي مذلل.

وآخر أنواع الحب الجنون. وأصل المادة من الستر في جميع تصاريفها. ومنه أجنه الليل وجنّ عليه إذا ستره ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه ومنه الجنة لاستتارها بالأشجار ومنه المجن لاستتار الضارب به والمضروب ومنه الجن لاستتارهم عن العيون بخلاف الإنس.

فإنهم يؤنسون أي يرون ومنه الجنة بالضم وهي ما استترت به واتقيت. وأجننت الميت واريته في القبر فهو جنين. والحب المفرط يستر العقل فلا يعقل المحب ما ينفعه ويضره فهو شعبة من الجنون.

على أن بعض الشعراء يرى الجنون أخف من العشق.

قالت جننت بمن تهوى فقلت لها = العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه = وإنما يصرع المجنون في الحين



مجنون ليلى رمز العشاق:


إن كل عاشق قد أصابه طرف من اللمم أو مسٌّ من الجنون. ولكن قيس بن الملوح هو الذي عرف بالمجنون وهو رمز الحب المفرط في تاريخ الحب. ولسنا نريد الآن أن نشك ولا أن نثبت ولا أن ندعي العلم الواسع والنهج العلمي كما فعل طه حسين في حديث الأربعاء فإن كل ما صنع هذا الأديب الناقد واضح بيِّن بين أخبار المجنون في كتاب الأغاني، وإنما نتخذ قيساً هذا الذي لا نشك في أنه يمثل طائفة العشاق. فهنالك ألوف العشاق المجانين من أشهرهم قيس بن الملوح وقيس بن ذريح وعروة بن حزام وغيرهم وغيرهُم. ونظن أن الذين لم تسجل أسماءهم كتب الأدب أكثر من هؤلاء العشّاق.

ذكر الأصمعي(11) أنه سأل أعرابياً من بني عامر عن المجنون العامري فقال: عن أيهم تسأل فقد كان فينا جماعة رموا بالجنون فعن أيهم تسأل فقلت عن الذي كان يشبب بليلى فقال كلهم كان يشبب بليلى. ثم يستنشد الأصمعي الأعرابي شعراً لبعضهم فينشده بعض القطع الشعرية الجميلة ثم يختم إنشاده فيخاطب الأصمعي قائلاً حسبك فو الله إن في واحد من هؤلاء لمن يوزن بعقلائكم اليوم.

هذا معناه أن العقل في الحب هو الجنون نفسه.

قال الجاحظ: ما ترك الناس شعراً مجهول القائل قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون ولا شعراً هذه سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح.

نحن يهمنا إذن هذا الرمز الأدبي العاطفي في قيس بن الملوح. لقد نشأ مع ليلى وهي صغيرة ذات ذؤابة يرعيان الماشية ويعلبان:

تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة = ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا = إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم


العمل الفني سواء أكان شعراً أم رسماً أو موسيقى إذا أنجز خرج عن سيطرة الزمان ولكن الإنسان قد يشعر إبانه بلحظة عميقة ينفذ فيها إلى أعماق الوجود وما فيه من ألفة ومحبة كما شعر ذلك الراعي الصغير إذ بقيت تلك الذكرى ماثلة في نفسه أو ينفذ إلى أعماق الوجود وما فيه من قرف وتقزز ونفور كما شعر فيلسوف الوجودية سارتر. ولكن الإنسان كان من كان لا يلبث أن يرتد إلى حياته العادية التي هو مضطر أن يلبي حاجاتها وهو مالك لإرادته ووعيه.

