جاد الكريم الجباعي - الإيروسية انطباعات وتأملات

الإيروسية من إيروس[1] (EROS) مفهوم مركب وبالغ التعقيد، ينطوي على نواة بسيطة، هي الجنس البسيط (SEX)أو "الغريزة الجنسية"، الطبيعية، أو الدافع الجنسي أو الرغبة واللذة الجنسيتين، وكل ما يثير الأولى ويولد الثانية ... بحسب اتجاه من يتناول هذا الموضوع. ويذهب بعضهم إلى إبراز طابعه البيولوجي. لكن الإيروسية تتخطى حدود البيولوجيا. لذلك سوف تعتمد هذه المقاربة مفهوم "الحب الجنسي" مقابل مفهوم الإيروسية الذي يعني الرغبة في الحب، حسب لالاند.
لعل الفارق النوعي بين الجنس البسيط والحب الجنسي يكمن في القيمة[2] التي أضفاها الإنسان على المتعة أو اللذة الجنسية التي يقطفها الشريكان لحظة النشوة أو الذروة، ومن ثم على العملية الجنسية كلها، وعلى علاقة الرجل بالمرأة، ولعل هذه القيمة كانت في أساس مفهوم اللذة المرتبطة بمفهومي الخير والجمال والمتضمَّنة فيهما. فمنذ خطا الإنسان خطواته الأولى في طريق الحضارة والمدنية لم يعد الاحتفاء بالجنس احتفاء بخصب الأسرة وحفظ النوع، بل احتفاء بخصب الحياة وبهجتها وجمالها و"خصب البلاد"، فلم يخل تاريخ الجماعات البشرية من "تقديس الجنس". وقد قامت اللغة ولا تزال بإعلاء هذه القيمة[3] وتصعيدها إلى مستوى المثال، فما من رجل أو امرأة إلا ولدى كل منهما مثال اللذة الجنسية ومثال الحب الجنسي يحاولان بلوغه، ولكنه يظل أمامهما، شأنه في ذلك شأن أي مثال[4]. ولا تزال اللغة والإنشاءات الأدبية والفنية تقوم بهذه الوظيفة، أعني وظيفة الإعلاء أو التصعيد، ما يدفع إلى القول إن الإيروسية لغة وثقافة، ويمكن تلمسها اليوم في اتجاهات فكرية وأدبية وفنية وسلوكية، فضلاً عن انسرابها في سائر الاتجاهات بصور ظاهرة حيناً وخفية أحياناً.
شبه أوكتافيو باث الجنس بالنار الأصلية البدائية التي ترفع اللهب الأحمر للإيروسية، وهذه (أي الإيروسية) ترفع لهباً آخر، أزرق مرتعشاً، هو لهب الحب. الإيروسية والحب هما اللهب المزدوج للحياة[5]. وأقام علاقة بين الإيروسية والشعر: الأولى شعر جسدي، والثاني إيروتيكية لفظية، كلاهما يتألف من تعارض تكاملي؛ اللغة قادرة على تسمية أكثر الأشياء انفلاتاً وتلاشياً، أي الأحاسيس، والإيروسية هي الجنس محولاً إلى استعارة، إلى طقس وتمثيل، والمخيلة هي الوسيط الذي يحرك الفعل الإيروتيكي والشعري معاً، المخيلة هي القوة التي تحول الجنس إلى طقس وشعيرة واللغة إلى إيقاع واستعارة[6]. علاقة الإيروسية بالجنس، كعلاقة الشعر باللغة؛ الشعر لغة لا تريد أن تقول، بل تريد أن تكون؛ الشعر يريد ذاته، والإيروسية كذلك، لا تريد الإنجاب، بل تريد ذاتها، ومن البديهي أن ينبثق الجمال من هذه الإرادة في الحالين.
