إلهام كتاب - الذكورة المبعثرة والأنوثة المستعادة في روايات النساء العربيات

لا تزال المرأة العربية، بالرغم من المساحة المهمة والمتفردة التي تحتلها في كتاباتها الابداعية، تكتب وكأنها تعتذر، تفاجئ، تخبئ، تؤكد، تستلّ وقتاً لغيرها، توسّع مكاناً لها. ومنذ الغرفة الموعودة لفرجينيا وولف وكل امرأة منا تعد نفسها بغرفة تخصها، بمدى في البيت، في الشارع في الكون، يتطابق وأجنحة الحرية التي تتوق اليها.
لكن في المقابل – ونحن هنا في محور الأدب – تسجل المرأة العربية نتاجاً غزيراً متنوعاً ومتيناً، وخاصة في مجال الرواية والشعر والبحث، بالرغم من العقبات العديدة والكبيرة التي تحول دون إطلاق طاقات النساء الابداعية الى أقصى مداها. فالقمع في بعض المجتمعات العربية، حفّز بعض النساء على اطلاق صرخات ابداعية معبرة، ولكنها صرخات بالرغم من كثافة امكاناتها، تستنفد نفسها، وتعجز عن تحقيق ابداع متراكم متواصل يستطيع ان يتحصن دون أسر الواقع وقسوة التقليد.
والتلازم أساسي بين الحرية والابداع. فالحرية شرط أساسي للابداع، ومحاولات الابداع عند المرأة العربية كانت نشدان حرية/محاولة تحقق للذات/نافذة نحو الحرية المشتهاة. وبالتالي، فان الابداع النسائي، لم يظهر ولم يتطور ولم يجد حاضناً له، إلا في المجتمعات العربية التي تطور فيها مستوى التحرر الاجتماعي والفكري، وفي المجتمعات الدينامية القادرة على تقبل النقد واثارة التساؤلات. لذا لا يمكننا مقاربة موضوع الحرية وابداع المرأة إلا في ضوء تفاعل مسارين، مسار العلاقة بدينامية الواقع الاجتماعي والتاريخي والوعي النسائي، ومسار ظهور المواهب وتطور التقنيات الروائية.
ولكن أي نوع من الحرية استطاعت المرأة ان تنعم به في المجتمعات العربية؟ وأي مواقع ابداعية شكلت نوافذ تعبير لتوقها ولقدراتها؟
يمكننا اعتبار ان أكبر حيّز للحرية استطاعت المرأة العربية اختراقه هو في مجال العلم والمعرفة، العلم الذي فتح لها أبوابه "سوء تفاهم" تاريخي – انما ايجابي – بين ما يفهمه أهل التقليد وما يطمح اليه أهل الحداثة.
ولكن مجال الحريات القانونية بقي مقفلاً على تاريخه القديم. ومجال الحريات الاجتماعية، بقي في تنويعات المجتمع العربي الواسع، من اختيار نسق الحياة حتى اختيار أسلوب الثياب، المجال الذي يكتنز امكانات سيطرة وقمع، تقسو، أو تتقنع، أو تخبو نسبة الى مجتمعات عربية، نعمت أكثر من غيرها بنوافذ وسيعة بدّلت من هواء مجتمعاتها، ونوّعت في ناسها، أو تهجّنت بانفتاح العالم المعاصر واختلاط مقاييسه. لذا نستنتج ان حرية الذهن كانت أوسع من حرية المعاش. لكن هذا النوع من الحرية، أي المقدرة على اكتساب حرية الذهن والحلم، شكلت مسارب ابداع، حاولت المرأة من خلالها إقامة عوالم جديدة تشبه توقها. فكان الشعر، وكانت الرواية في البداية، نقضاً لواقع مرفوض، وانشاء لأفق حر أبيض جديد.
