أنسي الحاج - حب 1-2-3-4-5-6-7-8-9

أنسي الحاج
حب 1-2-3-4-5-6-7-8-9

حــبّ1

مهلاً: هل يحبّ المرء حين يقول إنّه يحبّ؟
ما هو الحبّ؟
ألا تنطق أنت الساكت على الطرف الآخر من الخطّ؟
لماذا تجيب عن أسئلة لا تشفي وتصمت أمام الأسئلة القاطعة؟

■ ■ ■

أُحبّّ مَن يساعدني على حرق عمري، وأُسمّي ذلك تحقيقاً للذات.
أحبّ مَن ليس أنا، مَن لستُ هو، مَن أكره شريكه، مَن أغار من شريكه.
أحبّ مَن يُرقّيني في نظر نفسي.
أحبّ تعويضاً عن الحياة.
أحبّ لأحظى بمَن أكلّمه عن نفسي بلا نهاية فلا يملّ، لأنّه بدوره يكلّمني عن نفسه بلا نهاية ولا أملّ.
أحبّ لأنّي في الحبّ لا أكره نفسي.

■ ■ ■

نحبّ ما يجعلنا نظلّ نحبّ.

يستزيدك في مَن تحبّ ما لا تقبض عليه حواسك. تحبّ ما تفتقده وتثق بأنّك ستعثر عليه في المحبوب.
وسرّاً تأمل أن لا تعثر عليه.

■ ■ ■

الما بعد، الما وراء، اللازمني، اللاجسدي، غير القابل للتشويه.
... لأنّه غير موجود؟
لأنّنا نتعلّق بالوهم؟
لأنّ الأمل حشيشة روحنا؟
لأنّنا رُضَّع متشبّثون بثدي الأمّ الخالدة؟
لا.
لأنّ هذه الضالّة المنشودة موجودة، موجودٌ على الأقلّ طيفٌ لها، طيفٌ يتحرّق لأن نقبض عليه، وحين نعانقه ونقتات منه ونحياه، حينئذٍ لن نُتْخَم ونموت، بل سنكمل، ستعود يدنا وتمتدّ إلى محجوبٍ جديد، إلى عاصٍ جديد على قبضتنا، إلى جزء جديد من المجهول، إلى ذرّةٍ جديدة من الله.
هذا هو الحبّ.
نحبّ ما يجعلنا نتوق إلى الحبّ.

■ ■ ■

حين تقول لها جريحاً: «أبداً لن تلقي حبّاً مثل حبّي»، لا يليق بالحبّ هذا التهديد. المُحبّ يقول لمَن تخلّت عنه: «أدعو لكِ بمَن يحبّكِ أكثر منّي». الوداع يجب أن يكون على اشتهاء مزيدٍ من السعادة للذاهب.

■ ■ ■

ليس الحبّ ما يحتاج إلى إعادة اختراع كما دعا رمبو، بل هو الجسد.
في محاولته مصارعة تربيته البيوريتانيّة والتصدّي لتزمُّت مواطنيه الانكليز، سخر د. هـ. لورانس من بيتين في قصيدة لجوناثان سويفت يقولان في الكلام على امرأةٍ تدعى سيليا:
«لكنَّ سيليا
لكنَّ سيليا تتغوَّط».
يعتقد لورانس أنّ المشكلة ليست في الألفاظ، بل في نظرتنا المسبقة إليها. دعا إلى كسر الممنوع في التعبير وتطهير اللغة، لا من الألفاظ القذرة، بل من التفكير القذر في أنّها قذرة. واتّخَذَ بَيْتَي سويفت مثالاً على التخلّف والخبث.
جعل المشكلة لفظيّة، بالإضافة إلى مشكلة الخيال الذَّكَريّ الذي لا يستطيع أن يتخيّل أنّ امراةً معشوقةً أو حسناء تقضي حاجتها مثلها مثل الرجل. لم يفهم لورانس، في مزايدته على نفسه، أنّ استهوالَ الرجل، هنا، هو صرخة التمرّد على الطبيعة وحسرة هائلة من خطيئة عدم تحقيق العصمة للجمال.

■ ■ ■

لا أذكر أنّي قرأتُ شيئاً يستحقّ الذكر في هذا الموضوع. يدور الأدب حوله من بعيد. السينما تعالج نتائجه (النفور بعد المساكنة، الطلاق، إلخ) ولا تدخل في الجوهر. كارهو المرأة، ولا سيما الفلاسفة، يذهبون في التعميم حتّى تحويل الكائن، رجلاً أو امرأة، إلى نظريّة. الدين يهرب في الدين. الناس يهربون بالتنقّل من واقعٍ إلى واقع كأنّ التغيير الشكلي هو الحلّ. تعيش البشريّة على جرحها منذ فجر الخليقة. لم يسعفها إلّا شيئان: طغيان الشهوة على الوعي، والتعامي عن الواقع.
الفنون ساعدتْ. لكن مفعولها يدوم ما دام سحرها صامداً في وجه الواقع والاستهلاك. والواقع أصْبَر، للأسف.
كان الإيرلندي جوناثان سويفت (1667 _ 1745)، صاحب «رحلات غوليفر» و«موعظة حول صعوبة الفهم الذاتي»، و«تعليمات إلى الخَدَم»، رجل كلّ الاهتمامات، بقلمٍ ذبَّاح وسخرية فاحمة لا نظير لها في أمرين: طاقتها الهدّامة وقدرتها على إثارة القهقهة. وفوق هذا، كان مولعاً ولعاً ساديّاً بكشف العورات والمعايب والمستور المخجل، فضلاً عن المعاصي، وبأشدّ الأساليب فضحاً لها على طريقة نكء الجرح والإيغال فيه بدم بارد. كان كارهاً للبشر بصورةٍ عامّة شغوفاً بالأشخاص بصورة خاصّة. ورغم كرهه للنساء، ارتبطت حياته بثلاثٍ منهنَّ ارتباطاً وثيقاً ومأسويّاً.
ضراوة التعرية لديه تجعله في مصاف العقول المتوحّشة. يكفي البيتان اللذان نقلناهما شهادةً على تلذّذه بالتشهير. لكنّه، عند التأمّل، نراه قد أخطأ الهدف. الألم الكيانيّ الذي يكشفه هذان البيتان يتجاوز شرّ العبارة إلى كنهِ المأساةِ التي، بدل أن تثير الشماتة أو الاشمئزاز، رفعت الستار عن معضلةٍ في حجم الموت: عجز الإنسان عن مجاورة صورته المعنويّة. وحيث كان يُقْصَد الهزء والفضيحة، أصاب السهمُ كبدَ التناقض الملعون في الإنسان بين الأثيري والوحليّ، بين المجنَّح والمُكَرْسَح، بين الله وما لا يمكن أن نتصوّره يصدر عن الله.
الإنسان، هذا المرميّ من سفينته، قد يبدع آياتٍ هجينة، مبتورة، فاشلة، لكنّه هو نفسه أبدع كذلك روائع كاملة لا تشوبها شائبة.
جمالُ المرأةِ كان يستحقّ أن يعفى من الضرائب.
كان ولا يزال، ولا بدّ أن تحقّق له عبقريّة الإنسان الحلم الذي سقط سهواً من يد الخالق.

■ ■ ■

صمد الحبّ بفضل النسيان. لو حكت طيّات الزمان لانهارت الخليقة. مع كلّ طفل تتجدّد الدهشة. ندعو لدوام الطفولة. وكلما انطفأت رغبة أتت النجدة من فتنةٍ جديدة تُخدّر الوعي ما طاب للرحمةِ التخدير.
ولو استمرّ هذا الانخطاف ثانيةً واحدة لكفى. ففي خلال بريقه، تطلّ العين على الكمال.
كمالُ لحظةٍ يساوي العمر.
كمالُ لحظةٍ يغسل ظلْم الخالق.

■ ■ ■

ما نحبّه ينطوي على شيءٍ من الماضي أحببناه. ذلك البريق، إذ يتراءى لنا كذكرى نشتهي عودتها، نشعر به أيضاً كمثالٍ أمامنا نودّ الوصول إليه...
تتّحد أبعاد الزمن في صاعقةِ الحبّ.