قد يقع بين الأحياء والقبائل والأسر نزاع أو عداء كما وقع بين أهل روميو وجولييت على رأي شكسبير وكما وقع بين شيمين ورودريك على رأي كورني وكما جاء التلميح إلى ذلك في شعر المجنون ولكن الحب يزدري ذلك كله ويترفع عنه يقول المجنون:

وقد لامني في حب ليلى أقاربي = أخي وابن عمي وابن خالي وخاليا
يقولون ليلى أهل بيت عداوة = بنفسي ليلى من عدو ومالياً


فهو يفدي ليلى بماله ونفسه. ذلك أن الحب يقوي الحب ويدعمه. ولو شعر قيس بأدنى عزوف من ليلى عنه لانصرف عنها على الرغم من الحب الجارف. إنه مطمئن إلى حبها له:

ولو كان في ليلى شداً من خصومة = للويت أعناق المطي الملاويا

أراد قيس ذات يوم أن يزور ليلى فركب ناقته وسار بها وهو مشغول البال. ولكن الناقة كان لها فصيل تحبه وتحن إليه فما أن شعرت بضعف القيادة حتى ثنت عنانها آيبة إلى رضيعها، ثم أدرك قيس أنها راجعة فردها إلى مقصده ولكن قيساً استغرق في تفكيره فرجعت الناقة إلى طريق عطنها مرة ثانية فردها أيضاً إلى غايته وهكذا فعل قيس وفعلت الناقة أربع مرات. وعندئذٍ نزل عنها وخلاها ترجع إلى فصيلها وسلك هو وحده الطريق إلى ديار الحبيب وغنى ذلك في شعره:

هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى = وإني وإياها لمختلفان
هواي أمامي ليس خلفي معرَّج = وشوق قلوصي في الغدو يماني
هواي عراقي وتثني زمامها = لبرق إذا لاح النجوم يماني
متى تجمعي شوقي وشوقك تظلعي = ومالك بالعبء الثقيل يدان


هذا الشعر لعروة بن حزام من قصيدة طويلة له ولكن الشاعر الفارسي عبد الرحمن جامي في كتابه ليلى والمجنون ينسب القصة إلى المجنون.

ليلى الأنثى تلعب بالنار. فقد زارها قيس فأكرمت زيارته وحادثته ولكنها أرادت أن تعلم هل لها عنده مثل ما له عندها فجعلت تعرض عن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وامتقع وشق عليه ما فعلت فأنشأت تقول:

كلانا مظهر للناس بغضاً = وكل عند صاحبه مكين
تبلغنا العيون مقالتينا = وفي القلبين ثم هوى دفين


فلما سمع هذين البيتين شهق شهقة عظيمة وأغمي عليه فمكث كذلك ساعة ونضحوا الماء على وجهه حتى آفاق وتمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه وبلغ منه كل مبلغ ثم انصرفت عنه وهو من أشد الناس سروراً وأقرهم عيناً.

جاء قيس منزل ليلى يطلب قبساً من نار وهو متلفع ببرد له من البرد فأخرجت ليلى له ناراً في عطبة فأعطته إيَّاها ووقفاً يتحدثان فلما احترقت العطبة أخذ خرقة من برده وجعل النار فيها فكلما احترقت خرق أخرى وأذكى بها النار ثم انسابت النار إلى راحتيه دون أن يشعر. وقد لخص شوقي ذلك الحديث:

رب فجر سألته = هل تنفست في السحر
ورياح حسبتها = جررت ذيلك العطر


ولكن ليلى تخشى عليه خطر النار فتقاطعه:

ويح قيس تحرَّقت = راحتاه وما شعر

هذا الحب يصاب بلعنة وأي لعنة. فقد لغا الناس في حبهما وأرجفوا الأراجيف وذكروا لقاءهما ليلة الغيل إذ يقول قيس:

أبت ليلة بالغيل يا أم مالك = لكم غير حب صادق ليس يكذب

وقد كرهت ليلى هذا البيت خشية الأقاويل.

