عزة كامل - قضية أحمد ناجي وفقه الاستبداد

اتهام مخزٍ يصيبنا منه كثير من القمع كما يصيبنا كثير من الاستبداد وما يتبعه من ظلمات وجهل، ولذة لأصحاب العقول الخاوية والخيال المريض، والغريب أن الوشاية أصبحت معادلاً للأخلاق الحميدة. وجراب الحاوى ما زال قادرًا على إخراج الأفاعى لتنفث سمومها فى وجه الضحية، فيقابله الليل الحالك والألم العظيم، والخوف من السجن والسجّان، فيظل يبحث عن ظله الذى انكسر بعدما انكسرت روحه!!

(2)

قدم المواطن!! هانى صالح توفيق بلاغًا للنيابة ضد الكاتب الصحفى والأديب أحمد ناجى والأستاذ طارق الطاهر رئيس تحرير جريدة "أخبار الأدب"، مدعيًا أنه عندما قرأ المقال المنشور لأحمد ناجى حصل له اضطراب فى ضربات القلب وإعياء شديد وانخفاض حاد فى الضغط . وأن هذا المقال خدش حياءه وحياء المجتمع!! وقد قالت النيابة، في أمر الإحالة للقضية رقم 1945 لسنة 2015 إداري بولاق أبو العلا:

"إن الاتهام ثابت على المتهمين وكافٍ لتقديمهما إلى المحكمة الجنائية بسبب ما قام به المتهم (أحمد ناجي) ونشره مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة، وأجر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكًا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجًا على عاطفة الحياء".

إن ما نشرته "أخبار الأدب" لأحمد ناجى هو فصل من روايته "استخدام الحياة" وليس مقالاً صحفيًّا، وكل الشخصيات والأحداث والأماكن من وحى الخيال.. إذن فالتهمة من أساسها باطلة، وما يحدث لناجى حدث لمبدعين آخرين، وتم اتهامهم تارة بالكفر والإلحاد وتارة أخرى بالفحش وإثارة الفتنة الجنسية والتحريض على الرذيلة والفجور.

(3)

ففى مارس 1990 قامت مباحث المصنفات الفنية بمصادرة رواية "مسافة فى عقل رجل" لـ"د.علاء حامد" بناء على مذكرة من مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، بدعوى أن الرواية تحتوى إلحادًا وكفرًا وإنكارًا للدين، وطالب الأمين العام للمجمع بمحاكمة مؤلفها، وعلى الرغم من حملة المثقفين الواسعة فى ديسمبر 1991 احتجاجًا على مصادرة هذه الرواية، وعلى مقاضاة كاتب وطابع وموزع بالقوانين العسكرية الاستثنائية، والحكم على كل منهما بثمانى سنوات، وغرامة مالية، فقد لقى هذا الحكم ترحيبًا من بعض السلفيين، وكذلك بعض الكتاب والصحفيين. فقد قال أحمد بهجت وهو أحد المبلغين الأوائل عن الرواية فى زاويته "صندوق الدنيا" بجريدة "الأهرام" 7/1/1992 بمقال عنوانه "سلمان رشدى آخر فى مصر": إن هناك فرقًا بين حرية الرأى وحرية السب والتحقير وأن القانون يحمى الإنسان العادى من الإهانة والسب والقذف والتجريح، فكيف لا يحمى الدين الأنبياء والرسل والعقائد بكل ما يمثله هؤلاء من رموز دينية مقدسة.

وكتب ثروت أباظة فى "الأهرام" 13/1/1992 رئيس اتحاد الكتاب وقتها، الذى يضم فى عضويته علاء حامد، وهو النقابة المنوط بها الدفاع عن حرية فكر أعضائها: "كلام تافه تطاول فيه على أقدارالأنبياء جميعًا وسبهم... وهدم مشاعر المسلمين والمسيحيين على السواء، وصدر ضده حكم القضاء، ففيمَ يكون النقاش فى شأنه، وعلامَ يلهو ويسعى إلى الشهرة فيحطم السلام الاجتماعى والأمن العام والوحدة الوطنية؟ ألا يستحق العقاب؟".