فإن إضفاء القيمة الجمالية والأخلاقية على اللذة الجنسية وعلى العملية الجنسية كان الخطوة الأولى في طريق أنسنة الجنس البسيط وتفريده وصيرورة العلاقة الجنسية علاقة وجدانية، وولادة حب جنسي قوامه تخيُّل الكمال في المحبوب والرغبة في الاكتمال به. وقد قطعت المجتمعات المتقدمة شوطاً بعيداً على طريق أنسنة الجنس البسيط وتفريده وإدراجه في منظومة حقوق الإنسان؛ فلم يعدالتنظيم الحديث للمتعة (الجنسية)، كما تعكسه هذه المنظومة، تنظيماً همه مراقبة جسد المرأة، كما هي الحال في المنظومات الدينية التوحيدية والأبوية عموماً، بل همه حماية الأفراد، وإقرار الحرية والمساواة. ولذلك لم تعد البكارة مجال تقنين في المجتمعات التي تعتمد المنظومة الحقوقية، ولم يعد الزنا في ذاته مجال منع، بل اتجه المنع إلى أفعال أخرى يرى فيها المجتمع إنتاجاً للعنف والألم ..، كالاغتصاب والتحرش والاعتداء على القاصرات"[7] والقاصرين. في حين لا تزال المجتمعات المتأخرة، كمجتمعنا، في بداية هذه الطريق وتعاني ضروباً مختلفة من الشقاء الجنسي وما يولده من مشكلات اجتماعية. فإن للإيروسية بعداً اجتماعياً، أخلاقياً، لا ينبع مما يسمى "الاقتصاد الحيوي" للمجتمع وعمليات تنظيم الجنس تنظيماً يرتبط بمختلف الشؤون العامة فقط، بل من كونها أحد الأسس التي نهض عليها الفن والدين بوصفهما شكلين متقابلين من أشكال الحياة الأخلاقية.
لذلك كله، يبدو مفهوم الإيروسية إشكالياً[8]؛ يحيل على واقع إشكالي بالغ التعقيد وغير قابل للاستنفاد، يتداخل فيه الوجودي والبيولوجي والنفسي والاجتماعي والمعرفي والثقافي والأخلاقي والمادي، بالمعنى الواسع للكلمة؛ فليس فيه قول نهائي. كان القول فيه مفتوحاً في جميع الثقافات، وسيظل كذلك، لكثرة ما حمله وما يمكن أن يحمله من معان وما تأسس ويتأسس عليه من رؤى ومواقف وممارسات، مختلفة ومتناقضة. ويصدق فيه القول السائر: ما من شجرة لم يهزَّها الهوا. فما من نفس إنسانية لم يهزَّها الهوى هزاً ما. فللإيروسية من المعاني والدلالات بقدر ما هنالك من تجارب فردية في الماضي والحاضر، تشترك في أشياء، وتختلف في أشياء، بحكم ما هنالك من تشابه واختلاف بين الأفراد. ولكم سيكون القول قاصراً إذا ما اقتصر على المتشابه في التجارب الإنسانية تأسيساً على المتشابه في الأفراد، ولكم يبدو عصياً على التحديد إذا ما انطلق في فضاء الاختلاف اللامتناهي تأسيساً على اختلاف الأفراد إناثاً وذكوراً. وحدها الحكايا والسرديات الشخصية والأعمال الروائية والمأثورات والإبداعات الأدبية والفنية تؤلف سمفونية الروح الإنساني على لحن الإيروس، بحكم طابعها الفردي واحتفائها بالاختلاف.
وما يزيد الأمر التباساً، ويضفي عليه مزيداً من الغموض أن هناك، بوجه عام، رؤيتين للإيروسية: رؤية ذكورية لا تزال تحتل متن الثقافة والأخلاق وتلون المعرفة وتتصل بالسلطة من عدة وجوه .. وأخرى نسوية، صامتة أو نائمة وهاجعة في الهامش الذي لا يعبأ به سوى القراء الحاذقون، لكن صمتها هو ما يؤسس لكلام لم يقل بعد، من دون أن نتجاهل واقع أن (المرأة) بدأت توقظ أنوثتها وتحتفي باختلافها وتعلم حريتها المشي، ومن دون أن نتجاهل العناصر الأنثوية في خطابات الذكور أنفسهم وفي مواقفهم، وهذه لا تدركها، حتى اليوم سوى المرأة ولو حدساً، فقد لا يرضي أحدَنا أن يقال له إن في خطابه نفحة أنثوية، وقد يحمر وجهه خجلاً إذا بحثنا عن العناصر الإيروسية في فكره وسلوكه أو عن ارتسامها فيهما، مع أنه قد لا يجادل في أن مبدأ الوجود يتجلى في جميع أشكال الوجود، ومبدأ الحياة الإنسانية يتجلى دوماً في جميع أشكال الحياة، والفكر، بوصفه قوام الأدب والعلم والفلسفة والفن، هو الشكل الأخير للوجود الإنساني وموطن العاطفة والخيال، فحيثما يوجد الفكر توجد الإيروسية ويوجد الذوق والجمال، والفكر هنا وحدة العقل واللاعقل.