ولما أتى قيس بن ذريح ليلى شفيعاً لسميِّه ابن الملوح ومثيله في جنون العشق قال لها:

إن الناس تأولوا كلامه على غير ما أراد فلا تكوني مثلهم. إنما أخبر أنه رآك ليلة الغيل فذهبت بقلبه لا إنه عناك بسوء فأطرقت طويلاً ودموعها تجري وهي تكفكفها ثم انتحبت وقالت لابن ذريح: قل له بنفسي أنت والله أن وجدي بك لفوق ما تجد ولكن لا حيلة لي فيك.

ومع ذلك فقد حجبت ليلى وأهدر الوالي دم قيس إن تعرض لها ثم أكرهت على الزواج من غيره. ولما أراد زوج ليلى الرحيل بها إلى بلده بلغ المجنون أنه غاد بها فقال يخاطب نفسه:

أمزمعة للبين ليلى ولم تمت = كأنك عما قد أظلك غافل
ستعلم إن شطت بهم غربة النوى = وزالوا بليلى أن لبك زائل


قيل إن قيساً سقم سقماً شديداً قبل اختلاطه حتى أشفي على الهلاك. فدخل إليه أبوه يعلله فوجده ينشد هذه الأبيات ويبكي أحرَّ بكاء وينشج أمرَّ نشيج:

ألا أيُّها القلب الذي لج هائماً = بليلى وليداً لم تقطع تمائمه
أفق قد آفاق العاشقون وقد أنى = لحالك أن تلقى طبيباً تلائمه
فما لك مسلوب العزاء كأنما = ترى ناي ليلى مغرماً أنت غارمه
أجدك لا تنسيك ليلى ملمة = تلم ولا ينسيك عهداً تقادمه


قيل: ووقف مستتراً ينظر إلى أظعان ليلى وقد رحل بها زوجها وقومها. فلما رآهم يرتحلون بكى وجزع فقال له أبوه: ويحك إنما جئنا بك متخفياً ليتروح بعض ما بك بالنظر إليهم فإذا فعلت ما أرى عُرفت وقد أهدر السلطان دمك إن مررت بهم فأمسك أو انصرف. فقال ما لي سبيل إلى النظر إليهم يرتحلون وأنا ساكن غير جازع ولا باك فانصرف بنا. فانصرف وهو يقول:

ذُدِ الدمع حتى يظعن الحي إنما = دموعك إن فاضت عليك دليل
كأنَ دموع العين يوم تحملوا = جمان على جيب القميص يسيل


وتصبح الدنيا كلها ضيقة عليه كأنها حلقة خاتم ويشعر بفؤاده تتخطفه مخالب الطير:

كأن فؤادي في مخالب طائر = إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم = علي فما تزداد طولاً ولا عرضا


وهو يتحرق بنار الفراق بعد أنس القرب:

وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني = بقول يُحلُّ العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حيلة = وخلفت ما خلفت بين الجوانح


ومع ذلك فلتفعل ليلى ما بدا لها ما أكرهت عليه فليس بمتغير لها ولا تائب عن حبها ولو نصحه الناصحون:

عفا الله عن ليلى وإن سفكت دمي = فإني وإن لم تجزني غير عاتب(12)
عليها ولا مبد لليلى شكاية = وقد يشتكي المشكى إلى كل صاحب
يقولون تب عن حب ليلى وذكرها = وما خلتني عن حب ليلى بتائب


قيل مرَّ المجنون بزوج ليلى وهو جالس يصطلي في يوم شات وقد أتى ابن عم له في حي المجنون لحاجة فوقف عليه ثم أنشأ يقول:

بربك هل ضممت إليك ليلى = قبيل الصبح أو قبلت فاها
وهل رفت عليك قرون ليلى = رفيف الأقحوانة في نداها


فقال اللهم إذ حلَّفتني فنَعمْ. قيل: فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر فما فارقهما حتى سقط مغشياً عليه وسقط الجمر مع لحم راحتيه، وعض على شفته فقطعها. فقام زوج ليلى مغموماً بفعله متعجباً منه فمضى.

