وائل عشري - “وسّع خيالك”.. ذباب القانون وذباب الأدب

https://alcarma.files.wordpress.com/2009/03/click-here.gif?w=125&h=70
“يبدو أن القانون كقانون ليس له أبداً أن تصدر عنه أي قصة.”
جاك ديريدا، أمام القانون


يدخل أحمد ناجي أحمد حجازي، الذات القانونية، بصحبة أحمد ناجي، الكاتب، وبسام، الراوي الرئيسي لـ “استخدام الحياة”، والرواية أيضاً (تحديداً فصل واحد منها)، إلى متاهة القانون.

لقد خدش، أو خدشوا جميعاً، “الحياء العام”، هكذا يخبرنا من يمثّل القانون.

“سخر... أنامله،” تقول النيابة في قرار إحالته إلى المحاكمة “لنشر مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة وأجر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكاً لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والأغراء بالعهر خروجاً على عاطفة الحياء وهدماً للمثل المصطلح عليها فولدت [مَن؟ المادة الكتابية؟] سفاحاً مشاهد صورت اجتماع الجنسين جهرة وما لبث ينشر سموم قلمه برواية أو مقال في صفراء باليه حتى وقعت تحت يد القاصى قبل الدانى والقاصر قبل البالغ فأضحى كالذباب لا يرى إلا القاذورات والنجاسات فيسلط عليها الأضواء والكاميرات حتى عمت الفوضى وانتشرت النار في الهشيم وجاءت تحريات جهة البحث كخرزات نظم ينحدرن توافقاً على قيام المتهم بكتابة المقال وأحتوائه على الفاظ خادشة للحياء”

لا يخبرنا قرار الإحالة بما فعل أحمد ناجي أحمد حجازي على وجه التحديد. إنه يشير فقط وعلينا أن نفهم. علينا أن نقطع طريقنا من مجاز إلى آخر، من محسن بديعي إلى آخر، من خطأ لغوي لآخر (كاتب هذا المقال ليس ضد الأخطاء بشكل خاص، لكن ربما من المهم أن نلاحظها حين تأتي من القانون وبيروقراطيته) حتى النهاية. علينا، ربما، أن يملأنا الإعجاب أيضاً بهذه اللغة “الجميلة” التي تُدين شخصاً تحول إلى ذبابة.

يبدو قرار الإحالة مثل تدريب مدرسي متحمس على كتابة مقال. وكما يحدث في الحالات الشبيهة، يجد الكاتب لذة لا تفنى، وسعادة لا تزول من مخزون لا نهائي، معدّ سلفاً، من قائمة مجازات يُعاد تدويرها باستمرار، مرة بعد مرة بعد مرة، من موضوع تعبير إلى آخر، ولهذا فهي مضمونة التأثير. عليها خاتم ما، ربما للدولة، أو لمؤسساتها التعليمية، أو ربما هو ختم المجازات العامة. أجازته سلطة ما، وضمنت تأثيراً مُحدَّداً على متلقيها، تأثيراً يمكن أن يكون مادة لسؤال مدرسي عن مواطن الجمال، عن صورتين ممتدتين متضادتين: شخص تحول إلى ذبابة تنشر الفوضى وتشعل النار في مقابل خرزات نظم ينحدرن توافقاً على إعلان حقيقة قانونية مطلقة. هكذا يعكس نص الإحالة إحساساً عمومياً منضبطاً بالجمال (لا يرى أخطائه بكل تأكيد) وبلاغة عمومية لا تأتي بالضرورة من معرفة عن قرب بكتب أو تراث كتابة معين، بل هو “الحس السليم” للغة كما يُدرَّس، كما يُلقَّن في مدارس الدولة، حيث مجازات تعكس خيالاً محدوداً، ومفرغة من المعنى (هل أثار الفصل الروائي الفوضى فعلاً؟ هل رأها أي قاص أو دان؟ هل تدنى مؤشر الحياء في المجتمع المصري بعد أن نشر ناجي فصله؟) يُلقى بها في أذن من عليه أن يقدّر جمالها، من تدرب جيداً على ذلك.

“الذبابة” في قرار الإحالة، وهو المجاز الذي يمكننا أن نفترض أنه يلخص رؤية النيابة، محددة تماماً، واضحة المعنى مسبقاً. لا يحتاج المرء إلى التفكير كثيراً في معناها. هذا هو الحس السليم على أي حال. الذبابة مصدر ضيق. تثير القرف. تحمل المرض وتنشره. الحضارة، هكذا يبدو الأمر، تعتمد على نفي الذبابة، وهو ما قد يعني أيضاً نفي القاذورات والنجاسات والخراء (بالمناسبة، هل يحاسب القانون على استخدام كلمة الخراء؟ ما هي الكلمة الأكثر صداقةً للقانون، الكلمة التي يجيزها، ولا يراها تخدش؟ الهراء؟ ) بكلمات أخرى، إن قبلنا أراء بنيامين وكونديرا، في هذا الشأن، فنفي الذبابة هو لحظة ميلاد الكيتش.

