خليل صويلح - الرغبة الإباحيّة عبر التاريخ: إيروس ضد تاناتوس

رحلة أركيولوجيّة يدعونا إليها باسكال كينار، راصداً تجليات الجنس عبر الحضارات البشريّة. في «الجنس والفزع» الذي وصل أخيراً إلى المكتبة العربيّة، يقتفي الروائي الفرنسي أثر إيروس، إله الحب الحسّي، عبر أعمال إبداعيّة خالدة متى ظهرت الإيروسية في التاريخ؟ وكيف تشكّلت صورتها في الثقافتين الإغريقية والرومانية؟ اللوحات والنصوص الأولى التي اقتفت أثر الإيروسية كانت موقع اختبار قام به الروائي الفرنسي باسكال كينار في كتاب لافت بعنوان «الجنس والفزع» Le Sexe et l’Effroi، صدرت طبعته الأصليّة في باريس عن «دار غالميار» (1994) وقد عرّبته روز مخلوف أخيراً، وصدر عن «دار ورد» في دمشق. يلفت كينار إلى اللوحات الجدارية التي رسمها قدماء الرومان لسيدات نبيلات، كأنّهن مثبّتات بمرساة «ترتسم على وجوههن نظرة جانبية، ويلبثن بلا حراك في انتظار مصعوقٍ، مسمّرات في اللحظة الدراماتيكية من حكاية لم نعد نفهمها». ويوضح صاحب «كلّ صباحات العالم» أنّ انتقال الإيروسية الإغريقية إلى روما الإمبراطورية كان منعطفاً واضحاً، انتقل بها من النشوة إلى الفزع. فالإيروس طبقة قديمة قدم التاريخ، حيوانية تماماً أو غريزية، ولكن عندما لامس طرف الحضارة اليونانية طرف الحضارة الرومانية ومنظومة طقوسها، تحوّل الغم الإيروسي إلى افتتان، كما تحوّل الفرح الإيروسي إلى تمثيليّة تهكّمية. في البلاط الروماني، وخصوصاً بعد حقبة الإمبراطور أغسطس الذي خلفه تايبيريوس، انتشرت لوحات الرسام اليوناني بارازيوس، هذا الرسّام الذي اخترع البورنوغرافيا عن طريق رسم المومسات. عُلّقت تلك اللوحات في غرفة نوم الإمبراطور، وتمثّل شخصيات أسطورية في «ملاطفات شائنة»... وكان سقراط قد وصف صاحب هذه الرسوم بأنّه «رسّام شبق». لم يكدّر العلاقات الجنسيّة للإغريق القدماء، أو يشوبها، أي أثر لخطيئة أو حتى لإحساس بالذنب، فيما حكمها في روما الذعر الذي تفرضه قواعد المراتب الاجتماعيّة. إذ لم يكن التّزمّت الطهراني شيئاً يتعلق بالجنسانية قط بل بالفحولة، وبدا الزواج القائم على الحبّ انتصاراً للمجون. ما أثار سخط أغسطس، وكذلك فيرجيل في كتاباته: فالحب حسب الإمبراطور الروماني يلغي الفوارق الاجتماعية بين السيد والعبد، وهو ما جعله ينفي ابنته جوليا إلى جزيرة صغيرة لأنّها وقعت في الحبّ. المثليّة أيضاً كانت بالنسبة إلى رجلٍ روماني نبيل جريمةً لا تقل خطورة عن الحبّ العاطفي أو الزنى، فالعاطفة بالنسبة إلى الروماني فحشٌ. هكذا حين اعتبر الشاعر أوفيد صاحب كتاب «فنّ الهوى» المتعة أمراً متبادلاً بين الرجل والمرأة، وكتب «أكره العناقات التي لا يعطي فيها كل طرف نفسه للطرف الآخر»، نفاه الإمبراطور أغسطس إلى مدينة تومس على ضفاف الدانوب. هكذا شكّلت القوة الجسديّة والتفوّق الحربي واللذة التي لا تخضع لمشيئة معنى الفضيلة، وكانت عدوانية الأباطرة الجنسية هي ما يعزّز السلم في الإمبراطورية. في تجواله المرئي على الجداريّات الإيروسيّة الرومانية، يكشف كينيار