إن الجنون وقطع الشفة ليس مقصوراً على قيس بن الملوح ولا على الشعراء. وينبغي ألا نستغرب ذلك. فمن المعلوم أن الرسام الهولندي الشهير فان خوخ قطع أذنه وقدمها إلى صديقته ثم رسم نفسه مضمد الوجه والأذن. والجنون فنون.

يذكر رواة الأدب أحوال المجنون وهيامه في البراري ولكنهم يغفلون نفسية ليلى التي بقيت تحب قيساً بعد زواجها. كيف كانت حياتها مع زوجها وهل كانت عند الوصال تفكر في هذا الزوج أو تغمض عينيها لتفكر في ابن عمها. كل ما نقرؤه أنها كانت دائمة الذكر له على الرغم من غناها. ذكروا أن رجلاً خرج إلى ناحية الشام وما يلي تيماء والسراة وأرض نجد في طلب بغية له فإذا هو بخيمة قد رفعت له وقد أصابه المطر فعدل إليها وتنحنح فإذا امرأة قد كلمته فقالت: انزل. فنزل. ويحدثنا الرجل فيقول: وراحت إبلهم وغنمهم فإذا أمر عظيم فقالت: سلوا الرجل من أين أقبل؟ قلت من ناحية تهامة ونجد. فقالت: ادخل أيُّها الرجل. فدخلت إلى ناحية من الخيمة. فأرخت بيني وبينها ستراً ثم قالت: يا عبد الله أي بلاد نجد وطئت؟ فقلت: كلها. قالت: فيمن نزلت هناك؟ قلت: ببني عامر. فتنفست الصعداء ثم قالت: فبأي بني عامر نزلت؟ فقلت: ببني الحريش. فاستعبرت ثم قالت: فهل سمعت بذكر فتى منهم يقال له قيس بن الملوّح ويلقب بالمجنون؟ قلت: بلى والله، وعلى أبيه نزلت وأتيته فنظرت إليه يهيم في تلك الفيافي ويكون مع الوحش لا يعقل ولا يفهم إلا أن تذكر له امرأة يقال لها: ليلى فيبكي وينشد أشعاراً قالها فيها. قال:

فرفعت الستر بيني وبينها فإذا فلقة قمر لم تر عيني مثلها. فبكت حتى ظننت والله أن قلبها قد انصدع فقلت: أيتها المرأة اتقي الله فما قلت بأساً. فمكثت طويلاً على تلك الحال من البكاء والنحيب ثم قالت:

ألا ليت شعري والخطوب كثيرة = متى رحل قيس مستقل فراجع
بنفسي من لا يستقل برحله = ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع


ثم بكت حتى سقطت مغشياً عليها فقلت: من أنت يا أمة الله وما قصتك قالت: أنا ليلى صاحبته المشؤومة والله عليه غير المؤنسة له، فما رأيت مثل حزنها ووجدها عليه قط.

لقد ملك زوج ليلى جسمها ولكنه لم يملك روحها.

أما قيس فما زال يتخبط في الفيافي والأودية والنجود إذا رأى ظبية مصيدة فداها بغنمة أو قلوص لشبهها بليلى

إنه يعرف قيمة السياحة وقيمة الشعر في تخفيف تباريح وجده قبل أن ينوه بوظيفة الفن فلاسفة الفن

فما أشرف الإيقاع إلا صبابة = ولا أنشد الأشعار إلا تداويا

ومع ذلك فقد بقي في نفسه خيط من الأمل على الرغم من اليأس القاتل:

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما = يظنان كل الظن ألا تلاقيا

ولكنه يختلط عليه عقله. أول الاختلاط أنه أضاع حس الزمن والعد:

أصلِّي فما أدري إذا ما ذكرتها = اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا

ثم يفقد حس التوجه:

أراني إذا صليت يممت نحوها = بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
وما بي إشراك ولكن حبها = كعود الشجا أعيا الطبيب المداويا