تنتمي الإيروسية إلى مجال اللاعقل الذي يؤسس العقل، ويعيد تأسيسه باطراد، بالحوار الخلاق بين الممكن والواقع، أي بين الذات وشروط تحققها وافتكاكها من القيود، من جهة، والحوار بين الذات الإنسانية وذاتها المتعينة في الآخر، من جهة ثانية؛ فتتخطى المنطق إلى ما فوق المنطق، أي إلى حدود انبثاق الحرية تجاوزاً للحدود إلى حدود جديدة مرة تلو مرة؛ وتدل، من ثم، على تألق الفردية وانفتاحها على أفق كوني، هو ارتسام خارجي لعمقها الإنساني[9]، وهذا ما أسميه "الأفق الذي يحدد الكينونة"، وتحدد المعرفة والعمل والحب جميع أبعاده، بقدر ما تكون تجليات للحرية. ذلك لأن الحب الجنسي أساس جميع أشكال الحب وجميع أشكال الكره، التي تطبع العلاقات الإنسانية بطابعها. فما من حب لا يقابله كره، وما من حب لا يخالطه كره؛ لكن الحب ينصب على الإنسان ذاته، في حين ينصب الكره على بعض صفاته ومحمولاته؛ والكره الخالص المقيت هو ما ينصب على الإنسان ذاته، من يلج بابه لا يخرج منه إلا مسخاً.
فيمكن القول إن الحب الجنسي هو إدراك القيمة المطلقة للذات الفردية من لحظة تأسيسها في الآخر، الذي هو شرط وجودها ومبعث خياراتها الواعية، لا اندفاعاتها الغريزية، ومبعث عواطفها وانفعالاتها الوجدانية، وهو، من ثم، إدراك القيمة المطلقة للآخر، بوصفه المحب والمحبوب في آن معاً، أي بوصفه (أنا). وهو الطريقة الوحيدة التي تُظهِر بها الشخصية جوهرها الأعمق، والطريقة الوحيدة لفهمها. بهذا المعنى بالضبط، هو اكتشاف مركز ثقل أو نقطة ارتكاز الوجود الإنساني، المركز الذي تنبني عليه الشخصية وتنشأ منه الذاتية. وما زلت أعتقد أن الحب هو الصيغة الأخلاقية للحرية، أو مبدأ الحياة الأخلاقية التي تليق بالإنسان. فالأخلاق تدين بوجودها للمعرفة والعمل والحب، وهذا يعادل قولنا: الأخلاق تدين بوجودها للحرية؛ إذ لا تتجلى الحرية إلا في المعرفة والعمل والحب، مع أنها، أي الأخلاق، تتحول إلى قيود على الحرية تزينها الثقافة السائدة بالورود.