أسلوبياً، نص قرار الإحالة بأكمله نموذج مثالي لكتابة الكيتش، إن أخذنا في اعتبارنا تعريف فالتر بنيامين للكيتش بأنه “لا شيء سوى فن متوفر للاستهلاك بدرجة مائة في المائة، مطلقاً ولحظياً، تحديداً داخل الأشكال المكرسة للتعبير [التي يعرفها ويقدرها “القاصي قبل الداني،” على سبيل المثال،] ولهذا، يقف الكيتش والفن في تضاد لا يقبل التوفيق” (مشروع البواكي، ٣٥٩) أما عن التصورات المسبقة التي تجعل لغة هذا القرار على ما هي عليه، والتي تمنحه مفاهيمه المسبقة عن الحياة، والسلوك القويم، والحياء العام، والسعادة المعقمة الطاهرة الخالية من “القاذورات والنجاسات” فينطبق عليها تعريف ميلان كونديرا للكيتش على أنه المثال الجمالي (وقد نضيف الحياتي) “الذي يُنكر فيه الخراء ويتصرف الجميع كما لو كان لا يوجد.” (كائن لا تُحتمل خفته) يستخدم كونديرا “الخراء” كمجاز بطبيعة الحال، للإشارة إلى كل ما قد يثير وجوده، في طباع بعض البشر، في أجسادهم، كعضو بين أعضائهم، في رغباتهم، وفي طرق حياتهم قلق البعض الآخر، كل ما قد يؤدي إلى قلق حاد يصل لنفي وجود مصدر القلق من الأساس، ويؤدي أما إلى تجاهل وجوده (لا يجب تسمية الأعضاء الخاصة! ) أو إلى معاملته كشذوذ عن قاعدة أو عادة يجب عقابه.

من المهم أن نلاحظ هنا أنه لا توجد مشكلة جوهرية في وجود الكيتش في ذاته، كنظرة للفن أو للحياة، ذلك أنه توجد على أي حال أنواع مختلفة، وأحياناً متضادة، من الكيتش. فكما هو الحال في كل مجاز، لا يعني “الخراء” شيئاً واحداً لكل الناس. تظهر المشكلة حين نضطر إلى التعامل مع ما يطلق عليه كونديرا “الكيتش الشمولي” ويعرّفه كما يلي:

حين أقول “شمولياً،” ما أعنيه هو أن كل شيء يهدد الكيتش يتعين نفيه من الحياة: كل تبدي للفردية (إذ الانحراف عن المجموع هي بصقة في عين الأخوة المبتسمة)؛ كل شك (لأن كل من يبدأ في الشك في التفاصيل سوف ينتهي به الحال إلى الشك في الحياة ذاتها)؛ كل سخرية (لأنه في عالم الكيتش كل شيء يجب أخذه بجدية تامة).

ما خدشه ناجي هو هذا التصور المدرسي عن اللغة والجمال والسعادة، وذلك الكيتش الشمولي المسلح بسطوة القانون، مثلما خدش تصوراً معيناً للحياء العام في قلب ذلك الكيتش الشمولي. لكن ما هو ذلك الحياء العام الذي يرفع من شأنه الأب والقانون وكل من ينوب عنهما؟ ما معناه؟ من يقرّر معناه؟ هل يحاول القانون حتى أن يُسمِّي أفعال خدش الحياء؟ هل يقارب الدقة ويعدّدها؟ وهل يكمن عدم الحياء في التسمية، في اللغة؟ هل يرتبط الأمر بالفعل ذاته أم باللغة المستخدمة في وصف الفعل؟ هل الأمر أنه في الفصل (أو المقال!) الذي يُحاكَّم يُعطِي بسام (الشخص الخيالي، الراوي غير القانوني، الذي لا يعرفه القانون) أكثر مما ينبغي من التفاصيل، أنه أكثر دقة مما يجب أن يكون، أم أنه يأتي أفعالاً تثير القلق لأنها تفسد هناء الحياة في كيتش الصفاء، أفعالاً لا تتصف بالحياء، وبالتالي يشجع آخرين على إتيانها؟ ما الجاذبية المفترضة لأفعال يفترض القانون ذاته أنها تسبب ألماً للقارئ، تخدش شيئاً جوهرياً في تكوينه السليم النقي؟ ألا يجب أن يكون تأثيرها هو النفور؟ ألا يجب أن تثير تلك الأفعال غثيان كل قارئ؟ ألا يجب أن يتألم أنفه وتصله رائحة سيئة، فيرفضها؟ أليست السعادة على أي حال هي تجنب الألم؟ أم هل يفترض القانون أن كل من يأتي تحت سيطرته يميل، بالطبيعة البشرية، نحو الانحراف؟ وما هو “الانحراف” إن كان القانون يفترض تحديداً أن كل ذات تخضع له منحرفة مسبقاً وتحتاج إلى حماية، تستوجب أن يضعها القانون تحت نظرته؟ هل يحمي القانون ذواته من أنفسهم؟

