رجاء نعمة - جسد المرأة الغواية ومحنة الإنسان - الجزء الثاني

تناول الجزء الأول من هذا البحث، مسألة عري الجسد والغواية من منظوري الدين والتحليل النفسي؛ ملخصا بدء الخليقة بِـ"أنا عاري إذن أنا موجودة" حيث تجمع النصوص الدينية السماوية على أن سبب الهبوط من الجنة لا العري في حد ذاته بل الوعي به، الذي يُجسد رمزيا الوعي في تحقيق الرغبة. ومغزى ذلك يعزز مسؤولية آدم تجاه الجنس وتجاه القدرة على الغواية التي لا مراء في صفتها البشرية، مقارنة بعجز الحيوان عن الاستيهام. اكتشاف العري كان الانتهاك الثاني للمنظومة السماوية وقد سبقه الانتهاك الأول الماثل في تمرد "ابليس" على الخالق وتهديده بإخراج الجنس المدلل عن السراط المستقيم.

وترى الباحثة وكاتبة سلسلة المقالات في هذا الصدد على "جدلية"، أن الرؤية الدينية لا تختلف عن رؤية التحليل النفسي جوهرياً بالنسبة للرغبة وتحقيقها؛ هنا وهناك صفة "ثلاثية" للأطراف المعنية بها:(الله، آدم وإبليس)في المقولات الدينية، وهناك "الأنا الأعلى" و"الأنا" و"الهو" أي الركن البدائي للرغبات.

عقـاب الجـسد

من "خصوصيات" الأنوثة وعلاقتها بالذكورة، ارتباطها في المتخيّل كما في الواقع، لا بالرومانسية وحسب، إنما وأيضا بالعدوانية. في هذه الخصوصيات التي يشتبك فيها البيولوجي بالنفس-اجتماعي، تبدو الأنثى والأنوثة موضوع عدوانية تتلقى العنف وتستثيره في الوقت عينه. العنف الفردي والاجتماعي على حد سواء. الجسد موضوع فتنة وموضوع عدوانية في العلاقة الثنائية كما في الإرث الاجتماعي. هذا الإرث الذي يحتل في العلاقة الثنائية حيزا طاغيا يقتحم متخيل الجنس والتناسل وجسد المعنية به .

في السعي لفهم المظاهر العصابية أو الثقافية، لطالما اعتمد التحليل النفسي والانتربولوجي على المتطرفة منها لفهم ما يقل عنها تطرفاً. فالدخول من باب الأعراض المرضية لفهم مشاكل "الأسوياء" نهج معروف في العلوم الإنسانية الحديثة. وكذلك الأمر بالنسبة لقراءة الزمن الغابر لأهميته في إلقاء الضوء على الحاضر. على اعتبار أن جذور الأمراض موجودة لدى الأسوياء وما تطرفها سوى تعبير عن مأزم، عصاب (أو عن حالة سايكوباتيك) يتعامل معه المرضى بصورة متطرفة و"الأسوياء" بقبول أو رفض نسبي. ولنا في مظاهر البارانويا خير دليل على ذلك.

من هذا المنطلق تكتسب بعض التقاليد القديمة "الأركاييك"، (ما انقرض منها أو لم ينقرض)، لا سيما التي تتسم منها بالعنف، أهمية بالغة في فهم النوازع التي تكمن خلفها وفهم مغزى بعض التقاليد والممارسات الراهنة التي قد تؤدي أغراضا مماثلة، حتى وإن قلّت عنها عنفا.