كانت الكتابة على بساطتها، عملية معقدة، موقفاً دفاعياً، إثبات وجود، إثبات مقدرة، متابعة ومثابرة. ولكن الكتابة لغة وكلمات ومفاهيم وذاكرة. فكان على الابداع الروائي النسائي ان يتكيف وينسجم مع أخلاقية عصره ومع تطور أسلوبه الأدبي، قبل ان يتحول الى شعلة جديدة تحاول بعثرة ذات ومجتمع لاعادة صياغتهما من جديد.
في المجال الأدبي اضطرت النساء أولاً ان يسرن في معراج التراث الكلاسيكي كي يؤمنّ اعترافاً بوجودهن وبرسالتهن وبأهمية عطائهن الأدبي، وفي المقابل اذا حاولنا ان ننظر – وللمقارنة - الى ابداع النساء في الفن التشكيلي لوجدنا اختلافاً كبيراً تجلى منذ نقطة الانطلاق، وفي المرحلة التاريخية نفسها، ربما بسبب عبء المرجعية السابقة للأدب، ووضوح التعبير الأدبي حيال رمزية اللون وتعبيريته. ومع ان الانتقال يتشابه في الحركة التاريخية، من الحكي الى الكتابة، ومن الابرة الى الريشة، فالمرأة الفنانة دخلت الفنون التشكيلية دون تاريخ آسر قديم ملتجئة الى لغة اللون والحجم، فكانت متفردة، جريئة، سبّاقة الى التجريب والى الحداثة التي وصلت اليها باللون والشكل قبل ان تصل اليها باللفظ والبنية الروائية.
إن الابداع، تحفز ذهني يتبدى في تجليات مختلفة، يبلورها الظرف الاجتماعي أو التاريخي ونستطيع تسجيل مراحل تاريخية لظهور إبداعات المرأة العربية وتنوعها، ولكن ما سأحاول ان أستعيده هنا باختصار هو المواقع/العوائق التي شكلت نقاط تقاطع أو انجدال الحرية بالابداع في النتاج الأدبي للمرأة العربية.
من هذه المواقع: الجسد، اللغة، القوانين والأديان والأعراف، الحروب والنزاعات، الوعي بالذات.
الجسد
الجسد هو موقع تحريم ملتبس في الثقافة العربية. وشكلت طريقة مقاربته في الأدب الروائي النسائي مؤشراً مزدوجاً على تطور اجتماعي وعلى تطور في البنية الروائية الفنية. إن النقاش المتواتر حول جسدية النص النسائي وعلاقته باللغة وبالرموز في كتابة أعلنت فوارقها ولم تعد محايدة وواحدة، قد وسع من حدود النقاش حول مصطلح الأدب النسوي، وألغى فوارقه الشكلية، وتقسيماته البدائية.
واذا ألقينا نظرة تاريخية على نوعية مقاربة النساء تاريخياً لموضوع الجسد، لوجدنا ان مرحلة تأسيس الرواية العربية في بداية هذا القرن، تتوازى مع ما أراد ان يحمله عصر النهضة من مواقف اصلاحية وأخلاقية، طبعت روايات الرجال والنساء معاً بالمرجعية الاجتماعية التقليدية وبالتقنية الروائية الواحدة. ومع ان الأدب العربي كان ينضح دون وجل، وفي بعض مؤلفات سابقة بالتعابير الجسدية والجنسية، فان البدايات الروائية في مطلع القرن العشرين، كانت تقصي الجسد في التعبير وفي المعنى الى حدوده الاجتماعية الاخلاقية.
كان الرجل والمرأة يكتبان تقريباً وكأنهما واحد، في تشابه وتطابق، يدير كل منهما مصير أبطال القصة، ويسرد تفاصيل الأحداث بتسلسل ومنطق، يصف المواقع والبلدان، بأمانة وواقعية، ممسكاً بيد القارئ في طرقات السرد، مشدداً على المغزى الاجتماعي الاصلاحي لكل رواية. وعندما كتبت المرأة (زينب فواز، لبيبة هاشم، عفيفة كرم) كمرشدة ومربية، قصص نساء تصلح كمثال، أدخلت الى المجال الأدبي حساسية جديدة، وسلطت الضوء على تجربة صامتة وعلى مشاكل مكتومة، وعلى مواقف نضالية.