ليس بوسع أحد أن يدرك جوهر الآخر قبل أن يحبه، ففي الفعل الروحي للحب، بل في الفعل الجنسي / الروحي، "يصير الإنسان قادراً على رؤية الصفات الجوهرية للمحبوب وميزاته الخاصة، والأكثر من ذلك، يصير قادراً على رؤية ما هو كامن فيه ولم يُستكشَف بعد، لكنه يجب أن يُستكشف". عندما يحب الإنسان يبعث في من يحبه القدرة على تحرير قواه الكامنة، ويعينه على إدراك ما يمكن أن يكونه في الحاضر، واستشراف كينونته في المستقبل، ويحوِّل هذه القدرة إلى حقيقة واقعية[10]. لا يختار الإنسان ذاتَه ولا يدرك كينونته ولا تكتمل فرديته وتتفتح شخصيته إلا عندما يحب حباً جنسياً، (على وجه التحقق والاستقبال)؛ إذ الحب الجنسي أظهر أنواع الحب؛ ولعله أساسها جميعاً، بما في ذلك حب الحق والخير والجمال والحب الإلهي، فقد تحدث كثير من اللاهوتيين عن "الإيروس الإلهي"[11] المتصف بالوجد الروحي، وعدوه القوة الخالقة والموحِّدة والمتضمَّنة بامتياز في الجميل والخيِّر. لكن ما سميته "فضاء الاختلاف اللامتناهي" يجعل من كل فرد كائناً فريداً وغير قابل للاستنفاد، ومن كل تجربة فردية تجربة لا نظير لها. والفرد هنا اثنان: أنثى وذكر، والتجربة تجربة كل منهما وتجربتهما معاً[12]، ولها ارتسامها الاجتماعي والثقافي والأخلاقي، بنسبة ما هي محدودة بهذه الأبعاد وخاضعة لتأثيرها أو متمردة عليها.
هنا، لا بد من التوقف ملياً عند الاستعمال الاعتباطي والمتسرع لمفهومي الذات والموضوع، حين يقال: المرأة موضوع لحب الرجل والرجل موضوع لحب المرأة وحنانها، فالذات الإنسانية لا يجوز أن تكون موضوعاً على الإطلاق؛ لا المرأة موضوع لحب الرجل ولا الرجل موضوع لحبها وحنانها؛ المرأة والرجل، في الحب، كلاهما محبان ومحبوبان، يمارس كل منهما ذاته، ويتعرَّفها به وفيه، بقدر ما يتعرِّف الآخر، وإلا فليس ما بينهما حباً. وهذا مطرد في جميع العلاقات الإنسانية أو يفترض أنه كذلك. فلا يستساغ، عندي، قول ثيودور رايك: إن للإشباع المتأتي من كونك موضوعاً لحنان شخص آخر طابع إرضاء الأنا، فهو (أي الإشباع) مرتبط بمشاعر الغرور المُشبَع، والكبرياء المُحقَّقة، والطموح المُدرَك"[13].فليس من إشباع ممكن مع شعور أحد "الشريكين" أنه مجرد موضوع، ولو لحب الآخر وحنانه. هذه المسألة مرتبطة أوثق ارتباط بالفهم السائد للممارسة الجنسية بوصفها تلبية لحاجة بيولوجية مقنَّعة وحقاً للرجال على النساء وفيهن، الفهم الذي ولد ولا يزال يولد النقيضين: التزمت والتهتك على السواء، من دون أن يدرك تناقضه الذاتي. الإشباع الذي تحدث عنه رايك مرده إلى شعور الذات، مذكرة أو مؤنثة، بسلطتها المادية والمعنوية على الموضوع وسيطرتها عليه وتملكها إياه، والمشبع هنا هو الغرور والكبرياء والطموح. وأجادل في أن الإشباع لا يمكن أن يكون، في هذه الحال، إلا لغرور أحد الطرفين وكبريائه وطموحه. قد يقول قائل: ما الضير إذا كان كل من المرأة والرجل ذاتاً وموضوعاً في الوقت نفسه، أقول إن هذا غير ممكن من دون استلاب كل منهما واغترابه عن ذاته. الموضوع الذي تتعين به الذات وتتعين فيه مقدراتها وخصائصها موضوع مادي خارجي، تعمل الذات على تدميره وتمثله، إذا كان موضوعاً للاستهلاك النهائي، أو على تغيير شكله وخصائصه ووظائفه وإلغاء استقلاله عنها وتملكه على أي وجه من وجوه التملك، إذا لم يكن للاستهلاك النهائي، وتغدو تمثلاته موضوعاً داخلياً للفكر. الثقافة التقليدية التي تعد المرأة موضوعاً لحب الرجل لا تعترف بها كائناً إنسانياً كامل الأهلية الإنسانية، وإن اعترفت بها القوانين المدنية مواطنة وشخصاً قانونياً كامل الأهلية القانونية، كما في الدول المتقدمة، ولا يسوغ في هذه الثقافة أن يكون الرجل موضوعاً لحب المرأة. فإن قسمة الإنسان على نفسه ذكورة خالصة وأنوثة خالصة وتفضيل الأولى على الثانية وإعلاء شأنها هما أساس الاستعمال المتعسف لمقولتي الذات والموضوع.