أنّ السرير عنصر أساسي وحيوي لدى الرسام الروماني، فهو «يرمز إلى الغرام وينتمي إلى عالم الصمت، أو على الأقلّ العالم غير المعترف به». ويستشهد بوصف أوفيد للسرير في «فن الهوى»: «إنه مكان حيث المتعة واجب. اجعلي من هذا السرير مأوى لكل المتع. هنا يجب نبذ الحشمة». وهناك نصوص كثيرة تتجاور مع الجداريات الإيروسية، فالجداريات في نهاية المطاف مرآة لكتب تراجيدية، يحيط الفراغ بالوجوه المرسومة التي تمزج الإخلاص بالمتعة، والأمومة بالإيروس كما كان يكتب أوفيد تماماً في مؤلفاته. الإيروسية السعيدة لدى الإغريق تتحول لدى الرومان إلى سوداوية. لقد «أصبحت وجوه النساء المليئة بالخوف تحدّق إلى زاوية ميتة. لا شيء بين الرجال والنساء سوى التمزيق. وليس المجتمع المدني سوى وشاح خفيف فوق الوحشية الضارية، وليست الأعراف والفنون المتحضرة سوى مخالب تنمو باستمرار». «الجنس والفزع» يلتقيان في لحظة تراجيدية تشبه اللغز... فالمهزوم، كما في إحدى الجداريات الرومانية يُسلّم نفسه للعنف في علاقة سيطرة تخفي خضوعاً. والخوف، كما يرى كينيار، يرتبط بالظلام والوحدة وغياب المرئي إذ ترتعش الحياة بالضوء على خلفية من موت. الفزع إذاً يتجلى في نظرة الآخر إلى العري، وفي تفسير الشهوانية تبعاً لطقوس وتقاليد صارمة تجد في الرغبات الحسية إثماً، وهو ما ألقى بمئات الرسوم والجداريات إلى جحيم الإهمال والنسيان. لكن أعمال التنقيب التي جرت قرب مدينة نابولي الإيطالية (1763)، كشفت عن أكثر من مئة قطعة أثرية فاضحة، جُمعت ووُضعت في «ديوان اللُقى الداعرة». وفي عهد غاريبالدي، سُمِّيت «المجموعة البورنوغرافية» لتستعيد اسمها الأصلي. يسعى باسكال كينيار، من خلال هذا النص، إلى ما يشبه الحفريات لاكتشاف ما هو مسكوت عنه في تاريخ البشرية في ما يتعلق بالجنس والرغبة والفزع والافتتان، متنقلاً من لوحة إلى أخرى، ومن كتاب إلى آخر للتأكيد على تلازم الرغبة الحسية مع الخوف استناداً إلى عدد لا يحصى من الرسوم والتماثيل العارية. فهو يقول «العيون الخائفة تُبعد المُشاهد الذي يراها»، ويضيف «الشيء المخبّأ هو السّر». ولعل هذا الولع قاده إلى تأمل خصائص العالم الجنسي لدى الرومان الذي يتمثّل في الافتتان بالأعضاء والحكايات الفاحشة في التمثيليات المسرحية والنظرة الجانبية وتحولات العفّة والفزع بالطبع. ويلفت كينيار إلى أنّ صور الأشياء في الأعمال الفنية أكثر فتنة على الدوام من الموديل الذي أوحى بها لأنّ الأعمال الفنية أقل شُبهةً بالحياة وبالتحولات. وابتداءً من عصر النهضة، بدأ التمييز جلياً بين الرغبة والعاطفة، وجرى الفصل بين الممارسة الحسّية والحب، لتتراجع ببطء قوانين حراسة الشهوة وحراسة العوز والكبت. وبمعنى أدق، فإن الإنسان كان «يحرس اللاشيء، يحرس اللاحياة أو الأعضاء المستورة، يحرس جسداً أُنكر إلى درجة أنه مات وثُبّت في مكانه إلى الأبد بالمسامير». في القوانين القديمة المتعة دخيلة دوماً، لا تميّز بين الخوف والبهجة. أمّا الفزع، فهو أول هدية يقدّمها الجمال وفقاً لما يقوله أفلاطون.
.
 
أعلى