في هذه الروايات، كان الجسد، نعمة أمومة، أو عقاب عقم، أو مصيبة اغتصاب، أو لعنة حرام. جسد اجتماعي، مموه التفاصيل، مقنّن الحركة، ينوء تحت الوعظ والارشاد واتقاء الجمر الخامد من خلال تشابيه لغوية استنفدها الرجل أو باركها. كانت القصة، وكان جسد امرأة ومصيرها، المحتوم من خلاله وكانت لغة... عناصر أولية مستقلة لم تتبادل بعد نسغها المشوّش المقلق.
في منتصف القرن الماضي، مع التحولات السياسية في المجتمعات العربية، وظهور حركات التحرر والاحزاب اليسارية والقومية، ومع تجاور المواقف التقليدية مع التيارات الداعية الى التغيير وتحرير المجتمعات، ظهرت توجهات ثورية تعدت السياسة الى الفكر والثقافة وأنساق الحياة. كانت مفاهيم الحداثة الوافدة تتعايش في هذا المجتمع مع المفاهيم التقليدية، وكانت الحركة النسائية المزدهرة عالمياً منذ ستينات القرن الماضي ترفد هذا التوجه الذي تجلى في تكاثر الجمعيات النسوية المطالبة بالحقوق السياسية والعمل والحرية والمساواة، كما في بروز كتابات نسائية جديدة متمردة. هذه الكتابات قفزت فجأة بالسرد النسائي من نبرة الوعظ والخطاب المنبري الى السرد الداخلي المتنوع المصادر، المتعارض الاتجاهات، المتعدد الرموز والايحاءات. وكان لها أحياناً وقع الفضيحة والعيب في تعبيرها عن الجسد النسائي وعن علاقات الحب.
كانت الرواية العربية قد دخلت الحداثة على يد روائيين كبار، وظهرت في الموازاة، روايات نسائية شكلت منعطفاً في الرواية النسائية، حولت الجسد الى جسد منفرد، نابض خاص، لا يهاب التعبير عن ضعفه وحاجاته وشوقه وشغفه، وذلك باستخدام ضمير المتكلم بدل ضمير الغائب الراوي في الروايات السابقة. بقيت روائية هذه المرحلة، متمردة ثائرة، مع انها حولت ثورتها من الرجل القامع الظالم، الى مؤسسات المجتمع وثقافته والتي يمثلها الأب كما تمثلها الأم في رواية ليلى بعلبكي "أنا أحيا". لم يعد الجسد جنساً، مقطعاً بصرياً في مجال السرد الروائي، أصبح هاجساً داخلياً، أصبح نوعاً.
منذ سبعينات القرن الماضي ازداد عدد النساء الروائيات، وازداد تمكن المرأة من تقنيات السرد وعناصر الكتابة وبنية الرواية، وازداد الانفتاح الاجتماعي، وأتيح للمرأة العلم والعمل والعديد من الحريات الاجتماعية، على الأقل في بعض دول المشرق والمغرب. تخطت الروائية الارتكاز المتواصل على الجسد لتظهير القمع الجنسي، وأصبح كل من وصف الجسد النسائي والعلاقة بين الجنسين مندرجاً في مسار البيئة الروائية لا في مناطق الخطر والتمرد على السائد والممنوع.
ففي "حكاية زهرة" لحنان الشيخ تبدو الفتاة المقهورة في جسدها المغتصب والمغتال معبرة عن ذكورية الحرب الدامية، وتتخطى هبى في علاقتها بجدسها عند الهام منصور مفاهيم الحلال والحرام السائدة، وتكتسب مفاهيم الصبا والجمال والأمومة والمرض عند العديد من الروائيات ابعاداً تجرأت النساء على ارتيادها بعري وصدق. واذ أوردت أمثلة قليلة للدلالة، فللتأكيد على أهمية استعادة هذا الموضوع من خلال النتاج الغزير للروائيات لاعطائهن حقهن من البحث والدراسة.
