قصة ايروتيكية ألف ليلة وليلة - حكاية علي نور الدين مع مريم الزنارية

وفي الليلة الخامسة عشرة بعد الثمانمائة قالت: ومما يحكى أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان رجلٌ تاجرٌ بالديار المصرية يسمى تاج الدين وكان من أكابر التجار ومن الأمناء الأحرار إلا أنه كان مولعاً بالسفر إلى جميع الأقطار ويحب السير في البراري والقفار والسهول والأوعار وجزائر البحار في طلب الدرهم والدينار وكان له عبيد ومماليك وخدم وجوار وطالما ركب الأخطار وقاسى في السفر ما يشيب الأطفال الصغار وكان أكثر التجار في ذلك الزمان مالاً وأحسنهم مقالاً صاحب خيولٍ وبغالٍ وبخاتي وجمالٍ وغرائزٍ وأدغالٍ وبضائعٍ وأموالٍ وأقمشةٍ عديمة المثال من شدودٍ حمصيةٍ وثيابٍ بعلبكيةٍ ومقاطعٍ سندسيةٍ، وثيابٍ مرزيةٍ وتفاصيلٍ هنديةٍ وأزرارٍ بغداديةٍ وبرانسٍ مغربيةٍ ومماليكٍ تركيةٍ وخدمٍ حبشيةٍ وجوارٍ روميةٍ وغلمانٍ مصريةٍ وكانت غرائر أحماله من الحرير لأنه كان كثير الأموال بديع الجمال مائس الأعطاف شهي الانعطاف وكان لذلك التاجر ولدٌ ذكر يسمى على نور الدين كأنه البدر إذا بدر ليلة أربعة عشر بديع الحسن والجمال ظريف القد والاعتدال فجلس ذلك الصبي يوماً من الأيام في دكان والده على جري عادته للبيع والشراء والأخذ والعطاء وقد دارت حوله أولاده التجار فصار هو بينهم كأنه القمر بين النجوم بجبين أزهرٍ وخدٍ أحمرٍ وعذارٍ أخضرٍ وجسمٍ كالمرمر كما قال فيه الشاعر:
قلت قولاً باخـتـصـار = كل ما فـيك مـلـيح
ومليح قال صـفـنـي = أنت في الوصف فصيح
فعزمه أولاد التجار وقالوا له: يا سيدي نور الدين نشتهي في هذا اليوم أننا نتفرج نحن وإياك في البستان الفلاني فقال لهم: حتى أشاور والدي فإني لا أقدر أن أروح إلا بإجازته فبينما هم في الكلام وإذا بوالده تاج الدين قد أتى فنظر إليه وقال: يا أبي إن أولاد التجار قد عزموني لأجل أن أتفرج أنا وإياهم في البستان الفلاني فهل تأذن لي في ذلك؟ فقال له: نعم يا ولدي ثم أنه أعطاه شيئاً من المال وقال: توجه معهم فركب أولاد التجار حميراً وبغالاً وركب نور الدين بغلة وسار معهم إلى بستان فيه بجميع ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وهو مشيد الأركان رفيع البنيان له بابٌ مقنطرٌ كأنه إيوان وبابٌ سماويٌ يشبه أبواب الجنان وبوابه اسمه رضوان وفوقه مائة مكعبٍ عنبٍ من سائر الألوان الأحمر كأنه مرجان والأسود كأنه أنوف السودان والأبيض كأنه بيض الحمام وفيه الخوخ والرمان والكمثري والبرقوق والتفاح كل هذه الأنواع مختلفة الألوان صنوان وغير صنوان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.


.

Alfons MUCHA (1860-1939) Woman with a Burning Candle

صورة مفقودة
 
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة عشرة بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أولاد التجار لما نزلوا البستان رأوه فيه من الفواكه ما ذكرناه ووجدوا فيه من الكمثري الطوري والحلبي والرومي ما هو مختلف الألوان صنوان وغير صنوان ما بين أصفر وأحمر يدهش الناظر كما قال فيه الشاعر:
يهنيك كمثري غدا لونهـا = لون محبٍ زائد الصفـرة
شبيهة بالبكر في خدرهـا = والوجه منها مسبل السترة
وفي ذلك البستان الخوخ السلطاني ما هو مختلف الألوان من أصفر وأحمر كما قال فيه الشاعر:
كأنما الخوخ لـدى روضةٍ = وقد كسى من حمرة العندم
بنادق من ذهبٍ أصـفـر = قد خضبت في وجهها بالدم
وفي ذلك البستان من الموز الأخضر ما هو شديد الحلاوة يشبه الجمار ولبه من داخل ثلاثة أثواب من صنعة الملك الوهاب كما قال فيه الشاعر:
ثلاثة أثوابٍ على جسـدٍ رطـبٍ = مخالفة الأشكال من صنعة الرب
يريه الردى في ليلـه ونـهـاره = وأن يكن المسجون فيها بلا ذنب
وفي ذلك البستان النارنج كأنه خولنجانٌ كما قال فيها الشاعر الولهان:
وحمراء ملء الكف تزهو بحسنها = فظاهرها نارٌ وباطنهـا ثـلـج
ومن عجبٍ ثلجٌ من النار لم يذب = ومن عجبٍ نارٌ وليس لها وهـج
وفي ذلك البستان الكباد متدلياً في أغصانه كنهود أبكارٍ تشبه الغزلان وهو على غاية المراد كما قال فيه الشاعر وأجاد:
وكبادةٌ بين الرياض نظرتـهـا = على غصنٍ رطبٍ كقامة أغيد
إذا ميلتها الريح مالت كأكـرةٍ = بدت ذهباً في صولجانٍ زبرجد
وفي ذلك البستان الليمون زكي الرائحة يشبه بيض الدجاج ولكن صفرته زينةً مجانيةً وريحةً يزهو لجانبه كما قال فيه بعض واصفيه:
أما ترى الليمون لما بـدى = يأخذ من أشراقه بالعـيان
كأنه بيض الدجـاج وقـد = لطخه الخمسة بالزعفران
وفي ذلك البستان من سائر الفواكه والرياحين الخضروات والمشمومات من الياسمين والفاغية والفلفل والسنبل العنبري والورد بسائر أنواعه ولسان الحمل والأس وكامل الرياحين من كل الأصناف. وذلك البستان من غير تشبيهٍ كأنه قطعةٌ من الجنان لرائيه، إذا دخله العليل خرج منه كالأسد الغضبان ولا يقدر على وصفه اللسان لما فيه من العجائب والغرائب التي لا توجد إلا في الجنان، كيف لا واسم بوابه رضوان ولكن بين المقامين شتان. فلما تفرج أولاد التجار في ذلك البستان قعدوا بعد التفرج والتنزه على ليوان من لواوينه وأجلسوا نور الدين في وسط الليوان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