ثم يفقد حسّ المكان:

روى صاحب " الكشكول" أن المجنوزن مر على منازل ليلى بنجد فأخذ يقبِّل الأحجار ويضع جبهته على الآثار فلاموه على ذلك فحلف أنه لا يقبل في ذلك إلا وجههاً ولا ينظر إلا جمالها. ثم رؤي بعد ذلك في غير نجد وهو يقبل الآثار ويلثم الأحجار فليم على ذلك وقيل له: إنها ليست من منازلها فأنشد:

لا تقل دارها بشرقي نجد = كل نجد للعامرية دار
فلها منزل على كل أرض = وعلى كل دمنة آثار


وسواء أصحت هذه الرواية عن المجنون أم لم تصح فهي تمثل حالة نفسية في شدة العشق والهيام أبرع تمثيل.

الحب الصوفي:

إن نكبة المجنون هنا تبدو ذات مغزى فلسفي أو صوفي وهو أن الحب يحمل في نفسه غايته. فالمرء يحب للحب نفسه ويتجاوز صفة المتعلق بمحبوب مسمى إلى حب الحب إلى حب الوجود والتكامل وإن خامر هذا الحب الهلاك والردى.

وعندنا أن الصوفية انتبهوا لقصة المجنون هذه وأفادوا منها في حبهم الصوفي الذي يشمل الكائنات ولكنه يتجاوزها. لنشرح بعض الشيء ما جنحوا إليه ولنفرض مثلاً أن مستهاماً بالقطع الموسيقية أحب سنفونية مشهورة وسعى فحصل بسهولة على تسجيلها ثم أحب ثانية وثالثة وهلم جرا وحصل على تسجيلاتها جميعاً فهو في نهاية الأمر قد حصل على قطع موسيقية جميلة مسجلة ولم يحصل على سر الإبداع وجوهر الإلهام في التأليف الموسيقي.

وكذلك شأن المحب فهو يسعى نحو حبيب أو أحباء ولكنه لا يملك سر الجمال ولا إكسير الحب إنهما يبقيان متجاوزين للظواهر إنهما في القلب الإنساني.

وهكذا يعي الصوفي أو الفيلسوف في قصة المجنون غير ما يعيه الأديب محقق الأخبار وممحصها أو الزمِّيت الذي يرى في القصة الأخيرة إشارة إلى وحدة الوجود وليس الأمر كذلك وإنما المراد في هذا الحديث وحدة الشهود.

وأياً كانت الفحوى لحب قيس فإنا لا نستغرب كيف ارتكز فريق من الصوفية على أخبار المجنون ليصوغوا منها آثاراً فنية رائعة وخالدة مثل نظامي كنجوى (ليلى ومجنون) وأمير خسرو دهلوي (مجنون وليلى) وعبد الرحمن جامي (ليلى والمجنون مترجم إلى العربية). وعبدي بيك شيرازي (مجنون وليلى) فالعشق منقبة من مناقب الإنسان عندهم وخاصة من خصائصه. ولكنه يستلزم العفة والطهر ويقرب من الله حين يعتمد على القلب بعد اعتماده على العقل، إذ العقل يدرك الحقائق في مدى واسع هو مدى الظواهر والعلوم ولكنه يفسح بعد ذلك في المجالات والآفاق لمواهب القلب وطاقات البصيرة.

وعدا الصوفية فقد عالج شوقي أخبار المجنون في مسرحيته المشهورة كما وصلت تلك الأخبار حتى إلى الشاعر الفرنسي الحديث أراغون فسمى أحد دواوينه في زوجته "مجنون السا" تشبيهاً لنفسه بقيس بن الملوّح، وشتان ما بين المجنونين.

وهكذا انقلبت لعنة الحب لدى المجنون إلى نعمة رغبة التشبه به في الحب ولو مجازاً وإلى نعمة العرفان بالله عند الصوفية الذين هم أشد اندفاعاً وأكثر اصطلاحاً في الحب.