في ذلك الفصل الذي نشر الفوضى وأشعل النار في الهشيم، ينزل بسام على المرأة التي يقابلها في شقتها. يقترب بأنفه من أعضاءها الخاصة، من تلك الأجزاء التي يهتم بها القانون كثيراً. يقترب بشفتيه ولسانه منها، وبأنفه أيضاً، من أجزاء تصدر عنها مخلفات الجسد، مما يجب أن نبتعد جميعاً عنه، وننكره. يشم منها ما يهدّد الحضارة، ما يتعين أن يكون مكروهاً. يأخذ هيئة الحيوان الجاثي، على أربع ربما، ويبتعد عن القانون. هل ما يجده القانون إشكالياً هو أن بسام فعل ذلك أم وصفه، تحديداً أنه وصفه بألفاظ صريحة؟ هل كان الأمر ليختلف إن استخدم لغة أخرى، إن استخدم مجازات مدرسية، تقترح ولا تصرح؟ ماذا عن: “وتحركت نفسي بالشهوة فأعطيتها الجنس الفموي؟” أم هل سيروق للمحقق أكثر إن قال: “ثم استولى الشر على نفسي، فارتشفت رحيقها الأنثوي، فتحركت داخلي شهوة فانية، وأسكرتني لذة زائلة، فصرنا حيوانين أو أدنى، ومت، في نهاية المطاف، لأن هذا الرحيق، عزيزي القارئ، ليس سوى سماً؟” هل سيخدش مثل هذا القول حياء شخص ما، هل سيتحول بسام، لا إلى ذبابة، بل لنحلة مخلفاتها عسل؟ (بالمناسبة، أحد المجازات الكيتشية الساحرة حقاً تصف ما اقترب منه بسام، وحدد اسمه، بـ”الوردة” أو “الزهرة”).

كيف نواجه مثل هذه المتاهة التي تُدخلنا فيها بيروقراطية القانون؟ أو كيف نحاول أن نخرج منها؟

في مواجهة القانون وتجاوزاته ومحاكماته المتكررة لأعمال إبداعية، ثمة إغراء براجماتي في أن نضع الأمر بأكمله في زاوية “محاكمة الخيال”، الافتراض المبدئي هنا هو أن القانون، على عكس الأدب، يخلو من الخيال ولا يفهمه، ولهذا لا يستطيع أو ليس من حقه أن يفرض قواعده على ما يأتي عن نشاط بشري (يوصف، إعلاءً لقدره، بـ”الإبداعي”) ليس بمقدور القانون، بسبب طبيعته، أن يتفهمه.

لكن هل يخلو القانون من خيال حقاً؟ من أين يأتي إذن إن كان كذلك؟ وكيف له أن يعبّر عن نفسه؟ هل له قصة أو تاريخ يمكن أن يُحكى؟ وماذا عن لغته، بل وماذا عن المجازات التي يستخدمها لوضع أوامره ونواهيه، “خدش الحياء العام” على سبيل المثال في مادة القانون التي يُحاكم بمقتضاها أحمد ناجي أحمد حجازي؟ ما معنى الخدش هنا، في القانون وفي الأدب؟ وما الذي يمكن أن يُخدش؟ الجلد، الزجاج، القانون، الحياء، المرآة مجاز الفن؟ أي مجازات يمكن أن تُخدش؟ وهل يمكن أن يفكّر القانون في لذة الخدش، في ارتباط ما محتمل، قد يحدث، بين اللذة والخدش؟ أي فكرة يحملها القانون عن اللذة وتاريخيتها والقانون الأخلاقي كما يتحدث عنه فرويد على سبيل المثال؟ وما هو “الحياء” سوى إن كان خيالاً، مفهوماً تاريخياً يتكون في سياق معين وتاريخ محدَّد. نفس الأسئلة من الممكن طرحها بخصوص مفهوم العام/العمومية. ما الذي يمكن أن يوصف بالعمومية؟ من يقرر ذلك؟ من يقيس النسبة؟ أي جماعة متخيلة، طبقية أو مهنية أو عمرية، تنطبق على معاييرها مفهوم “العام”؟

لدفوعات من قبيل “لماذا يُحاكم الخيال؟” أو “لماذا يأخذون الكلام إلى المحكمة؟”، لبراءة دهشتها، وقوة استنكارها، جدواها على المدى القصير فقط، كجزء من رد فعل مباشر، كأفعال سجال. تواجه القانون بما يعرفه أكثر من غيره: عبارات واثقة من نفسها، تبدو واضحة، لكن تنقصها الدقة. هنا تكمن فاعليتها، ومحدوديتها أيضاً. إنها تقابل القانون على أرضه، في نطاق أساطيره عن ذاته، على عكس كافكا مثلاً، من يأخذ القانون خارج ذاته، إلى فضاءات غير مألوفه له، وبالتالي يزيحه، يأخذه بعيداً عن ما يألف، يُلقي به في فضاء غريب عليه.