■ ■ ■

يرتمي العصفور على الشوك فيطعنه الشوك.
لو أتيح للعصفور أن يعود إلى الحياة، لارتمى مجدّداً على الشوك الذي سيطعنه.
وتتكرّر قيامة العصفور... ويتكرّر ارتماؤه على الشوك.
هذه حال العاشق مع المعشوق القاسي.
ولكلّ معشوقٍ قاسٍ، معشوقٌ أقسى.
أرجوحة التوازن.
الغلبةُ لقاسٍ ليس هناك مَن يقسو عليه.
لشوكٍ بلا عصافير.

■ ■ ■

النداء الذي يناجينا في المحبوب ليس صوته ولا خطاب عينيه. لا ولا سحر جسده. إنّه صوتنا نحن، صوت استغاثتنا به.
نستغيث فنتوهّم أنّه هو مَن ينادينا. لأنّ الصوت هو في الحقيقة صوتانا نحن الاثنين: واحدٌ ينادي من الأعماق وآخر يجاوب من الأعماق. واحدٌ ينادي والآخر أيضاً ينادي.
يناديان مَلَاك النجاة.
النجاة ممَّ؟
من التخلّي.
تخلّي ماذا، تخلّي مَن؟
تخلّي مَن يحرسنا.
الحبّ أقوى من الحياة.

■ ■ ■

الحبّ شكلٌ من أشكال الصلاة.
وعندما يأخذ العاشق في الصلاة لأجل مَن يحبّ، يغدو حبّه جرْنَ ماءٍ مقدّس.

■ ■ ■

ولا تأسف على ما ضاع، ما أضعته أنت سيجده عطشان آخر. ولا تتحسّر على تفاوت العلاقة: لم يكن الأمر كذلك في حينه، وأنت لا تشعر بالضغينة الآن إلّا لصغارةِ نفسك. إذا كان عطاؤكَ شلّالاً وعطاءُ المعشوقِ إبريقاً، فهل يليق بالشلّال أن يُمنّن الإبريق؟ بل قل إنّ عطاء الإبريقِ أكرمُ لأنّه أكبر من طاقته.
وكلّه ماضٍ إلى البحر. الريقُ والدمعُ والدمُ وجداولُ الفرح. ما يندفع إلى البحر هو للبحر. وقلْ إنّ البَحْر الذي يأخذ كلّ هذا سيَجْمع من جديد ما تَفَرَّق.
مَن نحبّهم ليسوا لنا ولا نحن لهم. لهذا نحبّهم. لهذا سنعود ونلتقي.
لحظات التلاقي ظهورات عجائبيّة محتومة.
الباقي من الزمن غربةٌ على الطريق.

**************

حـــــــبّ [2]

أنسي الحاج

أنتِ صورتُكِ. صورتكِ مصدرها أنتِ، شكلكِ، صوتكِ، إيقاعاتكِ الخفيّة المتماوجة في نفسه، الناشبة مخالبها في حواسه، صورتكِ مصدرها أنتِ وليست تزويراً أو وهماً، لكنّها، مع هذا، مخلوقٌ مستقلّ بكامل مواصفات المخلوق المستقلّ، المستبدّ، له قاموسه وطقوسه، وعليكِ واجب حماية هذه الصورة كأنّها تماماً روحُكِ وجسدكِ، وأكثر.
وعلى الرجل واجبُ عدم النطق او التصرّف بما يخدش هذه الصورة، لا القلب ولا القالب.

■ ■ ■

وأنتَ أيضاً صورتكَ، ولكنْ مع أسبابٍ تخفيفيّة معظم الأحيان. المرأةُ لا تتعامل مع أسطورتك بل مع واقعك. يتبقّى من وهجك الخارجي فيها مقدارٌ «طبيعي» لا مبالغةَ فيه. قد تنبهر بمظاهرك وشهرتك أوّل الأيّام وسرعان ما تبدأ تراك على حقيقتك. كأنّ الواحدة عجنت الواحد منّا وخبزته وأكلته مراراً قبل أن يُخْلَق. المرأةُ سبقت الرجل إلى الوجود.

■ ■ ■

تعشق امرأةٌ رجلاً على شهرته، وما إنْ تعاشره حتّى يسقط لها قناعه. للمرأةِ طبيعةُ الطبيعة. جرّبْ أن تخدع البحر، أن تخدع دورة الفصول، أن تخدع الأرض. طبيعةُ الرجل أكثر استعاريّة. لا لزوم لأن يكون الرجل استثنائيّاً ليعيش بذهنه. أيّ رجل، لمجرّد تكوينه، لديه قسطٌ من الذهنيّة يتحكّم في غرائزه، أو هو على الأقل عنصرٌ مهمّ فيها. الذهنُ هو الصورة. التذهين أساسيّ في الرغبة. التذهين أبو الحلم. الحلم غائم لولا عَضَل الذهن. الذهن خيال. الخيال لا يرحم: الصورة في مقدَّم الرحلة وإلّا فلا إقلاع.

■ ■ ■

يستطيع الرجل أن يحب امرأةً على شهرتها وأن يظلّ يحبّها بعد أن يصبح جزءاً منها وتصبح جزءاً منه. للهالةِ عليه مفعولٌ أكبر من مفعول هالة الرجل على المرأة. الرجل لا ينجو من هالة المرأة إلّا محروقاً كالفراشة. المرأة، لسوء حظّها، تنجو من هذا الفخّ الرائع.
هالةُ الشهرةِ المحيطة بامرأة طبقة معنويّة إيروتيكيّة ذات طاقة غير محدودة التأثير. طيف لا يستهلكه الرجل. طبقة مستعصية على الدمج. هي الظلّ الذي يغدو في عيني الرجل أحقّ من الأصل، فوق الشبهات، ينتصر على الواقع والحقيقة، يتغذّى من افتتان لا توقظه صدمة ولا يخونه شرود. هنا يبلغ الحبّ ذروة اللارؤية إلّا من بَصَر الذهول، وتشتدّ حميّاه بمقدار اشتداد حاجة العاشق إلى الإعجاب. امرأةٌ تُعْشَق بهذه العبادة قد تَملّ عاشقها بعد حين إذ تحتاج إلى علاقة أكثر واقعيّة تُعامَل فيها معاملة الأنثى لا معاملة الإلهَة، وترتاح إلى واقعيّة أمرها دون اضطرار المحافظة على مستوى صورتها في ذهن العاشق. حَقّ. التأليه لا يُتعب المؤلِّه بل المؤلَّه. مسكينةٌ المرأة؟ صحيح: إنّها أسيرةُ فتنتها. وإذا أرادت الحبّ الكبير على وتيرةٍ حارّة فستُتعبها صورتُها فيه.
هذا ثمنُ الحبّ. لا حريّة في الحبّ.

■ ■ ■

المجد الذي نراه في الصور محيطاً برؤوس القدّيسين هو نفسه مجد الحبّ. يرسم العاشق والعاشقة حولهما دائرة خشوعٍ من نوع الهيبات ذات النصف هنا على الكوكب والنصف الآخر ما وراء الأفق. لا شيء يجمع الطهارة والرغبة، والرأفة والفتنة، في بوتقةٍ واحدة سوى الحبّ.

■ ■ ■

يستطيع الحبّ الكبير أن يلتهم العاشق. بعدئذٍ تغدو ذكرياته أحلاماً وماضيه مستقبلاً يغرق فيه.