ستشكل بعض الممارسات "الاستثنائية" مدخلاً لقراءة الثقافة الكلية التي أنتجتها. من هذه الممارسات الممثّلة ما كانت تخضع له الإناث في بعض الثقافات(وما تزال)، مثل الختان الكلي(الخفاض)أو الجزئي، وحزام العفة في أوروبا وجرائم الشرف على أنواعها وغيرها من الممارسات التي تجعلنا نتساءل عن جذور هذا العنف ومكامنه في النفس البشرية من ناحية، وفي السياق الثقافي الاجتماعي من ناحية أخرى. وطبعا لا نغفل في هذا السياق ممارسة تتجاوز تلك عنفاً، انقرضت على أن دلالتها ما زالت ماثلة، ألا وهي وأد البنات في العصر الجاهلي. من الخارج الثقافي يبدو الختان عقاباً للإناث. فهل هو كذلك في الداخل الثقافي؟

لا ريب في أن وضع الختان في الإطار "الطقسي" يخفف لحد كبير في "الداخل" من صفته العقابية. فمن شأنه بالنسبة لبعض المحللين أن يمنح علامة "التمايز" والتدليل على الانتماء للجماعة. لكن الصفة الطقسية لا تنجح في نزع طبيعة "العقاب" عن تلك الممارسة. وتكفي المقارنة مع طقوس آخرى تؤدي غرض التمايز (ختان الصبيان على سبيل المثال، أو الوشم الدال على الانتماء القبلي) لندرك المغزى المزدوج لختان البنات. فهو تدخل عنيف، ظاهره طقسي ومضمونه " عقابي ردعي".

الختان موجه في المقام الأول ضد الأنوثة لا ضد الأمومة وإن كانت المنجبات سيعانين من آثاره طيلة حياتهن. فغايته الأولى - المفترضة -تحجيم رغبة الأنثى حتى وإن كان الثمن تشويه شكلها الأصلي أو تدميره سلخاً في حال الختان الكلي. تدمير يعمل الطقس على جعله مقبولاً من البيئة الاجتماعية، بل ومرغوباً به منها ، لاعتباره يحقق أهدافا "سامية" مثل "العفة" اللازمة لصيانة شرف الأنثى وقوام النسل اللازم لتماسك المجموعة. من شأن هذا "القبول" أن يجعل الطقس "مطهراً" purgatoire للمعاقَبات والمذنبين بحقهن في آن معا. ويجعل الجزء المقطوع "أضحية" لصون الشأن الأسمى" الذي تهجس به القبيلة لا سيما إناثها."

أضحية مرغوبة من صاحباتها لدواعي "التطهير": في مؤتمر أقامته في الثمانينات "جمعية تضامن المرأة العربية في القاهرة"، صرحت ناشطة سودانية أن بعض الفتيات، ممن رفض ذووهن اليساريون ختانهن، طالبن به حين كبرن واعتبرن ذويهن مقصرين لحرمانهن من تقليد "تتمتع" به مثيلاتهن. كما ذكرت أن "عريسا" رفض إكمال زواجه حين اكتشف أن "العروس" التي نشأت في انكلترا لم تكن مختونة. هكذا تستبطن الأنثى الرغبة في الختان؛ وعلى صورة رمي العذارى في النهر إرضاء للإله، حيث تتحضر هؤلاء للموت كأنما لعرس، تتحضر دفعة الصغيرات، في بعض مناطق إفريقيا، للختان في احتفالات جماعية، ليستقبلن أنوثتهن "طاهرات". ما كان هذا التدخل العنيف ليتحول طقساً لولا تضافر عنصرين أساسيين:

اتفاق الأطراف عليه بمن فيهم النساء؛ واتصاله بشعور عدائي إزاء "جنس" الأنثى، استبطنته كافة الأطراف المعنية به ومن ضمن هؤلاء المختونة ذاتها.