القانون، هكذا توضح الكثير من قصصه وأمثولاته، أمر شديد الغموض. في أمثولته “أمام القانون”، على سبيل المثال، يأتي رجل من الريف كي يدخل إلى القانون. يجد بوابة وحارساً لا يمنعه بالضرورة من الدخول لكنه ينصحه بالتريث. يخبره إنه رغم قوته هو الظاهرة، فهو أقل حراس القانون شأناً، وأن في الداخل، أمام كل بوابة، يوجد حارس آخر أكثر قوة منه، حتى أنه هو نفسه يخاف من مجرد النظر إلى الحارس الثالث. ينظر الريفي إلى الحارس، إلى “أنفه الطويل الحاد” (يلاحظ ديريدا في مناقشته لأمثولة كافكا، التي تحمل نفس عنوان الأمثولة، دور الأنف عند فرويد في تطور فكرة القانون الأخلاقي وانتصاب قامة الإنسان، وبالتالي ابتعاد أنفه عن رائحة أعضاءه الخاصة )، ويقرر أنه من الأفضل أن ينتظر حتى يحصل على إذن صريح. ينتظر الريفي إذن لأيام وسنوات، يحاول كثيراً أن يحصل على ذلك الإذن، يرشي الحارس حتى لكن الأخير يقبل الرشوة قائلاً إن ذلك لن يغيّر من الأمر شيئاً وإنه يقبلها فقط كي لا يظن الريفي أنه قد أغفل شيئاً كان في وسعه فعله. يصل الريفي إلى درجة عاليه من الضيق حتى أنه يلتمس العون من البراغيث في ياقة معطف الحارس (وكان قد عرف كل شيء يخصه من طول التحديق فيه). لكن لا يبدو أن ذلك قد غيّر من الأمر شيئاً، فالبراغيث، كما نعرف، مثلها مثل بقية الحيوانات، ذوات غير قانونية ولا يمكن أن تساعد مع حارس للقانون. حين يقترب الريفي من نهايته، ويبدأ جسده في التداعي، يسأل الحارس كيف لم ير أي أحد آخر يأتي هنا مع أنه من المعروف أن الجميع يود الدخول إلى القانون، ليخبره الحارس أن تلك البوابة له هو فقط، وأنه في سبيله لإغلاقها.

توضح أمثولة كافكا تناقضات جوهرية في القانون الذي يتعين فهمه هنا على أنه القوانين على إطلاقها: المحددات الأخلاقية، الشرائع، القوانين المكتوبة، المحاكم، الأعراف، الحياء العام، الخ. رغم أن القانون يدعي الشمول والعمومية فإنه غير متاح لمن يقعون تحت حكمة. هو فضاء يقع خلف بوابة يحرسها الخوف. القانون، إن تخيلناه كمكان، كجغرافيا يحوطها سور، مغلق أمام من يُطبّق عليهم، لا يمكن دخوله. هو فضاء فارغ، يقع، يختبئ ربما، وراء بوابة أمامها حارس لا يمنع أحداً من الدخول، لكنه يرهبهم.

بما أن القانون يحتفظ ببوابته مفتوحة لكن مع وضع حارس أمامها يثير الرعب، فإنه يطمح دائماً إلى إخفاء أصوله وتاريخه وتاريخيته. يرغب لذاته أن تبقى سراً مصوناً، لغزا غامضاً أمام كل من يأتي لدخوله. تشكل بيروقراطية القانون، ممثلة هنا في أدنى أفرادها شأناً، لغزاً ومتاهة إذن، مؤسسة ضبطية عقابية لا يمكن، وهذه إيماءة منطقية كفكاوية، سوى الاستعانة عليها بما لا ترى، ما لا يمكن أن ترى: براغيث ياقة المعطف وأشباهها من الذوات غير القانونية. ربما يمكن هنا أن نفهم أحد الجوانب الهامة للظهور المتوارد للحيوانات، وللتحول بين الأنواع، في قصص كافكا: إقلاق الحدود بين الأنواع، بين الإنسان والحيوان، (كما في قصة “التحول” على سبيل المثال)، هو فعل ضد بيروقراطية الدولة والقانون. على عكس عالم ما قبل الدولة الحديثة حيث نقابل الكثير من قصص التحول (في ألف ليلة وليلة مثلا )، يرعى عالم الدولة الحديثة، وبيروقراطيتها وقانونها الحدود الصارمة التي تفصل بين الأنواع. لقد أصبح الفرد ذاتاً قانونية مسجلة باسم محدد، أصبحت له هوية ثابتة، غير قابلة للتغيير، وإلا استدعى الأمر عقوبة ما على انتحال هوية أخرى. لقد جاء القانون كي يضبط الفرد وخياله، كي يرعى الحدود.

