صلاح نيازي - قراءة في قصيدة قديمة.. شيء من: " قفـا نبكِ"

تقتصر هموم هذه القراءة الوجيزة، على الأبيات الأحد عشر الأخيرة، من معلقة امرئ القيس :قفا نبك، أيْ من :"أحارِ ترى برقاً"، نأمل على ضوئها أن نقف على بعض تقنيات هذا الشاعر المفطور، وما سرّ ثرائه، وكيف يؤثث تكويناته الشعرية النادرة، حتى ليصدق الحدس أنه من أكثر الشعراء تنوعاً، وإيقاعاته نفائس.

بحر الطويل بين يديه حتى بصيغته الشائعة:: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) وكأنه يخترعه لأوّل مرّة ،ففيه طعم الجدّة . أمّا إذا استعمله بصيغته الكاملة، أيْ : فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ":ألاعمْ صباحاً أيها الطللُ البالي" فأنتَ أمام قمم موسيقية تأخذ صفاتها من مساقط مياه الجبال. وجبال امرئ القيس دائمة التغير، موفورة الشيات.

قبل الدخول في متاحف هذا الملك الظليل، قد يكون من المفيد التنويه بما ذكره الشاعر الأمريكي إزرا باوند عمّا يجعل القصيدة أكثر تأثيراً. يرى هذا الناقد أنه من الأفضل للشاعر إنْ هو حلّق وأغرب وشطّ به الخيال لا بدّ له من النزول إلى الواقع بصور شعرية محسوسة وواقعية وقريبة. أيْ تلمس لمس اليد.

لا أدري هل قرأ باوند ترجمة قصيدة قفا نبك فتوصل إلى ذلك الاستقراء الذي يتجسد أكثر ما يتجسد في هذه المعلقة الشامخة. براعة التشبيه فيها لا يجاريها إلا براعة التشبيه في ملحمة كلكامش. (ترجم السير وليم جونز، المعلقة، لأول مرّة إلى اللغة الإنكليزية، عام 1783، وكان قاضيا وفيلسوفاً ومترجماً من عدة لغات آسيوية منها الصينية والفارسية والسنسكريتية، بالإضافة إلى اللغتيْن العربية والعبرية).( ولا يفوتنا أن نذكر ترجمة تشارلز لايل التي نشرها عام 1877).

في الأبيات الأحد عشر الأخيرة من قفا نبكِ تصحّ نظرة باوند عملياً كما سنرى.

تبدأ الأبيات:

أحارِ ترى برقاً كأنّ وميضَه

كلمع اليدين في حبيّ مكلّلِ

( الحبا : السحاب المتراكب القريب من الأرض. مكلّل : متراكب. لمع اليدين: حركتهما وتقليبهما)

يبدو أن امرأ القيس بصيغة النداء :" أحار ترى برقاً"، لا يخاطب إلا نفسه وهي مثل صيغة المنادى في مطلع المعلقة :قفا نبك وكأن شخصيته انشطرتْ نصفين من هول ما رأى. عدم وجود صاحب آخر معه يجعله يتحمّل المأساة وحده، أي ما من مواساة، وهذه حيلة فنية بارعة، لتضخيم الحدث. وهي نفس الحيلة الفنية التي استعملها شكسبير، فكل الفتيات في مسرحياته، ما عدا واحدة، بلا أمهات حتى لا يتحملْنَ عنهنّ همومهنّ.

نرى مثل هذا الانشطار في شخصية بروفروك في قصيدة تي. أسْ. إليوت الشهيرة بهذا العنوان :

Let’ s go then you and I:

(لنذهبْ إذن أنا وأنت)

المعروف أن بروفروك شخصية مترددة وخجول لا يجرؤ على محادثة النساء. وها هو الآن يستجمع شجاعته ويحثها على النزول من الطابق العلوي ومواجهة النساء اللواتي كنّ ينتظرن في الطابق الأرضي. شخصية منشطرة.

شبّه امرؤ القيس وميض البرق في الغيوم المتراكبة وهي بعيدة ، بحركة اليدين وتقليبها وهي قريبة ملموسة. ما يجمع الصورتين أيضاّ شرايين البرق بشرايين اليد من حيثُ التمدّد والتشعب.

يبدو أن البرق كان متواصلا ،لذا استطاع أن يرى الشاعر تراكب الغيوم، لا عجب أنْ أسماه في البيت التالي : ألسنا.