لقد بدأنا كتابة هذا الحديث ونحن راغبون في عرض آراء الصوفية عن الحب وفي الموازنة بين مأساة المجنون ومأساة الحلاج التي انتهت إلى الصلب والقتل ضمن مؤامرة ظالمة ولكن فات وقت الموازنة. ومع ذلك فقد يفيد في الخاتمة أن أشير إلى بعض أقوال أبي المغيث(13) الحسين بن منصور.

لو ألقي مما في قلبي ذرة على جبال الأرض لذابت، وإني لو كنت يوم القيامة في النار لأحرقت النار، ولو دخلت الجنة لانهدم بنيانها:

عجبت لكلي كيف يحمله بعضي = ومن ثقل بعضي ليس تحملني أرضي
لئن كان في بسط من الأرض مضجع = فقلبي على بسط من الأرض في قبض


وهو يمر في سوق بغداد ويصيح:

يا أهل الإسلام أغيثوني فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها وهذا دلال لا أطيقه ثم ينشد:

حويت بكلي كل كلك يا قدسي = تكاشفني حتى كأنك في نفسي
أقلِّب قلبي في سواك فلا أرى = سوى وحشتي منه وأنت به أنسي
فها أنا في حبس الحياة ممنَّع = عن الإنس فاقبضني إليك من الحبس


ولما قدم إلى الصلب فهل يجزع؟ هل يشتم جلاديه؟ هيهات! إنه يباركهم فيقول في جملة دعائه:

هؤلاء عبادك اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك وتقرباً إليك فاغفر لهم. فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا. ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت. فلك الحمد فيما تفعل، ولك المجد فيما تريد. ثم سكت وناجى سراً.

ويقول الراوي إبراهيم بن فاتك: فتقدم أبو الحارث السياف فلطمه لطمة هشم أنفه وسال الدم على شيبه. فصاح الشبلي ومزق ثوبه، وغشي على أبي الحسين الواسطي وعلى جماعة من الفقراء المشهورين وكانت الفتنة تهيج ففعل الحرس ما فعلوا.

أو ليس السهروردي(14) مقتول حلب يصور أحوال الصوفية في قصيدته المشهورة التي منها:

بالسر إن باحوا تباح دماؤهم = وكذا دماء العاشقين تباح
ركبوا على سفن الوفا ودموعهم = بحر وشدة شوقهم ملاح
والله ما طلبوا الوقوف ببابه = حتى دُعوا وأتاهم المفتاح
حضروا وقد غابت شهود ذواتهم = فتهتكوا لما رأوه وصاحوا


ويختم قصيدته بالبيت المشهور:

وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم = إن التشبه بالكرام فلاح

واهاً لهم!! إنهم مجانين! إنهم مجاذيب! شأنهم كشأن مجاذيب القيم الرفيعة ومجانين العلو الذاتي وعشاق المجد المؤثل وأحباب الخلود الإنساني.

الإنسان قطب المحبة:

والخلاصة أن المحبة في التراث العربي الإسلامي قطبها الإنسان سواء كان محباً للإنسان أو كان محبوباً من أخيه الإنسان وسواء كان حبه لله أو كان حب الله له أو كان الحبان مشتبكين فلا بد من أن يلم به ذلك الحب وأن يغمره بنوره المتألق المتعدد الألوان. على أن غمرة النور هذه تؤدي إلى النشوة والعنفوان أو إلى التبريح والاصطلام هذا لولا النزعات الباغية العدوانية في الميدان السياسي كالنازية والصهيونية. وربما كان الشاعر الكبير محمد إقبال عنى مكانه الحب في التراث حين قال(15):

لم ألق في هذا الوجود سعادة = كمودة الإنسان للإنسان
لما سكرت بخمرها القدسي لم = أحتج إلى تلك التي في الحان



- د. عبد الكريم اليافي
الحبّ في التراث العربي الإسلامي



الحواشي:

(1)- البقرة (2) – 273.
(2)- القمر (54)-31.
(3)- الأحزاب (32)-23.
(4)- جزء من شطر بيت مشهور سار مثلاً وهو:


إذا قالت حذام فصدقوها = فإن القول ما قالت حذام

ينسبه صاحب لسان العرب إلى وسيم بن طارق ويقال لُجيم بن صعب وحذام ارمأته.