لا ريب في أن مخاوف كبرى هي ما تدفع الجماعة إلى التضحية بشخص أو بجزء منه حفاظاً فعلياً - أو وهمياً - على كيانها. قد يكون الشخص، ذاته المضحى به "هو" "أو هي" مصدر المخاوف كما في حال جرائم الشرف والختان. "هي" الطرف " المهدّد لمكانة الجماعة بين الناس. "هي" التي صارت في المتخيّل الجماعي والفردي مصدرا في المطلق للتوجس من "العار". توجس بطانته كراهية معلنة أو مضمرة، تتصل بإمكانية أن تُحدث "هي" ما لم يحدث بعد. و"وأد" الرضيعات في الجاهلية يؤكد على حجم المخاوف وارتباطها بكراهية للأنثى تُرجمت "برجم" الرضيعة" عقاباً على ذنب افتراضي قد ترتكبه في المستقبل. فيأتي العقاب فعل كراهية خالصة للأنثى كجنس في حد ذاته لا لفتاة معينة "عصت" . وما انقراض الوأد في الجاهلية وعدم تحوّله إلى طقس إلا لكونه ضد استمرارية النوع البشري. مما يؤكد على أن الطقس "الفائض" عن الضرورة الأساسية للحياة أو المهدد لها لا يلبث أن يزول.

على أن زواله لا يلغي "الكراهية". من تجليات تلك جرائم الشرف: ما كانت لتحدث بهذه الكثافة في حقبات وبلدان معينة إلاّ لتلازمها مع عدائية تأصلت على المستوى النفسي الاجتماعي على صعيدي الوعي واللاوعي. عدائية حضّرت طويلا الأطراف المعنية بها، حتى إذا ما "وقعت الواقعة" كانت العناصر اللازمة لغسل آثار "الجريمة" جاهزة في المتخيّل للتنفيذ.

في ستينات القرن الماضي رصدت باحثة قانونية في لبنان جريمتي شرف أسبوعياً معلن عنهما؛ ويقدر حجم الجرائم المغفلة، حيث تدفن الضحية في القرية بلا تبليغ ولا إزعاج - بما قد يساوي ذلك. لهذا التحضر مكانته أيضاً في القانون وفي المحاكم (في الغرب حتى زمن قريب) وفي بلدان الشرق حتى اليوم. "مكانة" تترجم بمنح القاتل "الأسباب التخفيفية". هكذا يلعب القانون المدني الحديث دور "الطقس" القديم في التطهر والتطهير من الذنب المرتكَب أو من الإحساس به.

عنف الطبـيعـة وعدوانية الغموض

من ضروب التبسيط جعل "النظام الأبوي" المسبب الحصري لكافة الممارسات السلبية التي تقع على الشعوب والأفراد لا سيما النساء. أرى في ذلك استسهالاً يعفي الباحثين من مسؤوليات البحث أو الاعتراف بالعجز عن بلوغ التفسيرات المنطقية لبعض المظاهر النفس-اجتماعية، لا سيما "الأركاييك" منها. فكما يحفّـز الطموح على بلوغ اليقين، يتطلب التواضع العلمي القبول باستحالته. فاليقين ممكن في الحقول القابلة للتجارب والإثبات مثل الكيمياء أو الميكانيكا. أما في الحقول الإنسانية فقد يستعصي عصيان الإنسان على القوننة المطلقة، نظراً لأنه كائن على درجة عالية من التعقيد والقابلية للتطور. وعليه ينبغي إخراج البحث في مغزى الممارسات العنيفة من "حصرية" الثقافة البطريركية، والتفكير بدوافع أخرى تتضافر مع تلك، إنما قد تفوقها قَدماً وغموضاً. وإلاّ كيف نفسر أن القارة الإفريقية، الأكثر طبيعية لجهة الجنس كممارسة، هي في الوقت عينه الأكثر تمسكاً بالختان حتى العصر الحاضر، على الرغم من الجهود المتفانية التي تبذلها المنظمات الدولية ؟! النظام البطريركي لم يأت من فراغ بل، ومثل سائر الأنظمة، قد يلغي موروثاً أو يؤكد على موروث سابق عليه وجده أرضية ملائمة يبني عليها ركائزه.