يضيء سناه أو مصابيح راهب

أهان السليط في الذبال المفتّلِ

(السليط : الزيت.الذبال : الفتائل. أهان السليط : أي كثّر من الزيت.) شبه الشاعر كما هو واضح امتلاء الغيوم بالماء والنار، بامتلاء الفتائل بالزيت والنار.أغرب تعايش بين متناقضيْن: لا الماء يطفئ النار، ولا النار تجفف الماء.

لم يكنْ راوية القصيدة، لَيبدو عليه الفزع، وهو يصف المشاهد الهائلة. ما من ردّ فعل مهما صغُرتْ. الطبيعة تمارس طبيعتها حتى وإن بدتْ في أعتى حالاتها دماراً. إنها في هذه الملحمة غير مجنّدة بيد آلهة سماوية. كما فعلت آلهة سومر السادية لاجتثاث الإنسان.

مهدت ملحمة كلكامش لهذه القيامة بغيمة سوداء أحالت النهار ليلاً. ثمّ بدأت رعود " أدد" وبروقه وزوابعه. الإله "لوكال" ينزع الأعمدة، الإله "ننورتا" يفتق السدود، "فتحطّمت البلاد الفسيحة كما تتحطّم الجرّة". في أثناء ذلك انهدّت الريح وزوابعها العمياء:

ففتكت بالناس كأنها الحري العوان

وصار الأخ لا يبصر أخاه".

عادت هذه المعركة الكاسرة من جديد في مسرحية الملك لير ولكنْ في لبوس مختلف. وصف حد المرافقين حالة الملك، بعد أن ألقته ابنتاه في العراء:

"السماء الغاضبة تخيف حتى الحيوانات الوحشية الليلية، وتجعلها حبيسة في كهوفها. منذ كنت شاباً لاأذكر أنني سمعتُ أو رأيتُ أبداً، غزارة بروق كهذه، ولا لعلعات رعد كهذا، ولا مناحات ريح ومطر هادريْن كهذه..."

ما من رعد في سماء امرئ القيس. ما من ريح . ولا أثر للآلهة.كان راوية القصيدة متأملاً، بلا انفعال، وكأنه في مختبر. قال امرؤ القيس:

قعدتّ له وصحبتي بين حامر

وبين إكام بُعْدَ ما متأملِ

( قعدت له أي للبرق أنظر له من أين يجيء. حامر وإكام : موضعان.)

ليس في البيت أية إشارة لأيّ معركة. سرّ الطمأنينة يكمن في كلمة متأمل، وهي كلمة خالية هنا من الخوف أو الشعور بأي صراع.

بعد البرق جاءت مرحلة انصباب الماء:

وأضحى يصبّ الماء بعد كلّ فيقة

يكبّ على الأذقان دوح الكنهبل

(الفيقة :التوقف بين حلبتيْن. الكنهبل ما عظم من شجر العضاه. إذن المطر يتدفق ثمّ يتوقف، ثمّ يتدفق ثانية. قرّب الشاعر الصورة وجعلها محسوسة وذلك بتشبيهها بحلبة ضرع الناقة.

قال الشارح :" الفيقة ما بين الحلبتيْن، يريد أن السحاب يسحّ المطر، ثمّ يسكن شيئاً، ثمّ يسحّ وذلك أغزر له..."

لكنّ لعملية التدفق فالتوقّف فالتدفق بعداً نفسياً دقيقاً. التدفق الأوّل قد يؤدي إلى اليأس من الانفراج، ولكنْ ما أنْ يتوقف حتى يشعر المرء بالنجاة والطمأنينة. عودة التدفق ثانية تبات أقوى وأشدّ، وكأنّ الغيم كان يجمّع ما توشّل منه.

قد يكون من المفيد أن نذكر هنا أهم ميزات امرئ القيس في رسم الصورة الشعرية. فهو يستر الحدث ويهوّله بالقرينة. لا يفصّل في الدمار نفسه مثلاً لكن في آثار الدمار.

في البيت أعلاه لم يصوّر امرؤ القيس شدّة أو عنف السيل وإنما عرفناه من اقتلاع أضخم الأشجار والنخيل، وانكفائها على وجوهها. تأخذ هذه الصورة الشعرية منحى أدقّ، لأنّ الشاعر أنسن الشجر باستعمال كلمة الأذقان وهي كلمة بشرية، وكأنها سقطت على وجوهها، وبقوّة قاهرة. كذلك ، يتهول السيل في البيت التالي وندرك قوته وجبروته من القرينة:

كأنّ طميةَ المجيمر غدوة

من السيل والغثّاء فلكة مغزل

يبدو أن راوية القصيدة كان يقف على ذروة جبلية عالية. بهذه المنظورية الغريبة على الشعر العربي

استطاع أن يصف ما يدور في أسفل الجبال الأخرى.