.
 
وفي الليلة الثامنة عشرة بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أولاد التجار لما جلسوا في الليوان أجلسوا نور الدين في وسطٍ على نطعٍ من الأديم المزركش متكئاً على مخدةٍ محشوةٍ بريش النعام وضهارتها مدورةٌ سنجابيةً، ثم ناوله مروحةً من ريش النعام مكتوباً عليها هذان البيتان:
ومروحةٍ معطرة النـسـيم = تذكر طيب أوقات النعـيم
وتهدي طيبها في كل وقـتٍ = إلى وجه الفتى الحر الكريم
ثم أن هؤلاء الشبان خلعوا ما كان عليهم من العمائم وقعدوا يتحدثون ويتنادمون ويتجاذبون أطراف الكلام بينهم وكل منهم يتأمل في نور الدين وينظر إلى حسن صورته، وبعد أن اطمأن بهم الجلوس ساعةً من الزمان أقبل عليهم عبد وعلى رأسه سفرة طعامٍ فيها أواني من الصيني والبلور لأن بعض أولاد التجار كان وصى أهل بيته قبل خروجه إلى البستان وكان في تلك السفر كثيرٌ ما درج وطار وسبح في البحار كالقطا والسماني وأفراخ الحمام وشياه الضأن والطف السمك فلما وضعت تلك السفرة بينهم تقدموا وأكلوا بحسب الكفاية ولما فرغوا من الأكل قاموا عن الطعام وغسلوا أيديهم بالماء الصافي والصابون الممسك وبعد ذلك نشفوا أيديهم بالمناديل المنسوجة بالحرير والقصب وقدموا لنور الدين منديلاً مطرزاً بالذهب الأحمر فمسح به يديه وجاءت القهوة كل منهم مطلوبه ثم جلسوا للحديث وإذا بخولي البستان قد جاء ومعه سفرة المدام فوضع بينهم صينيةً مزركشةً بالذهب الأحمر، وأنشد يقول هذين البيتين:
هتف الفجر بالسنى فاسق خمراً = عانساً تجعل الحليم سـفـيهـا
لست أدري من لطفها وصفاها = أبكأسٍ ترى أم الكأس فـيهـا
ثم أن خولي البستان ملأ وشرب ودار الدور إلى أن وصل إلى نور الدين ابن التاجر تاج الدين فملأ خولي البستان كأساً وناوله إياه فقال له نور الدين: أنت تعرف أن هذا شيءٌ لا أعرفه ولا شربته قط لأن فيه إثماً كبيراً وقد حرمه في كتابه الرب القدير فقال البستاني: يا سيدي نور الدين إن كنت ما تركت شربه إلا من أجل الإثم فإن الله سبحانه وتعالى كريمٌ حليمٌ غفورٌ رحيمٌ يغفر الذنب العظيم ورحمته وسعت كل شيءٍ ورحمة الله على بعض الشعراء حيث قال:
كن كيف شئت فإن الله ذو كرمٍ = وما عليك إذا أذنبت من بأس
إلا اثنتين فلا تقربهـمـا أبـداً = الشرك بالله والأضرار للناس
ثم قال واحدٌ من أولاد التجار: بحياتي عليك يا سيدي نور الدين أن تشرب هذا القدح وتقدم شابٌ آخر وحلف عليه بالطلاق وآخر وقف بين يديه على أقدامه فاستحى نور الدين وأخذ القدح من خولي البستان وشرب منه جرعةً ثم بصقها وقال: هذا مرٌ فقال خولي البستان: يا سيدي نور الدين لولا أنه مرٌ ما كانت فيه هذه المنافع ألم تعلم أن كل حلوٍ إذا أكل على سبيل التداوي يجده الآكل مراً وإن هذه الخمر منافعها كثيرةٌ فمن جملة منافعها أنها تهضم الطعام وتصرف الهم والغم وتزيل الأرياح وتروق الدم وتصفي اللون وتنعش البدن وتشجع الجبان وتقوي همة الرجل على الجماع ولو ذكرنا منافعها كلها لطال علينا شرح ذلك وقد قال بعض الشعراء:
شربنا وعفو الله من كل جانـبٍ = وداويت أسقامي بمرتشف الكأس
وما غرني فيها وأعرف إثمهـا = سوى قوله فيها منافع للـنـاس
ثم إن خولي البستان نهض قائماً على أقدامه من وقته وساعته وفتح مخدعاً من مخادع ذلك الإيوان وأخرج منه قمع سكر مكرر وكسر منه قطعةً كبيرةً ووضعها لنور الدين في القدح وقال: يا سيدي إن كنت هبت شرب الخمر من مرارته فاشرب الآن فقد حلا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.