علاقة الحب لا يمكن أن تكون علاقة الذات بموضوع، بل هي علاقة الذات بذاتها، لأن الحب سعي إلى الاكتمال بالآخر، بتعبير أبو حيان التوحيدي، وهذا يعني أن ما في المرأة من ذكورة يكمل ذكورة الرجل الناقصة، وما فيها من أنوثة يكمل أنوثته الناقصة، وما في الرجل من أنوثة يكمل أنوثة المرأة وما فيه من ذكورة يكمل ذكورتها؛ فالمسألة ليست تكامل قوتين إحداهما موجبة والأخرى سالبة، بل تكامل قوتين كل منهما موجبة وسالبة في الوقت نفسه، أو "تعاشق الماء والنار" في كل منهما. اتحاد الشريكين على هذا النحو هو استقلال كل منهما استقلالاً تاماً، لاكتمال ذكورة الذكر وأنوثة الأنثى، وهذا هو المعنى الأعمق لاكتمال الفردية. بالحب فقط تتبلور الشخصية وتكتمل الفردية.
النزوع إلى الهيمنة والتملك (اللطيف) لدى كل من الشريكين، الذي يعده بعض الكتاب أمراً طبيعياً لا يظل كذلك، أي لا يظل لطيفاً، تحت ضغط المجتمع والثقافة السائدة والقيم السائدة، بل يتحول، كما هو معروف، إلى تسلط وتملك فظ مقنعين بقشرة من أخلاق وهمية وكاذبة. ومن يسوغون ذلك يتجاهلون واقع أن السلطة علاقة قوة لا يمكن لغير الحب أن يحقق تكافؤاً في القوى بين الشريكين أساسه حرية كل منهما واستقلاله وانتفاء أي قسر خارجي مادياً كان أم معنوياً. هذا التكافؤ هو أساس السعادة، ولكنه تكافؤ هش وقلق، في جميع الأحوال، يحتاج إلى إعادة إنتاجه حيناً بعد حين. فإذا كان الحب أحد مصادر السعادة إن لم يكن مصدرها الرئيس فإن هذه السعادة لا تخلو من مد وجزر ومن أوجاع وآلام ومكابدات يسمونها "عذاب الحب"، وهو من العذوبة، على رأي ابن عربي، ولعله ذلك النوع من الألم الذي يطهر النفس إذا لم ينقلب إلى كره ونفور.