كان من الأسهل على المرأة ان تسائل جسدها الذي كان دوماً الموضوع أكثر من الذات، فحولته الى ذات اجتماعية وسياسية وابرزت نوال السعداوي الجسد المنتهك بوظائفه الجنسية وأظهرت فاطمة المرنيسي علاقة الجسد بالأصوليات والسلطة.
ولكن في هذا الوقت كان الروائي العربي قد بدأ يسائل جسد الذكورة في الكهولة والعجز، في الرغبة والعشق، حيال امرأة روائية طوعت لغتها واكتشفت التقاطع المرهق للأنوثة والرجولة في أجساد أبطالها وصراع الذكورة والأنوثة في "حجر الضحك" و"أهل الهوى" عند هدى بركات. وشيئاً فشيئاً دخل جسد الرجل الى روايات النساء وأصبح هو البطل في روايات ذات مرجعية أنثوية واضحة كما عند رشا الامير في "يوم الدين".
تحول الرجل الى موضوع في روايات النساء، الرجل المبتور الجسد عند أحلام مستغانمي، الرجل المفتقد أو المستعيد لجسده عند مي منسى، الرجل لذة النساء عند علوية صبح. وانتقلت كلمة الجسد بجرأة الى عناوين الروايات: هبى في "رحلة الجسد"، و"ذاكرة الجسد" وغيرها... وأصبح أحياناً التعامل مع كل مفرداته كسراً لكل الطقوس الماضية وتخطيا لكل واقعية ولم يتوقف عند أي حرم. لقد فارقت الروائية العربية الخوف من الجسد. لم تعد تخبر لترضى أو لتعظ. لم تعد تتكلم على الجسد فقط كمن يرفع الرداء باغراء العارف. لم تعد تخاف بطلات قصتها مهما كانت قصصهن. لذا فإن علوية هي الكاتبة وهي اسم بطلة في القصة، وأحلام هي الكاتبة وهي اسم لبطلة القصة، ولو توازى عبء التحريم مع عبء التحرر.
إن موقع الجسد في تقاطع الحرية مع الابداع هو موقع اختبار لأدب ينطلق من صدق التجربة وعمقها وتنوعها، عندما يصبح الابداع سيرة حياة وتصبح الكتابة الحياة. هل إفصاح المرأة العربية المعاصرة في الادب، عن الهوية الجنسية الملتبسة، عن جسد الرجل، وعن جسدها المقموع والحر المزنّر بالرموز يسمح لها بالقول الآن: هذا هو جسدي؟
اللغة
هذا هو جسدي، هذه هي لغتي. ربما يشكل هذا التعبير التوق الاساسي للمرأة المبدعة في محاولتها للوصول الى أصدق تعبير عن نفسها. تقترب المرأة المبدعة من اللغة، في الوقت نفسه كمعطى لغوي، كمعطى ثقافي كمعطى تاريخي مرمّز وكساحة معركة مفتوحة. لذا فإن علاقتها بها علاقة، مفتوحة على كل امكانات التحول والتساؤل.
إن اللغة موقع اساسي لعلاقة المرأة بالابداع. فهناك اولاً إرث تاريخي لروايات شهرزاد وما تحمله من مفاهيم للاغواء وللتفرد، ولخلاص شهرزاد وخلاص بنات جنسها، بواسطة اللغة والحكي والسرد. وهناك ثانياً مسار تاريخي متواصل، اعتمدته النساء منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما بدأت معركتها للحصول على حريتها وحقوقها.