■ ■ ■

هل صحيح أنّنا لا نختار مَن نحبّ؟
بلى نختارهم، يختارهم كلّ ما فينا ممّا يَعقل وممّا لا يعقل. الحب ليس أعمى. إذا فشلت علاقة حبّ فليس فلأنّنا، نظرنا جانبيّاً من عين واحدة.
لا بأس أن نستسلم للجاذب، على أن لا نربط مصيرنا إلّا بالجاذب الذي في غيابه ننطفئ. الجاذب الكياني. الجاذب الكياني يعصف بالجذور ويهزّ لاوعي الطفل الذي فيك، يخضّه كما يخضّ التجلّي، ومعجزةُ الشفاء، وقرصُ الشمس قلبَ العتمة. يعصف ويغسل وجه الوجدان غَسْل الحرير والعاصفة، زارعاً كلّ شيءٍ من جديد، دالّاً على كون هذا الوعد هو ما كان يومئ للبال، وأن هذا الجسد هو لهذا الجسد، وهذه الموسيقى لهذا الراقص، وهذا الحاضر لهذا الحاضر.
بلى نختار. ولكنْ... متى؟ يا لَحَظّ الذين يختارون من أوّل مرّة الاختيار الصحيح!، يا لحظّ الذين يختارون خطأ ويتاح لهم أن يتراجعوا! يا لحظّ القادرين على الانتظار ليضعوا خَتْمهم بكلّ ثقة على اختيارهم! ويا لتعسهم ما أكثرهم أولئك الذين يكتشفون ضالتهم بعد فوات الأوان...
كمَن يكتشف سرّ الحياة قبيل الموت بلحظة.

■ ■ ■

امتدحْ محبوبك بإسراف. لا تتضايق من دلاله ولا من ارتيابه أو من حيائه. بخور المديح الغرامي أشهى بخور، وورْدُ المديحِ يُورّد خدّ الروح. اغْدق من القلب، إذا لم تُسكر محبوبك بالمديح فكيف يَسْكَر؟ وإن لم تَسْكر بمرآه وتجاوباته فَبِمَ تَسْكَر؟ وإنْ لم تَسْرَح مع أصدائه فأين فضاؤك لتسْرح؟
مديحُ المعشوق هو المديح الوحيد الخالي من المبالغة. تمادَ. مهما تماديت تظل بَعْدَكَ في البداية.

■ ■ ■

... ولن تصيرا واحداً.
هذا الشوقُ نصف الصادق لن يتحقّق.
لن تصبحا واحداً مهما أوغَلَ بينكما العناق.
فشل الاتحاد مؤكّد.
ولولاه، هذا الفشل، كيف كان لنا أن نظلّ نشتاق؟

■ ■ ■

أحبُّ غيابكِ.
أحبّ حضوركِ كثيراً، لكنّ غيابكِ أحبّه أكثر.
أنْقصُ بدونكِ، ازدادُ اكتمالاً بحضورك، لكنّي أشعر بنقصي من دونك أقوى من إحساسي بالاكتمال في حضورك.
أحبّ غيابكِ.
لا تفضّلي غيابي، لا تحبّيه.
دعي لي وحدي هذا الانحراف.
ولن تعرفي أن تملأي غيابي كما أملأ غيابك.
صَوتي لكِ يحْملكِ في غيابك كما لا يحمل صوت ولا سكوت. مخاطبتي إيّاكِ أصدق، إصغائي لكِ أعمق. أنا في غيابك كامل.
دعي لي أن أملأ غيابكِ بالفراغ المجنّح: جناحٌ للقلق لا يعرقله خَدَر، وجناحٌ للخيال لا يَكْسره نقصٌ ولا يُشْبعه كمال.

*****************

حــــــبّ [3]
أنسي الحاج

الحبّ غير المستجاب زنبقةٌ فوق عَدَم.

■ ■ ■

منارةُ الحبّ الحَدْس.
قد يحتاج الحدس إلى العتمة ليرى نوره.

■ ■ ■

تعشقها ولا تصبر على غيابها.
تملأ دنياك. إنّها حياتُك.
... وأنت في غيابها وحيد ووحيد في حضورها.
الحبّ يملأ الفراغ ولا يلغي الوحدة.
الحبّ يزيد الوحدة.
إنّه اللامحدود في قفص.

■ ■ ■

ترى في الجنس شيطاناً، فتحصر حبّها في الطهارة.
امرأةٌ عَصيّة كهذه أين تهرب إنْ أتاها الجنس في شكل ملاك؟

■ ■ ■

أشدّ النساء إغراءً هُنَّ في الغالب الأقرب شبهاً بالراهبات، حشمةً وهدوءاً ورزانةً وخَفَراً. لفرطِ خجلهنّ يُخجّلنكَ، ولفرط حزنهنّ الناعم تودّ لو تكون لهنّ التعويض كلّه.
لا علاقة بين الفجور والإغراء. الفجور يُهشّل الإغراء.
الإغراء هديّة سريّة، الفجور ارتماءٌ إرهابيّ.
أشدّ النساء إثارةً امرأةٌ لن تفعل شيئاً لتصدّك ولا لتسهّل لك المهمّة. عليك أنت أن تُحسن التصرّف. إذا وجدتها باردة بهذه الصفات، فلأنّكَ لم تنعم في حياتك بجواهر الجمر تحت الجليد.

■ ■ ■

لا تعشق مَن تنتظرك بل مَن لا تنتظرك. لا تقولا بعضكما لبعض مَن أنتما، بل كونا كلّ واحدٍ على عرشه. لا تكسبها فلا تخسرها. مَلّكْها نَفْسها إذ تأخذها.

■ ■ ■

تُحرّك المعشوقة في العاشق ثلاثة انحرافات: يحبّ فيها طفلةً وأُمّاً وبَعْضَ رَجُل. حبيبتك تجسيدٌ لا لما تعكسه في أناك الجنسيّة فقط، بل لما يرقد في أسفل سرير سريرتك.

■ ■ ■

لحظةُ المرأةِ أقْصَر. أعطها في لحظةٍ ما تستطيع أن تكنزه طوال العمر. هي تعطيكَ في لحظتها الأبد.

■ ■ ■

الصبا وليُّ العهد، الحبّ هو العرش.

■ ■ ■

تتعدّد غراميّات الرجل لأنّه كلّما امتلكَ امرأةً كَشَف سرّها، فيعاود البحث عن امرأةٍ ذات سرّ. كلّ امرأةٍ سرّ. المرأةُ الكلّ هي التي يظلّ الرجل يتخيّل أنّ سرّها يستعصي على الكشف.

■ ■ ■

أَحْبِبْ نفسك حتّى تُهديها شَهيّةً إلى مَن تحبّ.

■ ■ ■

المعشوقةُ امرأتان: عارية ومرتدية. المعشوقة أكثر هي ثلاث نساء: عارية، مرتدية، وحلمٌ وراء هاتين.

■ ■ ■

أنتَ ذاتان: خارجيّة وداخليّة. الحبّ الكبير ينبثق من الذات الداخليّة ويَتَصوَّبُ نحو الذات الداخليّة للمحبوبة. إذا استحقّته المرأةُ تحييان كلاكما به، وإلّا فأنتَ طريحُ غربةٍ وشريدُ ظلام، أمّا هي فلاهيةٌ ككلّ مصادر الغربة.

■ ■ ■

للمرأةِ رهافةُ حسٍ لا مثيل لها حتّى لدى نوابغ الفنّ والشعر. هؤلاء يعبّرون فيُغالون. رهافةُ المرأةِ لا يرقى إليها تعبيرها.

■ ■ ■

الحبّ المتملّك حبٌ عاديّ.
الآخر، الفائق، عاطفةٌ تعكس عن المحبوب صورته الأجمل، فلا يعود يليق به غير قيمتين: العبادةُ والحريّة.
حبٌّ يُجلّي المحبوب شَغَفٌ يُذكّرنا بماضينا الإلهيّ.

■ ■ ■

حُبُّها يحميك وحبُّكَ يُعرّضها.

■ ■ ■

وأنتَ تداعب بَشَرة الحبيبة، لا تنسَ أنّ روحها كلّها الآن فيها.

■ ■ ■

يمرّ الحبّ بالمجون كما يمرّ العقل بالجنون. الإفراطُ مصفاة.

■ ■ ■

لا يستغني المحبّ عن فكرة الحماية. يحتاج أن يعطف إنْ أراد الانتقال من الشهوة إلى الحبّ. مهما اشتدّ الشبق لا يقدّم للمرغوب أوراق اعتماد الحبّ ما لم يقترن بالرحمة.