غير أن خيال القانون عن نفسه لا يسمح بمثل هذه التأملات، وهذا ربما مصدر قوتها المحتملة. في فكرته عن ذاته، لم يأت القانون أبداً، فهو لم يكن غائباً في أي وقت. إنه مجرد إقرار لقواعد مقبولة سلفاً، ولا يحدث سوى أن “البشرية” ترتقي وتدركها. هكذا يدّعي القانون أن لا تاريخ له، أنه خارج التاريخ، وفي نفي تاريخيته، يكّون خيالاً لنفسه ككيان يخلو من الخيال. ذلك أن الإقرار بتاريخ ما للقانون يجرده من طبيعيته المفترضة. يأتي القانون، هكذا علينا أن نعتقد، أو هكذا يريد لنا القانون أن نعتقد، ليس نتاج لحظة تاريخية ما، وبالتالي كنتيجة لأفكار سائدة، وأشخاص مؤثرين، وطبقات مهيمنة، وصراعات سياسية واجتماعية تنتمي تحديداً لتلك اللحظة التاريخية. يأتي القانون، بالأحرى، ويمثل إقراره، إدراكاً لما يُفترض أنه مفهوم بالبديهة، وبالحس العام الفطري السليم. هكذا، يمنع القانون “خدش الحياء” خارج أي تاريخ—على سبيل المثال تاريخ المجتمع المصري، أو تاريخ فكرة “المجتمع” ذاتها والفضاء العام والرأي العام، أو تاريخ التحليل النفسي، أو تاريخ ترجمة فرويد إلى العربية، أو تاريخ الآباء القانونيين ورحلاتهم إلى قوانين الحداثة، أو تاريخ الأنف والحضارة والابتعاد عن الأعضاء الخاصة، أو تاريخ الرغبة والروائح والمذاقات ولذة اللسان، ما يفعله، ما يمسه، وما يخرج عنه، حركته فوق أجزاء خاصة من الأفضل، مصرياً، أن لا تكون موجودة من الأساس، أن يُتطهّر منها. يوضع المفهوم أيضاً خارج أي تاريخ ممكن للخوف، والشعور بالذنب، والاقتراب من الموت، والوقوف في مواجهة حارس مخيف، في يأس، أمام بوابة القانون.

هكذا فإن تمرير قانون ما، قانون الحياء على سبيل المثال، يبدو كأمر شبيه بوصول المخلص في الأديان الخلاصية بصحبة القانون. القانون الذي يأتي به، مرة أخرى هكذا يقدّم نفسه، ليس قانوناً تاريخياً، بل ناموساً. ظهور المخلص حدث كوني ينهي صراعات البشر، ويعلن ما هو معلوم بالضرورة للفطرة البشرية السليمة ولا يُنكَر سوى بحس فاسد. على نفس النحو، يعتبر قانون البلاد نفسه إقراراً لحس سليم، لاتفاق عام لا يخرج عنه، ولا يرفض حكمه سوى من تنتفي عنه صفة ما من صفات النفس البشرية السوية. المشكلة هنا أنه، كما يقول كافكا أيضاً، “لا يأتي المخلّص في اليوم الذي يأتي فيه، بل في اليوم التالي.” في ذلك اليوم التالي، يتعرض القانون لسؤال الزمن والتاريخ.

لمواجهة عنف القانون، يحتاج المرء إذن، على المدى البعيد، أن يضع في اعتباره الطابع المشترك لكل من الأدب والقانون: كلاهما عينه على الآخر، كلاهما ينتمي لعالم خيال البشر، ويتبدى في لغتهم، ولا يمكن تخيله خارجها. إذ ما هو القانون بدون نصه، بدون الكلمات المعبرة عنه، بدون مجازاته، وبدون المعاني الآنية للكلمات التي يستخدمها للتعبير عن مواده والتي يعرفها “القاصر قبل البالغ”؟ وما يمكن أن تكون أي محاكمة بدون لغتها: تحقيقات النيابة، الدفاع، الاتهام، الأدلة، الدفوع—أي بدون النصوص اللغوية المكتوبة والمتداولة والمعتمدة على اللغة التي تقوم بدورها على المجاز والخيال؟

هكذا فإن للقانون لغة وخيال يختص بهما. كان دائماً كذلك، وسيكون هكذا حاله دائماً في أي مستقبل منظور. للقانون مخيلة إذن سيدعي دائماً خلوه منها، تحديداً كما تدعى الرواية الواقعية الكلاسيكية خلوها من الخيال فتقدم نفسها كنتاج الحياة الواقعة ذاتها، لا كضرب من ضروب خيال مؤلف ما. أي أن كل منهما يؤسس سلطته على نفي خياله هو بالذات. التناقض إذن بين القانون والأدب، وكل أدب يستحق الاسم، يخرج، بطريقة أو أخرى، على القانون، ليس في وجود الخيال من عدمه. فعلى أي حال، في سياق الأدب المصري الحديث كان العديد من أبرز شخصياته المبكرة إما محامين أو دارسين للقانون (المويلحي، هيكل، توفيق الحكيم )، وبعض أهم الروايات المصرية في القرن العشرين (حديث عيسى بن هشام، يوميات نائب في الأرياف، اللص والكلاب، السؤال) تحدث على هامش القانون. لا تكتب قصته بالتأكيد، بل تسائله، تطرح قصة عنه، أسئلة جوهرية لا إجابة لها، ولا رد عند القانون عنها.