عادت المرأة الى اللغة، ولكن لم تعد الى لغة الجواري الهامسة الى رجل واحد محظوط، بل الى لغة المنابر المنطلقة نحو جمهور مجهول، أطلقت صوتها الفصيح الى الخارج نقضاً للغتها المحكية في الداخل، أطلقت صوتها نحو آذان غريبة، وهي حصيلة تربية اجتماعية تقليدية تأمرها بالصوت الخفيض وتعتبر صوت المرأة عورة يجب أن تخفى. كانت لغة حرية، لا بل كانت الحرية. كما كانت تالياً الصحف التي أسستها النساء الرائدات، والروايات التي حفلت بأفكارهن ودعواتهن.
ولكن كيف كتبت المرأة؟ كيف كانت لغتها؟ وهل بقيت سجينة لغة صنعها الرجال وصاغوا مضامينها أم استطاعت تطوير اللغة القديمة واعادة قراءة اساليبها لاستخراج مواقع توهج جديدة تؤرخ لدخول الانوثة الى اللغة؟ نتوقف عند مراحل شكلت مواقع مواجهة اساسية.
فعند الروائيات الرائدات، كان التشبه بكتابة الرجال، يمنح المرأة تقديراً كبيراً لأنها استطاعت أن تمتلك القدرة اللغوية والتقنية الروائية التي يتقنها الرجال. وكانت المرأة موضوعاً في روايات النساء كما في روايات الرجال تروى قصتها الواقعية المتشحة بالرومانسية، بلغة الروائية المنفعلة بالحدث أكثر مما هو بلغة المرأة المقبلة على الكتابة الجديدة (مرحلة مي زيادة، عفيفة كرم). مع ليلى بعلبكي، ظهرت لغة جديدة، أفصحت بها بطلة القصة عن نفسها في استخدام الضمير الخاص للمتكلم. والامثال كثيرة، فمع غادة السمان مثلاً تحررت اللغة وكأنها تواجه نفسها مغسولة بيضاء في دهشتها الاولى وكشفت جوانب جديدة في التعبير الفني الروائي. مع أحلام مستغانمي تقشرت اللغة القديمة واصبحت اللغة تستولد نفسها كائنات جديدة قوية وطرية العود. مع علوية صبح انفجرت حكايات النساء في لغة تقفز طبيعياً من تعابير التراث الى التساؤلات الجوهرية.
ولا يمنع ذلك أن تتحدث ابطال روايات "أحلام مستغانمي" بلسان الرجال، لأنها تقول ما تعجز عن قوله كأنثى، وان تحفل روايات "هدى بركات" بأحاديث الرجال لأن شخصية الرجل تقدم لها حقلاً أكثر تعقيداً مما تقدمه شخصية المرأة.
وتتطور تجارب النساء، فتكتب المرأة تعابيرها المتوحشة التي تقتحم اللغة الجديدة، حيث تتداخل الصياغات المتشابكة للاجناس والاحاسيس والامكنة والكلمات، او تتيقظ لتحاذر جاذبية لغة الجواري او تحول الناس الى حوارات او تستعيد المكتوم من تعابير النساء، او تحول المشاعر الجديدة الى عجينة مطواعة تتقمص ليونة اليد وقوة بصماتها.
تتشابه الروائيات المعاصرات بالاحساس بسطوة اللغة، وبضرورة استردادها، حفراً وتنقيباً في ذاكرتها القديمة المذكّرة وفي رموزها التقليدية كما عند رشا الامير. نستطيع الآن تلمس ظهور لغة جديدة، لغة لا تنتمي الى جنس، ولو حملت حساسيات من يكتبها. لغة يتقاسمها الآن نساء ورجال يستعيدون العالم من جديد، تبعثر اللغة القديمة، تخترق المتداول، تؤكد اختلافها في تفرد مبدعيها.
القوانين والاديان والاعراف
عندما كانت اولى الروائيات تكتب، لتدافع، مثل الرجال، عن بنى اجتماعية ثابتة، لم تكن كتابة المرأة، كتابة مقلقة للرجال وللمجتمع. وعندما بدأت اولى الروايات باستعادة الظلم الواقع على النساء من أب او أخ ظالم، بقي المنظر الاجتماعي في تطابق مع المنظر الادبي. ولكن عندما استبطنت المرأة مسارات القمع والاضطهاد وتحولت الشكوى من الرجال الى البنية الاجتماعية، تبدل الخطاب الانثوي، واتسع الافق وازدادت الجرأة.