يعطي الحبيبُ محبوبته الأمان ونفسُهُ مشكوكةٌ على رمح الخطر.

■ ■ ■

يستعجل العاشق التمتّع بجسد المعشوق لأنّ المغيب يتربّص بالشمس.

■ ■ ■

لماذا لا تكون الحديقة مفتوحة على حديقة؟
لماذا الحديقة محاصَرة إمّا بالإسفلت وإمّا بالصحراء؟

■ ■ ■

عندما يستولي الحبّ على شخص ينتزع منه حريّته. وعندما ينسحب عنه الحبّ لا يستعيد حريّته، بل يخسر فوقها «كلمة السرّ».

■ ■ ■

الحبّ مهدَّدٌ دائماً.

■ ■ ■

يطاردنا الوجه تارةً كنسيم وطوراً كضمير.
أعرفُ وجهاً سَكَنَ مراياه،
وبَدَل أن يغرق في المرايا غرقتْ فيه.

■ ■ ■

ثمّة، بين تلبيات النداء، ما هو أسوأ من عدم التلبية. تَنْصبُ الخيبةُ مكمنها وراء الشوق كما ينصب الذئب فخّه على القمم.

■ ■ ■

غريبٌ أن يكون هناك ميتات تُخلّص ضحاياها ولا تكون نهايات الحبّ مخلّصة. ألمُ الحياةُ ينتهي، ألمُ الحبّ لا ينتهي.

■ ■ ■

يحتاج الرجل إلى كنوزٍ من الإقناع ليستدرج المرأة إلى البوح الجنسي، وبعد أن تبوح يُعيّرها...
يجب أن لا تبوحي إلّا بما يفوق تخيُّله، عندئذٍ يستسلم للسيّد فيكِ، للكائن الأخطر منه.

■ ■ ■

يُطْمَأَنُّ إلى حَدْسِ المرأةِ المُحبّة أكثر ممّا يُطمأنُّ إلى ينبوع الإخلاص الذي هو الأمّ.

■ ■ ■

من أوّل لقاء تَشعر أنّ هذه المرأة تعرفك.
من أوّل لقاء تعرف أنّ هذا الرجل سيظلّ لا يعرفك.

■ ■ ■

ممّا يدعو إلى الاستغراب استبعادُ المرأةِ، في الديانة المسيحيّة، عن دور الكاهنةِ التي تتلقّى الاعتراف.
بين أهمّ خصائص المُعرِّف الإصغاء، الاهتمامُ بهمومِ المعترف اهتماماً «شخصيّاً»، فكلُّ معترفٍ يعتبر هذه اللحظة في كرسي الاعتراف إحدى ذُرى حياته، ومَن أكثر من المرأةِ حضانةً، فضولاً، استيعاباً لتناقضات الوجدان؟ وأيّ غفرانٍ أحنُّ من غفرانها؟

■ ■ ■

حواس المرأة لا تُحصى. السادسة التي تُنسَبُ إليها عادةً هي في الواقع مجموعةُ حواس تُعشّش في جسدها ابتداءً من مسامّ الجلدِ وفي نفسها وروحها انتهاءً بما لا يحيط به محيط.
هذا لا يعني أنّها لا تُخدَع، إنّما يعني أنّ الإيقاع بها سهل ككلّ انحدار.

■ ■ ■

يحتاج الشاعر إلى المرأةِ لأنّه يعيشُ من ثلاثة: الإحساس، الخيال والجمال. ومن رابعٍ هو المحال.
ومن خامسٍ هو إعادةُ رسم العالم كما يحلمه.
يتفاعل الشاعر مع الطبيعة بعاطفةِ المسحورِ العابد، الذي لا يتوقّف عن اكتشاف المَغازي في العشبة والنجم. وهكذا يتفاعل مع جاذبيّة المرأة. وهو يتمثّلها كما يُبْصرها خياله، ويرى أنّ جمالها أفتنُ من الشمسِ والبحرِ والهواءِ والسماء، بل أغلى عليه من حياته. ويريدها بلا نهاية، وإذا انتهت يستأنف البحث عنها، وهو بحثٌ لا قرارَ له، هو المُطلق المحال، وما يراه الشاعر منهما في المعشوقة لا يراه سواه.
هو مهزومها المنتصر بها.

■ ■ ■

القَدَر صَنَم.
الصنم لا يتزحزح، راسخ في الماءِ وفي الصخر.
الصنَم قَدَر.
الحبُّ أوركيديا حمراء تنبت على أنفِ الصنَم فجأةً وتذهبُ بوقارِ التمثال.
الحبّ عاصفةٌ تجنّ حول جميع الأصنام.
الحبّ قطارٌ يخرج عن سكّته ويصير طائراً.
الحبّ تصويبٌ للخلق.

*************************

حـــــــبّ [4]
أنسي الحاج

في المرأةِ مساحةٌ رحبة طريّة، مساحة داخليّة متمادية، حافلة بالمفاجآت، مساحة لا وجود لمثلها لدى الرجل.
مائيّة الأحضان السريّة، رطوبة الأعماق وبشاشتها - هذا «الاستعداد» الكياني المخلوق، لا وجود له لدى الرجل.
لديه استعداد الصداقة، لكنّه من طينةٍ أخرى.
أرضُ الرجلِ جرداء.
أرض المرأة خضراء.

■ ■ ■

الشعور بالذنب نادراً ما يكون بنسبة الذنب، وغالباً ما ينحرف إلى التضخّم الخانق والمسبّب للانهيار.
في الحبّ خصوصاً.
مُذْنبُ الحبِّ لا يرحم نفسه ولا يصدّق أنّ الحبيب غفر له.
لا يريد هذا الغفران.
يريد العقاب. ولن يشفى.
الحقيقة؟
المكان الوحيد الذي «يحلو» فيه الشعور بالذنب هو الحبّ.
هنا كوكبه.
هنا مذبحه.
والشعور بالذنب الغرامي في محلّه خاصّة من جانب العاشق، لأنّه على الدوام إمّا مقصّر وإمّا مرتكب. وإنْ لم يكن هذا ولا ذاك فلا بأس أيضاً بشعور الذنب لأنّه يزيد الهالة حول المحبوب ويضيف تواضعاً إلى العاشق ورغبةً في «التعويض».

■ ■ ■

ـ أنا مَن أنا لأنّك أحببتني.
ـ أنتِ مَن أنتِ لأنّكِ أنتِ، ولأنّي أحببتكِ أنا مَن أنا.

■ ■ ■

الحبّ قليل. قبل أن يحصل يكون ضباباً. بعد أن يحصل ينتقل من خصب المطر إلى جفاف الرؤية.
ما نقرأه ونسمعه ونشاهده عن الحبّ هو في الأغلب عن المراحل السابقة للحبّ، عن الحلم والتعطّش والرغبة والحرمان. لحظة حصول الحبّ ينقطع الصوت. يتوقّف الكلام.
بعد حصول الحبّ، يبدأ «الباقي» بالنهوض من النوم.

■ ■ ■

الحبّ البِكر هو الأقوى، لكنّ الحبّ البكر ليس بالضرورة أوّل حبّ، بل قد يكون بعد تجارب عديدة. ما يؤرّخ للحبّ الأقوى هو بلوغه القمّة لا بزوغه التاريخي. غالباً ما تكون القمّة في ظلال الخريف، حين تتلاقى ذروة نضج الشعور بذروة الطاقة الحيويّة وذروة «تقدير» عنصر الوقت وهَمُّ إسعادِ الآخر.
لحظة نشوء الحبّ (وهو ما نفهم به اندماج فائض الطاقة وفائض «الاستعداد») تضاهي أجيالاً من الزمن. في الواقع، هي لحظةٌ تغادر الزمن، تحلّق من قمّة إلى هاوية ومن هاوية إلى قمّة، لا تبحث عن شيء لأنّها وجدت ذاتها.
قد يعرف المرء هذه اللحظة الخالدة مرّة واحدة في حياته وقد تتكرّر ولا يعرف أيّة منها ستكون الأقوى.
وقد يُخيّل إليه، إذا حَسُنَ حظّه، أنّ كلّ مرّة هي أوّل مرّة.