يرى بعضهم أن للسعادة ثلاثة مصادر هي الحب ومكاسب الأنا والإرضاء الجنسي، يمكن أن تتحد، في حالة الحب، على الرغم من اختلافها واستقلال كل منها وإمكان أن يتجه نحو شخص آخر أو غاية أخرى. تفترض هذه الرؤية أن "الجنس مقيد إلى الجسد، والحب إلى شيء غامض يدعى الروح. فالجنس يهدف إلى الإرضاء الجسدي، أما الحب فإلى إرضاء الشخصية وتضخيمها، وتهدف دوافع الأنا إلى تحقيق السيطرة"[14]. وتضفي الثقافة على هذه المصادر قيماً مختلفة يحتل فيها الجنس المرتبة الأقل قيمة. اللافت في هذه الرؤية فصل الرغبة الجنسية عن الحب والنظر إليها على أنها مجرد حاجة بيولوجية مرتبطة بالجسد. هذا الفصل تابع لفصل أقدم هو فصل الروح أو النفس أو العقل عن الجسد، وفصل الماهية عن الوجود، وفصل الأنوثة عن الذكورة، وهو ما درجت عليه الفلسفة في العصور القديمة والوسطى ورسخته العقائد الدينية. فتدني قيمة (الجنس) مرتبط بتدني قيمة الجسد وتدني قيمة المرأة، وهذا مطَّرد في جميع الثقافات بنسب مختلفة، ولا يزال علامة بارزة، بل علامة فارقة، في ثقافتنا التقليدية والحديثة التي غمست في مستنقع التقليد. نعتقد أن فصل الروح عن الجسد هو أساس الشقاء الجنسي[15] المغلف بأوهام السعادة، وأساس الاضطرابات النفسية والسلوكية، وسأغامر بالقول إنه سبب ضمور فكرة الحب والتباسها. يميل كاتب هذه السطور ميلاً ما إلى قول أبو حيان التوحيدي: "الجسد كثيف النفس والنفس لطيف الجسد"، وهو قول يتيم ومنسي على هامش الثقافة السائدة. ويعتقد أنه ليس بوسع أحد أن يعيِّن الحد الفاصل بين كثيف النفس أو الروح ولطيف الجسد، لأن الكثيف يَلطُف واللطيف يتكثف. ولعل الفتوحات العلمية الأحدث، ولا سيما اكتشاف الشفرة الجينية للإنسان، وقد سماها بعضهم "كتاب الحياة" وأحب أن أسميها "اللوح المحفوظ" ستزودنا بمعرفة مختلفة جذرياً عما نعرفه عن أنفسنا وما لم نعرفه بعد.
هنا يجدر بنا التفريق بين الحاجة / الحاجات الطبيعية وبين الرغبة / الرغبات الإنسانية تفريقاً يتأسس على الفرق النوعي بين ما هو طبيعي وما هو إنساني. وأذهب إلى أن الحديث عن الغرائز الحيوانية والحاجات الطبيعية لدى الإنسان بات مستهجناً بعد أن أنسن البشر هذه الغرائز والحاجات في مسار تطورهم الطويل، في سياق أنسنة الطبيعة وأنسنة العالم، على الرغم مما شاب هذه العملية ويشوبها من ضياع واغتراب، فلم يعد لبيئة الإنسان الطبيعية من تاريخ مستقل عن تاريخه. وأزعم أن الحب الجنسي (إيروس) مدني بامتياز، على اعتبار المدني مقابل الطبيعي على كل صعيد، لأن الحب يتخطى جميع الحواجز، الإثنية والدينية والمذهبية والطبقية والجغرافية ويرتبط بالقيم الإنسانية العامة، قيم الخير والحق والجمال. وأزعم أن الرغبة إنسانية بامتياز. الحب الجنسي ليس مظهراً من مظاهر التمدن ونتيجة من نتائجه فحسب، بل هو من أهم عوامل التمدن.
الرغبة التي يقلل الكثيرون من شأنها أساس الإرادة، فنحن لا نريد إلا ما نرغب فيه ونميل إليه، والإرادة من أبرز مظاهر الحرية. الحب الجنسي، وفق هذه الحيثية، التقاء رغبتين وإرادتين. ازدراء الرغبات والعواطف والأهواء وجه آخر لازدراء الجسد وازدراء المرأة. مصدر الحب ومبدؤه هو الإنسان الذي ينطوي على ما شئتَِ من الرغبات والعواطف والأهواء والانفعالات والمواجد والأشواق تحمله كلها على ممارسة ذاته والاحتفاء بها والافتتان بجمالها، وإلا لما كان الجمال. لولا الرغبة لما ذهب الإنسان في أي اتجاه، ولا ذهب التاريخ في أي اتجاه. الرغبة زينة الإنسان التي تزين العالم، وفصاحة الجسد ولطافته، فإن أسوأ ما اقترفه العقلانيون على مر العصور هو ازدراء الرغبة والعاطفة وتقديس العقل.