كان اتساع مدى الحرية الاجتماعية، يمنح قلم النساء امكان التعبير عن كل المسكوت عنه، في مجال القمع الاجتماعي، والتركيب التقليدي للعائلة، وتأثير العادات والاديان والاعراف. في المقابل كان دخول النساء الى التعليم العالي، والتمرس بالكتابة الروائية في مرحلة تطورها وسيرها نحو الحداثة، وظهور نساء مبدعات، تمنح كتابة النساء الامكان الفني والتقني لصياغة رؤية جديدة في مواجهة مؤسسات تقليدية، تشكل المرأة، موقع الثقل الاساسي فيها. وقد عانت أديبات من محاكمات مثل محاكمة ليلى بعلبكي، في كتابها "سفينة حنان الى القمر"، كما حكم بالسجن على أديبتين عربيتين هما ليلى العثمان وعالية شعيب.
كان من السهل التصدي لمؤسسات المجتمع عامة عندما يتجلى الظلم بطريقة مباشرة وقحة، وكان، أقل سهولة، التصدي للعائلة وضغطها المباشر على الحياة اليومية ودورها في صياغة التقاليد والاعراف، وكان الأندر والاصعب مواجهة المؤسسات الدينية.
لم تتجرأ المرأة العربية الا بحذر كبير على مقاربة المواضيع الدينية في رواياتها بالرغم من أن قوانين الاحوال الشخصية الدينية والطائفية في كل العالم العربي، تشكل نقطة الوجع الاساسية في واقع كل النساء العربيات، وتتسلل روائياً حاملة كل قضايا الزواج والامومة والطلاق ومفاهيم الشرف والملكية والذكورة. وهي قضايا لا تخلو منها ابداً أي رواية. وفي الواقع، كانت المرأة قد اتعظت بمصير الرجال الذين قاربوا هذه المواضيع، ولاقوا التحريم بكل مشاكله، هم الرجال، الذين لا تشكل القوانين الدينية أي عبء اجتماعي او عائلي عليهم.
لكن حملت الروايات اللبنانية قصصاً عن الحب المستحيل بين الطوائف المختلفة او الزيجات الممكنة بين هذه الطوائف، في اشارة الى نمط لقمع المؤسسات الدينية لمشاعر الحب بين الرجال والنساء (إيمان حميدان يونس، نازك سابا يارد). ولم يكن حتى استخدام اسماء ابطال الروايات وبطلاتها الا محاولة تمويه لأي انتماء ديني. فكانت الكاتبة تتحاشى استخدام اسماء لها دلالات دينية في جو مفعم بالدين. ولكن بعد الحرب الاهلية في لبنان، ومحاولة رصد روائي للواقع، ظهرت واقعية الاسماء التي تدل على انتماء ديني دون تحيّز او مجاملة.
وربما تجلت اجتماعياً المشكلة الاساسية التي حاولت الروائيات رصدها وتفكيكها، في طغيان المجموعة على الفرد. لذا كانت البطلات وحيدات او مثاليات او مبعثرات يائسات عندما يحاولن التفرد والاختلاف. إن الاستعادة الابداعية للمجموعات الانسانية في بعض الروايات، تدخلنا الى محاولة رصد بارع لاختراق قيم الجماعات التي تصوغ حريات افرادها تحت سقف مواقعها.
ونجد المثال على ذلك في رواية نجوى بركات "باص الاوادم". مجموعة من رجال ونساء، يجمعهم انتماء قومي واحد واذ يحاولون التفرد، يتحولون الى كَذَبة ومحتالين. وفي رواية علوية صبح "مريم الحكايا"، رجال ونساء يجمعهم انتماؤهم الطائفي الواحد واذ يحاولون التفرد، تتكسر أحلامهم الى بؤس وعنف.