■ ■ ■

نميل إلى تخيُّل المحبوب ضحيّة اضطهاد أو ظلم ليزيدنا هذا الشعور بغضاً للعالم الخارجي وثورةً عليه. يحتاج العاشق إلى انتهاك محظور. أحياناً ينحصر جوهر العشق في الحواجز التي تعترضه.

■ ■ ■

يعتقد كلّ طرف أنّ الآخر يمتلك سحراً.
هذا التجاذب ليس مصدر الحبّ فحسب، بل هو منبع الشعر والموسيقى.
هل هو سحر حقّاً؟
الاعتقاد بوجود السحر هو نفسه السحر.
السحر هو الانسحار.

■ ■ ■

الحبّ الذي لا يقوم على أنقاض حبّ آخر يُحسّ في ذاته ثقباً، فراغاً وتخمة في وقتٍ واحد.
يحاول الحبّ الجديد تجاهل ضحاياه، يريد أن يستغرق في هنائه، يرى الدنيا حوله خيراً وطيبة، فلمَ يعكّرها صليبُ الضحيّة؟
لعلّ هذه من أفجع تناقضات الحبّ، وغالباً ما تنتهي بالإجهاز عليه.

■ ■ ■

حتّى لو ظللنا نُعجب بآخرين إلى جانب المعشوق، لن «نكون» مرتاحين حقّاً إلّا مع المعشوق.
الحبّ استحواذيّ مهما تغنّى بالحريّة.

■ ■ ■

الدونجوانيّة عجزٌ يتغطّى بالكثرة.
هذا لا يعني أن الكثرة نقيصة: في بعض مراحل العمر لا تُقاوَم دعوتها، وللجنسين معاً. تتلاشى أو تضعف جاذبيّة الكثرة مع حصول ضربةِ الحبّ الصاعقة. حينئذٍ تتحوّل المعشوقة إلى كلّ النساء، ويصبح المعشوق علّة تَجمُّل المرأة ليرغبها بلا هوادة.

■ ■ ■

يبدو جسد المرأةِ كأنّه عُهِد به إليها، كأنّه لم يكن جسدها منذ الطفولة، بل «أصبحَ» جسداً لها.
إنّه صناعةُ النظرةِ إليها.

■ ■ ■

الأحمقُ رجلٌ يحاول تذكير امرأةٍ بماضيهما بعدما قرّرت هجره. يريد تحنينها وهي قد أفلتت من دائرة التجاذب معه. كلّ حرفٍ يقوله الآن يُعمّق ضجرها منه.
قد يخطئ المرء حبَّه لسببٍ ما، لكنّه لا يخطئ هجره.

■ ■ ■

تقتل الروايات والمسرحيّات أبطال الغرام لأنّ الأدباء يعرفون أنّ الموت المأسوي أشرف لصورة الحبّ من موت الشعلة الغراميّة اعتياداً وسأماً.
ولأنّ الأدباء يفضّلون الدموع على خيبة الأمل.

■ ■ ■

قلب الحبّ هو الحاضر.
أكثر مدمنيه هم الهاربون من الماضي ونافدو الصبر على المستقبل. يحترقون كلّ هنيهة ليستمدّوا الوهج، يشتعلون ليستضيئوا.
لا أعتقد أنّ المتصوّفين، عشّاق الإله، هم من أتباع الماضي، ولا هم يضطرمون وَجْداً على رجاء التفاني بالمعشوق. الأرجح أنّهم يستحضرون الله في اللحظة، الله الهائل اللامحدود في لحظةٍ تستوعب السرمد.
المتصوّفون آباءٌ روحيّون لعشّاق الجسد البشري.

■ ■ ■

النيّةُ سلاح.
النيّة تُوجِّه القوى الظاهرة والخفيّة نحو الهدف.
لبعضهم نيّات تحفر حفراً، تقتلع أو تغرس، تشبق شبقاً.
النيّة سلاح.
إنّها الأخت الهجوميّة للحلم.

■ ■ ■

لماذا الحبّ دائم، ولو لم نسمع باسمه؟
لأنّ هناك دائماً مَن يُحِبّ.
وهناك دائماً مَن يُحِبّ لأنّ هناك دائماً مَن يُحَبّ.
مَن يريد أن يُحَبّ.

■ ■ ■

كانا يودّان لو يصبحان واحداً، جسداً وروحاً. لو يستعيدان ما تداولته حكايات الأقدمين عن الجنس الواحد، الأندروجين، وقد ضاع ذلك الكائن الممتلئ وانفصل نصفه عن نصفه وتاه كلٌّ منهما بحثاً عن الآخر.
ذلك هو الشوق. ذلك هو النَقْصُ الذي ندعوه الحبّ.
ويجد التائهُ ضالّته، يتحقّق الأمل... يتحقّق ثم يخيب، وإذا بمَن كان يأمل أن يكون حبيبه نصفه الضائع يجد نفسه بعد الاتحاد به أشدّ وحدةً...
وتبقى الخرافة خرافة. لا وحدة ولا نصفٌ ضائع.
الحبّ تيه، بحثٌ بلا قرار.
أهكذا سنظلّ محكومين: حبّنا شهوة محرومة من مشتهاها!؟
لا، لأنّ الحبّ يثمر ويكتمل في حالةٍ واحدة هي إتيانه بجمال.
جمال الإنجاب: إنجاب الحياة عبر التناسل، وإنجاب الروائع، شعراً وموسيقى ونحتاً وتصويراً وقصصاً وخيالات. إنجابُ الحياةِ توارثاً وإنجابُ الخالد في الزائل.
لقد أنجب الخالق الخليقة، ولم يرتوِ، فاستنجب الخليقة بدورها الخَلْقَ عندما نشأ المبدعون آلهةً بين البشر.
أثمر الحبّ البشريّ «الواصل» نسلاً وأثمر الحبّ البشريّ الجائعُ إلى ما يفوقه، أعمالاً مُطْلقة هي نسل القرائح.
... ولكن هل ارتوى الحبّ؟ هل شبع الفراغ؟ أم لا يزال يسعى في مجاهله؟
الحبّ البشريّ، هذا المسكين العظيم، الحبّ البشريّ لا يزال يسعى في مجاهله.
لا الثمار البشريّة أشبعته ولا الثمار المعنويّة، لا الحَفْر في الزمن اليومي ولا البصم على الزمن الدائم.
هناك ما هو أكثر.
الحبّ ليس بحاجةٍ إلى إعادة اختراع، بل إلى العثور عليه...

*************

حـــــــبّ [5]
أنسي الحاج!

يخسر الرجل في الهجر مَن كان يسهر معها وتخسر المرأةُ مَن كانت تستيقظ لأجله.

■ ■ ■

حبٌّ بلا خطر ماضٍ بلا ذكريات.

■ ■ ■

بدون الحبّ أنت مشروعُ حبّ.
حتّى الصحراء يتخلّلها حُبُّ الواحات، أمّا الطوفان فقد تخلّلته سفينة نوح.
بدون الحبّ، نحن لا شيء في حالة انتظار.

■ ■ ■

المرغوبةُ جسديّاً تُشعركَ بأنّها الكَرْم عند شفتيك، والمرغوبة كلّها، بشغفٍ وجنون، هي التي تُشعركَ بأنّها الحياة وما وراءها.

■ ■ ■

الوَلَع (أو الهيام، أو الشغف، أو أيّ ترجمةٍ لكلمة passion) هو جزءٌ من قَدَر الشخص الحامل له. قَدَرٌ وليس خطّة. طبعٌ مخلوقٌ تتضافر تجاربه على تأجيجه. الوَلَع لا يتوخّى المجاسدة، وإنْ حدثت لحامله فإنّما صدفةً أو برغبةٍ طاغية من الطرف الآخر.
الولعُ أقرب إلى الإيمان الملتهب منه إلى شيءٍ آخر.
الشهوةُ الجنسيّة، في الغالب، لا أخلاق لها غير ما تمليه أو تضبطه طباعُ صاحبها. يُعرَف الحبّ أنّه أكثر من رغبةٍ جنسيّة إن لم يَشْبع من الوصال، إذا ظلّ العاشق يرى وراء الجسد وليمةً مجهولة لا يشبع منها مهما استهلك، بل يزداد جوعاً. هكذا يُعرف أنّه انزلق من العابر إلى الدائم ومن اللحم إلى الروح.
ومن الماء إلى السراب.