الأدق، إذن، أن نقول إنه إن كان هناك تناقض جوهري فهو بين القانون ونوع معين من الأدب تنتمي إليه بالتأكيد رواية أحمد ناجي، وهو نوع مُهدِّد (ومُهدَّد أيضاً) ومقلق بسبب طبيعته ومغامراته الشكلية، بسبب تجاوزه للتقاليد، الأدبية والاجتماعية، وانتهاكه للغة المستقرة في عمومها، بمجازاتها العمومية، وليس فقط كوسيط للأدب—تلك الأداة الرفيعة لتهذيب قراء الطبقة الوسطى، وصقل معرفتهم بـ”المجتمع” المصري، كما تخيل الآباء القانونيين الأوائل وظيفة الأدب.

هكذا، يختلف القانون والأدب في نوعية الخيال الذي يعكسه كل منهما، وفي الإمكانات الكامنة التي قد يكون لهما أن يفتحاها: بينما يمثل القانون انغلاقاً، نفياً، ترسيماً لحدود، عقوبة، نظاماً وضبطاً، سجناً وغرامة، يثير الأدب القلق، يطرح أسئلة بدون إجابات، وينقصه ذلك الذي يبدو أن كثيرين يقدرونه تقديراً لا يخلو من هوس: الوضوح. الأدب ربما هو السعي وراء الدقة بدون وضوح، وربما، مغامرة ضد الوضوح كإيماءة سوقية.

دعونا إذن نتحدث عن ذباب آخر غير ذباب القانون.

في “استخدام الحياة”، لا يسم الذباب نفس الوضوح الذي يبدو عليه في لغة المحقق. إنه ليس ذباباً حتى. ليس فقط لأن الأمور معقدة ولا شيء هو ما يبدو عليه ظاهرياً، بل أيضاً لأنه، في حقيقته (حقيقته؟) آلات لها شكل الذباب، اخترعها عالم كي تنظف، تحديداً، هراء البشر. إن راق لنا مد المجاز لأبعد قليلاً (قليلاً جداً) مما يحتمل، يمكن أن نقول أن تلك الآلات الذبابية هي الكيتش وضد-الكيتش في آن واحد، هي سر الأدب الذي لا يمكن للقانون أن يتفهمه: إمكانية التشوش والخطأ والفشل في التفسير، الانفتاح على أكثر من إمكانية وحيدة للفهم، بعبارة أخرى: غياب القانون وحضور حرية النص في ألا يكون له مسار واحد مستقر ومحدد سلفاً.

ذباب ناجي هو إدراك وجود الهراء، الإقرار به، ملاحظته، الاعتراف بحدوثه، كوجود في العالم، كأمر دوري متكرّر يوجد ويخرج من آلة الجسد، وفي نفس الوقت محاولة التخلص منه، محاولة الوصول لطهارة ما بدون تورط شخصي، عبر آلة أخرى تتحمل مسئولية التعامل مع مخلفات البشر، كجزء من المسعى غير المجدي نحو التخلص من الهراء، من تجنب التعامل المباشر معه.

تبدو ذبابات ناجي كأمثولة بطبيعة الحال، في ذاتها وفي شكل ظهورها في نصه. هذه صدفة سعيدة بكل تأكيد بما أنني أكتب هذا في ظل كافكا، بأمثولاته وحيواناته، بشبحه في الخلفية، ليس فقط لأنني استدعيته كثيراً، بل لأن كل تفكير في القانون، كل دخول إلى بيروقراطيته، وكل متاهة بسببه، تستدعي كافكا، كعون أو كأمثولة.

يأتي ذباب النص الروائي من لا مكان إذن، كضيف تقريباً، إلى فصل داخل الرواية. يأتي من نوع فني آخر، من فن خارج الرواية ذاتها، كفيلم قصير، أو فيلم رسوم متحركة داخل متن الرواية. يمثل الذباب خيالاً إذن داخل خيال.