أدركت للتو أن هذا النص لا يسير على خطة ولا يتقيد بمنهج، فقلت لنفسي: حسناً! متى كان الحب، الذي أحاول مقاربته، يسير على خطة ويتقيد بمنهج وينصاع لدواعي العقل؟ لا يُعقَل الحب إلا بعد موته، بانطواء التجربة الفردية / الزوجية وانقضائها؛ فكل محاولة لعقلنة الحب أو إخضاعه لـ "مبادئ الفلسفة" العقلية أو مناهج العلم هي محاولة لقتله واغتيال فرادته. ولشدة افتتاننا بالعقل والعقلانية، ننسى أنهما من عمل السلطة، سلطة المعرفة المنظمة وسلطة العادة والتقليد وسلطة العرف والقانون وسلطة الدين والسلطة السياسية أيضاً، وكلها متواطئة على قمع الحب وتقييد الحرية.
ذلك لأن الحب الجنسي فردي وإنساني مبدأً ومآلاً، لا غاية له سوى ذاته، كالحرية تماماً، ليس غاية ولا وسيلة، بل طريق وأسلوب حياة. حتى ما كان منه لحفظ النوع، ولم يكن لا فردياً ولا إنسانياً، لم يعد كذلك بالضبط، بحكم ما أشرت إليه من أنسنة الدوافع والحاجات الطبيعية، فقد صار الإنجاب، في الأوساط المتقدمة من سائر المجتمعات اختياراً حراً واتفاق إرادتين، لا ينفصل عن معنى الحب والسعادة، والمأمول أن يصير كذلك لدى المجتمعات كافة ولدى أفراد كل منها، عندما تتحرر هذه المجتمعات من ماضيها وتدفن أمواتها وتعلن الحداد عليهم مرة واحدة، ليستريحوا في قبورهم، وتمضي حرة في طريقها تبتكر الحياة وتبتدر السعادة. وهذا باب ليس هنا مجال التفصيل فيه.
الحب الجنسي، بحصر المعنى، امتلاء بالحياة، وابتهاج بالجمال واحتشاد كل ما في الفرد من قوى على مقاومة الموت، فلا أدري ما الذي يتبقى من الإنسان، وما الذي يتبقى له، إذا فقد القدرة على الحب. فقد لا حظ سارتر أن "المحب يريد أن يكون كل شيء في نظر المحبوب"، ولكن فاته أن المحب يشعر في لحظات الوحدة الموحشة والفارغة أنه لا شيء من دون المحبوب، والمحبة كذلك بطبيعة الحال، مع الفرق. هذا التناقض ليس تناقضاً في الحب إلا لأنه تناقض في المحب، بين الامتلاء بالحياة والامتلاء بالموت.
لعله لا يكفي أن نحب، فالإنسان لا يحب حقاً إلا عندما يحب كونه يحب، أي عندما يحب الحب ذاته والجمال ذاته والذوق ذاته، ويحب ذاته بصفته محباً، ويتمكن من الانتقال من الموافقة إلى المؤانسة ثم إلى المودة ثم الهوى ثم الشغف ثم التيم ثم الوله ثم العشق، في كل مرة ينعم فيها بوصال من يحب. فلا يخالجه أو يساوره أي شعور بالإثم أو العيب أو الخجل أو الخوف من سلطة التقاليد والأعراف والقوانين أو غير ذلك مما ينغص على الفرد حياته ويعصف بتوازنه النفسي. اللذة الجنسية ليست مقيدة بالجسد، كما يعتقد بعضهم، بل هي لذة روحية غامرة تبدأ من لغة الجسد، وما يظهر من آثار المتعة واللذة والنشوة على جسد الشريك وفي ملامح وجهه، لأن الجسد تواصلي، ولأن أساسها تخيل كمال يفضي إلى انجذاب الإرادة إليه، والدافع إليها، في هذه الحال، دافع إرادي مصحوب بالتصور أو التخيل.
أخيراً، يأخذنا الحب الجنسي إما إلى حدود الفن والإبداع حيث ينبثق الجمال، وإما إلى حدود الإيمان، بغية الوفاء بما ندين به للحياة؛ فحين يرق رجل بين يدي امرأة يكون قد استحوذ عليه شعور خفي بالمديونية للأنثى، وهو شعور أقرب ما يكون إلى شعور الفنان المبدع أو المؤمن المتصوف لحظة اندماجه في الكون نقطةَ التقاء بين لانهايتين.