.
 
وفي الليلة التاسعة عشرة بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخولي قال لنور الدين: إن كنت هبت شرب الخمر من مرارته فاشرب الآن فقد حلا فعند ذلك أخذ نور الدين القدح وشربه ثم ملأ الكأس واحدً من أولاد التجار قال: يا سيدي نور الدين أنا عبدك وكذا الآخر قال: خادمك وقام الآخر وقال: من أجل خاطري وقام الآخر وقال: بالله عليك يا سيدي نور الدين اجبر بخاطري ولم يزل العشرة أولاد التجار بنور الدين إلى أن أسقوه العشرة أقداحٍ كل واحدٍ قدحاً وكان نور الدين باطنه بكر عمره ما شرب خمراً قط إلا في تلك الساعة فدار الخمر في دماغه وقوي عليه السكر فوقف على حيله وقد ثقل لسانه واستعجم كلامه وقال: يا جماعة الله أنتم ملاح وكلامكم مليح ومكانكم مليح إلا أنه يحتاج إلى سماع طيبٍ فإن الشراب بلا سماعٍ عدمه أولى من وجودها كما قال فيه الشاعر هذين البيتين:
أدرها بالكبير والـصـغـير = وحدها من يد القمر المنـير
ولا تشرب بلا طربٍ فإنـي = رأيت الخيل تشرب بالصفير
فعند ذلك نهض الشاب صاحب البستان وركب بغلةً من بغال أولاد التجار وغاب ثم عاد ومعه صبيةً مصريةً كأنها ليةٌ طريةٌ أو فضةٌ نقيةٌ أو دينارٌ في صينيةٌ أو غزالٌ في بريةٍ بوجهٍ يخجل الشمس المضية وعيونٍ بابليةٍ وحواجبٍ كأنها قسى محنيةٍ وخدودٍ ورديةٍ وأسنانٍ لؤلؤيةٍ ومراشفٍ سكريةٍ وعيونٍ مرخيةٍ ونهودٍ عاجيةٍ وبطنٍ حماسيةٍ وأعكانٍ مطويةٍ وأردافٍ كأنهن مخداتٍ محشيةٍ وفخذين كالجداول الشامية وبينهما شيءٌ كأنه صرةٌ في بقجةٍ مطويةٍ كما قيل فيه هذه الأبيات:
ولو أنها للمشركين تـعـرضـت = رأوا وجهها من دون أصنامهم رباً
ولو أنها في الشرق لاحت لراهبٍ = لخلى سبيل الشرق وأتبع الغربـاً
ولو تفلت في البحر والبحر مالـحٌ = لأصبح ماء البحر من ريقها عذباً
وتلك الصبية كأنها البدر إذا بدر في ليلة أربعة عشر وعليها بدلةٌ زرقاءٌ بقناعٍ أخضرٍ فوق جبينٍ أزهرٍ تدهش العقول وتحير أرباب المعقول. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

.
.
 
وفي الليلة العشرين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن خولي البستان جاءهم بالصبية التي ذكرنا أنها في غاية الحسن والجمال ورشاقة القد والاعتدال كأنها المرأة المراد بقول الشاعر:

أقبلت فـي غـلالةٍ زرقـاءٍ = لازوديةٍ كلون الـسـمـاء
فتحققت في الغلالة منـهـا = قمر الصيف في ليالي الشتاء

ثم إن الشاب خولي البستان قال لتلك الصبية: اعلمي يا سيدة الملاح وكل كوكبٍ لاح أننا ما قصدنا بحضورك في هذا المكان إلا أن تنادمي هذا الشاب المليح الشمائل سيدي نور الدين فإنه لم يأت محلنا في هذا اليوم فقالت له الصبية: ليتك كنت أخبرتني لأجل أن أجيء بالذي كان معي فقال لها: سيدتي أنا أروح وأجيء به إليك فقالت: أفعل ما بدا لك فقال لها: أعطيني أمارةً فأعطته منديلاً فعند ذلك خرج سريعاً وغاب ساعةً زمانيةً ثم عاد ومعه كيسٌ أخضرٌ من الحرير أطلسٌ بشكلين من الذهب فأخذته منه الصبية وحلته ونفضته فنزل منه اثنتان وثلاثون قطعةً خشبٍ ثم ركبت الخشب في بعضه على صورة ذكر في أنثى وأنثى في ذكر وكشفت عن معاصمها وأقامته فصار عوداً محكوكاً مجروداً صنعة الهنود ثم انحنت عليه تلك الصبية انحناء الوالدة على ولدها وزعزعته بأنامل يدها فعند ذلك أن العود ورن ولأماكنه القديمة حن وقد تذكر المياه التي قد سقته والأرض التي نبت منها وتربى فيها وتذكر النجارين الذين قطعوه والدهانين الذين دهنوه والتجار الذين جلبوه والمراكب التي حملته فصرخ وصاح عدد وناح وكأنها سألته عن ذلك كله فأجابها بلسان الحال منشداً هذه الأبيات:

لقد كنت عودا للـبـلابـل مـنـزلا = أميل بها وجداً وفرعـي أخـضـر
ينوحون من فوقي فعلمت نوحـهـم = ومن أجل ذاك النوح سرى مجهـر
رماني بلا ذنبٍ على الأرض قاطعي = وصيرني عوداً نحـيلاً كـمـا تـر
ولكن ضربي بالأنـامـل مـخـبـرٌ = بأني قتيلٌ فـي الأنـام مـصـبـر
فمن أجل هذا صـار كـل مـنـادمٍ = إذا ما رأى نوحي يهـيم ويسـكـر
وقد حنن المولى على قـلـوبـهـم = وقد صرت في أعلى الصدور أصدر
تعانق قدي كل من فاق حـسـنـهـا = وكل غزالٍ ناحل الطـرف أحـور

ثم سكتت الصبية ساعة وبعد ذلك أخذت ذلك العود في حجرها وانحنت عليه انحناء الوالدة على ولدها وضربت عليه طرقاً عديدةً.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

.
 