محاولة التفرد ومحاولة الوصول الى البطل الايجابي، ربما شكلتا مفصلاً اساسياً للعلاقة بين الحرية وإبداع المرأة سواء في المجال الاجتماعي او في المجال الروائي.
الحروب والنزاعات
شكلت الحروب مفصلاً اساسياً في الابداع الروائي للمرأة العربية. لقد خلخلت الحروب والنزاعات مجتمعات تقليدية ثابتة في أنظمتها وأفكارها ومؤسساتها، فمنحت النساء نوعاً من "حرية الحروب" التي تكسر رقابة مجتمع وطقوس قمعه، حيال ظروف استثنائية استطاعت النساء أن تخترق شقوقها. ازداد في الحروب عدد الكاتبات، وتطور الخطاب النسائي نحو تعبير صادق وجارح ونحو بنية روائية متطورة كانت قد أفادت من التطور الادبي الذي عرفته الرواية عامة.
لقد عايشت المرأة العربية الحروب بويلاتها وهمومها وآثارها، بطريقة مختلفة عن معايشة الرجال لها في المجتمع العربي، لذا فقد عبّرت عن هذه المعاناة، عندما سنحت لها الفرصة بطرق مختلفة، تطورت في سبل المعايشة وفي النسق الروائي المتلائم مع طول المعاناة.
فبينما كانت القضية الفلسطينية تلهم الروائيات قصصاً، لا تبتعد في البداية في سياقها عن المفهوم الاخلاقي للمرأة البطلة، المعذبة، التي تحمل رسالة وطنها، وبالرغم من تطورها من السياسي الى نسيج الحياة الاجتماعي، فإنها لم تتخلص من المباشرة، الا مع الاجيال التي عاصرت تطور الرواية العربية في السبعينات من القرن العشرين، وتجرأت على المفاهيم وعلى اعادة النظر بصورة الرجل في السلطة الاجتماعية والسياسية وبعلاقات الحب والشرف والكرامة كما في روايات سحر خليفة، او بالعودة الى الحيز الانثوي الخاص كترجيع صادق لما يحدث في الحيّز العام من هزائم وخيبات عند ميرال الطحاوي.
أما حرب لبنان، فقد كانت الحافز لانجاز روايات كانت الحرب نقطتها المحورية، وكانت المرأة في تطور وضعها واستكمال حريتها جذرها الاساسي. وكان لهذا الزلزال روايات ترصد حدوثه (ليلة المليار، غادة السمان) وكاتبات تفجرت مواهبهن ليس في وصف الحرب، بل في رصد كل تفجرات ألغامها النفسية والاجتماعية في تأكيد لاسلوب روائي خاص، وروايات مهمة نقضت وطأة التقسيم التقليدي بين روايات رجال وروايات نساء.
فالحرب الخفية تقرر مصير شخصيات رواية رجاء نعمة "حرير صاخب" وتستعيد هدى بركات تاريخ المدينة من خلال شخصيات نساء ورجال اختلطت هوياتهم في "حجر الضحك"، "حارث المياه" وترصد نجوى بركات خراب النفس والاخلاق بعد الحروب في "يا سلام"، وترسم ايمان حميدان يونس اثر الحرب على نماذج مختلفة متقاطعة من النساء في "مثل بيت مثل بيروت"، وتموت بطلة حنان الشيخ، ضحية قمع المجتمع وظلم الحرب في قصة "زهرة".
لكن ما ميّز خاصة روايات النساء في مرحلة الحرب وما بعدها هو:
- "خلخلة الحيّز الخاص" أي البيت او مكان تموضع النساء تقليدياً: فالحرب، أظهرت هشاشة "البيت" وقفزة النساء نحو الخارج، أي خارج، واقتناع النساء البديهي بانفصال "الخاص" عن "العام". لذا ففي متابعة قصص الحرب ورواياتها، نجد الكثير من قصص الارتحال والانتقال والحقائب الموضبة وانكسار ميتولوجيا البيت.