(5)- شطر من بيتين لمسلم بن الوليد:

كانت بلهنية الشبيبة سكرة = فصحوت واستأنفت سيرة مجمل
وقعدت أنتظر الفناء كراحل = عرف المحل فبات دون المنزل


(6)- جزء من بيت لنصيب بن رباح يصف بكاء ورقاء:

ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا = بكاها فقلت الفضل للمتقدم

وقبله بضعة أبيات نورد منها:

ونبه شوقي بعد ما كنت نائماً = عتوف الضحى مشغوفة بالترنم..
بكت شجوها تحت الدجى فتساجمت = إليها غروب الدمع في كل مسجم
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة = بسعدي شفيت النفس قبل التندم


(7)- مطلع معلقة عنترة وهو أشهر من يشار إليه.
(8)- جزء من بيت المتنبي:


وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها = فإن في الخمر معنى ليس في العنب

(9)- ينشر صديقنا الأستاذ عبد الكريم زهور " كتاب المحبة" تأليف أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد الختلي على صفحات مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق.

هذا وقد ألف الدكتور محمد حسن عبد الله كتاباً بعنوان " الحب في التراث العربي" ونشره في سلسلة الكتب الثقافية التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت.

(10)- لا يبعد أن تكون الأبيات لأبي نواس وهو ما هو في الاطلاع على أسانيد الحديث. والأسماء الواردة في الشعر جميع أصحابها من رواة الأحاديث وهم:

آ- الخفاف هو أبو مخلد عطاء بن مسلم من أهل حلب مات سنة 190هـ.
الأنساب وخلاصة تذهيب الكمال 2/231.


ب- وائل بن حجر بن سعد مسروق روى عن النبيصلى الله عليه وسلممات في ولاية معاوية.
تهذيب التهذيب 11/108.


جـ- خالد بن مهران الحذاء البصري أبو المنازل مات سنة 140 أو 141.
الأنساب 4/86 وخلاصة تهذيب الكمال 1/284.


د- جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام صحابي مشهود عرف بكثرة حديثه.
خلاصة تهذيب الكمال 1/157.


هـ- مسعر بن كدام أبو سلمة الكوفي أحد الأعلام مات سنة 152هـ.
خلاصة تهذيب الكمال 3/22.


و- عامر – لعله أراد عامراً الشعبي ولا يوجد غيره ممن يصرح باسمه في الرواية انظر أخباره في تاريخ دمشق. (عاصم – عائد) توفي سنة 138.

ز- ابن جريج هو عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن مات في أول خلافة هشام.
خلاصة تهذيب الكمال 2/175.


ح - سعيد بن المسيب بن مسروق روى عن النبيصلى الله عليه وسلم.
تهذيب التهذيب 11/108. ط - قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري أحد الأئمة توفي سنة 127.
خلاصة تذهيب الكمال 1/284.


(11)- أخبار المجنون الواردة مأخوذة من الأغاني ومن تزيين الأسواق.
(12)- كتاب الزهرة.
(13)- كتاباً أخبار الحلاج وديوانه.
(14)- ترجمة السهروردي في "إرشاد الأديب".
(15)- إيوان إقبال: مختارات من شعره نظم الصاوي علي شعلان ص 13.



* مجلة التراث العربي - مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب- دمشق العددان :15 و 16 - السنةالرابعة - رجب وشوال 1404 - نيسان "ابريل" و تموز "يوليو" 1984
 
أعلى