وفي الليلة الحادية والعشرين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية ضربت على العود طرقاً عديدة ثم عادت إلى طريقتها الأولى وأنشدت هذه الأبيات:
لو أنهم جنحوا للصـب أوزارٍ = لحط عنه من الأشواق أوزار
وعندليبٍ على غصنٍ يشاطره = كأنه عاشقٌ شطت به الـدار
قم وانتبه فليالي الوصل مقمرةٌ = كأنها باجتماع الشمل أسحـار
واليوم في غفلةٍ عنا حواسدنـا = وقد دعتنا إلى اللذات أوتـار
أما ترى أربعاً للهو قد جمعت= آسٌ ووردٌ ومنثـورٌ وأنـوار
واليوم قد جمعت للحظ أربعةٌ = صبٍ وخلٍ ومشروبٍ ودينار
فأظفر بحظك وفي الدنيا فلذتها = تغني وتبقى رواياتٍ وأخبـار
فلما سمع نور الدين من الصبية هذه الأبيات نظر إليها بعين المحبة حتى كاد لا يملك نفسه من شدة الميل إليها وهي الأخرى كذلك لأنها نظرت إلى الجماعة الحاضرين من أولاد التجار كلهم وإلى نور الدين، فرأته بينهم كالقمر بين النجوم لأنه كان رخيم اللفظ ذا دلالٍ كامل القدر والاعتدال والبهاء والجمال ألطف وأرق النسيم كما قيل فيه هذه الأبيات:
قسماً بوجنتـيه وبـاسـم ثـغـره = وباسهم قد راشها مـن سـحـره
وبلين معطفه ونبـل لـحـاظـه = وبياض غرته وأسـود شـعـره
وبحاجبٍ حجب الكرى عن ناظري = وسطا على بنـهـيه وبـأمـره
وعقاربٍ قد أرسلت من صدغـه = وسعت لقتل العاشقين بهـجـره
وبـورد خـديه آس عـــذاره = وعقيق مبسمه ولؤلـؤ ثـغـره
وبغصن قامته الذي هو مثـمـرٌ = رمانه يزهو جـنـاه بـصـدره
وبردفه المرتج في حـركـاتـه = وسكونه وبدقةٍ فـي خـصـره
وحرير ملـبـسـه وخـفة ذاتـه = وبما حواه أمن الجمال بـأسـره
إن الشـذا قـد مـن أنـفـاسـه = والريح تروي طيبها عن نشـره
وكذلك الشمس المـنـيرة دونـه = وكذا الهلال قلامةً من ظـفـره

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
وفي الليلة الثانية والعشرين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما سمع كلام تلك الصبية وشعرها أعجبه نظامها وكان قد مال من السكر فجعل يمدحها ويقول:

عوادةٌ مالت لنا = في نشوة المنتبذ
قالت لنا أوتارها = أنطقنا الله الذي

فلما تكلم نور الدين بهذا الكلام وأنشد هذا الشعر والنظام نظرت له تلك الصبية بعين المحبة وزادت فيه عشقاً وغراماً وقد صاحت متعجبةً من حسنه وجماله ورشاقة قده واعتداله فلم تتمالك نفسها بل احتضنت العود ثانياً وأنشدت هذه الأبيات:

يعاتبني على نظـري إلـيه = ويهجرني وروحي في يديه
ويبعدني ويعلم ما بقلـبـي = كأن الله قد أوحـى إلـيه
كتبت مثاله في وسط كفـي = وقلت لناظري عول علـيه
فلا عيني ترى منـه بـديلاً = ولا قلبي يصيرنـي لـديه
فيا قلبي نزعتك من فؤادي = فقلبي لـم يمـل إلا إلـيه

فلما أنشدت الصبية تلك الأبيات تعجب نور الدين من حسن شعرها وبلاغة كلامها وعذوبة لفظها وفصاحة لسانها فطار عقله من شدة الغرام والوجد والهيام ولم يقدر أن يصبر عنها ساعةً من الزمان بل مال إليها وضمها إلى صدره فانطبقت الأخرى عليه وصارت بكليتها لديه وقبلته بين عينيه وقبل هو فاهها بعد ضم القوام ولعب معها في التقبيل كزق الحمام فالتفتت له وفعلت معه مثل ما فعل معها، فهام الحاضرون وقاموا على أقدامهم فاستحى نور الدين ورفع يده عنها ثم أنها أخذت عودها وضربت عليه طرائق عديدةً ثم عادت إلى الطريقة الأولى وأنشدت هذه الأبيات:

قمرٌ يسل من الجفون إذا انثـنـى = غضباً ويهزأ بالغـزال إذا رنـا
ملك محاسنه الـبـديعة جـنـده = ولدى الطعان قوامه يحكي القنـا
لو أن رقة خصره في قـلـبـه = ما جار قطٌ على المحب ولا جنى
يا قلبه القاسـي ورقة خـصـره = هلا نقلت إلى هنا مـن هـنـا
يا عاذلي في حبه كـن عـاذري = فلك البقاء بحسنه ولي الـفـنـا

فلما سمع نور الدين حسن كلامها وبديع نظامها مال إليها من الطرب ولم يملك عقله من التعجب ثم أنشد هذه الأبيات:

لقد خلتها شمس الضحى فتخيلت = ولكن لهيب الحر منها بمهجتـي
وماذا عليها لو أشارت فسلمـت = علينا بأطراف البنـان وأومـت
رأى وجهها اللاحي فقال وتاه في = محاسنها اللاتي عن الحسن جلت
أهذي التي همت شوقاً بحبـهـا = فإنك معذورٌ فقلت هي الـتـي
رمتني بسهم اللحظ عمداً وما رثت = لحالي وذلي وانكساري وغربتي
فأصبحت مسلوب الفؤاد متـيمـاً = أنوح وأبكي طول يومي وليلتـي

فلما فرغ نور الدين من شعره، تعجبت الصبية من فصاحته ولطافته وأخذت عودها وضربت عليه بأحسن حركاتها وأعادت جميع النغمات، ثم أنشدت هذه الأبيات:

وحياة وجهك يا حـياة الأنـفـس = لا حلت عنـك يئسـت أم لا أيأس
فلئن جفوت فإن طيفـك واصـلٌ = أو غبت عن عيني فذكرك مؤنسي
يا موحشاً طرفي وتعلـم أنـنـي = أبداً بغير هواك لـم أسـتـأنـس
خداك من وردٍ وريقـك قـهـوةٌ = هلا سمحت بها بهذا المجـلـس

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية بعدما فرغت من شعرها طرب نور الدين من إنشاد تلك الصبية غاية الطرب وتعجب منها غاية العجب، ثم أجابها عن شعرها بهذه الأبيات:

ما أسفرت عن محيا الشمس في الغسق = إلا تحجب بـدر الـتـم فـي الأفـق
ولا بدت لعيون الصـبـح طـرتـهـا = إلا وعوذت ذاك الفرق بـالـفـلـق
خذ عن مجاري دموعها في تسلسلهـا = وأرو حديث الهوى من أقرب الطرق
ورب راميةٍ بالنـبـل قـلـت لـهـا = مهلاً بنبلك أن القـلـب فـي فـرق
إن كان دمعي لبحر النيل نـسـبـتـه = فإن ودك منسـوبٌ إلـى الـمـلـق
قالت فهات جمع المال قـلـت خـذي = قالت ونومك أيضاً قلت من حـدقـي

فلما سمعت الصبية كلام نور الدين وحسن فصاحته طار قلبها واندهش لبها وقد احتمى على مجامع قلبها فضمته إلى صدرها وصارت تقبله تقبيلاً كزق الحمام وكذلك الآخر قابلها بتقبيلٍ متلاحقٍ ولكن الفضل للسابق وبعد أن فرغت من التقبيل أخذت العود وأنشدت هذه الأبيات:

ويلاه ويلي من ملامة عـاذلـي = أشكوه أم أشكو إليه تملمـلـي
يا هاجري ما كنت أحسب أننـي = ألقى الإهانة في هواك وأنت لي
عنفت أرباب الصبابة بالـجـوى = وأبحث فيك لعاذليك تـذلـلـي
بالأمس كنت ألوم أرباب الهـوى = واليوم أعذر كل صب مبتـلـي
وإن اعترتني من فراقـك شـدةً = أصبحت أدعو الله باسمك يا علي

فلما فرغت تلك الصبية من شعرها أيضاً أنشدت هذين البيتين:

قد قالت العشاق إن لم يسقنـا = من ريقه ورحيق فيه السلسل
ندعو إله العالمين يجـيبـنـا = ويقول فيه الكل منايا علـي

فلما سمع نور الدين من تلك الصبية هذا الكلام والشعر والنظام تعجب من فصاحة لسانها وشكرها على ظرافة افتتانها فلما سمعت تلك الصبية ثناء نور الدين عليها قامت من وقتها وساعتها على قدميها وخلعت جميع ما كان عليها من ثيابٍ ومصاغٍ وتجردت من ذلك كله ثم جلست على ركبتيها وقبلته بين عينيه وعلى شامتي خديه ووهبت له جميع ذلك.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
وفي الليلة الرابعة والعشرين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية وهبت كل ما كان عليها لنور الدين وقالت له: أعلم يا حبيب قلبي أن الهدية على مقدار مهديها، فقبل ذلك منها نور الدين ثم رده عليها وقبلها في فمها وخديها وعينيها، فلما انقضى ذلك ولم يدم إلا الحي القيوم رازق الطاووس والبوم قام نور الدين من ذلك المجلس ووقف على قدميه فقالت له الصبية: إلى أين يا سيدي؟ فقال: إلى بيت والدي، فحلف عليه أولاد التجار أن ينام عندهم فأبى وركب بغلته ولم يزل سائرا حتى وصل إلى منزل والده، فقامت له أمه وقالت له: يا ولدي ما سبب غيابك إلى هذا الوقت والله إنك قد شوشت علي وعلى والدك لغيابك عنا وقد اشتغل خاطرنا عليك، ثم إن أمه تقدمت إليه لتقبله في فمه فشمت منه رائحة الخمر فقالت: يا ولدي كيف بعد الصلاة والعبادة صرت تشرب الخمر وتعصي من له الخلق والأمر فبينما هما في الكلام وإذا بوالده قد أقبل، ثم إن نور الدين ارتمى في الفراش ونام فقال أبوه: ما لنور الدين هكذا؟ قالت أمه: كان رأسه أوجعه من هواء البستان، فعند ذلك تقدم والده ليسأله عن وجعه ويسلم عليه فشم منه رائحة الخمر، وكان ذلك التاجر المسمى تاج الدين لا يحب من يشرب الخمر فقال له: ويلك يا ولدي هل بلغ بك السفه إلى هذا الحد حتى تشرب الخمر؟ فلما سمع نور الدين كلام والده رفع يده في سكره ولطمه بها فجاءت اللطمة بالأمر المقدر على عين والده اليمنى فسالت على خديها فوقع على الأرض مغشياً عليه واستمر في غشيته ساعةً فرشوا عليه ماء الورد، فلما أفاق من غشيته أراد أن يضربه فحلف بالطلاق من أمه أنه إذا أصبح الصباح لا بد من قطع يده اليمنى.
فلما سمعت أمه كلام والده ضاق صدرها وخافت على ولدها، ولم تزل تداري والده وتأخذ بخاطره إلى أن غلب عليه النوم، فصبرت إلى أن طلع القمر وأتت إلى ولدها وقد زال عنه السكر فقالت له: يا نور الدين ما هذا الفعل القبيح الذي فعلته مع والدك؟ فقال: وما الذي فعلته مع والدي؟ فقالت: إنك لطمته بيدك على عينه اليمنى فسالت على خده وقد حلف بالطلاق أنه إذا أصبح الصباح لا بد أن يقطع يدك اليمنى، فندم نور الدين على ما وقع منه حيث لا ينفعه الندم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما ندم على ما وقع منه قالت له أمه: يا ولدي إن هذا الندم لا ينفعك وإنما ينبغي لك أن تقوم في هذا الوقت وتهرب وتطلب النجاة لنفسك وتختفي عند خروجك حتى تصل إلى أحد أصحابك وانتظر ما يفعل الله فإنه يغير حالاً بعد حال.