هكذا كان يدور السيل حول جبل طميّة في أرض المجيمر وكأنه فلكة مغزل. الأماكن هنا لها مفعول التوثيق. نتلمس قوة السيل لا من الدوران فقط، ولكنْ بما جمّع من حطامات وركامات وحشائش و من غثّاء.

كالعادة قرّب الشاعر الصورة فشبهها بـ "فلكة مغزل"، والصورة حرفياً تلمس لمس اليد.

ينتقل الشاعر في البيت التالي انتقالة منطقية إلى الثياب فأنسن الجبل مرة أخرى وشبهه بكساء مخطّط.

كأنّ أباناً من أفانين ودقه

كبير أناس في بجاد مزمّلِ

إبان : جبل. البجاد : كساء مخطط. الودق : المطر. الأفانين : الضروب والأنواع".

أكثر من ذلك، نلمس عنف السيل من مرأى السباع وهي غرقى:

كأنّ سباعاً فيه غرقى غُدَيّةً

بأرجائه القصوى أنابيش عنصل

(الأنابيش : أصول الشجر. الغدية الصباح. العنصل :نبت بري يشبه البصل).

في البيت أعلاه أوّل إشارة لظهور الصباح بدليل كلمة :"غدية".

من ناحية أخرى فإن العنصل وهو كما قلنا أعلاه يشبه البصل أو هو البصل البرّي، كان يلعب به الأطفال ولعب الأطفال صورة نهارية كذلك.

لكنْ، ما هي التقنية التي استخدمها امرؤ القيس في توسيع الصورة الشعرية وهي من ميزات موهبته؟ لنتأمّل البيت التالي:

على قَطَن بالشيم أيمن صوبه

وأيسره على الستار فيذبل

يبدو أنْ ليس المقصود من ذكر هذه الجبال مجرد أماكن جغرافية وهي عادة من عادات القول الجاهلية، وإنما لتكبير حجم مساحة البرق أولاً والمطر ثانياً. لا سيما إذا عرفنا أن قطن جبل في بلاد أسد، والستار ويذبل جبلان مما يلي البحرين.

بعد انحسار الليل والمطر، نزلت الأوعال وأسماها الشاعر: العصم ، من كل مكان وأسماه الشاعر : من كل منزل. كلمة منزل هنا دقيقة السياق والتوقيت والدلالة لأنها دليل الأمان وتوحي وكأنها شبيهة بسكن بشري:.

فأنزل منه العصم من كل منزل

يقول الشارح :العُصم : الأوعال، والعصمة : بياض في أوظفة أيديها.

البياض هنا بالإضافة إلى دلالته النهارية هو اللون الوحيد في الأبيات أعلاه. لا أدري لماذا يشيع هذا اللون وكلمة منزل و بهذا التوقيت، الطمأنينة وتنفس الصعداء .

مهما دار القول، ثمة بيت مهم وطريف للغاية، أسقطته نسخة دار المعارف المصرية(1964) وأثبته الزوزني في شرح المعلقات السبع (طبعة 1961- مصر):

كأنّ مكاكي الجواء غدية

صبحن سلافاُ من رحيق مفلفلِ

(المكاكي ضرب من الطير .الجواء : الوادي. الصبح : سقي الصبوح, السلاف : أجود الخمر. المفلفل : ما ألقي فيه الفلفل.)

في هذا البيت إشارة أخرى للصباح، فخرجت هذه الطيور الضعيفة.

اختار امرؤ القيس طيور المكاني فأصاب صميم الدقة في التشبيه. فلو استمرّ المطر والسيل لتهددتْ حواصلها ونفقت جوعاً. فرحها إذنْ بالضعف لأن حياتها كانت معرضة للخطر.

بالإضافة إلى ذلك فإن طيور المكاكي هي الطيور الوحيدة التي تضع جناحيها على فمها وتصفر. لكن صفيرها اختلط هذه المرة بفرح ثمل مجنون. شبهه امرؤ القيس بمهارة عجيبة فجعله مخمورا بفعل السلاف وأكثر من ذلك أضاف إليه الفلفل فصعد الصفير إلى أعلى طبقاته انتشاء.


.
 
أعلى