من المتفق عليه أن المخاوف، لا سيما التي تقترن منها بالغموض قد شكلت المنطلق الرئيسي للانسان البدائي لبناء تصوراته عن العالم وعلاقته به، ولتطوير وسائل الدفاع عن النفس وحماية المجموعة؛ مادية كانت تلك الوسائل أم غيبية. وكلما ازدادت مصادر الخوف غموضاً وجبروتاً تطرف الإنسان في تصوراته بشأنها وتنوعت سبل "مواجهتها" لها. فالمواجهة بينه وبين الحيوان، مهما بلغت من شراسة، تتسم بالوضوح. وضوح يحفزه على تطوير القوة الجسدية وقوة "السلاح" والتكاتف مع الأقران. أما المخاوف الأخرى فلها شأن أكثر تعقيداً؛ لا سيما وأن الجنس البشري قد عانى من غموض مظاهر الطبيعة وجبروتها ملايين السنين، وكان في كثير من الأحيان ضحيتها قبل أن يهتدي إلى تفسيرات "مريحة" ويبني وسائل الحماية الممكنة. تاركا ما يفلت من زمام سيطرته إلى حيّز الغيبيات والابتهالات والأضحيات والتعاويذ. أضحيات كثيرة بشرية وغير بشرية كانت تُقدم إرضاء لهذه الطبيعة وسعياً لتهدئة جبروتها. الطبيعة ليست دائما رومانسية. إن كان من شأن رومانسيتها أن تنعكس على نفس الانسان فتمنحه السكينة، إلا أن جبروتها يثير في نفسه المخاوف ويحفز لديه نوازع العدوانية. وليس من ضروب المبالغة القول إن "غموض" الطبيعة والمخاوف المرتبطة بها هو الينبوع الأكبر لعدوانية الجنس البشري، والمؤجج الرئيسي للمكتسبة منها أو غير المكتسبة.

المخاوف بصورة عامة،الواضح منها والغامض، ودوافع الحفاظ على الأنا والجماعة، والميل إلى معاداة "الآخر" أو إلغائه، وبمعزل عن مسببات مباشرة أو بيّنة، تتصل جميعها بعدوانية كبيرة اتصالاً تفاعلياً يصعب تحديد بدايته، صعوبة تحديد مصدري البيضة والدجاجة. العدوانية الطبيعية أو شبه الطبيعية، هي الوجه الآخر لرغبة الإنسان في المصالحة والتواصل والتآنس الفردي والتكتل الاجتماعي. وما فنون النظام البطريركي في استخدام العدوانية ضد غواية الجسد، سوى تسخير "الهبة" التي منحتها الطبيعة أو استفزتها لدى الإنسان عبر العصور؛ تسخيرها لصالح أهداف يراها ضرورية لتماسكه وديمومته.

تدعونا أهمية المخاوف في التشكيل النفسي للبشر وتطوير"شخصبة الانسان"، للتساؤل حول مكانها ودورها في علاقة الجنسين: هل إلى جانب الحب والرغبة في التكامل والتآنس هناك بين نوعي الجنس البشري مخاوف أسست لعدوانية بين الذكر والأنثى وتُرجمت في ممارسات عنيفة يقوم بها الإنسان بحق شبيهه أو بحق نصفه الآخر؟ إن كان الافتراض هذا صحيحاً فمن أين تنبع وتتغذى هذه العدوانية؟

عدوانية الجنس: تحالف البيولوجي والثقافي على أرض الأنثى

لا يمكن لأي بحث انتربولوجي أن يتجاهل الواقع الأهم الذي أثر في التاريخ البشري والماثل في الاختلاف البيولوجي بين الجنسين. لهذا الاختلاف مظاهر عديدة لعبت دوراً شديد الأهمية في التاريخ النفسي الاجتماعي للإنسان وفي إثارة قلقه ومخاوفه قبل تمكنه من استيعاب تلك المظاهر، وفهمها أو "التحكم" بها.

في سياق الاختلاف يبدو لكأنما الطبيعة تآمرت على الأنثى فخصتها بصفات فيزيولوجية لم تلبث أن ارتبطت "بالخطيئة" وجعلت وظيفة التناسل من كبرى مصادر القلق: فالأنثى، تعجز عن إخفاء العلاقة الجنسية كما الذكر، فهي تحبل وتحمل الجنين وتلده مباشرة من جسدها فيما الذكر، يلقح دون أن يكابد آثار التلقيح.