ثم إن أمه فتحت صندوق المال وأخرجت منه كيساً فيه مائة دينارٍ وقالت له: يا ولدي خذ هذه الدنانير واستعن بها على مصالح حالك فإذا فرغت منك يا ولدي فأرسل أعلمني حتى أرسل إليك غيرها، وإذا راسلتني فأرسل إلي أخبارك سراً لعل الله يقدر لك فرجاً وتعود إلى منزلك، ثم أنها ودعته وبكت بكاءً شديداً ما عليه مزيد، فعند ذلك تناول نور الدين كيس الدنانير من أمه وأراد أن يذهب فرأى كيساً كبيراً قد نسيته أمه بجنب الصندوق فيه ألف دينارٍ فأخذه نور الدين ثم ربط الاثنين في وسطه ومشى من الزقاق وتوجه إلى جهة بولاق قبل الفجر.
فلما أصبح الصباح وقامت الخلائق توحد الملك الفتاح وذهب كل واحدٍ منهم إلى مقصده ليحصل ما قسم الله له كان نور الدين وصل إلى بولاق فصار يتمشى على ساحل البحر فرأى مركباً سقالته ممدودةٌ والناس تطلع فيه وتنزل منه ومراسيه أربعٌ مدقوقةٌ في البر ورأى البحرية واقفين فقال نور الدين لهم: إلى أين أنتم مسافرون؟ فقالوا: إلى مدينة الإسكندرية فقال لهم نور الدين: خذوني معكم فقالوا له: أهلاً وسهلاً ومرحباً بك يا شاب يا مليح. فعند ذلك نهض نور الدين من وقته وساعته ومضى إلى السوق واشترى ما يلزمه من زادٍ وفرشٍ وغطاءٍ ثم عاد إلى المركب وكان ذلك المركب قد تجهز للسفر، فلما نزل نور الدين في المركب لم يمكث إلا قليلاً حين سار من وقته وساعته، ولم يزل ذلك المركب سائراً حتى وصل إلى مدينة الرشيد فلما وصلوا إلى هناك رأى نور الدين مركباً صغيراً سائراً إلى الإسكندرية فنزل فيه وعدى الخليج، ولم يزل سائراً إلى أن وصل إلى قنطرة الجامي فطلع نور الدين من ذلك الزورق ودخل من باب السدرة وقد ستر الله عليه فلم ينظره أحدٌ من الواقفين في الباب، فمشى نور الدين حتى دخل مدينة الإسكندرية.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.


.../...
 
وفي الليلة السادسة والعشرين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن نور الدين لما دخل مدينة الإسكندرية رآها مدينةً حصينة الأسوار حسنة المتنزهات تلذ لسكانها وترغب في استيطانها وقد ولى عنها فصل الشتاء ببرودة وأقبل عليها فصل الربيع بورده وأزهرت أزهارها وأورقت أشجارها وأينعت أثمارها وتدفقت أنهارها وهي مدينةٌ مليحةٌ الهندسة والقياس وأهلها من خيار الناس إذا أغلقت أبوابها أمنت أصحابها وهي كما قيل فيها هذه الأبيات:

قد قلت يوماً لخلٍ = له مقالٌ فصـيح
إسكندرية صفهـا = فقال ثغرٌ ملـيح
وقلت فيها معاشٌ = قال أن هب ريحٌ

فمشى نور الدين في تلك المدينة ولم يزل ماشياً فيها إلى سوق النجارين ثم إلى سوق الصرافين ثم إلى سوق النقلية ثم إلى سوق الفكهانية ثم إلى سوق العطارين وهو يتعجب من تلك المدينة لأن وصفها قد شاكل اسمها.

فبينما هو يمشي في سوق العطارين إذا برجلٍ كبير السن نزل من دكانه وسلم عليه ثم تناول يده ومضى به إلى منزله فرأى نور الدين زقاقاً مليحاً مكنساً مرشوشاً قد هب عليه النسيم وظللته أوراق الشجر، وفي ذلك الزقاق ثلاث دور وفي صدر ذلك الزقاق داراً أساسها راسخٌ في الماء وجدرانها شاهقةٌ إلى عنان السماء وقد كنسوا الساحة التي قدامها ورشوها ويشم روائح الأزهار قاصدوها يقابلها النسيم كأنه من جنات النعيم، فأول ذلك الزقاق مكنوسٌ مرشوشٌ وآخره بالرخام مفروشٌ.