غير أن الآلة الذبابية ليست آلة تماماً، لقد أصابها ما يهدّد الآلة دائماً ويمثل كمالها الأقصى: الشعور بما يشعر به البشر. في الفصل الذي يبدأ بالاقتباس “سكت الهوى والناموس طار”، الفصل اللاحق للإقرار بأننا “معلقين على شفا هاوية غير معلومة” بسبب نقص المعرفة، وربما استحالة اليقينية، تذهب ريم (الصديقة الحميمة الأولى التي يحكي بسام في ظهوره الأول قصة انفصاله عنها) إلى مطعم ماجو بعد أن تلقت رسالة غامضة ظنت أنها من بسام. هناك، تجد نفسها في قاعة سينما صغيرة، وبعد سلسة أخرى من الغرائب التي لا يمكن فهمها يبدأ الفيلم الذي تقدمه الرواية مصوراً. عنوان الفيلم هو “الرقصة الأخيرة لذبابة الإست الزرقاء”. لن نعرف أبداً رد فعل ريم عليه، ولن تذكره الرواية مرة أخرى، هذا مع الأخذ في الاعتبار أننا نفترض أنها رأته، في الحقيقة دون أي سبب مقنع سوى أن هذا الفصل يأتي بعد دخول ريم إلى قاعة سينما. هو قانون التجاور إذن ما يجعلنا نفترض ذلك. كم من خطأ نتج عن استنتاجات شبيهة! لا، لا نعرف العدد المحدد لتلك الأخطاء، لكنها لابد أكثر من أن نتمكن من عدها. نعرف حتى أن القانون ذاته يصل لأخطاء بسبب استنتاجات مشابهة، وأننا يجب أن نحترس مما يبدو منطقياً، ويخص “الحس السليم”: يحكي لنا راوي محايد ليس بسام أن ريم تدخل إلى قاعة سينما صغيرة. تحدث غرائب. ينتهي الفصل. ثلثي الصفحة خالية لا كلمات فيها. نقلب الصفحة. نجد صفحة أخرى خالية بخلفية داكنة. في مقابلها صفحة أخرى لها نفس الطابع لكنها تحمل عنواناً، أو ما يبدو أنه عنوان: “الرقصة الأخيرة لذبابة الإست الزرقاء”. ها هو راوٍ أكثر تهذباً من بسام! يقول “الإست.” نجد أيضاً صورة لذبابة، داخل إطار يشي بأهمية ما. هل سنتعاطف مع الذبابة إذن؟ ندرك، أو نستنتج، من العنوان أنها رقصتها الأخيرة، وحين يقال ذلك يُقصد عادة أن يُشار إلى ألم ما، إلى نهاية مؤسفة، والنهايات محزنة بالتأكيد حتى إن لم تكن مؤسفة. وفي نهاية الفصل السابق، كانت ريم في قاعة سينما تجعلنا نفترض تتابعاً ما، رغم التغيّر الذي طرأ على منظورنا. لقد تغيرت عيوننا: من عين الراوي المحايد الذي ليس بسام إلى عين ريم. سوف نرى تلك الرقصة الأخيرة لذبابة الإست الزرقاء كما رأتها ريم إذن، سنستعير عينيها رغم أننا لن نتأكد أبداً إن كانت قد رأت بالفعل ما سنراه نحن.

على مدى صفحتين فقط نرى قصة صعود وانهيار ذبابة الإست. إنها أمثولة عن إنسان المستقبل، أو عن إنسان الحاضر. ربما أمثولة عن الآلة، أو عن البحث عن السعادة، والتعثر في الألم. هي، ربما، أمثولة عن مبدأ اللذة وما وراءه.

“الرقصة الأخيرة . . .” هي قصة عن ذكر الإنسان وذكر الذباب، عن ذكور الكائنات تتفرج عليها امرأة من الماضي تُدعى ريم، وهي هناك لأنها تلقت رسالة هاتفية من ذكر ليس من المستقبل.

“تمكن إنسان المستقبل من المعرفة. صور له غروره تحدي الله، وصنع ذبابة.” (٣٠)

إنها أمثولة عن كارثة بكل تأكيد. صنع ذبابة! يتحدى الرب ذاته! لقد سبق أن تحدى الربُ الناسَ في أمر يخص الذباب، يخص خلق الذباب: “يا أيها الناس ضُرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب.” (الحج، ٧٣) يمكننا، رغم ما يشاع عن كثرة الإلحاد في هذا العصر، يمكننا أن نرى أمثولة “استخدام الحياة” كامتداد للأمثولة القرانية، مع تباعد المكان والمقدرة بالتأكيد، فهي، كما سنرى، تؤكد على فشل الصناعة، على أزمة ما تسبب فيها إنسان المستقبل وقادته إلى الهلاك على يد ما صنع. الغرور يقتل، كما نعرف!