■ ■ ■

- إذاً، لا تغارين؟
- أكرهُ أن أُخْدَع، أرفض أن أُهان، لكنّي لا أغار من امرأة.
- النتيجة ذاتها.
- لا، لا أترك نفسي تصل إلى النتيجة هذه، أي عذاب الغيرة، لأنّي متى شعرتُ بها تخلّيتُ عن الشريك. لا أتحمّل الغيرة.
- قوّة ضعفكِ تحميكِ؟
- صحيح. ولكن ليس تماماً. هناك غيرة لا تنفع معها حماية.
- وما هي؟
- غيرتي من جسدي. حين هو مَصْدَرٌ لمتعةِ الرجل بلا فضلٍ لي، بلا إشراك لذاتي الجوهريّة.
- أليس هذا جسدكِ أنتِ؟
- لا، ما يثير الرجل في جسدي هو أشكالٌ لا تختصرني. أشكالٌ تتجاوزني وتعيد خلقي في ذهنه على هواه. لا أعرف كيف أتخلّص من هذا الغيظ.
- سابِقي الرجل على حبّ جسدك.

■ ■ ■

ما تأخذه المرأةُ بالحبّ من الرجل هو أفضل ما فيه. الباقي منه يترجّح بين العدوانيّة والتفاهة.

■ ■ ■

عشيقةٌ فاضلة ترمي شِباكها على ماجن. تَحدّي الأضداد. يضاف إليه إتمامُ الاصطياد بما لم يكن في حسبان الصيّادة: اصطيدت الطريدة العابثة وأصيبت بعدوى الفضيلة.
ما نفع ماجنٍ لا يمجن؟ وما وهج معشاقٍ هجر حريمه؟ انتهت الحكاية بدون جوان سابق مخلص لدونجوانةٍ حاليّة ضجرت منه.
... اعرفْ أوّلاً سرّ انجذابها إليك.

■ ■ ■

تقوم العلاقة على عجين البَشَرة. مادّة مُشتهاة حدّ القضم. بين نعومة المداعبة وعنف الهياج. لولا روح العينين لبدت العلاقة محض لحميّة. لولا روح العينين ولولا تلك المساحة اللّامُلْتَقَطة بين الجسدين، مساحةُ ما يعصى على الاستهلاك.
هذه المساحة «المعنويّة» الغائمة، الهائمة، غير المطواعة، تُوجِع. هي العنصر السحريّ الغامض في ما نسمّيه الحبّ.

■ ■ ■

مَن لا يعرف أن يعبّر إلّا بجسده ليس أقلّ حبّاً ممّن يعبّر بالغزل والهدايا. عادة، النساء «الجسديّات» هنّ أكثر من الرجال موهبة في هذا الأسلوب، أشدُّ إدهاشاً، المفاجأة معهنّ مفاجأة، وفي الغالب ليست كذلك مع الرجال.
عطاءُ المرأةِ أكرم، بأيّ طريقةٍ كان.

■ ■ ■

في استسلامها ارتماءٌ إلى البحر مع جهل السباحة،
وفي عطائها كلّ ما مَلَكتْ، وكأنّه وداع...

■ ■ ■

العاشق العاديّ مرفوضةٌ قسوتُه، وأنانيّته بغيضة. لكنّنا نتفهّم القسوة والأنانيّة مُكْرَهين في حالةٍ وحيدة: لدى الخلّاق.
الذي يُصيّغ لنا الوجود ويَعْبُر بنا الصحراء والجحيم على متن السحر، هذا أبٌ أرضيّ لولا قليل لقلناه أباً كاملاً أرضاً وسماء.
ملاكُ رحمةٍ كهذا _ شاعراً، موسيقيّاً، مصوّراً، مُغنّياً، نحّاتاً، مخترعاً _ خالقُ رحماتٍ كهذا، لا بأس إنْ اقتضت ظروف عمله أنانيّةً هنا وقسوةً هناك. لقد صَنَع نقيضهما في بدائع وخوارق تمحو الزمن.

■ ■ ■

الخلّاقون لم يكونوا ولن يكونوا طواحين كلام، طواحين ألحان، طواحين أصوات، طواحين لوحات، طواحين أفكار وأحلام... كانوا، وهم، وسوف يظلّون أعداء القفر والفراغ، فرسان التكوين ضدّ الفوضى، حاملي الكوكب على أكتاف عبقريّاتهم وتحنانهم، ملوك النّجدةِ بالبهاء والنصرة بالعطاء، الساكبين فوق الغمر مياهَ الحلم وسطوعَ النيّرات في الحنايا والضمائر.
هؤلاء هم مُنْبِتو الشيحِ في الحقول ومُنْزِلو المطر على الأرض. هؤلاء مخصبو الحياة ومنقذو معناها وحُماة وهجها وعرسان ماضيها ورعاة مستقبلها. هؤلاء كانوا وما زالوا وسوف يظلّون شجرات الخير في الجنّة التي أنشأها سخاؤهم وتفانيهم على أرض البشر.
هؤلاء هم العمّال الأرباب، الأبرياء الذين تعهّدوا المذنبين والأبرياء، محامو الدفاع عن البشريّة لا في وجه الاتّهام فحسب، بل في وجه الحكم الصادر، الخبّازون الذين أعطوا مصائرنا أرغفةَ التجلّي والفرح والكرامة والمجد.
هؤلاء القدّيسون الذين طوّروا الشفاء بمختلف أشكاله، من الدواء إلى الاختراع إلى البَهْر الفنّي، الذين نرتقي عبر التماهي مع منجزاتهم إلى حدّ الشعور أنّنا، نحن الظلال الفقيرة، لسنا ظلالاً بل جبابرة مثل هؤلاء الجبابرة، وصار لنا، بفضلهم، حقّ النجاة، حقّ الارتعاشةِ المقدّسة، حقّ التسامي، حقّ الحبّ بلا حدود، وحقّ الإحساس بأنّنا، من مقاعدنا كجمهور ومن زوايانا كمستشفين وقرّاء ومستمعين، مشاركون في ابتكار هذه التقْدِمات الإلهيّة.

■ ■ ■

وذوو الجمال منهم في الطليعة.

■ ■ ■

اسمعْ شعر شعراء الأعماق، شعراء الطفولة والطبيعة، اسمع أغاني النشوة بالحياة، أغاني المرح والحزن، أغاني الحناجر المطلّة على أرواحنا من الذُرى، الطالعةِ من هيولى المشاعر الغامضة، اسمعْ أناشيد الكون، الرقص والسَهَر، الدعاء والتحيّة، اسمع ما يُطعّمك بالحبّ، ما يضع روحك كاللحم الحيّ على مَلْمس الجمال...
مَن صَنَعَ هذه الأشعار، تلك الأغاني، تلك الموسيقى؟ وكيف صُنعتْ؟
صنعها جبابرة بمِزَقِ قلوبهم. وُصنعت بقسوة الوحيد الموحَش الذي، رغم محكوميّته البشريّة البائسة، أراد أن يساعِد... أراد أن يخلق أُنساً وبشارةً لهذه القوافل المشلوحة في عراء الوجود...
اسمعْ ألحانَ الوحيد كيف تُحوِّلُ رعبَ الكون إلى عيدٍ يلهج بالحبّ. اغفرْ له قسوةَ طبعه إذا قسا وأنانيّته إذا استحوذ: إنّه الأب والأمّ ومَن فوقهما.
لقد أقام لنا هياكل السحر التي أقامت لنا معابد الحبّ.
حبُّ شخصٍ أو حبّ الحبّ.
الحبّ يخلقه الجمال.