ولا نغفل المظهر الثاني للاختلاف الجنسي المرتبط بالأول وهو الدورة الشهرية للوظيفة التناسلية لدى المرأة. لا بد أن هذه، قبل استيعابها وبلورة التفسيرات العلمية بشأنها، كانت أيضا مصدر قلق لا سيما لجهة ارتباط الدم بالعنف واعتبار النزيف من مسببات الموت وانقطاع الدورة من المؤشرات على "الخطيئة".

أما الاختلاف الثالث فهو عذرية الفتاة. إذ تبقى العذرية من أكثر مظاهر الاختلاف غرابة. لعلها وحدها أنثى ابن آدم، دون سائر الحيوانات الراقية تحمل عبء هذه الخصوصية، التي ستغدو في النظام الأبوي، مسؤولية جسيمة تهجس بها القبيلة بأسرها ويقع ثقلها الأكبر على الفتاة نفسها؛ قد تكافأ عليها أو تعاقب. ستغدو العذرية "هاجساً" يؤرق العذراوات، حتى اللواتي لم يسبق لهنّ اختبار الجنس. العنف هو بطانة العذرية. فتمسك الفتيات بالعذرية يوازي رهابهن من العنف الذي يرافق فقدانها. إن كان عنف الفقدان محتمل في إطار الزواج، فقد يغدو كارثياً خارجه. شأنه شأن الحمل: نعمة عظيمة وتبجيل للأم داخل التقاليد، وجحيم للمرأة خارجها. ألا يمهد مثل هذا لانفصام إلى اضطراب مفرط في علاقة الأنثى بجسدها، وبشريكها؟ واضطراب في تعامل الشريك مع هذا الجسد؟

العذرية، على سبيل المثال وبالنظر لارتباطها بالتمزق هي مصدر عدواني للأنثى كما للذكر. التربية الذكورية "تعالج" هذا العدوان بعدوانية أخرى: الفحولة. فينشأ الذكور في هاجسي الفحولة والإخفاق عن بلوغها. هكذا يأتي الطرفان إلى لقائهما الأول محملان بإرث رهيب واحتمالات تفوقه رهبة؛ يرتعش العريس بعدوانية الفحولة أو برهبة الإخفاق، وعروسه من تمزق مؤلم لحاجزها الطبيعي، يقترن بتمزق رمزي للحصن المنيع الذي شادته الثقافة الموروثه. الحصن الذي لطالما منحها الحماية والقيمة الاجتماعية. "أغلى ما تملك". لو تأملنا في طقوس الأعراس لرأينا في احتدامها والمبالغة في جلبتها، عبر الزغاريد ولعلتها التي تحمل من تعبير الفرح قدر ما تحمل من أصداء الحزن والشجن... إضافة إلى ضجيج الدفوف والصنوج والزمامير، لاكتشفنا دورها المضمر: كلها تساهم في تأطير العنف وتمويهه في عنف موازٍ يخفف على الشابين المسكينين من هول اللقاء.