- انكسار حاجز الانوثة والرجولة: خرّبت الحرب علاقات انسانية عديدة، ووضعت الرجال والنساء في مواجهة اليمة، ليست مواجهة جنس لجنس بل مواجهة نوع لنوع وخيار لخيار ومسؤولية لمسؤولية وضعف لقوة، لا بل هوية تلتهم هوية. لذا ففي العديد من روايات الحرب، نجد اقتراباً اسهل من الذكورة، ونجد اختلاطاً في مفاهيم الذكورة والانوثة، ونجد تساؤلاً عن الهوية الجنسية لم يكن موجوداً في الروايات السابقة. وأكثر من انكسار حاجز الاختلاف بين الذكورة والانوثة، حملت هذه الروايات قسوة ضياع الهوية وتداعياتها.
الوعي بالذات
كان ابداع النساء مسيرة نحو الصورة التي ترسمها هي عن نفسها، في انجدال التطور الاجتماعي لحريتها والتطور الفني لسردها وتعابيرها.
لقد توقفت المرأة العربية منذ عصر، عن تحميل الرجل عبء تأخرها، وانصرفت بالتوازي، تناضل في مجتمعاتها، وتذهب بعيداً في التجربة الروائية لترصد نفسها وترصد الرجل وترصد المجتمع، ما وراء إرث الاصلاح والتبرير والتطابق، حتى ما وراء إرث التحرر والحداثة.
لقد فككت زمن الرواية، رفضت الحلم كضوء ملتبس خارجي، سعت الى الرمز، ثم حفرت في الواقع، وعملت خاصة على الذاكرة، ذاكرة البدايات، ذاكرة الاحداث، ذاكرة اللغة... عملت على الذاكرة، ونادراً ما عملت على التاريخ ومع أن عدداً من الروائيين الكبار المعاصرين استنطقوا التاريخ في صياغات جديدة، فإن المرأة التي رزحت تحت سلطوية التاريخ، انحازت الى اليومي والحاضر والراهن، الى ذاكرة الاحداث الصغيرة أكثر مما انحازت الى أحداث التاريخ الكبير. فالحاضر زمن مأسوي "شبه تاريخي" بالنسبة الى أغلب بطلات رواياتها التي تشكو الاغتراب عن واقعها.
إن الرواية النسائية الآن تحمل في لغتها المغسولة من ذاكرتها القديمة، لسعاً حاداً بالزمن، احساساً متيناً بالفردية والاستقلال، وشعوراً متواصلاً بالشك والتساؤل، ومحاولة تكثيف الوعي الصادق للمرأة لذاتها ولمجتمعها ولتعابيرها ولإبداعيتها وحريتها.
إن هذه النقاط المذكورة تشكل محاولات إستجلال وملاحظات سريعة لا تفي الروائيات العربيات حقهن في أهمية متابعة نتاجهن الغزير والدامغ في سياق تاريخ الرواية العربية وفي سياق تاريخهن... ولكنها إثارة للتفكير ودعوة اليها.
* * *
تبدأ مي زيادة كتابها "سوانح فتاة" في بداية القرن العشرين بالقول: "نحن مبتدئات... نكتشف الطرق في غابات مهجورة ونمهد السبل بين الصخور والادغال لنا وللآتيات بعدنا". وتنهي هدى بركات روايتها "حارث المياه" في نهاية القرن العشرين بالآتي: "ثم أقول لنفسي علام أعود الى ذلك، الم اقضِ حياتي كلها أحرث المياه؟".
ما بين اطمئنان مي، وقلق هدى، طريق تحرر اجتماعي طويل وطريق إبداع طويل حرثته النساء العربيات بمثابرة وألم وشجاعة ومعرفة، ما بين يقين وتساؤل متواصلين.






ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلهام كتاب
جريدة النهار
28/11/2004
 
أعلى