****************

حـــــــبّ [6]
أنسي الحاج

تَجَنّبْ مَن تشعر حيالها بالتساوي.
كنْ إمّا أباً وإمّا ابناً.
التساوي رفقة عاديّة.

■ ■ ■

لحظة الوقوع في الحبّ: أمواجُ الحانكَ الداخليّة تَحملك كريشةٍ وتُعْميكَ كغريق. تنقلكَ من شخصٍ إلى شعاع ومن شعاعٍ إلى هَلَع.
ومنذ الثانيةِ الأولى يهلُّ عليك المصير كأنّه ذكريات! تُرى، أين كان هذا المستقبل التذكاريّ مختبئاً؟ وهذا الماضي الفوري؟ هل يبدأ الماضي باسترداد زمنٍ لم يحصل!؟
الحبّ ليس مستقبلاً. هو مستقبلٌ آخر. المستقبل لا يأتي إلّا عندما يصير حاضراً أي جنينَ ماضٍ. الحبّ جنون الأزمنة وقد وَثَب عليكَ من صدرك، منذ لم تكن، وثب عليكَ بألاعيبه وسِلال كنوزه على شكل وجهٍ كنتَ أعماه وما كنتَ منذوراً لسواه.
ولم تعرف سواه.

■ ■ ■

السماءُ في متناولِ اليد واليدُ مُغرّزةٌ في حافة الكوكب.
المُطْلَق على المائدة، وإنْ مددتَ يدكَ تقع...

■ ■ ■

ألا تكونينَ سوى إلهام؟
ولمَ لا؟
أَنْ تكوني إلهاماً تتويجٌ لكونكِ امرأة.

■ ■ ■

تَمْتِمْ تعاويذك... اوحِ لنفسك حتّى تصدّق... انخطف مع ذراعيكَ السابحتين في الفضاء... سوف يتحقّق هذا الحلم! ويستمرّ! ويعود!

■ ■ ■

أنتِ بيضاء أيّتها السمراء.
أنتِ شقراء أيّتها البيضاء.
أنتِ سمراء أيّتها القمحيّة.
أنتِ ألوانُ طفولة.

■ ■ ■

غريبٌ حديثهم عن نداوةِ عينَي العاشقة من فرطِ فرحها بالحبيب وحنانها! أنا ممّن رأوا مع النداوة جمراً.

■ ■ ■

عندما يتخيّل كلٌّ من الجنسين الجنس الآخر أكمل ممّا هو، يظلمه. لكنّه في هذا الظلم مُحقّ:
ليس على الإنسان أن يتنازل عن حلمه، بل على الخَلْق أن يُعاد.

■ ■ ■

المثابرةُ على رؤيةِ الآخر أجملُ ممّا هو تُصيّره أجمل.

■ ■ ■

ظلمتُ الرجل في صفحةٍ سابقة عن الحبّ حين قلتُ إنّه يبتغي من المرأةِ قضاء السهرةِ معها بينما هي تستيقظ في الصباح لأجله.
هناك بالتأكيد استثناءات تنقض هذه الصورة. بين الفنّانين اللبنانيّين كان الملحّن الموهوب عفيف رضوان متيّماً بزوجته ومضنىً، وكان ساهر حبّه وشهيده. عبد الوهاب طالما أرّقتهُ نساؤه، وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ... بين الشعراء أبو شبكة وصلاح لبكي. وفي الشعر العامّي شاعرٌ مُجيد هو غابي إسكندر حدّاد اشتهر بقصائده وعلى لسانه اسم ندى، وكم عذّبه حبّه لها إلى أن أفناه شابّاً. قبله لوّع الحبّ شاعر «جلنار» ميشال طراد. لا يعني هذا أنّ غيرهم لم يعشق ولم يتعذّب، إنما هي مجرّد تذكارات.
بين الأدباء الأحياء الصديق ياسين رفاعيّة، العاشق الرومانسي وأديب الحنين. الثنائي أمل جرّاح وياسين رفاعيّة عزّ نظيره بين الأدباء وغير الأدباء. عانت أمل الحسناء طويلاً من مرض قلبها واحتضنها قلب ياسين بلا كلل وبتفانٍ أسطوريّ. كتب ياسين بمختلف الأنواع ولم يتجوهر إلّا في مدار الحبّ. وهذه آخر رواياته «مَن يتذكّر تاي؟» («دار الخيال») تحكي كيف لم يتوقّف ينبوع العشق ولا نهر الوحشة عن التدفّق لدى هذا الطفل الكبير الذي لا يزال كلّما أحبَّ وَهَب ذاته قرباناً لحبّه.
قلّةٌ بين الأدباء المعاصرين مَن تولّهوا بمثل هذا السخاء.

■ ■ ■

لن تعرفيه إذا التقيتِه. الحبّ يباركه قمر الجهل وتمحوه شمسُ المعرفة.

■ ■ ■

سيعرفكِ حالما تلتقينه: أنتِ الضياءُ بين جفنه وعينه والاسم الذي كان على طرف قلبه.

■ ■ ■

ـ أهو أنتَ حقّاً؟
ـ أتمنّى لا.
ـ مَن هو إذاً؟
ـ هو ما لا تَسَعه عيناه.

■ ■ ■

هل يُستكثر على العاشق انخطافُ الحبّ وهو السانحة الوحيدة التي تغدو فيها روحه جسداً وجسده روحاً؟

■ ■ ■

يسخر طه حسين في «حديث الأربعاء» من قيس بن الملوَّح فيحملك على القهقهة: «لستُ أعرف عاشقاً أُغمي عليه كما أغمي على قيس بن الملوّح. ولستُ أعرف عاشقاً شهق وزفر كما شهق قيس وكما زفر. كان يكفي أن تتحدّث إليه ليلى بحديثٍ يشعره أنّها تحبّه ليسقط على وجهه مغشيّاً عليه (...) كان يقضي حياته كلّها أو أكثرها ساقطاً على وجهه مغشيّاً عليه، أو قُلْ إنّه كان يقضي حياته كلّها إمّا ساقطاً على وجهه وإمّا هائماً على وجهه، فهو لم يعرف أو لم يكد يعرف الحياة الهادئة العاقلة». ويخلص إلى اعتباره مريضاً، وأنّ قصّته «أشدّ القصص سخفاً (...) وأخلاها من المغزى النافع أو المعنى المفيد».
علماً أنّ التأريخ لم يُثبّت حقيقة وجود شخصيّة قيس بن الملوّح كما ثبّت وجود قيس الآخر، بن ذريح، وجميل بثينة، وقد شكّ الأدباء في نسبةِ شعر المجنون إليه ونسبوه إلى نُسّاجِ حكايته.
معروفٌ نفورُ طه حسين من الخرافات والأساطير وتنديده بالمغالاة والمغالين وحيث «لا مغزى نافع ولا معنى مفيد». وإذا كانت عقلانيّته قد فتحت مرّاتٍ عديدة أبواب البحث الحرّ عن الحقائق كما في كتابه التاريخي «في الشعر الجاهلي» وساعدت قراءه في «حديث الأربعاء» على تذوّقِ الشعر العربيّ في أحقابه كافّة وكان بذلك أحد روّاد إعادة النظر في التراث للتصالح وإيّاه، فإنّه بالتأكيد لم يفهم البُعد السحري في الشعر ولا أهَّلَتْهُ طبيعته الفولتيريّة الهازئة للتعامل مع الشعر والشاعريّة إلّا في نطاقِ الوعي الجراحي. وقد ولّدت هذه البوزيتيفيّة النقديّة أجيالاً من الأساتذة والمؤلّفين نسجوا على منوالها، ولكنْ أعْوَزَتْهُم عبقريّة طه حسين وجرأته كما أعوزهم ما يُعوز المقلّدين وهو «صوت» تفتيح الأبواب.
إذاً، تجنّى طه حسين العاقل على قيس بن الملوّح المجنون. لكنّ المخيّلة البشريّة تُصدّق الشعراء ولا تحبّ جرّاحيهم. وما يضيرك يا سيدي أنْ يقضي شاعرٌ أو أيّ رجلٍ عاديّ حياته هائماً على وجهه عشقاً بدلَ أن يقضيها منافساً جاره على لقمةِ العيش أو متعالياً على الأضعف منه أو زوجاً يعلو شخيره كلّما استلقى على فراشه بعد العشاء؟