في هذا الصدد يمكن تلمس جذور العلاقة بين العذرية والاغتصاب. أو بالأحرى بين رهاب الذكور من العذرية وردة الفعل الانتقامية منها. لا ريب في أن هناك دوافع متعددة للاغتصاب غير ابتغاء اللذة أو عدم السيطرة على الحرمان من تحقيقها. دوافع ذات صلة بالإرث الفردي لجهة التربية الجنسية والعلاقة مع الأم تدفع بالذكر الشاذ إلى اقتناص ما لا يحق له. وهو في ذلك لا يبتغي المتعة الجميلة ولا التواصل بل تحقيق لذة انتقامية من الأنثى. لا سيما الأنثى العذراء. عذرية فعلية أو متخيلة، اكتسبت شأنا عظيما في متخيّل المغتصِب والمغتصَبة كما في متخيل المجتمع. إذا ما كان العريس الفحل رجلاً طبيعياً ومقبولاً من فتاته ومن محيطه الاجتماعي، فالمغتصب ذكر شاذ عنيف ومرفوض من كافة الأطراف لا سيما ممن يقع عليها فعل الاغتصاب. ففيما يحقق الفعل الجنسي في الزواج مجداً ذكورياً ماثلاً في نزع عذرية فتاة هي حلاله، وذلك بالرضى الثنائي والجماعي، يعتدي المغتصب على جسد لا حق له فيه اعتداء هو حالة متطرفة آثمة ومدمرة للفعل الجنسي ومن يعنى به. من هنا نفهم مقولة فرويد حول الإيروس والتاناتوس في الجنس أي رغبة الحياة والتواصل في الجنس الإيروسي، ودوافع القطيعة والهلاك في الجنس الذي يتلازم و دوافع الأذية. اغتصاب الأنثى هو طلب لذة "تاناتوسية" تتصل بدوافع الموت والتدمير. تدمير الذات والآخر في آن معاً تدميراً تصب رسالته الأخيرة في خانة المجتمع. إنه اغتصاب فردي ضد أنثى لكنه أيضا فعل انتقامي ضد المجتمع الذي يبجل الأنوثة لا سيما الماثلة في العذرية. ذاك الحصن المنيع في المجتمع الأبوي والممتنع على الفحل لا سيما من لم "يتأهل" للزواج.

في تحليله عصاب الأنثى، جعل فرويد عقدة "الخصاء" و"حسد القضيب" مركزية. مركزية تعتم على احتمالات إقامة محاور أخرى ذات شأن في سيكولوجية المرأة. ومقولته أن الفتاة الصغيرة تظن في المتخيّـل أنها كانت تملك قضيباً فقدته. يلفتنا هنا غياب البعد السوسيو -انتروبولوجي عن جذور العصاب الأنثوي. ختان الفتيات مثلا، يضع علامة استفهام كبرى على هذه الفرضية؛ إذ يشير إلى أن الأنثى في المتخيّل الاجتماعي، تملك آداة رغبة وقوة معادلة للقضيب، ينبغي اجتزاؤها.

في هذا الصدد، يبدو تحالف البيولوجي مع الثقافي، كما "جسر مفقود" في نظرية فرويد. جسر، من شأن إقامته تفسير المخاوف الناجمة عن القدرات البيولوجية للمرأة. لو أعار فرويد الاهمام اللازم لختان البنات لظهر له الوجه الآخر للحقيقة التي "أقصاها" و"خصاها": ألا وهي الرغبة الدفينة للجماعة في خصي الفتاة خوفا من قدرات رغبتها كأنثى من ناحية وخوفاً من قدراتها كإنسان/ إمرأة من ناحية أخرى. فالختان "علامة" إخضاع تدمغ الجسد إنما للتتجاوز حدوده البيولوجية إلى مستوى رمزي شديد البلاغة. ولهذا بلا شك علاقة بالقدرة الأكبر للمرأة ألا وهي الإنجاب. تحالف البيولوجي مع الثقافي البطريركي، تم على أرضية الأنثى وعلى خصائص أنوثتها. خصائص كانت جاهزة ليبنى عليها هذا النظام ركائز ثقافته مثل تعظيم العذرية أو الاستمرار في ممارسة الختان.

الأمومة الصارخة والأبـوة الصامـتة

في العلاقة بين الشريكين، كلا الوظيفتين، "الأمومة" و"الأبوة" تتسم في واقع الأمر بالتأجيل. وحده تحقيق الرغبة حين يحدث يكون الفعل المدرَك من الطرفين. على أن الأمور لن تلبث أن تنقلب رأسا على عقب حين تظهر بوادر الحمل على المرأة وتليها الولادة. هنا أيضا، وقبل الحقبة "الواعية" التي تم فيها إدراك مسؤولية الجنس واستيعاب الذكر أبوته، لعبت الطبيعة البيولوجية في التاريخ النفسي الاجتماعي دورا مركزيا؛ فثمرة تحقيق الرغبة التي لا تظهر مباشرة كانت ولأمد طويل تبدو "أو تعتبر" وكأن المرأة هي المسؤولة الوحيدة عنها.