[1] - إيروس (Eros) كلمة يونانية تعني الرغبة في الحب، مقابل الصداقة والرحمة والمحبة، وكل رغبة شديدة أو هوى، وكل نشدان لشيء بوله. وهي اسم علم لإله الحب. وقد اكتسبت في الاصطلاح الفرويدي ولدى علماء النفس الذين استلهموه معنى أكثر اتساعاً وتبايناً يراوح بين المفهوم الجنسي المحض والرغبة بوجه عام. (راجع موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، باريس وبيروت، ط2، 2001).
[2] - وحده الإنسان من بين جميع الكائنات من يمنح الأشياء قيمة، فيحب ويكره ويرغب وينفر ويريد ويرفض، فإن تقييم اللذة الجنسية، أي منحها قيمة، هو أساس أنسنتها.
[3] - نتحدث هنا عن القيمة الإيجابية، من أن نغفل أن بعض الاتجاهات الثقافية تضفي على الجنس قيمة سلبية ما أن يتعدى حدود حفظ النوع. والثقافة العربية زاخرة بهذا وذاك.
[4]- لعل عدم بلوغ هذا المثال أحد عوامل الإحباط والشقاء الجنسيين، ولا سيما في مؤسسة الزواج التقليدية.
[5] - أوكتافيو باث، اللهب المزدوج، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 1998، ص 7
[6][6][6][6][6] - راجع باث، مصدر سابق، ص 10
[7] - رجاء بن سلامة، من بحث عنوانه "تابو البكارة أو لزوم ما لا يلزم من الألم" نشر على موقع الأوان: www.alawan.org
[8]- الطابع الإشكالي للمفهوم ناجم عن تناقضاته الداخلية التي لا قرار لها، وعن طبيعته الموارة، بحكم حيويته وديناميته.
[9][9] - كثيرون منا لا يعترفون بوجود هذا العمق الإنساني الذي ينبثق منه الحب، والذي ليس له من قوام سوى الحرية، لأنهم لا يعترفون بفرادة الطبيعة الإنسانية. لقد أبعدتنا عن أنفسنا نزعة وضعانية معتدة بنفسها ومزهوة بعلميتها تجاوزت حدود الوضعية الإيجابية. الشفرة الجينية، كما يقول العلماء، لا تحمل تاريخ حياة الفرد وتاريخ حياة الجنس البشري فقط، بل تاريخ الحياة، ذلكم، في اعتقادي، هو العمق الإنساني الذي يظهر جلياً في ثلاثة أركان الوجود الإنساني: المعرفة والعمل والحب..
[10] - بعض العبارات في هذا المقطع من ذاكرة لم تسعفني في تحديد قائلها والمرجع الذي اقتبست منه، ما يقتضي الاعتذار من صاحبها ومن القارئ.
[11] - راجع كتاب "فلسفة الحب، تأليف مجموعة من الباحثين الروس، ترجمة هيثم صعب، وصدر عن دار المدى بدمشق، 2008
[12] - نحن العرب نستهين بالتجربة / التجارب المشتركة، ولا نعدها أساساً لتشكل (الجماعة) سياسياً أخلاقياً، لذلك تظل الجماعة / الجماعات منعزلة ومتفاصلة، كالزيت والماء. الحب مدني بطبعه، وهو السبيل الوحيد لـ "الخروج من العزلة". ولا يزال الزواج عندنا مناقضاً للحب في الحيثية المدنية.
[13] - ثيودور رايك،سيكولوجيا العلاقات الجنسية، ترجمة ثائر ديب، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، 2005، ص 16
[14] - راجع ثيودور أريك، المصدر السابق، ص 16
[15] - ربما كان من الأفضل تناول موضوع الإيروسية انطلاقاً من واقع الشقاء الجنسي، في مجتمعنا، وآثاره في الفكر والوعي والسلوك، لولا أن هذا يحتاج إلى مزيد م ن البحث والتقصي والدراسات الميدانية لسنا مؤهلين لها، وعسى أن يبادر إلى ذلك القادرون والمؤهلون.


.
الاوان
 
أعلى