■ ■ ■

الأسبوع الماضي أفردت مجلّة «الاكسبرس» الفرنسيّة ملفّها الرئيسيّ لموضوعٍ عنوانه «هل يعيشُ حبٌّ مدى العمر؟».
الحبّ، كجميع الأحلام، يدوم ما دامت حمايته. يقال إنّ الزواج (أو المساكنة) هو الخطر الأكبر على الحبّ. الخطر على الحبّ هو انطفاءُ شعلته. وقد تنطفئ لأنّ زيت القنديل نفد. هذا قد يستعصي على المعالجة. ولكنْ إذا كانت المساكنة بتفاصيلها الواقعيّة هي التي تُشاغب على الشوق وتُقلّص مسافاته فقد لا يكون لنفاد الزيت إنّما لكسلٍ في خيال الثنائيّ وتقاعسٍ عن التجديد والتأجيج: تجديدُ الأشكالِ والأساليب وتأجيجُ ما يتغلّب على الضجر.
يجب أن نعثر على الحبّ، إذا أردنا إنقاذه من الجفاف، في كلّ جيبٍ من جيوبه، وهي كثيرة، وأطيبها السريّ.
الحبّ أقوى العواطف شرطَ أنْ نُحسن التعامل مع نقاط ضعفه.
ليس للحبّ عمر. يبدأ قبل الحياة بقليل ويعيش إلى الأبد بعد انتهائها.

■ ■ ■

لا تتخلَّ عن صورةِ المرأة التي صَنَعها خيالك إلّا لامرأةٍ تعيدُ صنعَ خيالٍ لكَ أشدّ فتكاً بك.

■ ■ ■

الشرّ هو كلّ ما يوقظ من الرعشةِ المقدَّسة.

■ ■ ■

يَعْمُرُ القلب بفرحِ الحياة. تمشي مرفرفاً على الرصيف. نشوانَ بلا شيءٍ هو كلّ شيء: الوجود الطَلْق.
تدخل إلى مقهى. تجلس ويبدأ نظركَ يتنقّل من غصنٍ إلى غصن. فجأةً يقعُ على وجهٍ بريءٍ وأخّاذ.
الإعجاب...
هكذا يبدأ السجن.

***********

حـــــــبّ [7]
أنسي الحاج

ليس من حقّكَ أن تؤمّلها بأكثر من طاقتك.
إعجابك يبهرك، يولعك، فتقول ما يجعلها تنام على أحلامٍ مستحيلة، وتتصرّف، تحت نار رغبتك، كأنّك الفارس الذي سيعوّضها ويرفعها فوق السحاب.
ها هي تحلم بلا حدود، تُصدّق مهما تدلّلتْ متظاهرةً بعدم التصديق. والعاشقُ صادقُ العاطفة، لكنّه كذّاب لأنّه في الأغلب سوف يعجز عن المطابقة بين الوعد والتنفيذ.
لو استطاعت المرأةُ أن تستعذب الوعود دون أن تصدّقها لما تجهّمت العلاقة، لما تسمّم الجوّ في ما بعد بالعتاب والأسى. العاشقُ ينسج لها رؤى أشواقه، وهي تراها حياةً ستعيشها في الواقع.

لا تستطيع المرأة أن تعطي أكثر ممّا تعطيه. إنّها تفي بوعودها. ما تعجز عنه هو على الأرجح تصعيداتٌ ابتكرتها تصوّرات العاشق. سراباتٌ هي غير مسؤولة عنها. السحر يبعث بتوهّجاته وفق الأجهزة العصبيّة التي تتلقّاها. لا يُقاضى السحر في محاكم الاستحقاق. من حقّنا أن ننقم على أقدارنا لا على ضحايا الأقدار.
الطفلة التي تكون في الفتاة الصغيرة تبقى في الصبيّة وفي المرأة. في هذا رباطٌ أكيد بين المرأة والشاعر: كلاهما يكبر على طفولة. لا تَعِد طفلاً وتخلف بوعدك. ستكسر له حلماً لن يتوقّف نزفه وسيحفر في مكانه تجعيدةَ قلقٍ حيال جميع الوعود.

■ ■ ■

تحتاج المساكنةُ إلى تمثيلٍ يشبه حاجةَ الجسد إلى كساء.

■ ■ ■

ليت المعشوقة تأخذ من كلام الحبّ رحيقه وتنسى الباقي. شَهْدُ التوقِ، ولا تحاسب على الأطباق. لكنّ ذلك صعب. أرض الميعاد بالنسبة إلى المرأة تقع في الغالب على حدود الكلام. وراءه لا أمامه. جهاز دفاعها عن هذه الخيبة يكمن في القناعة. وفي أملٍ بإطلالةِ إعجاباتٍ جديدة.

■ ■ ■

تبكيتُ الإخلال بالوعد خنجرٌ يحزّ في روحك وشبحٌ يصعق عينيك كلّما خلا رأسكَ ممّا يلهيه.

■ ■ ■

الشوق، إن لم تتجاوز به الحُمّى حدود الشرود، فؤادٌ ساكن. يغلي، يغلي، ولا يفور. يحفر ويغور، ولا يفور.
الشوق حاجةٌ، إشباعُها فيضُها على السكون. والفيضُ، أي الوصال، قد يزيد الشوق، وقد ينقصه، وقد يمحوه.
الشوقُ يقيم في النقص، في التقصير، في الجبن، في شبهِ عَدَم. الوصول شجاعة. الوصال يراوح بين ثلاثة: الاعتياد، الشغف المتصاعد، الانتحار.
شعراءُ الحبّ المجنون يقيمون في النقص، مُشْبَعين ومحرومين.

■ ■ ■

معاينةُ اللهِ تُعمي، أي تُطفئ. الحرمانُ من مشاهدته يؤجّج الجوع إليه.
كذلك في الحبّ. قد نحبّ ذاتنا في الحبيب، غير أنّنا نحبّ أكثرَ منها ذاته، ذاته الضبابيّة، الناصعة الضبابيّة، الغامضة الحارقة، ذاته الحاملة أحلامنا، القابلة مستحيل أمانينا.
ذاته الغائبة غياباً نلقي عليه بآلامِ الشوقِ تباعاً، كأنفاسٍ كلّما قاربت الرمق الأخير تجدَّدَ شهيقها من زفيرها.

■ ■ ■

الحياةُ موتٌ بطيء، الشغفُ يتحدّاها ويتحدّاه.
يجب أن نحاذر تقليد الحبّ المجنون. يكون أو لا يكون.
اركنْ إلى الذاكرة لتتأكّد أنّك عرفته، لا إلى المخيّلة أو الثقافة.
الحبّ المجنون، أجمل حبّ، يهودي تائه يبحث عن موته.

■ ■ ■

لا تنظر وراء العبارة وأنت تقولها. تقدَّم. ستحلو الفراغات لمَن يملأها.

■ ■ ■

«مَن أنتِ؟ لا أدري وما ضَرَّني
جهلي، وجهلي اللذّة الباقيةْ
أطيَب ما في الشعرِ أغنيةٌ
تبقى بلا وزنٍ ولا قافيةْ»
صلاح لبكي

■ ■ ■

إنْ لم تُصِب من أوّل مرّة فلا داعي للتكرار.
إنْ لم يفهم من المرّات الأولى فعاودي الكرّة إلى أن يندم على ما فات.

■ ■ ■

اختَرْ، إنْ كنتَ من هواة الألم، حبيباً يتضاعف حجم الغياب فيه كلّما ازدادَ حضوراً.

■ ■ ■

يراوحُ بُعْدُ الغيابِ لدى المعشوق بين ما لا تفهمه في شخصيّته وبين ما لا وجودَ له في هذه الشخصيّة وإنّما في نظرتك إليه. النتيجة واحدة. المهمّ أنْ تستلقي على الغيمة وتظلّ


.
 
أعلى