من المتعارف عليه أن الذكر المنجب، في حقبات مديدة من التاريخ الاجتماعي، كان أباً بيولوجياً عابراً في حياة الأمهات والأطفال وأن تأجيل الوعي بالحمل أنتج تأجيلاً آخر هو الوعي بدور الذكر ابوته والاعتراف بها. ويذهب بعض علماء النفس أبعد من ذلك إذ يرجعون "إغفال" المنجِب أبوته إلى طبيعته الذكورية/الاجتماعية في آن معاً؛ حيث يرون أن الأبوة لدى الرجل "مكتسبة" وأن الذكر ليس أبا بالغريزة مثل الأم بل هو أب بالاكتساب؛ الرجل "يصير" أباً، فيما "تكون" المرأة أما بالطبيعة الغريزة. أمومة تتجلى بالمولود الذي يخرج بالمخاض والألم من رحمها ويحتاج لحليبها وحضنها ليعيش. لكأن الأمومة طبيعة أولى والأبوة طبيعة ثانية و"ثانوية". ويعزز مفسرو التوراة هذا الافتراض إذ يرون أن كلمة حواء مشتقة من الحياة، لأن الأنثى هي أصل الحياة. وقد ساهمت الطبيعة في "إقصاء" الرجل عن "الأبوة" وتعزيز تأجيلها أو إنكارها. ويتحدث بعض المحلّلين عن "وظيفة الأب"، كبعد اجتماعي لاحق على البعد الغريزي.(أنظر ملدورف/ وظيفة الأب). ولعل النظام الأبوي ارتبط بإدراك الأبوة التي تأجل الوعي بها والاعتراف وأُنكرت لزمن طويل. هل يمكننا الاعتقاد بأن لمحورية الأمومة أثاراً عدوانياً على الذكور و الأباء يحفزهم في اللاوعي على معاقبتها؟

عقاب الأمومة واضح وموثق في سفر التكوين؛ "تلدين بالألم"، كانت أولى العبارات التي أطلقها الرب ما أن علم بخطيئة حواء. لعنة "ضريبة مضافة" على ثمن الخطيئة الأساسي الذي سيدفعه الطرفان والذي هو الخروج من خلود الجنة إلى الأرض حيث الموت هو المصير. هذا العقاب "الأنثوي" الذي تجذر في المتخيل الجماعي كثيف المعاني؛ فهو لا يحمل ثمن الخطيئة وحسب بل ويحمل ايضا ثمن الأمومة لجهة إقصائها الرجل من الدائرة الأهم في تاريخ النوع.

في حقبة الغموض وغياب التفسيرات العقلانية لعملية الإنجاب، وغفلة المنجب عن صلته بمن أنجب اكتسبت الأمومة أهمية بقدر ما اكتسبت من رهبة. لا ريب في أن "القدرة" على الانجاب كانت تبدو أشبه بقدرة "ثانية" على الخلق. ألوهية تجلس المرأة/الأم على عرشها، تجلت بتكريس عدد من الآلهات لا سيما آلهة "الخصوبة".

على عظمته، بل وبالنظر لعظمته، يلعب الإنجاب في علاقة الشريكين دوراً مهدداً للأب: الإقصاء من دائرة اهتمام المرأة، إقصاء حاداً في المراحل الأولى من الولادة ونسبياً في المراحل التالية عليها. ناهيك عن أنه يجعل المرأة أكثر اكتفاء وثقة بدورها كجنس "مستقل" عن الرجل، قادر على التجدد، الخلق وتأمين استمرارية النوع.