فدخل الشيخ ونور الدين إلى تلك الدار وقدم له شيئاً من المأكول فأكلا معا، فلما فرغا من الأكل معاً قال له الشيخ: متى كان القدوم من مدينة مصر إلى هذه المدينة؟ فقال له: يا والدي في هذه الليلة، قال له: ما اسمك؟ قال له: علي نور الدين، فقال له الشيخ: يا نور الدين يلزمني الطلاق ثلاثاً أنك ما دمت مقيماً في هذه المدينة لا تفارقني وأنا أخلي لك موضعاً تسكن فيها، فقال له نور الدين: يا سيدي الشيخ زدني بك معرفةً فقال لها: يا ولدي أعلم أني دخلت مصر في بعض السنين بتجارةٍ فبعتها فيها واشتريت متجراً آخر فاحتجت إلى ألف دينارٍ فوزنها عني والدك تاج الدين من غير معرفةٍ له بي ولم يكتب علي بها منشوراً وصبر علي بها إلى أن رجعت إلى هذه المدينة وأرسلتها إليه مع بعض غلماني ومعها هديةً وقد رأيتك وأنت صغير وإن شاء الله تعالى أجازيك ببعض ما فعل والدك معي.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.


.
 
وفي الليلة السابعة والعشرين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ قال لنور الدين: إن شاء الله أجازيك ببعض ما فعل والدك معي، فلما سمع نور الدين هذا الكلام أظهر الفرح والإبتسام وتناول الكيس الذي فيه ألف دينار وأعطاه لذلك الشيخ وقال له: خذ هذا وديعةً عندك حتى اشتري به شيئاً من البضائع لأتجر فيه. ثم إن نور الدين أقام في مدينة الإسكندرية مدة أيامٍ وهو يتنزه كل يوم في شارعٍ من شوارعها ويأكل ويشرب ويلتذ ويطرب إلى أن فرغت المائة دينار التي كانت معه برسم النفقة فأتى إلى الشيخ العطار ليأخذ شيئاً منه من الألف دينار وينفقه فلم يجده في الدكان فجلس في دكانه ينتظره إلى أن يعود وصار ينظر على التجار ويتأمل ذات اليمين وذات الشمال، فبينما هو كذلك إذا بأعجمي قد أقبل على السوق وهو راكبٌ على بغلةٍ وخلفه جاريةٌ كأنها فضةٌ نقيةٌ وبلطيةٌ في فسقيةٍ أو غزالةٍ في بريةٍ بوجهٍ يخجل الشمس المضيئة وعيونٍ بابليةٍ ونهودٍ عاجيةٍ وأسنانٍ لؤلؤيةٍ وبطنٍ حماصيةٍ وأعطافٍ مطويةٍ وسيقانٍ كأطراف ليةٍ كاملة الحسن والجمال ورشيقة القد الاعتدال كما قال فيها بعض وأصفيها:

كأنها مثل ما تهواه قـد خـلـقـت = في رونق الحسن لا طولٌ ولا قصر
الورد من خدها يحمر من خـجـلٍ = والغصن من قدها يزهو به الثمـر
البدر طلعتها والمسك نكـهـتـهـا = والغصن من قامتها ما مثلها بشـر
كأنها أفرغت مـن مـاء لـؤلـؤةٍ = في كل جارحةٍ من حسنها قـمـر

ثم إن الأعجمي نزل عن بغلته وأنزل الصبية وصاح على الدلال فحضر بين يديه فقال له: خذ هذه الجارية وناد عليها في السوق فأخذها الدلال ونزل بها إلى وسط السوق وغاب ساعةً ثم عاد ومعه كرسي من الأبنوس مزركشٌ بالعاج الأبيض فوضعه الدلال على الأرض وأجلس عليه تلك الصبية ثم كشف القناع عن وجهها فبان من تحته وجه كأنه ترسي ديلمي أو كوكب دري وهي كأنها البدر في ليلة أربعة عشر بغاية الجمال الباهر كما قال فيها الشاعر:

قد عارض البدر جهلاً حسن صورتها = فراح منكسفاً وانشق بالـغـضـب
وسرحة البان أن قيست بقامـتـهـا = تبت يداً من غدت حمالة الحـطـب

وما أحسن قول الشاعر:
قل للمليحة في الخمار المذهب = ماذا فعلت بعابدٍ مـتـرهـب
نور الخمار ونور وجهك تحته = هزما بضوئها جيوش الغيهب
وإذا أتى طرفي ليسرق نظرةً = في الخد حراسٌ رمته بكوكب

فعند ذلك قال الدلال للتجار: دفعتم في درة الغواص وفتنة القناص فقال له تاجر من التجار: علي بمائة دينار وقال آخر: بمائتين وقال آخر: بثلثمائة ولم يزل التجار يتزايدون في تلك الجارية إلى أن وصلوا ثمنها إلى تسعمائة وخمسين ديناراً وتوقف البيع على الإيجاب والقبول.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

.
 
وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن التجار يتزايدون في الجارية إلى أن بلغ ثمنها تسعمائة وخمسين ديناراً فعند ذلك أقبل الدلال على الأعجمي سيدها وقال له: إن جاريتك بلغ ثمنها تسعمائة وخمسين ديناراً فهل نبيع ونقبض لك الثمن؟ فقال الأعجمي: هل هي راضيةٌ بذلك فإني أحب مراعاة خاطرها لأني ضعفت في هذه السفرة وخدمتني هذه الجارية غاية الخدمة فحلفت أني لا أبيعها إلا لمن تشتهي وتريد وجعلت بيعها بيدها فأشاورها فإن قالت رضيت فبعها لمن أرادته وأن قالت لا فلا تبيعها فعند ذلك تقدم الدلال إليها وقال لها: يا سيدة الملاح أعلمي أن سيدك قد جعل بيعك بيدك وقد بلغ ثمنك تسعمائة وخمسين ديناراً فتأذنين أن أبيعك؟ فقالت الجارية للدلال: أرني الذي يريد أن يشتريني قبل انعقاد البيع فعند ذلك جاء الدلال بها إلى رجلٍ من التجار وهو شيخٌ كبيرٌ هرمٌ فنظرت إليه الجارية ساعةً زمانيةً وبعد ذلك التفتت إلى الدلال وقالت له: يا دلال هل أنت مجنون أو مصاب في عقلك؟ فقال لها الدلال: لأي شيءٍ يا سيدة الملاح تقولين لي هذا الكلام؟ فقالت له الجارية: أيحق لك من الله أن تبيع مثلي لهذا الشيخ الهرم الذي قال في شأن زوجته هذه الأبيات:

تقول لي وهي غضبى من تدللها = وقد دعتني إلى شيءٍ فما كانـا
إن لم تنكني نيك المرء زوجتـه = فلا تلمني إذا أصبحت قـربانـا
كأن أيرك شمعٌ من رخـاوتـه = فكلما عركته راحـتـي لأنـا

فلما سمع شيخ التجار من تلك الصبية هذا الهجو القبيح اغتاظ غيظاً شديداً ما عليه من مزيد وقال للدلال: يا أنحس الدلالين ما جئت لنا في السوق إلا بجاريةٍ مشؤومةٍ تتحارى علي وتهجوني بين التجار فعند ذلك أخذها الدلال وانصرف عنه وقال لها: يا سيدتي لا تكوني قليلة الأدب أن هذا الشيخ الذي هجوته هو شيخ السوق ومحتسبه وصاحب مشورة التجار فضحكت وأنشدت هذين البيتين:

يصلح للحكام في عصرنـا = وذاك للحكام ممـا يجـب
السنق للوالي على بـابـه = والضرب بالذرة للمحتسب

ثم إن الجارية قالت للدلال: والله يا سيدي أنا لا أباع لهذا الشيخ فبعني إلى غيره لأنه ربما خجل مني فيبيعني إلى آخر فاصبر ممتهنة ولا ينبغي لي أن أدنس نفسي بالإمتهان وقد علمت إن أمر بيعي مفوض إلي.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن الجارية قالت للدلال: لا ينبغي أن أدنس نفسي بالإمتهان وقد علمت أن أمر بيعي مفوض إلي فقال لها الدلال: سمعاً وطاعةً ثم توجه بها إلى رجلٍ من التجار الكبار فلما وصل بها إلى ذلك الرجل قال لها: يا سيدتي هل أبيعك إلى سيدي شريف الدين هذا بتسعمائة وخمسين ديناراً؟ فنظرت إليه الجارية فرأته شيخاً ولكن لحيته مصبوغةً فقالت للدلال: هل أنت مجنون أو مصاب بعقلك حتى تبيعني إلى هذا الشيخ الفاني فهل أنا من كتكت المشاق أو من مهلهل الأخلاق حتى تطوف بي على شيخٍ بعد شيخٍ وكلاهما كجدارٍ آيلٍ إلى السقوط أو عفريتٍ محقة النجم بالهبوط أما الأول فإنه ناطقٌ فيه لسان الحال يقول بقول من قال:

طلبت قبلتها فـي الـثـغـر قـائلةً = لا والذي أوجد الأشـياء مـن عـدم
ما كان لي في بياض الشيب من أربٍ = أفي الحياة يكون القطن حشو فمـي

وأما الآخر فإنه ذو عيبٍ وريبٍ ومسود وجه الشيب قد أتى في خضاب شيبه بأقبح عينٍ وأنشد لسان حاله هذين البيتين:

قالت أراك خضبت الشيب قلت لها = كتمت عنك يا سمعي ويا بصري
فقهقهت ثم قالت إني ذا عـجـب = تكاثر الغش حتى صار في الشعر

فلما سمع الشيخ الذي صبغ لحيته من تلك الجارية هذا الكلام اغتاظ غيظاً شديداً ما عليه من مزيدٍ وقال للدلال: يا أنحس الدلالين ما جئت في هذا اليوم إلى سوقنا إلا بجاريةٍ سفيهةٍ تسفه على كل من في السوق واحداً بعد واحدٍ وتهجوهم بالأشعار والكلام الفشار ثم إن ذلك التاجر نزل من دكانه وضرب الدلال على وجهه فأخذها الدلال ورجع بها وهو غضبان وقال: والله إني ما رأيت عمري جارية أقل حياء منك وقد قطعت رزقي ورزقك في هذا النهار وقد أبغضني من أجلك جميع التجار فرآها في الطريق رجلٌ من التجار فزاد في ثمنها عشرة دنانيرٍ وكان اسم ذلك التاجر شهاب الدين فاستأذن الدلال الجارية في البيع فقالت: أرني إياه حتى أنظر إليه واسأله عن حاجةٍ فإن كانت تلك الحاجة في بيته فأنا أباع له وإلا فلا، فخلاها الدلال واقفةً ثم تقدم إليه وقال له: يا سيدي شهاب الدين أعلم إن هذه الجارية قالت لي أنها تسألك عن حاجةٍ فإن كانت عندك فإنها تباع لك وها أنت وقد سمعت ما قالته لأصحابك من التجار.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
أعلى