ثم فجأة تحدثنا ذبابة. هذا غريب بالتأكيد فمتى كانت آخر مرة حدثتك فيها ذبابة؟ نعرف، ويؤكد القانون ذلك، أنه قد يتحول أحدهم إلى ذبابة، أو يصبح كـ/مثل الذباب، فيرفض قبول الكيتش المريح، ويتسبب في أن تعم الفوضى وينتشر النار في الهشيم. ورغم أن أغلبنا قد لا يعرف بالضرورة ما هو الهشيم، نفهم أنه شيء جيد عكس النار التي تنتشر فيه، وأنه لولا الذباب ما انتشر فيه. نعرف كل هذا بالطبع. لكن أن يحدثنا الذباب! لكن، ربما يمكننا أن نطمئن على الهشيم، لأننا نعرف أيضاً أنه حين يتحدث حيوان ما، نكون قد دخلنا في المجاز، نكون قد تعاطيناه، ودخلنا في وعيه الخاص، لهذا نفهم أننا على وشك مقابلة الحكمة.

“أنا الذبابة الذكية. لدي عقل إلكتروني مميز، مهمة دائمة. أنظف مؤخرة صانعي بعد التبول.” (٣٠)

إنها ذبابة مهذبة أيضاً، تتخيّر كلماتها، وتقول “مؤخرة” لا أي كلمة أخرى بذيئة (لكن حين تغضب في بقية الأمثولة تقول ما هو بذيء على أي حال، نعرف ماذا يفعل الغضب في الآلات الذكية). غير أن هذه الذبابة الآلية المهذبة عرضة للخطأ: تخلط بين التبول والتبرز. أو ربما من شدة تهذبها رأت أن قول “التبول” أخف وطأة على الحياء من قول “التبرز”. لكنها في المقام الأخير، ولنحمد الرب، ذبابة آلية. ليست ذبابة. نعرف من الآية المذكورة سابقاً أن لا أحد يستطيع أن يخلق ذبابة. قد يصنع، لكن ما أبعد الصنع عن الخلق!

على أي حال، لقد تسببت وظيفة تلك الآلة الذبابية، في موت زوجة “يوهان”، وهو، على ما يبدو، واحد من شعب الذباب الآلي. تقول الزوجة: “ما تسبنيش يا يوهان، أنا بموت . . بحبك، بحبك، بحبك.” سينتهي الأمر بكارثة. نعرف هذا من الأفلام الأجنبية عن نهاية العالم. آلات الذباب تقع هكذا في الحب. هذه هي الأزمة التي يخشاها البشر وتلح عليها تلك الأفلام الأجنبية. يصنع بشري ما آلة ذكية، فتكتسب صفات من التي تميز البشر، وتُعيد إنتاج أزمته. لقد أدت بقايا الخراء التي ينظفها الذباب إلى “تشوهات، أدت لتدهور العلاقات الزوجية ثم الوفاة”. وفاة الآلة. أمور غريبة تحدث بكل تأكيد. إنه الحب والزواج والموت كما يقع في شعب الذباب الآلي. يلي هذا مشاعر بشرية أخرى: غضب الذباب، غضب كل يوهان لموت من يحب، وانتقامه من البشر. كانت المعركة قاسية كما نرى في اللوحات، لكن الذباب انتصر في النهاية. انتصر، وقضى على البشر، بل أنه أتى ما يأتيه البشري المنتصر: محى وجه المهزوم ووضع وجهه هو، على معابد وأعمال فنية. غير أنه أصيب في النهاية. أصابه الانتصار في مقتل مجازي، تحديداً بسبب الانتصار الذي يستحق الوصف الأدبي غير المنطقي: “انتصار آخر مثل هذا وينتهي أمرنا تماماً”، بل أن ذلك الانتصار كان هو “الانتصار الآخر مثل هذا” الذي يُنهي الأمر. لقد أدى إلى نتائج كارثية على المنتصر، على المنتقم. أُصيب الذباب الآلي بالاكتئاب لأنه لم يعد يجد ما يفعله، لم يعد يجد ما صُنع من أجله ويعطي حياته معنى ما: لقد اختفت مؤخرات البشر. هذا أمر منطقي، يقره الحس السليم: إذا اختفى البشر، اختفت مؤخراتهم معهم بالضرورة. هكذا، الذباب يصاب بالاكتئاب والسأم بسبب ذلك الذي كانت خطته أن يتخفف منه بالذات.

أي أمثولة هذه؟ ماذا تقول لنا؟ ماذا تعني أن تقول؟ هل تحمل لنا شيئاً ما يخص السعادة؟ يخص الرغبة في السعادة؟ مبدأ اللذة أم دافع الموت؟ يخص الهنات الصغيرة التي تصيب البشر؟ عن الانتقام وما يجلبه من نصر يخسر عبره المنتقم، نصر يقود إلى اكتئاب وملل—وهو، أي الملل، في قول جياكومو ليوباردي، ليس سوى “الرغبة في السعادة متروكة في حالتها النقية”؟

ربما، هذا، في نهاية اليوم، ما يفصل الأدب عن القانون: الاحتفاء بالفشل لا عقابه.

—— —

نشر المقال أولاً في مجلة عالم الكتاب عدد يناير 2016
 
أعلى