تشكل الأمومة مصدر أمان مطلق للطفل لكنها وبالنظر للحاجة المفرطة للأم فقد تشكل هذه ينبوع قلق من فقدانها. الارتهان للأم من كبرى مصادر القلق لدى الطفل عموماً والطفل الذكر بشكل خاص. فهو يستبطن فضل دورها الوجودي عليه استبطاناً يبهره ولا يسعه التعويض عنه إن فقده، كما لا يسعه القيام به. فيما الأنثى، في تصورها الطفولي لوظيفتها الإنجابية تجد التعويض عن الفقدان عبر تحولها هي إلى أم قادرة على العطاء والخلق والتجدد. وكثيراً ما يؤدي حرمان الذكور من أمان الأمهات إلى جعلهم، في الكبر، طغاة يميلون للانتقام الذي كانوا يشتهون القيام به في مرحلة "القطيعة" مع الأم أو مراحل الحرمان من حنانها لا سيما عندما تتخذ شخصيتها صفات ذكرية طاغية.

الأمومة (الإنجاب وومرحلة ما بعد الولادة) وظيفتان مركزيتان لم يعرهما مؤسس مدرسة التحليل النفسي الاهتمام اللازم في تشكيل العصاب ومسار معايشته وتصوراته لدى كلا الجنسين لا سيما الأنثى. على بلاغة نظريته لا سيما بالنسبة لمأسسة "اللاوعي" وتفسير الأحلام، انشغل فرويد وتلامذته بما يسمى بـ"حسد القضيب" عن مسألة جوهرية تتصل بقدرة الأنثى جنسيا على "الخلق الثاني" وانعكاسات هذه القدرة عليها وعلى شريكها في آن معا. حسد القضيب (إذا ما كان صحيحاً وكلياً حسب التوصيف الفرويدي) هو مظهر نفس–اجتماعي طارئ وقابل للتغير؛ على أن الإنجاب يكمن في القدرات الطبيعة التي يستحيل تغييرها وينتج عن هذه استحالته إقصاء الأب وحسده من الانجاب كقدرة على "الخلق". وغالباً ما تستثير الأمومة نوازع "الارتداد الطفولي" لدى الأب وتثير حنقه من انصراف الزوجة الأم عنه لغرض أكثر إلحاحا وسموا هو ذاك الكائن الجديد. وبل وغالباً ما تثير غيرته من هذا الرضيع الذي يلتهم ثديها ويستحوز على مشاعرها. سيغدو هذا بين ليلة وضحاها هو المحور الذي استبدل به. من ضروب المبالغة لإيضاح فكرة "الإقصاء" أن بعض المعالجين النفسيين، في وصفهم العلاقة بين الجنسين، يشبهون الأنثى بملكة النحل التي ما أن تنال "مبتغاها" تتخلى عن الذكر الذي لقحها .

الأمومة لدى فرويد تبدو "تابعة" كموضوع للأبوة والبنوة لا وظيفة شائكة ومحورية تستدعي الدراسة والتحليل. ما شغل فرويد بالنسبة للطفل هو علاقة هذا الأخير بها - لا سيما الذكر - وأثر هذه العلاقة عليه خاصة بالنسبة لمراحل "الأوديب". على أن تبحر فرويد في العلاقة الثلاثية (الأب الابن الأم) لم يمنح الأمومة الحيز الضروري لها.

الأمومة موضوع محوري كما " الإرث الأمومي" بأسره. هذا الإرث الجميل الرهيب والعظيم الموغل في الذاكرة والتصورات الفردية والجماعية، والمفتوح على المستقبل حيث سيعايش تصوراته الأبناء من الجنسين؛ يستبطنه كل بطريقته وتستبطنه البنات بالتماثل الإيجابي إن كن محظوظات. يستعدن إنتاجه فيزيولوجيا ونفسيا، استعادة تساهم في حال نجاحها في تطوير شخصية الشابة وحل المشكلات النفسية التي ورثتها من العلاقة الأسرية لا سيما العلاقة من أنجبتها وتولت رعايتها أي الأم.
 
أعلى