فى عام 1992 صادرت إدارة البحوث والتأليف بالأزهر ثمانية كتب من معرض القاهرة الدولى الرابع والعشرين للكتاب، ومنها رواية "العراة" لإبراهيم عيسى بتهمة أن بها فقرات جنسية.

فى نهاية 2003 وجه النائب عن جماعة الإخوان المسلمين مصطفى محمد مصطفى سؤالاً برلمانيًّا إلى رئيس مجلس الوزراء عاطف عبيد عن أسباب إنفاق الدولة على ديوان يستهين بالدين ويستفز مشاعر المسلمين "فى إشارة منه إلى ديوان الشاعر أحمد الشهاوى (وصايا فى عشق النساء) الذى طبعته هيئة الكتاب"، وفى أعقاب ذلك أصدر مجمع البحوث تقريره فى حق الشاعر، وجاء فى التقرير "أن ديوان الشهاوى يحتوى على وصايا كلها موجهة إلى المرأة تدعوها إلى الذوبان فى العشق، وأن تسلم نفسها وجسدها بغير تحفظ، وهل مثل هذه المنشورات تنفع الأمة، وتحمى شبابها من المزالق والمهالك، أم أنها تفتح باب العشق والفجور والفاحشة أمام شباب محروم؟"، وخلص التقرير إلى أن ذلك كله يدعو المنصفين الذين يخافون على مستقبل هذه الأمة فى شبابها إلى منع نشر هذا الكتاب وتداوله.

وفى 2010 تقدمت جماعة "محامون بلا قيود"، ببلاغ للنائب العام طلبت فيه مصادرة "ألف ليلة وليلة"، الصادر عن هيئة قصور الثقافة، مدعية أن الكتاب يحتوى العديد من العبارات التى من شأنها ازدراء الدين الإسلامى وخدش الحياء العام والدعوة للفجور. لكن النائب العام رفض مصادرة الكتاب، وأكد براءة هذا المؤلف التراثى من تلك الاتهامات، وأوضحت النيابة أن "ألف ليلة وليلة" خليق بأن يكون موضوعًا صالحًا للبحث والدرس الخصب، لكونه من قبيل الأدب الشعبى ومكونًا أصيلاً من مكونات الثقافة العامة، وأنه كان مصدرًا للعديد من الأعمال الرائعة، وتم حفظ البلاغات المقدمة ضد هيئة قصور الثقافة، التى أعادت طباعة ونشر "ألف ليلة وليلة".

(4)

فقه الحسبة والوشاية والتربص بالمبدعين والمفكرين، فقه ضارب فى جذور الحياة الثقافية المصرية، مدعومًا بفكر أصولى وبمباركة من السلطة الدينية والسياسية، والأخطر من ذلك استخدام فزاعة الحسبة التى عندما انتقلت من يد المواطنين -الذين يقومون بالوشاية بالمبدعين- إلى يد النيابة أصبح هذا الفعل يساوى ولاية الأفراد المتطرفين والأصوليين الذين يفرضون الوصاية الدينية على الإبداع والفكر.

(5)

الحكم على الفن والفكر والإبداع من منظور دينى أخلاقى، هو مصادرة لها، وتقييد للحريات وقمع القدرة الإبداعية وطاقتها فى التحليق والخيال. كما أنه يفضى إلى دعم الاستبداد الفكرى.

(6)

الحملة الشعواء على حرية الإبداع والفكر هى حملة لنشر فقه الاستبداد والقمع وفقه التبرير وترسيخ الوهم البراجماتى، الذى يدفع ثمنه المثقفون والمبدعون من أبناء هذا الوطن، يجب إلغاء قانون الحسبة، ورفع الوصاية عن الإبداع وإطلاق حرية التعبير وعزل المعيار الدينى والأخلاقى عن التقييم والنقد، وعلى جريدة "أخبار الأدب" واتحاد الكتاب والمجلس الأعلى للصحافة ونقابة الصحفيين والمثقفين المصريين ووزير الثقافة رفض محاكمة الإبداع والتضامن مع "أحمد ناجى"، من مبدأ حرية الكتاب والمبدعين فى الإبداع والتفكير، والوقف ضد محاكمات القرون الوسطى وانتشار المد الظلامى الفاشى.

عزة كامل

.
 
أعلى